تداعيات بذكر سعاد - عثمان حعفر النصيري

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

تداعيات بذكر سعاد - عثمان حعفر النصيري

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

تداعيات بذكر سعاد
عثمان جعفر النصيري

” كما أضغاث الأحلام والكوابيس، تأتي التداعيات بلا نسق :
1- تاريخ
فارس اسمه عبد القادر العجب سبق بالخبر لود النجومي.
واقعة ارقين، رمضان العام العام 1306 :
جيش ود النجومي كان وقتها في رواية بابكر بدري يأكل حمل النخل نيئاً . طليعته تأكل البامية ورقها وفروعها ويتركون العروق اللزجة لمن يليهم من المقاتلين. ويوسف، شقيق يابكر بدري، رأى بعينيه أحد معارفه ماسكاً كراع رجل ميت كان يساكنه البيت وهو يمضغ فيها (ج أول ص 58).
وقال ود العجب لود النجومي:
” ناسنا كلهم ماتوا”
– كلهم ماتوا-
وكان رد النجومي :
“وإت ما لك ما متّ ؟ “
ويقولون إن الخليفة عبد الله كان قبلها قد ” وبخ النجومي قائلاً : ” انت يا ود النجومي هوين : اخوانك الذين معك كلهم استشهدوا فانت الى متى تحيا خائفا من الموت ” (بدري – ج أول 55).
– وكتب بابكر بدري بعد واقعة ارقين: ” رجعنا للديم ليلاً مهزومين. ثم بتنا ليلتنا ما منا أحد له رغبة في الجهاد“
وكا ن والد بابكر بدري الذي كان في الحملة قد قال لولده إن ود النجومي بليد يسافر بلا مؤونة – (اول 57).

2
حين وصل توشكي في 1 اغسطس 1889 كان قد بقي معه 3200 مقاتل و3600 من النساء والأطفال . خسارة الجيش الإنكليزي تمثلت في 25 قتيلاً و160 جريحا.

اما قواته فقد بلغت خسارتها 1200 قتيل و1200 أسير وهناك 1400 من الناجين نصفهم نساء واطفال عادوا الى دنقلة. (ص ص 1121-1127 – نعوم شقير).
كان قد كتب الى الخليفة (1114– نعوم):
سيدي وملاذي
نرفع الى مكارمكم عن احوالنا واحوال الأنصار الذين معنا قد مسهم الضرر الشديد الذي ما عليه من مزيد واشتد بهم الحال وضاق الأمر جداً فان الجوع الحال بهم أضناهم وأذهب قواهم فورم أجسامهم وغير أحوالهم لنهم قبل دخول بلد العدو كان قوتهم التمر الأخضر المر ونواه وانقطع عنهم من مدة ولطول الطريق وكثرة المشقة ضعفوا فدخلوا البلد في حالة ضعيفة . ولشدة الضرر جلسوا جميعم على الأرض وكثيرون منهم ماتوا جوعاً . أما ضعفاء اليقين منهم فلعدم صبرهم على الباساء والضراء رغبوا في الأعداء. والجهادية والعبيد والخدم لحقوا أيضاً بالأعداء وارتدوا عن الدين ولم يبق منهم إلا النادر . ثم أن الجهادية الذين أرسلوا مهنا طوبجية للمدافع من طرف سيدي يونس كانوا خمسة وثلاثين الجميع رغبوا في الكفرة وهربوا اليهم ولم يبق منهم إلا ثلاثة . وكذلك من سرس انضم الينا نحو سبعين من الجهادية والجميع دخلوا القيقر ما عدا ستة وما دعاهم الى ذلك إلا تراكم الضرر والإضطرار الذي ألجأ الناس كافة الى الى أكل ما لا يذكر من الحيوانات وغيرها.

3
وفي لندن كثيراً ما تحلو لي مهاذرة الفئة الناجية التي تحمل هم السودان ما تزال من الذين ما غابوا عن محافل التعبئة والتغيير إلا إضطراراً فاقارب يين حالنا كناس كسرة وكسرة ود النجومي وشتان.:
بعثوه بلا مؤونة ولا تشاهيل ومات واقفاً : الجبة مطروزة والحربة مركوزة بينما مات الخلبفة مقتولا وهو يجلس القرفصاء.

