مقال تذكارى عن زهاء الطاهر جابر جسين يكتب

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
ياسر زمراوي
مشاركات: 1359
اشترك في: الاثنين فبراير 05, 2007 12:28 pm

مقال تذكارى عن زهاء الطاهر جابر جسين يكتب

مشاركة بواسطة ياسر زمراوي »

استميح الاستاذ جابر حسين فى نشر هذا المقال

مقال تذكاري.
وداعا زهاء الطاهر!
* سلطان الكلام الفصيح يرحل كما يتبدد العطر في الريح الشتائية.
* ( جالا ) فكت ضفائرها وركضت علي الأسفلت حافية القدمين!
* كتب قصته الأخيرة وعلقها علي نافذة غرفته و ... مضي!
------------------------------------------------------------------------------

حياتك سفر في الأحلام
وضياع علي الورق...
تسكع طويل
تحت أمطار القصائد والضفائر الطويلة،
ما الذي تريد أن تري أكثر من هذا؟!
كتبك تباع علي الرصيف
ولا تجد في جيوبك ما تشتري به كتابا جديدا
أو قميصا رخيصا لطفلك!
أحزانك تتناسل كالقطط،
لكن فرحك بالحياة يتري.
وأنت، ومن نافذة غرفتك
ترقب الفتيات الجميلات يركضن خلف الغمام
مشاريعك الكتابة، دائما، تتعثر
قريبا من طاولة رئيس التحرير!
ما الذي تريد أن تراه إذن أكثر
من هذا الذي قد رأيت؟!
إنتظرت طويلا،
طويلا جدا إنتظرت
ولم يأت القطار إليك!
( معك كانت الأنهار والطيور والمدن والخرائط الملونة والكتب والشوارع وهموم الفقراء متعددي السحنات والملامح والأعراق ) ...
مفتش المحطة قال: ( لقد رأيت كثيرا من أمثاله هؤلاء المجانين، ماذا ينتظرون؟! )...
وكنت، يا عزيزنا، مجنونا بما يكفي لكي ترحل، هكذا، كالضوء في البعيد!

و ... مضي زهاء:

بغتة، تماما مثلما يتبدد العطر، مثلما ضوء نجمة يلتمع الليل كله فيضئ، وفجأة، عند الخيوط الأولي لأشعة الشمس الدافئة، يغيب ويذهب في البياض! مثلما لحن موسيقي كلاسيكية معتقة عزفت لتوها وذهبت الحانها تتسلل، بحيوية الدفق فيها، فتمضي في الأثير تاركة، من بعد رحيلها، شجوية الموسيقي تبقي تداعب الوجدان!
مضي عنا زهاء، وكان حتي لحظة رحيله المفاجئ صباح الأربعاء 24 مارس 2004م، يتلفح بالوجود الذي عاشه كأسا ممتلئة حتي حافاتها وتكاد تفيض! يري من حوله عنفوان الحياة وصخبها وضجيجها وفرحها، وفي وسط بلبالها ذاك يعيش هو حياته كما ينبغي: يخلق شخوصا من مادة الحياة نفسها التي يعيشها، ثم يحدد لهم دنياواتهم وآمالهم وعذاباتهم وكدهم وسعيهم المحموم خلف ما يقيم الأود، يكتب لهم مصائرهم في دفاتر كاملة تحتوي حيثيات وجودهم، حياتهم الخشنة وموتهم الباهظ، ولا ينسي أبدا أن يعطيهم فرحهم المأمول!
كان ( سلطانا ) للكلام، وله حاشية من الكلمات، وجنده كثيرون في اللغة والمعاني، مملكته شاسعة وممتدة إلي ما لسنا نعرف، مثلما هي عليها أحلامه، تتقافز في الأعالي، فوق الوجود والدنيا كلها. أحيانا كثيرة يرسمها، تلك الأحلام، علي الورق، يكتبها مرة قصة، ومرة أخري قصيدة حلوة، يخلق عالما بهيا، ناضرا ويمتلئ بالحيوية والجدوي، يدخله إليه، مثلما يدخل الليل إلي غرفته فيكونا معا! لهذا كنا نراه، دائما، مبتسما للحياة، يختزن الفرح في دواخله النقية، فكان يصاحب الليل كثيرا ويحبه بوله ودفء، لكنه كان قليل الإحتفال بالنهار وإمتداداته القاسية، ولأنه كان، في أعماقه شاعرا، ترك النهار برمته ل ( روتين ) المعاش اليومي الخشن وإلتجأ لليل الرحيم! كان يمتلك قلبا فوضويا، وعبثا حاول ترتيب نبضه وأحلامه وآماله النديات، لكن قلبه كان يشاكسه لأنه مزدحم بالذكريات والشوارع والمقاهي وسمر الليالي والحكايات التي تخاصمها النهايات السعيدة! أتعبه جدا ذلك القلب حد أنه أحيانا كان يود لو يستبدله بشجرة أو زهرة، لكنه سرعان ما يعود ليخاطبه: كل خطأك، أيها القلب، إنك تعيش بصدق، وبصدق تحب الحياة والشعر! وظل يهرب منه إليه! يهرب من الشوارع، من الذكريات الحزينة، من عزلة المقهي، من النثر اليومي الفج، من الدقائق التي بلا نبض ومن الزمان الرتيب! أحيانا، كان يقول: خير لي أن أستريح علي مسطبة هادئة كأمير مخلوع بعيدا عن الأضواء الزائفة والبهرج الكاذب وجوقة المنشدين الطبالين!

