ديموقراطية ما بعد الهويةـأوليفر فلوغل ـ مارتينزين

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

ديموقراطية ما بعد الهويةـأوليفر فلوغل ـ مارتينزين

مشاركة بواسطة حسن موسى »



ديمقراطية ما بعد الهُوية*

أوليفر فلوغل – مارتينزين**

ترجمة: حامد فضل الله \ فادية فضة



نُشرت هذه الترجمة في مجلة " تبين "، العدد 31 ــ المجلد الثامن ــ شتاء 2020، وهي مجلة فصلية محكمة تعني بالدراسات الفلسفية والنظريات النقدية، الدوحة ــ قطر.



" أوراق ألمانية"، الى عادل القصاص ـــ في البلد البعيد


ملخص
تناقش هذه الدراسة العلاقة بين الهويات الجماعية وإقصاء الآخر. وتتعامل مع تاريخ الأفكار وتناوله مسألة الهوية الجماعية، وتعامله مع شيوعها في صيغ مكيَّفة بحسب السياقات التاريخية الواقعية في كل مرة. وتُبيّن الدراسة جانبَ التمييز وما يُحيط بمفهوم الهويات الذاتية في المعنى المعرفي وما تجلبه معها من عمليات الإقصاء وسيرها، وتساوق ذلك مع علاقات الهيمنة، والأسباب الكامنة خلف النجاح العابر الحدود الوطنية الذي تشهده ظاهرة الشعبويين اليمينيين وأحزابها، وقدرتها على تسويق أفكار تضامن اجتماعي قومي محدود، وهياكل الهوية الجماعية وأشكال الاستبعاد المرتبطة بها وبالآخر. وكيفية استغلال خيبة آمال الطبقات الاجتماعية الهشّة في سياسات العدالة الاجتماعية.
كلمات مفتاحية: الهوية، المفهوم، الإقصاء، الشعبوية، التهميش.


تستحضر النظرة التي تنطلق من تشخيص الحاضر، صورةَ العودة إلى ما يُعتقد أنه جرى التغلّب عليه؛ إذ يبدو أن كل تلك الأشكال التي تحطّم مسارُها في أواخر القرن التاسع عشر تعاود الظهور لتقود إلى الهاوية في القرن العشرين: القومية المتطرفة، ورُهاب الأجانب، والمُغالاة الشوفينية. لكن ينبغي للمرء ألا يخلط بين الحاضر والماضي، على الرغم من أن الماضي يمكن أن يكون مفيدًا تمامًا لاستكشاف الحاضر. وينطبق هذا أيضًا على العلاقات الحالية بين الهُويات الجماعية، وما تفهمه بوصفه الآخر الذي يقابلها، واستبعاد الآخر في أحايين كثيرة.
إذا نظر المرء مرة أخرى إلى تعامل تاريخ الأفكار مع العلاقة بين الهوية الجماعية والآخر الخاص بها، يمكنه أن يتذكر بسهولة لوحة بول كلي (1879-1940) Paul Klee الملاك الجديد Angelus Novus كما وصفها فالتر بنيامين الذي يُؤوّل "الملاك الجديد" باعتباره ملاكًا للتاريخ، ينظر بعيون مرتاعة ومفتوحة إلى الوراء، إلى التاريخ الذي صوّره فريدريش هيغل بوصفه مذبحة ويبثّ الرعب؛ حيث تمنحنا شواهد تاريخ الأفكار على العلاقة بين إحالات الجماعة على ذاتها والآخر الذي تُقصيه، أكثر من ذلك، رؤيةً واسعةً عن الأغوار الحقيقية لتاريخ الأفكار؛ ذلك أن المرء إذا تمعّن فيها، فإنّ ما سيظهر، باعتباره شيئًا يحتاج إلى التفسير، لن يكون التمجيد الجماعي للذات والإقصاء العنصري العنيف في أغلب الأحيان للآخر، بل الاستثناءات التي تخرج عن هذه القاعدة. إنّ الأشكال الأساسية لهذه الظاهرة لا تزال مطروحة منذ القدماء، وتطفو من جديد في صيغ مكيَّفة بحسب السياقات التاريخية الواقعية في كل مرة. ومنذ أرسطو، لا تزال هناك أشكال جوهريّة داخلية وخارجية عن استبعاد الآخر، ونشير هنا إلى التمييز بين اليونان والبرابرة ، وبين الحر والعبد ، أو أيضًا بين الرجل والمرأة . إن هذا التمييز يؤكد نفسه بلا شك، إنه تأسيسي بالمعنى المعرفي: إنّ الهويات الذاتية، مثل الكثير من الكيانات الأخرى، تظهر أول مرة، أو تُعاد إلى العالم من خلال عمليات الإقصاء. ومن ثمّ، فإنّ التحديد والتمييز بما هما كذلك، ليسَا المشكلة في حد ذاتها؛ فهما يخلقان مساحات ويصنعان أيضًا عالمًا من التنوع. ففي رحابه ينتج كلّ منهما شيئًا مختلفًا. وعلى الأرجح تكمن المشكلة، كما تُظهر العديد من النصوص في تاريخ الأفكار، لا يكاد يكون هناك تمييز للاِختلاف لا يحتوي على شكل مزدوج، أي تقدير أحد الجوانب مع تقليل قيمة الجانب الأخر في نفس الوقت.
أضاف جاك دريدا، بشكل مؤكد، إلى تاريخ الفلسفة - من خلال عمليات الاستنطاق التفكيكية التي قام بها حين كتب أن التمييز الذي يبدو أول وهلة - أن له معنًى معرفيًّا في المقام الأول، يسير جنبًا إلى جنب مع علاقات الهيمنة، من حيث إنه يسعى إلى تثبيت هيمنة الجانب المفضّل للتمييز على الآخر المقابل له، أو حتى تشكيله . وتؤدي الأفكار المنتقدة هذه الأنماط القمعية من تشكيل الآخر دورًا أساسيًا، على سبيل المثال، في نظرية الجندر لجوديث بتلر ، أو في الخطابات ما بعد الكولونيالية .