ونحن هنا لا كأسرى حرب ومضامين وانما كمواطنين ننعم بمساواة في الحقوق والواجبات مع أهل البلاد. والذين أقعدتهم غربة الوجه واليد واللسان عن المساهمة في النشاط الإقصادي لا حاجة بهم الى ارتياد سوق اليهود : أما بنات العم وبنات أبناء العم فهن بلا جوع ولا إملاق ولا مسغبة وكرامتهن مصونة في بلد يحترم كرامة الإنسان وحرية الراشدين.
وحين نفقد عزيزاً لدينا تهرع الفئة الناجية وتتوافد من كل فج عميق لمراسم العزاء ، ً " أعرفهم واحداً واحداً أعرفهم بالأسامي". الباشمهندس ، أطال الله عمره ، يتلو علينا ما تعسّروالعيون تتبادل سؤال ود النجومي لود العجب:

– إت مالك ما مت ؟

وهكذا ونحن نفقد الرفاق والأحباب نعاني شيئاً مما يسمونة عقدة ذنب الناجين من المحرقة.
ذلك أننا لسنا أكثر جدارة بالحياة ممن داهمنا فقدهم وفيهم من راح جل عمره غيلة وهو يدافع عن قيم نعتنقها نحن الآخرون حتى إن كان ذلك عن بعد.

وحين نشرت صحيفة كانت لندنية أسمها “صوت الكويت ” نعي الفقيد محمد عمر بشير قلنا – أحمد بدري وأنا – قلنا لمدير التحرير؛ شوقي رافع ؛ وكنا بعمل في قلم الترجمة :

تنشرون النعي بلا إطار أسود ؟ – نتسلى عن الفقد كنا بالغرق في التفاصيل.

وكنت قد كتبت في مكان آخر أن محمد عمر بشير كبطل رائعة الأمريكي جون أيرفينغ المسماة صلاة من أجل أوين ميني – كان يدرك في أي أرض يموت.
وينشرون نعيه بلا إطار أسود ؟
وجاء رد شوقي رافع:
- بسيطة . إن شاء الله يموت لكم أعزاء آخرون فنقوم مستقبلاً برسم الإطار الأسود.

ولكن ما بالي أنا أقلب المواجع وأخلف الكي بالحديث عن الموت ؟
واين سعاد من كل ذلك ؟
ولكن ألم أقل لكم إن التداعيات كما الأحلام والكوابيس تأتي بلا نسق ؟
وحين كنت أحاول تعزية أحد معارفي الأبروفيين عن فقد ابنه الذخر في مقتبل عمره قال لي:
- استكتره (استكثره) على الله ؟
وتأملت أنا : أبوسعي القياس على ذلك ؟

4
كان علي ابو ضهير وحميدان وآخرون يحتسون المريسة في انداية النكتوت حين رفع حميدان عقيرته بالغناء : في المسرحية التي كتبها تلاميذ القطينة عام 1908 ونقحها مامور البلدة.

بشرب في الورد تمّدت
في ساقية ما صمّدت
رمضان فاطر اتعمدت
واسجمي ورمادي إن متّ

فما كان من ابو ضهيرإلا ان هتف في وجهه:
- تب عليك يالمسيخ (..) تجيب لينا طريق الموت في شرابنا !

على أننا يا أهل الميدان الأعزاء في ذكر سعاد لا نجيب طريق الموت وانما نجيب طريق الحياة.
صلاح تحدى الموت أن يلوك أكبادنا ويزغرد وان يحتطب الرؤس التي على النطع – واحسب أن سعاد قالت للموت” أنعل أبوك” – وكان ذلك ما روت لنا أنها قالته لواحد غاظها بلا حدود. أما أنا فلا أرى الموت ضرب عشواء ولا أشارك أهلنا في أن هناك ميتة هي ميتة الله والرسول – ذلك أنني على مذهب المتنبي أرى الموت ضرباً من القتل لا أقل – حين يعني رحيل من وهب حياته لنا على نحو ما .