تذكارات قديمة موجعة مثقلة بالحنين:

تذكرت: تحلقنا حول طاولة وكأس وبضعة أصدقاء، والقصائد التي كنا نحلق بها أبراج السماء، قوائم الديون وهموم المعاش اليومي باهظة الوطء علينا كالحجارة، وكذب الأصدقاء، الأبيض منه والأسود، أمطار الندم والصباحات المشاغبة، وتأخر الباص علينا ولا ننصرف عنه، والقلق الذي كان ينمو علي أطرافنا كالطحالب، وأغاني البنيات الجميلات تحت عباءة الليل الرحيم أو تحت رذاذ المطر الخفيف، والشظايا التي كانت تلطم وجوهنا في سعينا اليومي فيما بين المنزل والسوق القديم، وحماقاتنا الصغيرة التي كنا نراها، من بعد، سخيفة لا تحتمل! وشوارع الأسفلت والمقاهي الرخيصة التي لا تطالبنا بأثمان باهظة لقاء جلوسنا. تذكرت تسكعنا الطويل في الأزقة والحواري في الليل الحالك السواد، ومرات تحت أشعة القمر الذهبية ونحن نصغي قرب النهرللبكاء الطويل ذو الأنين الذي يقطع القلب، فأقول أنا: أنه خارج من أعماق النهر! فتقول أنت: لآ، أنه خارج من تلك البيوت الطينية الفقيرة! ثم تتعلق نظراتك إلي البعيد، حيث أسطح المنازل الواطئة، يااااه يا حبيبي، كنت محقا فهي حقا تصدر من هناك! كنا نشاهدك وأنت تقترب من الأشجار، ومن الأزقة الضيقة كثيرة الزحام، ومن بيوت الطين الفقيرة التي تقف أمامك كالأشباح، وأنت تقترب من دكانة العرق حيث لا مطر عندها ولا أجراس، فتناديها: أيتها النافرة كالفرس الجموح في البراري الشاسعة، تعالي أيتها الغزالة فأنني منذ دهر طويل أركض خلفك لإلتقيك! غزالته، وهي في شرودها ذاك كان يغريها، ويغويها بالكتب وبالنثر الجميل، بالقصائد البديعات وبالموسيقي التي تتصاعد من أنين البحر ويلبسها، عندما تأتيه، الأزرق الواسع! كنا نراك ترف بجناحيك الكسيرين وتدلف من خلفها إلي حيث غابات اللغة الكثيفة الأغصان، تركض إليها فتصدك أغصان النثر المتشابكة كالأسلاك الشائكة، لكنك، ويااا للهول، تتكئ عليها وعلي حافة المدينة، تداعبها في حنان كثير العذوبة وتهتف بفرح: لقد أمسكت بك يا غزالة المعني، أمسكتك وأنت تتسللين في شقوق الظلام كالأحلام! في تلك البرهة من الليل البهيم تبدأ تطلع، مثلما الضوء وهسيس الجرح، من بين أصابعك القصة والقصيدة!
أتذكر، وأنت تصرخ: لماذا أحالوا ساعي البريد إلي التقاعد وشردوا مئات الأسر؟! فجعلوا من الذكريات الجميلة رمادا كالحا، والمرايا، كيف حولوها إلي لافتات سوداء ميتة؟!! وفجاءة، لكأن ذلك هبط إليه من فوق، يشرع يردد كلمات الأغنية/ النشيد: ( السودان الوطن الواحد/ ما قد كان وما سيكون! ). من بعد تلك الجراح كلها، خرجت من البلد، لكنك عدت إليها وأنت تبكي ما رأيته ( ضاع ) من عمرك بعيدا عنها! زهاء ظل، كل حياته، يرفض الأطروحات الهشة التي يري أنها سوف تمزق أوصال الوطن تحت دعاوي ( الهوية وجدل الهامش والمركز )، وهو الكردفاني العريق، الذي أدخل، بأفق تقدمي ناصع العبارة، إلي نسيج قصصه عناصر الوحدة الراسخة، جعلها في قماشة مطرزة بالتنوع والتعدد الغزير، طوع قاموسه اللغوي كله، بمعانيه ودلالاته، ليكون في خدمة مشروعه التنويري في القصة القصيرة، أبدا لم يدع للسوداوية والكآبة ثغرة واحدة تنفذ منها إلي عمارته الشاهقة!