إنّ الخطاب الليبرالي، في نشوة نصره التاريخي المزعوم، خصوصًا في أواخر القرن العشرين، كان قد كبت باستمرار مثل هذا التمييز وما يرتبط به من إقصاءات، ليبقى بعيدًا عن الأنظار. لكن اختماره تواصل تحت السطح، حيث أولاه بعض المؤلفين، مثل جاك رانسيير Jacques Ranciere وشانتال موف Chantal Mouffe، بعضًا من الاهتمام في مجالات واسعة من النظرية السياسية والفلسفة، وأشارا منذ تسعينيات القرن الماضي، وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلى أن تفوّق معنى الإجماع الليبرالي في الديمقراطيات التمثيلية على النمط الغربي سوف يؤدي إلى تقوية المواقف القومية اليمينية التي يمكن أن تقدم نفسها بديلًا من الهيمنة الليبرالية . وهو ما يقومون به الآن بنجاحات مرعبة، إلى جانب تلك الإحالات الشوفينية إلى الذات وأشكال الإقصاء المعادية للأجانب، تلك التي كان يُعتقد أنه جرى تجاوزها، لتُصبح مرة أخرى جزءًا مرئيًّا من الخطاب السياسي العمومي. وفي أكثر بلدان الاتحاد الأوروبي، مثل المجر وبولندا ومؤخرًا النمسا، اتجاه نحو البرامج الحكومية. وعندما يُحتفى بهذه الأشكال من السيطرة المشحونة بالعواطف، في البرلمانات، وتُميّز التصريحات الرقمية التي لا حصر لها لرئيس الولايات المتحدة الأميركية الحالي، فإنّه ما عاد هناك، كما يمكن ملاحظته في الوقت الحاضر، أيّ فرصة لأن يتوقّف أمر انتشارها بين أوساط كبرى من السكان. لذلك، ليس من المستغرب من منظور اجتماعي الحديث عن نزعات "تقهقر الحضارة إلى الخلف في المجتمعات الغربية" .
تحاول هذه الدراسة فتح آفاق نقدية بشأن العلاقة بين الهويات الجماعية وإقصاء الآخر. في الخطوة الأولى سوف يتعلق الأمر باستكشاف إمكانات تفكيك عمليّة إقصاء الآخر. وسيتم ذلك من خلال عقد مناظرة مع وهم الشعب عن هُويته المتطابقة مع ذاته. وتتمثل الخطوة الثانية في تتبع الدوافع العميقة التي يمكن أن تفسّر لماذا عرفت أشكال الإقصاء حاليًا هذه الانتعاشة العنيفة. وهنا تبرز مسؤولية التصدي لمطالب العدالة على المستوى العالمي من ناحية، وآليات مواجهة الخوف من الذات التي نراها في الآخر من ناحية أخرى.
وهم الشعب بشأن هويته الذاتية
تعرّضت المنهجيات النقدية الجينالوجية والتفكيكية في المناظرات العامة والعلمية في الفترة الأخيرة إلى تهمة تأجيج سياسات تعبوية شعبوية لـ "الحقيقة ما بعد الواقعية" Postfaktisch. وأثار مايكل هامب هذا الاعتراض ضد ما يُسمى اليسار العلمي الثقافي ، بحسب وصفه، ومن منظور واقعية فلسفية جديدة، كما اتهم بول بوغوسيان من منظور العلوم الاجتماعية والإنسانية البنائية، بالخوف من الحقيقة التي تؤدي في رأيه إلى نسبية غير مسؤولة . وخلافًا لهذه الشكوك العامة، من السهل أن نُظهِر في الموضوع الحالي أن أدوات مثل الجينالوجيا لميشيل فوكو أو التفكيك عند دريدا، والإِجراءات المرتبطة بها أيضًا، ملائمة تمامًا لبدء حركة مراجعة نقدية محكمة تُبطِل أساسًا جوهريًا مثل فكرة الهوية الثابتة لشعب يؤكد من خلالها هويته الجماعية، وهي فكرة في المقام الأول ذات أهمية كبرى للسياسات الشعبوية اليمنية.
إذا انطلقنا من رؤية فوكو المتمثلة في أن محتوى أنساق المعرفة وحقيقتها باعتبارها خطابات، التي ترسّخت كيقين معرفي، تنبع من هياكل السلطة المهيمنة، عندئذٍ يمكن إخضاع هذه اليقينيات إلى استجواب جينالوجي، بدلًا من زعم ثباتها عبر الأزمان، ويمكن اعتبارها نتائج نظرية للصراعات الدائرة بشأن سلطة التفسير . يمكن أيضًا القيام بإيماءات غير مطروقة، مع استراتيجيات دريدا التفكيكية التي سنعود إليها عند الحديث عن تفكيك الهوية الوطنية.
في البداية، أريد أن أؤكد أن هناك تعتيمًا مُريبًا يعرض عن إظهار أن هناك اختلافًا مهمًا يُميّز ما بين المواقف النقدية المتشككة والادعاءات الشعبوية التعبوية لـ "المزاعم عن حقائق ما بعد واقعية" Postfaktizitätsbehauptungen، بوجود ثوابت ما عادت قابلة للجدل.
في حين أن الأخيرة تخلص إلى نتيجة بطريقة غير متأملة، حيث إن ادعاءاتهم بعدم وجود حقيقة قائمة على أساس علمي، لا تترك مساحة للتشكيك فيها، في حين تؤدي استراتيجيات الجينالوجيا والتفكيكية إلى التزام شامل للتساؤل النقدي الذي يشمل دائمًا استجوابًا بالانعكاس الذاتي للفرضيات الخاصة والسلوك الشخصي. ويُرفض هذا النقد الذاتي التأملي، عادة، من الحركات الشعبوية. ولذلك يظهر تباين هنا، لماذا الادعاء أن التشكيك في الحقيقة يُعزّز خطابات (الحقائق ما بعد الواقعية) Postfaktische Diskurse، وهذا ليس سببًا واهيًا فحسب، بل وسيلة قوية تقود إلى تشويه النقد الفاعل ضد الادعاءات الشعبوية لـ "الحقائق ما بعد الواقعية" الراسخة.