وقال له :” انت يا ولد النجومي ماك هين لكن هوين” – شقير 1109

5 يوليو 1070،

سعاد دفعت لفندق اركويت تكاليف أقامتنا في شهر العسل. سلمى بابكر عرفتها قبلي حيث كانت استاذتها المفضلة حقاً في الأحفاد.
وابراهيم شداد – معرفة نادي السينما – كان قد اقتادني قبل ذلك بأيام الى دكان في سوق الخرطوم الأفرنجي حيث اختار لي قماشة صوف انكليزي تولى ترزي المحل خياطتها لي وهكذا خرجت آخر الأمر بأول بدلة افرنجية في حياتي.
محمد وردي كان قد أحيا المناسبة متبرعاً فغنى يا فارسنا وحارسنا كما غنى أيضاً لأول مرة “توعدني وتخلف بالصورة.” أما أفريكانو فقد فاجأنا بالرقص الفردي الباهر وكان يصصم لنا أحياناً بعض أزياء المسرح الجامعي بلا مقابل.
في أركويت كان لنا التعرف لأول مرة على إبراهيم أحمد : كان يقضي جل وقته في القراءة والتمشي. لم تكن لنا به من معرفة قريبة فوق أنه والد سعاد. كان ذلك يكفينا.
في سنوات لاحقة كتب الصديق الفقيد عثمان حسن أحمد كتابه عن حياة إبراهيم أحمد وفق ما كان متاحاً له من أوراق. وكان سهلاً لي الوقوف في لندن على وثاثق المخابرات البريطانية حول الرسائل المتبادلة بين ابراهيم أحمد كرئيس لمؤتمر الخريجين وحاكم السودان العام وقتها سير هيربيرت هيدليستون Herbert Huddlestone . وكذلك رسائله المتبادلة بتلك الصفة مع سير دوغلاس نيوبولد السكرتير الإداري. تلك الرسائل شهادة باستقامة ابراهيم احمد السياسية وعفته .
لكن ما استوقفني على وجه الخصوص في الوثائق الإستخبارية البريطانية لتلك الفترة، التقرير الذي كتبه إدوارد عطية اللبناني الذي عمل في قلم مخابرات مكتب السكرتير الإداري بين عامي 1030 و1941 ثم مديراً للعلاقات العامة والدعاية في المكتب بين عامي 1942 و1945 حينة حرر ذلك التقرير. ولعل قراء الميدان يذكرون أن إدوارد عطية كان يقيم العلاقة مع بعض مثقفي السودان وساسته وبين هؤلاء خليل فرح وكذلك معاوية نور والذي خصص عنه الجزء الأعظم من كتابه ” عربي يحكي حكايته :

An Arab Tells His Story.

كتب ادوارد عطية في 12 يناير 1944 عن لقائه ومحادثته مع ابراهيم أحمد :
” .. سألته عن رأيه شخصياً بصدد مستقبل السودان وعما يراه أغلبية متعلمي السودان وفقاً لنظره. وجاءت إجابته بالغة الصراحة ولافتة حقاً بل ان الدهشة أصابتني من فرطى صراحته . قال : ليس هناك رأي موحد منسجم في السودان في ما يتصل بالمستقبل : إلا أن هناك رغبات ووجهات نظر شتى . إن أبرز ملامح السودان تتمثل في سياسة عبد الرحمن المهدي وطموحاته الشخصية : فقد كان السيد بمساندة وتشجيع من محمد الخليفة شريف ينهج خطاً صارخاً أخرق . ذلك أن موقفه الإنفصالي حيال مصر يعطي الإنطباع بأنه يأمل أن يصبح ملكاً على السودان المستقل . ومضى إبراهيم قائلاً إنه لا يوافق على سياسة السيد عبد الرحمن هذه وقد نصحه صراحةً بما يخالف ذلك الموقف. إن تاج المُلك – في نظره – من دون استقلال حقيقي من شأنه – وفقاً لوجهة نظره – ان يكون أمراً رديئاً بالنسبة الى السودان كما هو الحال بالنسبة الى أي بلد آخر بالنظر الى أن المَلك في مثل هذه الظروف سوف يكون أو يبدو على أقل تقدير مجرد أداة في أيدي سلطة حاكمة وواجهة يمارس خلفها الحكام الحقيقيون سلطاتهم من دون تحمل للمسؤولية. إن السودان في حالة تطوره الراهنة لا يمكن له ان يكون مستقلاً استقلالاً حقيقياً. أي استقلال يُمنح له سيكون صورياً زائفاً. لذلك فان ايراهيم لا يريد استقلالاً ولا ملكًا لبلاده في الوقت الراهن وهو يعتقد أن ذلك رأي اغلبية السودانيين المتعلمين

– وأضاف:

” إن السودان ما زال في حاجة الى الهداية والتدريب صوب الحكم الذاتي . وهو مقتنع بأن السودان لن يجد ما يحتاجه من عون إلا من انكلترا دون غيرها . البريطانيون إداريون ممتازون وهو يريد لهم البقاء لأمد يتيح تدريب السودانيين على الإدارة فيجري تسليم زمام الحكم لهم بالتدريج.على أنه – من جهة أخرى – لا يريد أن يرى البريطانيين باقين في السودان من دون أن يكون المصريون بصحبتهم.وهولا يرغب في أن يرى الحكم الثنائي منفرطاً وحصة المصريين في السيادة ملغاة تماماً بالنظر الى أنه بقدر اعجابه بالبريطانيين كإداريين وبقدر رغبته في مساعدتهم للبلاد ، لا يثق فيهم على نحو كافٍ يسمح له بالرغبة في وضع السودان تحت رحمتهم المطلقة. ذلك أن السودان بلد صغير وضعيف وأذا تولت بريطانيا السيطرة الحصرية عليه فلن يكون للسودانيين ضمانات وتحوطات في وجه الإستغلال. إن المصريين إداريون بالغو السوء والرداءة وفاسدو خلق ولا يمكن للسودان أن ينتفع من وجودهم مباشرةً، بيد أن شراكتهم في الحكم الثنائي تمثل ضابطاً كابحاً على البريطانيين وذلك أمر نافع تماماً للسودان. فضلاً عن ذلك فالسودانيون لديهم العديد مما هومشترك مع المصريين ومن مصلحتهم الحفاظ على علاقات ودية مشتركة مع مصر.
وفي رأيه فانه من غير المنشود للسودان أن ينال من هذه العلاقات الطيبة بالمطالبة بتفكيك الحكم الثنائي لمصلحة بريطاميا العظمى . ذلك أن ذلك من شأنه استعداء مصر وذلك من شأنه بكل تأكيد أن يكون لغير صالح السودانيين. لذلك فان إيراهيم يعتقد أن الأمثل للسودان في الوقت الراهن أن يظل تحت الحكم الثثنائي وفق صورته الحالية المتمثلة في حصة رمزية لمصر وسيطرة وإدارة فعليتين لبريطانيا. في هذا الإطار يكون لزاماً على السودانيين الضغط لتدريب اسرع في فنون الحكم الذاتي ولزيادة مضطردة في حصة إدارتهم لشؤونهم الخاصة بهم الى حين أن يصبحوا ؛ مستقبلاً على استعداد ليقفوا بمنفردهم ويكون لهم الحكم الذاتي كاملاً. عندها يكون بوسع السودانيين أن يختاروا نوع العلاقة التي ينشدونها مع بريطانيا ومصر والعالم العربي.”
والذين حاولوا النيل من سعاد بالتشكيك في وطنية إبراهيم أحمد أخطأوا مرتين: خطأ أخذنا أحداً ما بما يحسبونه أنه جريرة آخر ” ولا تزر وازرة وزر أخري ” وخطأ الجهل بتاريخنا : ذلك أن ابراهيم أحمد كان في ما يشهد التاريخ نموذجاً للعفة والإستقامة وشجاعة الرأي.

7
وذات مرة في العام 1968 حين .” تحامتني العشيرة كلها وأُفردت إفراد البعير المُعبّد ” كانت سعاد ومعها نعيمة بابكر الريح هما من هب لنجدتي في اجتماع اللجنة المركزية حين داهمني جهلة مرضى ذوو نوايا طيبة بتهم بالغة الطيش والسخف – تفاصيل هذا الأمر لا تهم قاريء الميدان راهناً وقد أعود اليها يوماً ..

8
وإذا كان الطاهر ود الرواس يقول في بندرشاه الطيب صالح : ” يوم الحساب يوم يقف الخلق بين يدي ذي العزة والجلال شايلين صلاتهم وزكاتهم وحجهم وصيامهم وهجودهم وسجودهم : يا صاحب الجلال والجبروت ، عبدك المسكين الطاهر ود بلال ولد حواء بنت العريبي يقف بين يديك خالي الجراب مقطع الأسباب ما عنده شيء يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة- فان جراب سعاد سيحوي لا ريب محبة الشعب والحزب الشيوعي واللغة النوبية ، فيما أحسب.