( جالا ) تبكي عاشقها:

( جالا ) فكت الآن ضفائرها الليلية السوداء، وتطاير شعرها كأشعة بيضاء تلتمع علي أكتافها، ينسدل ملتاعا علي وجهها، وهي تركض وتركض وتركض، تركض حافية بإتجاه قلبها الليموني الحامض، ينكمش منها قلبها وينزف إلي حيث الليل والنهار والمدي، لكأنها تطير إلي الملأ الفسيح، فتصرخ وتصرخ وتصرخ، يتعالي زفيرها إلي أعلي فأعلي، تركض دامعة العينين ، مشروخة الفؤاد، مجرحة وذاهلة عما سواها، تبدوا وحيدة وسط هذا العالم الذي يكاد لا يراها، وحدها تبكي حبيبها، حبيبنا ومحبها!
( لماذا يكون الرحيل مفاجئا هكذا، حادا كالنصل وجارحا؟ لماذا يأتي، حين يأتي، في أزمان إنتظار القطاف ولحظاته المشبعة بالبهجة وفرح الحياة؟ لماذا يأتي، دائما، ليأخذ منا أجملنا من الأصدقاء والمحبين وعشاق الحياة، لماذا؟).
في ظل جدار ضئيل ياا بدر، جلست ( جالا ) تبكي، تبكي مرارات قلبها وحسراته الكثار وهي تتنهد، منكوشة الشعر، تمزق عنها رداؤها ذو اللون البنفسجي، لون زهاء الذي في خاطره (زمان الوردة)!
( جالا )، أتبكين زماننا الذي أصبحت المواجع فيه تزحم علينا المخيلة والقلب صباح مساء؟ غدونا، لفرط هذه المواجع كلها، نصبح علي الحزن ونرتشفه جرعة جرعة مع كوب شاي الصباح، ثم نمسي أيضا عليه! ينام معنا، في مخادعنا التي غدت لاهبة ومحرقة كالجمر علي أجسادنا! أم تري تبكين يا ( جالا ) عاشقك الشاعر الفنان والقصاص الفذ، الذي جعل من مشروعه القصصي أفقا شاسعا من الأحلام والآمال يجمل به أيامنا الكالحات؟!
تبكيك يا ( زهاء ) اللغة والمعاني والإشارات، يا بناء اللغة وأسطي الكلمات البديعات. كنت تشيد، بمثابرة البنائين المهرة، في الليل عمارات شاهقة في معمار مدن القصة وتعلقها علي أستار الليل لينشرها الصباح محمولة علي ضوءه في الناس لغة تفصح ومعان تصدح بالجمال، قصة أثر قصة وقصيدة من بعد قصيدة. ( زهاء ) كتب مجموعات بديعة بفن القص البديع: ( ليلي والجياد/ المناديل/ مرمر الكذابة/ وين يا حبايب/ زمن الندي/ المراثي والشجن/ زمن الوردة/ وجه جالا يتجلي )، تلك هي المجموعات التي قيض لها النشر، وفي ظني أن هنالك العديد من القصص والمخطوطات والقصائد والكتابات لم تنشر بعد. لقد كان
( زهاء ) شاعرا مجيدا وهو يكتب القصة، وفي القصيدة تري وجه القصة يتجلي! مجموعاته تلك الآن تبكي، من يكتبها الآن بمثل ما كان يفعل؟ آآآه يا ( جالا )، عيناك، الآن، حزينتان وغامضتان، تحيلان ذكرياتي إلي شظايا، وقصائدي إلي رماد، خبريني، بحق هذا الوجع، منذ متي وأنت تبكينه ( زهاء )!؟