إن الهُوية واحدة من أقوى المكوّنات الجماعية حاليًا، وتُصوّر الشعب باعتباره مجموعة وطنية يمكن تحديدها بإحكام وتؤدي إلى تشديد مطلب إقصاء أحدٍ أو آخرين، في الوقت التي تظهر فيه الحركات السياسية الشعبوية اليمينية مدافعًا، بثقة عالية بالنفس، عن القيم الوطنية والهوية الثقافية القومية، ونقاطًا مرجعية ثابتة للهوية المشتركة الموجّهة ضد الآخرين. ولا يقود هذا الأمر إلى فتح مجال جدلي فحسب، بل من الملحّ التأكيد أن هذه مجرد أوهام، في أحسن الأحوال، تقود للأسف في وسائط الإعلام المتعددة إلى تكرار التهديدات بعنف بلاغي في الخطاب السياسي؛ ونتيجة لذلك، زيادة كبرى في الكثير من جرائم العنف ضد مخالفي الرأي والمهاجرين. بالطبع، لا يمكن اشتقاق التبرير المعياري لمثل هذه الأفعال التي تجلّت مؤخرًا على اعتبارها بأي حال من الأحوال مقاومة من الشعبويين والمتطرفين اليمينيين.
في تاريخ الفكر، تبدو فكرة الشعب الذي يُمارس سيادته على أي حال منذ البداية، مقولة Kategorie، أي تبدو تصنيفًا عامًا غير محدد، وظهور الشعب بصفته كيانًا جماعيًا يُقرر مصيره بنفسه ديمقراطيًا، ومن ثمّ كيانًا جماعيًا ذا سيادة، فكرة تعود تاريخيًا، كما تُبيّن أبحاث كلود لوفور بشأن الديمقراطية والسياسة ، إلى استيعاب البشر من خلال التجربة العملية للتوافق الطبيعي للأشياء (من دون تدخل الفعل الإرادي): إن الحقبة الديمقراطية، بحسب قناعة لوفور، هي حقبة تُزال فيها المرجعيات الثابتة. وهكذا يمكن فهم الديمقراطية باعتبارها ردة فعل على إدراك أنّ العالم الذي نعيش فيه يجب أن ينتج ويُشكّل، وأنه ليس، بطبيعة الحال، مسألة مُدرَجة في نظام ثابت وملزِم معياريًا . أن مكان السلطة ــــــــ الذي كان تمارس فيه السطوة تاريخيا وبوحشية، قد عُبر عنه معنويا ورمزيا من خلال قطع رأس النظام الملكي، أثناء الثورة الفرنسية ـــــــ في حين إن مكان السلطة في العصر الديمقراطي، لا يمكن احتلاله إلا بشكل موقت، ويبقى هذا الاحتلال دوماً موضوع خلاف. . لكن مع إدراك فقدان اليقين والفراغ في مكانة السلطة، وحتمية مرافقته بتغيير الجماعة الشعبية، يتوافق هذا باعتباره جانبًا آخر مع إغراء استعادة هذه الهوية المنقسمة للتشكيلة التعددية المنتشرة، كبنية شعبية موحدة. ومن ثم فإنّ، إن تجربة التوافق الحديثة في العصر الديمقراطي هي منذ البداية انزعاج من عدم اليقين، وتُغذّيها المحاولات الكثيرة لتجاوز تجربة عدم اليقين هذه. يصف لوفور القرن العشرين، ناظرًا إلى الشعب كلّه، كيفية محاولات المطامح الاستبدادية محاصرة الشعب من أجل تجاوز التغييرات الديمقراطية. ولذلك ليس من الصعب، في ضوء تشخيص لوفور أيضًا تفسير القوميات الشعبوية اليمينية التي أُعيد تفعيلها في الوقت الحالي، فهذه القوميات مدفوعة بالرغبة في تأسيس وحدة موثوق بها، حيث يثير سؤال بناء التنوّع مرارًا وتكرارًا: من، أو ما، هو الشعب الديمقراطي، ليصبح موضوعًا لنزاع ديمقراطي.
إذا أخذ المرء بجدّية أفكار لوفور لتفكيك نقاط ثابتة كيقين، فسرعان ما سيتضح أن مثل هذه الآمال في تأسيس وحدة صلبة لجماعة، يجب أن تبقى في نهاية المطاف بلا أساس. ولذلك، ولأن هناك جدلًا دائمًا يأتي به التنوع، بدلًا من الوحدة المرغوب فيها، فإن محاولات إنشاء هوية موحَّدة للشعب في صيغة المفرد، لا يمكن إلا أن تتخذ شكلًا عنيفًا: وبما أنهم لا يجدون شيئًا مماثلًا؛ لذلك يمكنهم، فحسب، اللجوء إلى الوسائل القسرية لبناء الهوية من خلال استبعاد الآخر. ومع عدم إمكان سلخ الطرف الآخر عن الشعب الديمقراطي بطبيعته المتعددة الوجوه والمتغيرة باستمرار، فإن محاولات إقامة وحدة من الهوية الجماعية للشعب، تُصاحبها أعمال استبعاد عنيفة، وفي حالات قصوى أيضًا، الإبادة الوحشية للآخر. ولذلك ليس من قبيل المصادفة أن تمارس القوميات العنف ضد أولئك الذين هم شهود على التغيير الديمقراطي المستمر للشعب، ومطالبتهم بالانتماء إليه. إذا تابع المرء هنا الاعتبارات التي استخدمها رانسيير للرؤية السياسية - يظهر الخلاف بشأن تفسير من، أو ما، هو الشعب الديمقراطي - فإن الكفاح الحاسم لأولئك الذين يجدون أنفسهم في وضع تاريخي معيّن بصفتهم أجزاءً يدركون أنهم ذوات وليسوا مجرد أجزاء، وأنهم يدخلون في صراع سياسي لتشكيل العالم بهدف توزيع مختلف للأدوار، وهكذا، يمتد خيط أحمر لنضالات الحركة العمالية للمشاركة السياسية، مع المطالب النسوية من أجل حقوق سياسية متساوية، ليصل اليوم إلى كفاح المهاجرين. وهذا يعني أنّ على هؤلاء الفاعلين (التاريخيين)، مع غياب الحقوق السياسية، أو تقليصها، توحيدَ الجهد ليصبحوا جزءًا من عملية صنع القرار السياسي الجماعي للبلدان التي يعيشون ويعملون فيها.