9
في مكتب سعاد الصغير في مبنى الدراسات الإضافية بجامعة الخرطوم كتبت في يوم ما من العام 1968 بالقلم الرصاص مانيفستو نادي السينما . كانت الديباجة مقولة منسوبة الى فلاديمير لينين تقول ” إن السينما أهم الفنون بالنسبة لنا “. كنت أول رئيس للنادي وكان عثمان حسن أحمد السكرتير ولكن سعاد التي لم تحتل منصباً في اللجنة الأولى كانت هي كل شيء: كان دوري الوحيد هو كتابة مقدمات للأفلام التي يعرضها النادي. بعض تلك المقدمات منشور في الصحف اليومية .عن “هيرشيما حبيبتي” أول الأفلام التي عرضها النادي كتبت نبذة قصيرة عنوانها ” فيلم عن هيروشيما في غرفة النوم” ؟ سعاد كانت، بعون من فلول نادي الفيلم الذي سبق أن اقامه بعض الأجانب من اساتذة الجامعة والذي حل نادينا مكانه ، قد أقامت العلاقة مع شركتي كونيسير وكونتيمبوروري فيلمز. كانت سعاد تتولى ترتيب دفع رسوم أيجار الأفلام بالعملة الصعبة كما كانت تتولى ضمان وصول الأفلام من لندن من وراء ظهر الرقابة. كما كانت تضمن حصولنا على المجلتين السينمائيتين البريطانيتين :” فيلم أند فيلمينغ ” و “سايت أند ساوند “. هكذا كان بوسع نادي السينما تقديم إفلام ليس مثل أكتوبر، المدمرة بوتمكين لآيزينشتاين فقط ولكنه قدم افلاماً لفلييني وكلود ليلوش ودي سيكا وانطونيوني وبيرغمان.
وقد يبدو ذلك نشاطاً نخبوياً إلا أن ثمرة ذلك الوعي السينمائي شملت المساهمة في تنشئة جيل من الشباب سافر لدراسة ت السينما خارج البلاد وبينهم الفقيد علي عبدالقيوم و عبد الرحمن نجدي وسليمان محمد ابراهيم والهادي أحمد إبراهيم ومن مثقفين سينمائيين مثل أحمد مصطفى الأمين وهشام الفيل الذي أمدنا بمطبوعات نادي السينما المصري علاوة على ” ليلة مقتل غيفارا العظيم “(وكاتب هذه السطورتيسرت له كتابة أربع دراسات عن اربعة من أفلام بيرغمان في اطار دراستة للماجستير في كلية تشيلسي – جامعة لندن ومثل ذلك من رفع الكلفة كان أمرا بعيد المنال تماماً على أمثاله لولا نادي السينما.) ولعل بعض قراء الميدان يذكرون مهرجانات الأفلام التي أقامها نادي السينما وبينها مهرجان الفيلم الأيطالي والآخر الفرنسي وعروض أفلام الأطفال المتجولة ومؤتمر النادي المقام في فاعة الإجتماعات والذي ناقش تجارة السينما ووحدة الإنتاج السينمائي والرقابة على الأفلام . وفي مكتب سعاد اقترحت أن يقوم النادي بترشيح الفقيد علي المك مديراً لمؤسسة السينما الوليدة وقد كانت هناك ذيول لذلك لا محل لذكرها هنا. أحسب أن دكتور احمد الزين صغيرون قد أشار الى عمل النادي في أطروحة الدكتوراه الني أنجزها وقد يكون أخرون قد رصدوا التجربة على نحو أوفى كثيراً بيد أنني استبعد تماماً أن تكون سعاد قد وجدت تقويماً منصفاً لدورها الحقيقي. ذلك أنها كانت تخرج بحلول تكاد تكون سحرية لبعض مشكلات النادي : بين ذلك ابتكارها لصيغة العضوية لعر ض واحد

One show membership

والذي فتح الباب أمام من يتوجسون شراً من اشتراك سنوي في دنيا زائلة أصلاً،. ومثل ذلك فكرة العضوية مدى الحياة الذي أتى للنادي بأعضاء مثل السيد محمد الحسن عبد الله ياسين .مثلاً.

10
قبل نحو عشرين شهراً كنا في مكتبها البيتي سلمى وأنا حين انبسطت تقاطيعها حبوراً وهي تحكي ما حدث في محاكمة عبد الخالق … حين نودي على شاهد الإتهام الأول ليدخل من الباب :حامد الأنصاري بلحمه ودمه . وحين روت سعاد رد حامد على سؤال المحكمة عن المتهم بأنه ” أعز صديق عندي في السودان” وكيف انغشعت سحابة الدهشة من وجه عبد الخالق قلت لها إن اي رد مغاير كان من شأنه أن يمثّل مقتل عبد الخالق الحقيقي.
كل خلجة في وجهها كانت تتفتح زهواً بموقفه.
لم تكن لي به معرفة قريبة ( سعاد أبلغتني أنه يسميني الشاطر الشين ) واحسب أنه أصاب في واحدة وطاش صوابه في أخرى. وذات مرة في عام 1968 كان شاهداً في بيتهما العامر على مناقشة طالت ساعات بيني وبين عبد الخالق أتعرض فيها لدوافعي لترك موقعي كمسؤول عن دار الفكر الإشتراكي وكمحرر في صحيفة الحزب التي حملت اسم “الضياء “. شد على يدي مودعاً ومثنياً على أدائي خلال المناقشة قبل أن يضيف ” ولكن إحذر الغرور”.

واعترف أنني لم ألق بالاً الى تلك النصيحة حتى قابلت بعد نحو تسع سنوات تيم ريتشاردسون المعماري البريطاني اليساري الذي كان يعمل لحساب البنك الدولي في مشروعات تتصل بمباني المدارس والذي دخلت شركته لا حقاً في أعمال مشتركة مع شركات حامد الأنصاري إن حامد الأنصاري خبير بقدر الناس اشارة الى فراسته :
a good judge of character
حينها دخلني شيء من الغم.