ماذا أفعل الآن؟ إنني مرتبك جدا وحزينا مثلك، أحاول أن ألملم شذرات ذكرياتي فتهرب عني وتدمي ذاكرتي، تتسرب مع الأحلام الشرود لتنطلق، مثلك، إلي الشوارع والضياع... الدخان والغبار يحيطان بالخطو فيتعثر المسير! خبريني، منذ متي لم يكتب إليك؟ أكاد أراها، الأوراق ذبلت، والبنفسج ذابل أيضا ويمتد إلي حيث الغياب! منذ متي، إذن، لم يكتب إليك؟ بالله عليك، ساعديني لأخرج من وحدتي وعزلتي وحزني الأليم، أم تراك تنتظريني أساعدك؟!
تصرخ ( جالا ): وأنا، كيف لي أن أنسي، الحزن طوقني، والغياب يكاد يقتلني، خبرني أنت، من سيكتب لي القصائد الجميلات والحكايات الدافئة فيجعلني في الحياة؟ تواصل ( جالا ) ركضها المجنون، حافية القدمين، يابسة القلب، تطاردها الأشباح والمرايا، لكأن عقلها قد غدا في رفقة غياب عاشقها الذي أشعل لها، في ليالي الشتاء، النار قرب قدميها، ليدفئها ثم ليأخذها، من يديها، إلي حيث حقول البنفسج وحدائق الورود والقصائد، إلي حيث الفرح بالحياة! تعبت، الآن، ( جالا )، فجلست أمام غرفته تبكي، وحيدة، إلا منه، لكنها الآن تبكي، تبكي وتذرف دموعا كالملح، قد ذهب، الآن، عنها ( زهاء )، ذهب وتركها وحيدة تواجه العالم، ذهب أيضا عنا يا ( جالا )، وتركنا جميعا في العراء!!
العزاء الرحيم لزوجه وأسرته، للأصدقاء وأهل الثقافة، لأصحابه ومحبي قصصه وشعره وإبداعه الجميل، و ... سلاما عليك يا ( زهاء ) في الخالدين يا حبيب!
------------------------------------
* نشرت هذه الكتابة بالملف الثقافي لجريدة ( الأيام ) يوم السبت 17 أبريل 2004م
العدد ( 7869 ).
* رحل ( زهاء ) بعد ثلاثة أيام من إحتفاء العالم باليوم العالمي للشعر في 21 مارس، ونعيد
نشرها إستباقا لذكري رحيله وإقتراب ذكري يوم الشعر، لربما لكي نذكر، مبكرا، به وبأعماله ذلك الحبيب .
* خاطرة، للمناسبة، أذكرها كما تراءت لي: ( زمن الوردة ) لزهاء، ( الوردة في مشارقها )
لبابكر الوسيلة، و ( وردة آدم ) لحاتم الكناني، هذا ( التعلق )، إبداعيا ب ( الوردة ) في القصة والقصيدة، ماذا عنه وكيف هو، يختلف التناول، نعم، وتختلف الرؤي، والعبارة و ... المعني، لكن الأمر سيكون ( شغلا ) جميلا فيها لو أحدا نظر إلي هذه ( الثلاثية ) البديعة عندهم، ثم جعل لنا (الخيوط)، التي هي حتما فيما بينها، تكون مرئية ومقروءة و ... في وعينا! [size=2
4]
[/font]
أضف رد جديد