هذا ممكن من خلال التشكيك في البنية الإقصائية للهويات الجماعية وإظهارها كحدث توافقي، حيث يؤكد رانسيير هذا الادعاء التوافقي تمامًا، مثلما يؤكده لوفور. وهو يؤدي دورًا حاسمًا في نظريته بشأن نزاع غير المشاركين في القرار السياسي، لأن قواعد معيّنة وما تحمله من إدراك للهويات الجماعية التوافقية، يمكن أن يتم التشكيك فيها من أي شخص بصرف النظر عمّن هو.
يمكن القول مع رانسيير، إن النزاع السياسي - الديمقراطي من أجل تنظيم العالم، يمكن أن يكون قائمًا، فحسب، لأن الهويات الجماعية وما تحملها من قواعد مصوغة بالتوافق، وإن أساس السياسة هو في الواقع ليس أكثر من مواضعة يتفق عليها كطبيعة، إنها بسبب غياب جوهري يأخذ بوضوح أحد الخيارات الممكنة Kontingenz لأي نظام اجتماعي. توجد السياسة، ببساطة لأنه لا يوجد نظام اجتماعي قائم في الطبيعة، ولا قانون إلهي يحكم المجتمعات البشرية .
كي تكون قادرًا على التشكيك في يقين الهويات الجماعية، يجب أولًا تقديم إثبات حدوثها. تقدم هنا استراتيجية دريدا للاستجواب التفكيكي دلائل حاسمة تقودنا إلى الأطروحة النقدية المركزية لهذا القسم. إن تصور وجود شعب متطابق مع نفسه هو في نهاية المطاف مجرد وهم، كما بيّن دريدا في كتابه سياسات الصداقة. فالإيماءات المُرفقة المُحصّنة بالسرد القومي المفترض، التي تُحيلنا إلى أصل مشترك يمكن بسهولة سحب البساط من تحتها، لأنها في نهاية الأمر مجرد تأليف أحلام وخيالات. ومع ذلك، فإن كليهما - المجتمع الخيالي والمعاد خلقه - مرعب بالنسبة إلى أولئك الذين يمثلون الجزء الآخر من هذا المجتمع، بسبب عواقب الإقصاء العنيفة. لكن ما يهم هو أن هذا الإقصاء يمكن أن يكون موضع تساؤل؛ فالسياسات والخطابات السياسية كلّها، التي تستند إلى "الولادة" و"الأصل"، تمارس انتهاكًا بما لا يمكن إلا أن يكون اعتقادًا لها، هناك من يتحدث عن مجرد الإيمان، وآخرون عن فعل الإيمان. كل ما يشير داخل الخطاب السياسي إلى الولادة والطبيعة أو الأمة - حتى الأمم أو أمة الأخوّة والإنسانية العالمية – فهذه الانتماءات كلها تقوم في إعادة تجسيد ذلك "الخيال" .
مع أخذ هذه الأفكار في الحسبان، يمكن من جهة رسم خط يفصل بشكل قاطع بين الحركات الشعبوية اليمينية التي تسعى لاختلاق هوية جماعية تُقصي بها الآخرين - وفي الكثير من الأحيان بالعنف – ومن جهة أخرى النضال الديمقراطي من أجل المشاركة السياسية، الذي يقوم من البداية على التنوع، وعلى قابلية استيعاب التعددية في الهوية الجماعية للشعب الديمقراطي. في نظرية رانسيير عن رؤية السياسة للجزء باعتباره ذاتًا وليس مجرد جزء، يخوض صراعًا من أجل إعادة تشكيل المسرح السياسي على نحو يؤدي إلى تنظيم الأدوار بهدف توسيع المجموعة السياسية، وليس إغلاقها باستبعاد الآخرين .
أشارت بتلر مؤخرًا بوضوح إلى حقيقة أن التجمعات باسم الشعب ضرورية للاحتجاجات الديمقراطية، لكن في الوقت نفسه يستحيل جمع الشعب كله والتحدث باسمه، لأن كل فعل من هذه الأفعال يجلب معه نزاعًا بشأن من، أو ما، هو الشعب في الواقع . يمكن القول بعد لوفور ورانسيير وبتلر إنّ الاحتجاج الديمقراطي والبناء الديمقراطي للشعب سيعتمدان، بشكل حاسم، على إبقاء الخلاف مفتوحًا بشأن من، أو ما، هو الشعب. وعلى النقيض من ذلك، تدّعي الحركات الشعوبية اليمينية أنها الشعب، أو على الأقل تستطيع من دون شك أن تتحدث باسم الشعب، وهي من أجل ذلك تستغل دلالة الديمقراطية باعتبارها أداة فحسب، لكنها في الأساس معادية للديمقراطية لأنها تعادي التعددية .
عناصر التصدي
إلى جانب مسألة طرح سحب البساط من تحت الافتراضات الجوهرية التي تستند إلى البنى الإقصائية للهويات الجماعية، من المهم أيضًا استكشاف ما الذي يمكن أن يدفع إلى هذا النجاح في ضوء الازدهار الكبير والعابر الحدود الوطنية الذي تشهده حاليًا الحركات الشعبوية. مُتاح هنا حاليًا عدد كبير من التأويلات المختلفة. لا يمكن، ومن ثمّ ينبغي ألا يكون الهدف من الأفكار التالية مناقشة شاملة تقود إلى عرض شامل لمجموعة كاملة من المناهج التفسيرية.