11
فرانك وارين وبعشومة ومهرجان صوفيا

في عام 1968 رتبت سعاد ، باسم الدراسات الإضافية بجامعة الخرطوم، أول ورشة مسرحية في البلاد. فرانك وارين ، المُخرج الأنكليزي كان قائد الورشة . عرفته عن نأي مخرجاُ لمسرحيات مثل ريتشارد شكسبير الثاني والزيارة مسرحية دورغيمات ولكن لم يكن لأمثاله – وقتها – أن يعيرني نظراً – سعاد جاءت به وكانت مهمته تدريب المجموعة على شيء من فنون التمثيل الصامت. ما زلت أذكر أدائه جالساً القرفصاء لدور أمرأة تهدهد طفلها. أفترقت دروبنا حين حاول تدريبنا على مسرحية اسمها

” كف القرد ” The Monkey’s Paw

وهي في الأصل قصة قصيرة كتبها واحد يدعى دبليو دبليو جاكوبس عام 1002 تحكي عن كف القرد ذي القدرة العجائبية المتمثلة في اجابة ثلاث أمنيات لحامله وكان ضابط بريطاني قد تلقى كف القرد من “فقير” هندي على نحو ما. وكف القرد يلبي الأمنيات ولكن بثمن باهظ التكلفة لا يتضح إلا بع فوات الأوان . ويبدو أن القصة تقول إنه لا مرد على الأقدار وأن من يقف في طريق القدر لا يجني سوى الحسرات. سعاد لم تكن طرفاً في التفاصيل : ربطت فرانك وارين بنا في الورشة ومضت في سبيلها.

ولكن مثل ذلك لم يكن يخارجنا فقد كنا بصدد تغيير العالم على عجل ولم نكن لنقبل بأقل من أعمال لبريخت أو بيتر فايس مثلاً . كان فرانك وارين يريد إعداد نص بريء بهدف التدريب ولكن كنت أنا أضمر الإستفادة من الورشة في إعداد مسرحية صامته يحملها القوم الى مهرجان الشباب في صوفيا.

وكانت القشة التي تمسكنا بها هي نص أسمه ” مشهد السوق ” كتبه البريطاني جيمس غيبس وكان يدرس الأنكليزية في الخرطوم وذا معرفة قريبة بويلي شوينكا.ما زلت احتفظ بالنص وأبرز وحداته في ذاكرتي هو منظر الحلاق الذي يحلق تحت شجرة لزبون يحمل المرآة بيديه الأثنين يطاردهما بوليس والزبون يحمل المرآة بيد والفوطة بيد أخرى ورأسه نصف حليق.
علمت لا حقاً أن ” كف القرد” لم تكن عملاً خامل الذكر تماماً : فقد تحولت بنجاح الى مسرحية والى دراما إذاعية وفيلم وأوبرا أيضاً . أما ” مشهد السوق ” فحيث أن أحزاب الحكومة اقتسمت حلالاً بلالاً تذاكر السفر مع اتحاد الشباب ثمناً لتأشيرات الخروج الى المهرجان فلم يكن بالوسع سفر طاقم المسرحية بأكمله . وكان علينا أن نكتفي بسفر سلمى بابكر الريح ويحي الحاج إبراهيم بلا مسرحية صامتة ولكن بما قد يغني عنها بكل تأكيد.

في حديقة الدراسات الإضافية ذاتها تلك الأيام كنا نعد لمهرجان الفنون الشعبية وما انحفر في الذاكرة مشهد اسماعيل عبد المعين الذي استقى من معين الدراسات الموسيقية الثر في باريس متدفناً (أي متتفناً) في حشيش الحديقة التي كان شبيهاً ” بباقي الوشم في ظاهر اليد ” – أحسب أن الصديق عبد الله جلاب هو الذي أتى لنا به . تتمدد رجلاه وهو يحاول أن يعلمنا بصوت خام لا يدعي التفنن :
القدو قدو قايا باكلها برايا
و يا يمه بريد بعشومة بعشومة خشيمة الدومة

وقلت لآبراهيم الصلحي ونحن في قاعة تيت موردن الفنية التي استضافت معرضه العالمي، في يوليو الماضي، إن حفيدي نوح – أوسغار ( وهو في الثالثة ) يغني في منتزهات بريكستون – جنوب لندن- بعشومة الدومة الدومة . ما يعني أن هذه أشياء لم تضع تماماً.

12

فلادمير اليتش لينين واستديو بروليتاريا وسعاد

سعاد وابراهيم شداد وعبدالمنعم مصطفى وأنا وصديق خامس لم أعد أذكر إن كان هوعبد المنعم عطية أم الفقيد عبد العظيم عبد الحفيظ اتفقنا على تكوين شركة تعني بالسمعي والبصري حيث أن ابادماك تقوم بالكثير مما هو غير ذلك. كنا نريد أن يكون العمل تجارياً لا صدقة ثقافية . دفع كل واحد منا عشرة جنيهات سودانية ارتأينا أن تحتفظ بها سعاد خشية أن تدخل على أي واحد منا ويكون التأمل كل التأمل في الخروج . العمل الوحيد الذي أنجزه الأستديو هو قيام عبد الحليم مصطفي – أمد الله في عمره – بتصوير معرض الدبلوما لكلية الفنون الجميلة في عام 1970 في شرائح يتم عرضها علناً ( بلا إذن من أحد) ومناقشة ما تقوله لنا.

