الحجر المقدّس

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عثمان محمد صالح
مشاركات: 733
اشترك في: السبت يناير 21, 2006 9:06 pm

الحجر المقدّس

مشاركة بواسطة عثمان محمد صالح »

مقدمة:
لعلّ عنوان هذه الحكاية يبدو مألوفاً للبعض منكم ذلك أنّها وليدة أمس موغل في البعد. ولقد قرّ عزمي على إعادة كتابتها لعدم رضاي عن صورتها الأولي المطوّلة والمكتظّة بالتفاصيل. إن أفضل قرار اتّخذته في السنوات الماضية، برغم تشجيع الأصدقاء الخُلّص، هو تأجيل نشر حكاياتي في كتاب مطبوع. ولو كنت نشرتها بصورتها الأولى للازمتني الندامة حتّى القبر. تحياتي، عثمان
-----------


الحجر المقدّس

قبيل مغيب الشمس في قريتي بالبطانة انفض يدي من كل مشاغل الدنيا، وأغذّ الخطى صوب بيت جدّي لأحمل منه الكوب المترع بشاي المغربيّة الممزوج بلبن الأغنام والّذي تجيد جدّتي صنعه على نار الحطب.

احمل الكوب إلى الشارع، واحتلّ مكاني على الحجر الكبير الأثير الموضوع في طرفه ليرتاح عليه كلّ
مار هدّه التعب، ويجتمع من حوله الشباب طلباً للأنس في الأمسيات. أجلس هناك منتظراً هبوط الظلام.

وعندما أنام في بيتنا يدعوني الحجر المقدّس في الأحلام، فأجيبه بلاتردّد بصوتٍ مثقلٍ بالنوم: لبيكَ، لبيك.

ليل البطانة في أحلامي ساحر ومرعب: تتسيّده حكايات طويلة الأذناب، وتنتشر فيه عقارب وأفاع، وتعوي فيه كلاب من الكمبو البعيد، وتثغو شياه، ويخور قطيع من الأبقار العائدة من المراعي في طريقها الى المرابط، ثم تلتمع نيران موقدة في بقايا سيقان القمح المحصود في الحواشات، ويترآى وميض لهب آخر أمام مضارب عشيرة المَلُّو مترافقاً مع عودة طائرات الهيليكوبتر إلى مراكز إقلاعها بعد أن قامت بجولات طويلة سكبت فيها المبيد الكيماوي على الأعشاب الطفيلية في الحقول، واسمع خشخشة أشجار اللبخ المعمّرة أمام البيوت تهزّ أوراقها الأنسام، ويخفت شيئاً فشيئاً هدير جرّارات الجمعيّة التعاونيّة مختلطاً بأهازيج جماعة من عشيرة الهدندوة. يتردّد صدى تلك الأهازيج الحزينة طويلاً في أحلامي حتّى بعد رحيل منشديها وغيابهم الكامل محتجبين بالغبار الّذي أثارته حركة رواحلهم ومواشيهم المجهدة فيما وراء ترعة "سبعات"، وتنبعث نداءآت تائهة بلغة تشادية تحملها الريح من قطاطي العمال الموسميّين المنصوبة في حواشات الأملاك، وتأتيني متقطّعة ومبتورة وأحاديث من خيام الرشايدة القاطنين بالقرب من سكّة "التيرف" الممتدّة إلى نهر ساسريب ومنه إلى كسلا، وتلوح بين الفيّنة
والأخرى إشارات مبهمة مصدرها المطار العتيق الّذي حوّل الهجر والاهمال بنايته إلى خرابة، ثم يتكثّق الظلام الخانق في أحلامي، فلا أبصر من حولي شيئاً.

ليس في البلدان التي زرتها أو أقمت فيها ليلٌ يتفحّم كليل البطانة. لم أخبر الموت بعد، لكنّي أعتقد أنّ ظلام القبر الّذي يحتلّ حيزاً واسعاً في مخيّلة المسلمين لايعدو أن يكون قطعة من سواد ليل البطانة وهو يعتصر أضلاع قريتي الصغيرة حتّى توشك أن تتهشّم، وأهالي القرية عاجزون عن الصراخ وطلب الغوث.

الليل في البطانة فاحم السواد وهو يزحف، قوامه خليط عجيب من سواد التربة الطينيّة الغضوب، التي تفور أحشاؤها، وتتفصّد، وتتشقّق، وتتخدّد، فتخرج منها العقارب والأفاعي، ومن غموض المجهول، ومن الهدوء الذي هو أقرب إلى سكون الموت. ليل بهيم لاتضيء قتامته مصابيح في الشوارع قبل دخول الكهرباء، تمخر موجاته السوداء جلابيب الرجال وهم يشقّون طريقهم بصعوبة بالغة قاصدين المسجد أو النادي أو الصَنْدَكة، أو الرواكيب الكثيرة المنتشرة في الساحات.

تغيب قريتي برمّتها في جراب ليل البطانة الواسع، تتدثّر، ثم تنام مبكّراً. وفي المهاجر استيقظ من النوم في وقت متأخر من الليل، وأفتح باب المنزل بهدوء، وأخرج.

يستقبلني هواء منعش شممتُ ضوعه قبل عقود. أمرّ بجوار راكوبة صغيرة ساكنة محاطة بجوّالات الخيش، تنتصب كالديدبان في طرف الشارع كأنّها تحرسه من شرور الليل، مطلّةً على أوسع ميدان في القرية، يضمّ في جنباته المسجد والنادي والدكاكين وملعب كرة القدم والجزارة والصَنْدَكة والمخبز والمقهى والموضع الّذي تستقّر فيه جرارات الجمعيّة التعاونيّة، وفيه تقام الأعراس والحفلات. ثم انعطف في سيري يساراً، وأمشي حتى أبلغ طرف الشارع الأثير الّذي يضمّ بيت جدّي، حيث مسقط رأسي، وملاذي عند الضيق، ومنتجع الروح عند السآمة. ارتاح على الحجر المقدّس من جديد، ولكن ليس في يدي كوب من ذلك الشاي.

عثمان محمد صالح
أضف رد جديد