أُعطيت التأملات التي طرحها ديدييه إريبون بوضوح، خصوصًا في كتابه العودة إلى ريمس الذي تناوب فيه بين إعادة بناء السيرة الذاتية والتحليل الاجتماعي، اهتمامًا كبيرًا . ووفقًا لحجة إريبون، فإن قوة الأحزاب الشعبوية اليمينية التي تقوم سياسيًا على بناء هويات إقصائية، نتجت من خيبة آمال الطبقات الاجتماعية الهشّة في سياسات العدالة الاجتماعية لليسار. هذه الخيبات التي يمكن تلخيصها في فكر مركزي، قال في البداية إن هذه الفئة من السكان الذين كانوا يأملون في سياسة إعادة توزيع للثروة أكثر عدالة من الحكومات الائتلافية اليسارية، ما عادت ترى أن الأحزاب اليسارية تمثلها، وأن هذه الأحزاب انغمست ذاتيًا في هموم العيش المنوّعة، وفقدت تركيزها بشكل متزايد على المسألة الاجتماعية. هذه الفجوة في التمثيل يمكن، بحسب هذه الأطروحة، أن تفيد الأحزاب الشعبوية اليمينية. وباستخدام فرنسا مثالًا، يمكن المبالغة في القول إن الأحزاب اليسارية دفعت ناخبيها السابقين إلى أحضان أحزاب الشعبويين اليمينية، لأن ساستها، بعد انتخابهم، أثبتوا أنهم يسار الكافيار ، يفتقرون إلى الحساسية الكافية للمشكلات المُلحّة عند الطبقات المحرومة اجتماعيًا.
تثير مثل هذه التفسيرات، الواردة أعلاه وتتعلق بالأبعاد الداخلية، مثل خيبة الأمل وغياب العدالة الاجتماعية، مسألة تأكيدها على نقطة واحدة تركز على أسس هياكل التمثيل للديمقراطيات الغربية. يبدو لي، إضافة إلى ذلك أن مناهج توضيحية إضافية جديرة بالذكر، وهي مناهج تعكس ما يجري الدفاع عنه خارج هذه الأبعاد الداخلية. وقد تلمس هذه الأبعاد مشكلات أكثر جوهرية، حيث تُعالج قضايا تتعلق بغياب العدل في وضع الهياكل الاقتصادية والسياسية للمجتمع العالمي. وبالنظر إلى حاجة الوعي المتزايد إلى تركيبات هويات استبعادية، يبدو لي، قبل كل شيء، أنّ هناك عنصرَين مركبين مُهمّين للتصدي. الأول يتعلق بمسائل العدالة العالمية، وربما يمكن وصفه على أفضل وجه بأنه مشابه للتصدي للمسؤولية. يضاف إلى ذلك العنصر الثاني، وهو آليات مواجهة الخوف مما يمكن فهمه باعتباره استجابةً لتغير النظام الكوني من منظور الازدهار وسوق العمل. ويمسّ كلا البعدين قضايا معقدة جدًا، ولهذا السبب أودّ أن أحصر نفسي هنا في مناقشة تعتمد على نموذج. وأتخذ موضوع التصدي للمسؤولية باعتمادي على أفكار إيريس ماريون يونغ Iris Marion Young بشأن العدالة العالمية. أما مسألة آليات مواجهة الخوف، فأناقشها مع جدل أطروحة جوزيف آشيل مبيمبي Joseph – Achille Mbembe بشأن "المصير الزنجي للعالم" .
رفض المسؤولية: السؤال المكبوت للعدالة العالمية
تقف إيريس ماريون يونغ منذ البداية ضدّ خط الافتراضات الأساسية التقليدية المستخدمة كثيرًا في نظريات العدالة في الخطابات المعاصرة، في حين تعود الكثير من نظريات العدالة الرائجة إلى جون رولز، بربطه إعادة توزيع العدالة على المرجعيات المؤسساتية والمجتمعية لمجتمع دولة قومية منظمة. وتؤكد يونغ في المقابل، بشدة، أن مثل هذه الأشكال السياسية والمؤسسية لتنظيم المجتمع لا يمكن أن تكون شرطًا لمطالب العدالة، بل يجب بالأحرى فهمها بدلًا من ذلك باعتبارها استجابة للالتزامات الناشئة من منظور العدالة . وصمّم رولز في البداية، كما هو معروف، نظريته عن العدالة لمجتمعات الدول القومية ، وفي تحوّله اللاحق إلى منظور ما وراء الدولة القومية، وأكد أنه على المستوى العالمي، لا توجد التزامات عدالة لمبادئ إعادة التوزيع مماثلة لمستوى الدولة القومية. وُصف هذا الموقف في مناقشة العدالة العالمية، باعتباره موقفًا فرديًا يُمثّله اليوم، في شكل شديد الخصوصية ، ديفيد ميلر (1946) David Miller الذي ينطلق من أن المطالب الخاصة أيضًا بعدالة إعادة التوزيع، بحسب وجهة نظره، نتيجة روابط خاصة تميز المجتمعات الوطنية .
تضع يونغ في المقابل فكر العدالة بشكل جوهري مختلف، وحتى في كتابها العدالة وسياسة الاختلاف الذي أصبح الآن يوصف بالكلاسيكي ، تنتقد التركيز الضيّق لنظريات العدالة على أبعاد إعادة التوزيع؛ إذ إن مسائل العدالة، بحسب وجهة نظرها، تتعلق بظروف الاضطهاد وعدم المساواة في التوزيع التي يجب فهمها باعتبارها نتيجة لهياكل الاضطهاد . لذلك، تقترب يونغ في منظور العدالة، من سؤال نقدي لظروف الظلم السائدة . ومن هنا يُفتح منظور للعدالة مختلف تمام الاختلاف بشأن مسألة المسؤولية، لذا تضع يونغ أولًا مسألة الظلم من خلال التركيز على ظروف القمع والاستغلال، وثانيًا باعتباره ظاهرة هيكلية، فهي لا تركز على الشروط المؤسسية التي يجب أن تكون موجودة من أجل تأسيس إعادة توزيع جماعية، كما هي الحال غالبًا مع رولز وحلفائه، لكنها تركز بدلًا من ذلك على الظروف كلها التي تسبب الظلم. وهذا يؤدي إلى تجاوز منظور العدالة للحدود الوطنية للدولة، وإلى صيغة موسعة بشكل كبير لمفهوم المسؤولية. إن الهياكل والعمليات كلها التي تضع البشر في علاقات بعضهم ببعض، والتي من الممكن أن ينتج منها الظلم، تقع في دائرة اهتمام نظرية العدل. وفي عالم معولم، تتجاوز مسألة العدالة حدود الدول القومية. ووفقًا لقناعة يونغ ، فإن المدخل البنيوي يغيّر وجهة النظر عن مسؤولية الظلم والاضطهاد، وعلى من تقع هذه المسؤولية المؤدية إلى الظلم والاضطهاد . ففي حين أن المسؤولية بحسب المفهوم الذي يتمحور حول الفاعل، تقع على أولئك الذين يشاركون في الإنتاج الناشط لأنهم يمارسون مثلًا استغلالًا واضطهادًا، فإن الوضع في المقابل يبدو مختلفًا تمامًا عندما ننظر إلى المسؤولية عن الظلم والاضطهاد باعتبارهما ظاهرة هيكلية، كما تقترح يونغ. قد يوضح المثال التالي المصطلح المرتبط بالفاعلين: لا أحد في أوروبا الغربية يشتري بصورة متكررة وسَخيّة ملابس أُنتجت في ظروف استغلالية في بلدان الجنوب المعولم؛ إذ يتحتّم عليه أن يربط فعل الشراء هذا بنِيّة أو غرض من يريد أن يمارس استغلالًا واضطهادًا. لكن من منظور هيكلي، ليس هناك طرف محظوظ وآخر غير محظوظ فحسب، بل لديهم جميعًا حصة في عملية تبادل عالمية تتميز بهياكل غير عادلة واستغلالية؛ ومن ثمّ يتحمّل أولئك الذين يتمتعون بهذه العلاقات غير العادلة مسؤولية مشتركة تجاه أولئك الذين يُستغلون .