ولأننا رجال أعمال بالنيات فقط (سعاد ليست مشمولة هنا طبعاً) فلم نكن معنيين بأي عائد مالي- كان ما يهمني شخصياً هو كيف تتكوم الأهمال الفنية لدبلومات التخرج التي ترددت على بعضها – متراكمة بلا عناية ولا صون ولا تصنيف. والعمل الأبرز الآخر للأستديو هو انتاج صورة لفلادميير لينين على الحرير بقلادة تجعلها صالحة لتعليقا من أي مسمار مدقوق على حائط جالوص.

سعدي يوسف – الشاعر العراقي كتب في مئوية لينين:

نحن لم نحمل على قمصاننا وجهك
لم نحمل نحاساً
لم نقل للكتب السرية التوزيع
" آمنا بما أُنزل ، ما كنت لنا نجماً
فما كنا مجوساً
إنما أنت مقاتل
معنا جنباً الى جنب تقاتل “

أما الصورة التي ابدعها ونفذها ط عبود” فقد كانت تهدف الى ان تحل محل فتاة صناديق الحلاوة التي تزين جدران بيوت اهلنا أو تجاور صورة براق مهترئة في بيوت أكثر يسراً.

المهم تم توزيع الصورة – بلا عائد دون اسلوب توزيع معروف . لا أعلم إن كان بين قراء الميدان من اقتنى هو أو ذووه تلك الصورة النادرة.

لم يكن هناك ما هو تجاري في استديو بروليتاريا – كانت صدقة ثقافية هي الأخرى ربما بفارق بسيط هو أننا ملحنا الفنان عبود فلم يفز حتى بعلبة برنجي مكافأة على إبداعه حيث كنا نضع عمله دون أن ندري في خانة الإلتزام السياسي.

بعض ذوي القربى في ابادماك ، وأنا بين من أقاموها ، حسبوا أن الأستديو عمل انقسامي ضد أبا دماك. وكنت أحسب أن هؤلاء النفر، بدافع الحسد ، يهدفون الى قطع أرزاقنا لا غير.
المهم . أنطوت صفحىة الأستديو على إثر ذلك الضغط. واعادت سعاد الى كل منا جنيهاته العشرة . ولم انبهها أنا ولا غير ي فيما أحسب الى خصم تكلفة فيلم الشرائح وقماش الصورة والأوان والإطار من رأس المال – ما يعني ان سعاد تكبدت تكلفة ذلك في صمت.

13
عضو لجنة مركزية تلعب دور تروتسكي
المكان:ميدان هواء طلق في بيت المال والزمان 1970
بعض قراء الميدان قد يذكر ذلك العرض على الأقل بالنظر الى أنه لم يكن ” ملح” ، وانما كان بتذاكر مدفوعة الثمن مقدماً ولم تكن “أبا دماك ” قد ألفت ذلك.
المناسبة كانت عرضاً مسرحياً قمت بأعداده مازجاً بين مشاهد من ” المأساة المتفائلة ” التي كتبها السوفياتي” فيزفولد فيشنيسكي” ، ومشاهد أخرى مستقاة من كتاب جون ريد”عشرة أيام هزت العالم “.
المسرحية الأولى تدور حول إمرأة كان عليها تشكيل أول فرقة بحرية شيوعية خلال الحرب الأهلية . سعاد كانت هي الكوميسيارة التي قادت الإستيلاء على السفينة الحربية من الفوضويين.
وفي مشاهد ” عشرة أيام هزت العالم ” كان المنادي – أو الصائح – يذيع على الملأ القرارات الأولى التي أصدرتها في أيامها الأولى ثورة اكتوبر الإشتراكية.

وفي أحد المشاهد يتوافد البعض لحضور اجتماع للبلاشفة . وفي الباب يسأل الحاجب سعاد التي كانت ترتدي زياً رجالياً: من أنت من فضلك؟ وتجيب سعاد :

” أنا روبينشتاين تروتسكي.
ويجيء الرد :
” حسناً . تفضل أيها الرفيق.”
المشهد كان اعترافاً بدور تروتيسكي في الثورة ورداً لإعتباره في زمن كانت فيه أبلسة تروتسكي جزءاً من بديهيات العمل الشيوعي.
ويحق لي أيضاً أن أذكر ذلك العرض لابسبب لامجانيته وحسب وأنما لأنني فوق الإعداد والإخراج كنت أتولى إضاءة العرض التي اعتمدت على جهازعرض شرائح كان يعرض قصاصات صور عن الثورة الروسية وجهاز 16 مللي كان يحدق ويحملق في وجوه الشخصيات طيلة العرض.