في هذا السياق، إن الرأي الذي تُعبّر عنه بشكل خاص الحركات الشعبوية اليمينية، من جهة أن الناس الذين يأتون من الجنوب المعولم، ويبحثون عن حياة أفضل في بلدان الشمال، هم لاجئون اقتصاديون، مرفوض على وجه التحديد في نظرية عدم المساواة. إن ادعاءات من يُسمَّون اللاجئين الاقتصاديين، التي يتخلّى مواطنو الدول ذات الامتياز والثراء بموجبها عن مسؤوليتهم، ادعاءات غير مشروعة. وإذا أخذنا حجج يونغ من ناحية أخرى بجدّية، فعندئذٍ ستبنى تجمعات وطنية هنا تستبعد مطالبات الآخرين، لأنها تزيل العلاقة المتبادلة للظلم والمسؤولية التي تنبع منها. وهذا لا يدلّنا على الأقل عما سيترتب عن ذلك سياسيًا. إن عالمًا بلا حدود غير ممكن من الناحية السياسية في وقتنا الحالي. إلا أن الواضح أن مجرد رفض مطالب المشاركة ليست خيارًا مشروعًا، خصوصًا أن مطالب المحرومين، بحسب رانسيير، ليست أكثر من المناشدة للالتزام بالحد الأدنى من حقوق الإنسان. هذه المطالب هي مطالب العدالة، لأنّ بعضنا مترابط ببعضنا الآخر من خلال نظام عالمي ينتج المتميزين والمستغَلين. ومن الجائز أن تؤدي عوائق سياسية واجتماعية كبرى لمواجهة عاجلة وشاملة لهذه الهياكل الظالمة. إن العملية السهلة للإقصاء عبر التنصّل من المسؤولية عملية لا يمكن إضفاء الشرعية عليها، كما يدّعي الشعبويون اليمينيون، بالإصرار على تضامن اجتماعي قومي محدود. واستطعنا من خلال المساءلة النقدية أن نرى من قبلُ أن هياكل الهوية الجماعية، وأشكال الاستبعاد المرتبطة بها، لا يمكنها الصمود على الإطلاق. والآن، يظهر أبعد من ذلك، حيث تشارك التجمعات المتغيرة باستمرار التي يكتسب أعضاؤها حقوق المواطنة - من خلال عمليات تاريخية ممكنة في الدول القومية - أيضًا في الهياكل ذات الصلة بنظرية العدالة التي تتجاوز الدول القومية المعنية. ومع ذلك، يخشى أن يقوم في الوقت الراهن أنصار الحركات الشعبوية اليمينية بتصعيد حادّ لفوبيا الأجانب بتحرّكهم المعادي لهم، نتيجة لشعورهم المُبهَم بهذا الترابط (غياب العدالة الاجتماعية ووجود الأجانب). إضافة إلى ذلك، ليس من غير المعقول الافتراض أن هذا التصور عن علاقات الظلم العالمي وإعادة توزيع الفضاء (الأمكنة)، في هذه الظروف، يرافقه الخوف الذي يتوسل بالهوية الوطنية في شكل حق معياري لاستبعاد الآخرين. وفي ما يتعلق بآليات مواجهة هذا الخوف، نلقي أخيرًا نظرة سريعة.
آليات مواجهة الخوف: المصير الزنجي للعالم
في المبحث السابق الذي عولجت فيه مسائل العدالة العالمية، من الطبيعي استخدام التمييز بين الشمال المعولم والجنوب المعولم، الذي لا يبدو على الإطلاق أمرًا مستدامًا. صحيح أنه لا تزال بالنسبة إلى هذا التمييز، بالتأكيد، قيمة توجيهية معيّنة في الوقت الحاضر، لأن توزيع الفقر والثروة لا يزال يسمح له على الصعيد العالمي، بالتمييز بين البلدان الغنية، وعلى نحو أكثر تواترًا في الشمال المعولم، خصوصًا في ما يسمى عالم شمال الأطلسي، والبلدان الفقيرة في الجنوب المعولم. ويظهر اتجاه حركات الهجرة الحالية، حيث هذا التقسيم لا يزال في الوقت الراهن أيضًا صحيحًا. وفي الوقت نفسه، تظهر هذه الصورة التي توحي بوجود اختلافات حادّة تنطوي على تصدّعات كبرى ذات صلة بالموضوع الحالي بعودة قوية إلى تركيب الهوية الجماعية وفي آنٍ واحد استبعاد الأخرى. ويتعيّن على المرء أن يفكر في تهميش فرص الحياة نتيجة لاقتصاد العولمة الليبرالي الجديد الذي لا يتكيّف إطلاقًا مع التقسيمات الجغرافية العالمية. بل على الأرجح تُسجّل تباينات صارخة الآن بين ما يُسمى مجتمعات الطبقة الوسطى للشمال المعولم، حيث تعيش أكبر المجموعات السكانية بشكل جزئي في ظروف الفقر، وعلى الأقل في مثل هذا التهميش الهيكلي. بالتأكيد سوف يكون هذا اختصار للجدل؛ القول إن المجموعات المهمشة هي الحامل الأساسي للحركات الشعبوية اليمينية ونجاحاتها. ومع ذلك، لا يمكن صرف النظر عن وجودها ومخاطر الإفقار التي أثارتها السياسة الليبرالية الجديدة والاقتصاد الليبرالي الجديد، وتعزيز ترويج الخوف من الأجانب الذي يستخدمه الشعبويون عبر تحميل الأجانب مسؤولية التهميش الذي أتت به الليبرالية الجديدة، بزعمهم أن الأجانب هم من عرّض ثروات البلدان الغربية الوطنية للخطر، كما أن وجودهم، كما تقول ادعاءات أخرى، أدّى إلى حرمان المواطنين من الوصول إلى الموارد التي يجب أن يحتفظ بها للمواطنين فحسب، بحسب القناعات الشعبوية اليمينية. وجدت نانسي فريزر (1947) Nancy Fraser - في مقالة في هذا السياق المتعدد الطبقات - عنوانًا مدهشًا وصارخًا: "استجار من رمضاء الليبرالية الجديدة المتصاعدة، بنار الشعبوية الرجعية" ، تتبّع فيه مثال النجاح الانتخابي الذي حققه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتُظهر فيه، أن طريق الشعبوية اليمينية إلى الرئاسة لا يمكن تفسيرها من دون سياسة ليبرالية جديدة سابقة .
بحسب تقويم فريزر، هناك حاجة للناخبين إلى رفض "المزيج السام من سياسة التقشف والتجارة الحرة وعبودية الديون والوظائف ذات الأجر المنخفض" ، وكذلك على خلفية الإنجازات الشعبوية اليمينية الأخرى، مثل تصويت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، أو التأثير المتنامي للجبهة الوطنية في فرنسا. إنّ ما تنجح فيه الأحزاب والحركات الشعبوية اليمينية هو تحويل الخوف، تحويل الخوف من التهميش الشخصي إلى خوف من الآخرين الذين يجري تحديدهم بصفتهم أغرابًا من مجموعة وطنية استُدعيت. وبناءً على هذه الحجة، يجب أن يتم تثبيت حدود هذه المجموعة القومية من أجل منع أولئك الذين يُهدّدونها، بحسب وجهة النظر اليمينية الشعبوية .
أوجد مبيمبي صورة تشخيصية رائعة لخلفيات التصدي لهذا الخوف الجماعي من خلال التحدث عن سواد العالم. ما هو المقصود بذلك؟ يميز مبيمبي في بداية كتابه نقد العقل الزنجي بين ثلاث مراحل للعلاقة بين السود المستَغلين والبيض المستغِلين ؛ إذ تهيمن المرحلة الأولى على تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، التي تمتد بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، في سياق التطور الرأسمالي المبكر. ويُجسّد الناس الذين سُلبوا من غرب أفريقيا في هذه المرحلة، بشكل أوضح، التشخيص الماركسي المتمثّل بأنّ علاقات الإنتاج الرأسمالي تجعل الناس سلعة، يُحوّل الناس المستعبَدون حرفيًا إلى "أشياء بشرية، وسلع بشرية، ومال بشري" . وتبدأ المرحلة الثانية في نهاية القرن الثامن عشر وتستمر حتى نهاية القرن العشرين، وهي تتميز بسلسلة من المعارك من أجل التحرير والحقوق (بما في ذلك المعارك لإلغاء الرق ونضالات تصفية الاستعمار في البلدان المستعمَرة، وكذلك حركات الحقوق المدنية والحركات المناهضة للفصل العنصري). وتقع في المرحلة الثالثة التطورات التي تقود مبيمبي إلى أطروحة أن العالم يصبح أسود. تبدأ في أواخر القرن العشرين وتمتد إلى الحاضر (ويفترض أبعد من ذلك). ووفقًا لمبيمبي، فإنه يتميز بظاهرة "عولمة الأسواق، والتعقيد المتنامي للنظام المالي، والمجمع العسكري ما بعد الإمبريالي والتقنيات الإلكترونية والرقمية" . إلى أي مدى يمكن القول الآن إن العالم يسير ليصبح أسود؟ أليست العنصرية اليوم أكثر تواترًا في ثياب العنصرية الثقافية من العنصرية البيولوجية، وظروف الاستغلال الكولونيالي لا تتجدد في عالم ما بعد الكولونيالية من خلال علاقات تجارية إمبريالية ؟ لا يشكك مبيمبي في مثل هذه التقويمات التشخيصية على الإطلاق: يتميز العالم الاقتصادي، المالي والرقمي المعولم في يومنا هذا، في تقديره، بممارسات إمبريالية تستند، من بين أمور أخرى، إلى "المنطق الكولونيالي للاحتلال والاستغلال" .
يكمن الجديد، من وجهة نظر مبيمبي، في أن هذه المخاطر المنهجية، إضافة إلى مخاطر جديدة سوف تتعرض لحالات الاستغلال الراديكالي المتطرّف، وتُصبح جزءًا من قوى بشرية عاطلة، توغّلت منذ فترة طويلة في عواصم عالم شمال الأطلسي ، وتمسّ المجموعات البشرية المضطهدة عنصريًا كما في السابق بدرجة عالية وبمقدار كبير، لكنها لا تقتصر على ذلك فحسب، بل هذا "مصير المجموعات كلّها التابعة من الناس" التي تزداد عالميًا. كانت الرأسمالية وما زالت عنصرية من وجهة نظر مبيمبي، لكنها اليوم "تُعيد استنساخ" مركزها الخاص الذي يجلب "احتمالات اسوداد العالم الذي يبدو أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. إن منطق توزيع العنف على نطاق عالمي ما عاد يرحم أي منطقة من مناطق الأرض، ولا العملية الكبرى التي لا تزال جارية من تقليل قيمة القوى المنتجة" .