14
ناسهم
كتب اشتاينبيك أن مارك توين استخدم مفارقة مرعبة وممكنة في احدى قصصه التي لم اسمع بها من قبل تتمثل في مقتل أحد الطغاة المنتصرين نتيجة وطأة جثث القتلى المهزومين التي تراكمت فوقه.
واحسب أن قرأء الميدان عليمون بنهايات حقيقية مرعبة لطغاة أفريقيين في زماننا.
وفي مسرحية ” الإمبراطور جونز تتسلل البلدة فرادى وجماعات الى الغابة ليتركوا الإمبراطور الطاغية حاكماً ورعية في آن. ثم ليلاقى حتفه وحيداً وهو يحاول اللحاق بشعبه في الغابة.
أما ناسنا يا ود العجب فلا يموتون .
من الممكن القول أن الطغاة جبناء يموتون ألف مرة.
بلغة المسنين لا العجزة أكرر قول الجواهري : باقٍ وأعمار الطغاة قصار
وكذلك كلمات الأمريكي والت ويتمان:
هؤلاء الشهداء المعلقون من المشانق
هذه القلوب التي اخترمها الرصاص الكالح
إنها لتحيا في أمكنة أخرى
متدفقة الحيوية
إنهم يحيون في شبان آخرين أيها الملوك
إنهم يحيون في اشقاء مستعدين لأن يتحدونكم ثانية

ولأن الموت بشهادة المتنبي ضرب من القتل فان موتانا هم قتلى هذا الزمن الرديء.
والحياة تعود اليهم في شباب آخرين مبدعين يحملون الراية ذاتها ويكتبون عليها الكتاب بأيديهم.

15
والذين يفتقدون سعاد يكتبون لها حياة جديدة برفع الرايات التي رفعتها وبرعاية المبدعين الشباب بخاصة وكل ذلك على نحومؤسسي . ويبدو أن سعاد كانت ضالعة بطبيعة عملها الجامعي في مشروعات ثقافية اخرى خارج إطار الزمن الذي عملنا فيه معاً. وحتى في تلك الأيام كانت تجد متسعاً لترتيب جولة على أنحاء السودان تبدأ بالجنوب لتوفيق السنوسي الذي كان منكباً على مشروع لكتابة الشعر أو إلقائه الى الناس بطريقة التوربادور. وهناك أمثال علاقتها بالفقيد عبد الله هاشم الفنان الذي كان يتعامل مع الجبهة الديموقراطية بطريقة الباب الدوار دخولاً فخروجاً فدخولاً بلا إذن من أحد .

سلمى عرفت سعاد قبلي بكثير فهي كانت استاذة لها في الأحفاد وحين نكون في زيارتها كل مرة ترددنا فيها على السودان خلال السنوات الأخيرة كنت أتذكر قول حكيم ابن جبلة العبدي:

يا نفس لاتراعي
إن قطعوا كراعي
إن معي ذراعي

ورغم التهاب المفاصل المقيت كانت الأنامل تعمل في الكومبيوتر بلا هوادة.وآلام الداء لم تفض الى المرارة ولا الى قتامة الرؤية .وإذا كانت الأجسام قد تعبت في مراد النفوس الكبار في حالة سعاد فان الروح ظلت مشرقة تواقة لا تنهزم.

ذلك درس لنا جميعاً ألا تفضي بنا صنوف الدهر أن ننهزم.
—————————–

– وقفت وما في الموت شك لواقف
– كانك في جفن الردى وهونائم
– المتنيي

– ————————-

– Vsevolod Vishevesky 1900-51
– المأساة المتفائلة
– بتروغراد 1917
– كان على الكوميسارة تنظيم اول فرقة بحرية شيوعية خلال الحرب الأهلية –
- تمرد وقع في المدمرة قاده الفوضويون...

عادل عثمان
مشاركات: 845
اشترك في: الثلاثاء مايو 10, 2005 12:14 pm
مكان: المملكة المتحدة
اتصال:

مشاركة بواسطة عادل عثمان »

تحية للكاتب المعلم عثمان النصيري
بهذه الكتابة الملحمية نسج - بقدرة ديالكتيكية - حيوات ما زالت تقاوم الموت وهي في الملكوت
ان جهد المثقف الكبير وصبره على البحث والغوص في المكتبات والاراشيف بحثا عن تواريخ شخصية صنعت جزءا من تاريخنا الوطني
الملتحم بها، والناتجة عنه هي الثانية، ان هذا الجهد لا يوازيه الا اسلوب الكتابة المتفرد الواشج بين فنون عديدة اسطى فيها الكاتب والمترجم الضليع

كتابة احتشدت بالمعلومة وبالطرفة والحزن والفقدان والتحليل وربط الماضي بالحاضر والمستقبل ونظرة ناقدة لما يراه كثر من المألوف والمسلم به
There are no people who are quite so vulgar as the over-refined.
Mark Twain
أضف رد جديد