مع ذكر هذه النقطة الأخيرة، خصوصًا خفض قيمة القوى المنتجة، يجعل القوس يمتد بوضوح كبير ليعود بنا إلى موضوعنا الخاص من أشكال تركيب الهوية الجماعية التي تسعى لاستبعاد الآخرين. وإذا لجأ اليمينيون الشعبويون إلى هذه الأشكال من الهويات الجماعية في شكل سرديات قومية لرهاب الأجانب، فيمكنهم، في رأيي، أن يستندوا إلى آليات مواجهة، أي خوف من رواسب عالم العيش الواضحة التي يثيرها تشخيص مبيمبي لعولمة الحالة السوداء.
لذلك، من الواضح أيضًا أن استراتيجيات آليات مواجهة الخوف اليمينية الشعبوية لا تستخدم المحتوى اللاإنساني فحسب، بل تُطلق سهامها نحو الفراغ من دون أن تستهدف التحديات الفعلية. لا يشكل المستبعدون الآخرون تهديدًا. إن المخاطر العالمية الحالية، المتمثلة في الاستغلال والتهميش ونشر العطالة، هي بالأحرى نتائج مترتبة على الرأسمالية المنفلتة من عقالها ، ومن إفرازاتها تلك النتوءات المتمثلة في الأحزاب والحركات الشعبوية اليمينية التي لا تكتفي بالصمت في مواجهة المخاطر الحقيقية، بل على العكس من ذلك، وبفعل نشوء وضع يسوده الخوف من الأجانب، تحرف الأنظار عن الواقع.
المراجع
Aristoteles. Philosophische Schrift. Eugen Rolfes (ed.). vol. 4. Hamburg: Meiner, 1995.
Boghossian, Paul. Angst vor der wahrheit: Ein plädoyer gegen relativismus und konstruktivismus. Berlin: Suhrkamp, 2013.
Broszies, Christoph & Henning Hahn (eds.). Globale Gerechtigkeit. Schlüsseltexte zur Debatte zwischen Partikularismus und Kosmopolitismus. Berlin: Suhrkamp, 2010.
Brown, Wendy. Walled States: Waning Sovereignty. Brooklyn, New York: Zone Books, 2010.
Butler, Judith. Anmerkungen zu einer performativen theorie der versammlung. Berlin: Suhrkamp, 2016.
________. GenderTrouble. Feminism and the Subversion of Identity. London/ NewYork: Routledge, 2015.
Celikates, Robin. “Weder gerecht noch realistisch - David Millers Plädoyer für das staatliche recht auf ausschluss.” theorieblog, 4/12/2017. at: https://bit.ly/2OZucfw
Derrida, Jacques. Politik der freundschaft. Frankfurt am Main: Suhrkamp, 2002.
________. Randgänge der Philosophie. Wien: Passagen, 1 999.
Eribon, Didier. Retour a reims. Paris: Fayard, 2009.
Flügel-Martinsen, Oliver. “Postidentitäre Demokratie.” Mittelweg 36, Zeitschrift des Hamburger Instituts für Sozialforschung. no. 3 (June/ July 2018).
________. Befragungen des politischen. Wiesbaden: Springer 2017.
Foucault, Michel. Die ordnung des diskurses. Walter Seiter (trans.). Frankfurt am Main: Suhrkamp, 1991.
Geiselberger, Heinrich. (ed.). Die große regression: Eine internationale debatte über die geistige situation der zeit. Berlin: Suhrkamp, 2017.
Goppel, Anna. Corinna Mieth & Christian Neuhäuser (eds.). Handbuch Gerechtigkeit. Stuttgart: Metzler, 2016.
Hall, Stuart. Rassismus und kulturelle identität. Ausgewählte Schriften & Ulrich Mehlem (ed. & trans.), vol. 2. Berlin: Suhrkamp, 1994.
Hampe, Michael. “Katerstimmung bei den pubertären theoretikern.” Die Zeit. 15/12/2016. at: https://bit.ly/34PcZuL
Hegel, Georg Wilhelm Friedrich. Vorlesungen über die Philosophie der Geschichte. Frankfurt am Main: Suhrkamp, 1986.
Young, Iris Marion. Responsibility. Cambridge: Malden 2007.
Lefort, Claude. Essais sur le Politique: XIXe-XX e siecles. Paris: Seuil, 1986.
Lefort, Claude. Le Temps présent. Paris: Belin, 2007.
Lessenich, Stephan. Neben uns die sintflut: Die Externalisierung sgesellschaft und ihr preis. Berlin: Suhrkamp, 2016.
Martinsen, Franziska & Oliver Flügel-Martinsen. Gewaltbefragungen: Beiträge zur theorie von politik und gewalt. Bielefeld: Transcript 2014.
Mbembe, Achille. Kritik der schwarzen vernunft. Berlin: Suhrkamp, 2014.
McCarthy, Thomas. Rassismus, Imperialismus und die Idee menschlicher Entwicklung. Berlin: Suhrkamp, 2015.
Miller, David. Fremde in unserer Mitte. Berlin: Suhrkamp, 2017.
Mouffe, Chantal. Das demokratische Paradox. Wien: Passagen, 2008.
Müller, Jan-Werner. Was ist Populismus?: Ein essay. Berlin: Suhrkamp, 2016.
Nachtwey, Oliver. Die Abstiegsgesellschaft: Über das aufbegehren in der regressiven moderne. Berlin: Suhrkamp, 2016.
Rancière, Jacques. Aux bords du politique. Paris: Gallimard, 2004.
Rawls, John. Eine theorie der gerechtigkeit. Frankfurt am Main: Suhrkamp, 1979.
________. The Law of Peoples: With “The Idea of Public Reason Revisited”. Cambridge: Harvard UP, 1999.
Roncière, Jacques. Das Unvernehmen: Politik und Philosophie. Frankfurt am Main: Suhrkamp, 2002.
Said, Edward. Orientalismus, 4th ed. Frankfurt am Main: Suhrkamp, 2014.
Schriften, Gesammelte. vol. I. 2. Frankfurt am Main: Suhrkamp, 1980.
Spivak, Gayatri Chakravorty. Can the Subaltern Speak? Postkolonialität und subalterne Artikulation. Wien: Passagen, 2008.
Young, Iris Marion. Global Challenges: War, Self-Determination and Responsibility for Justice. Cambridge/ Maiden: Polity Press, 2007.
________. Justice and the Politics of Difference. Princeton: Princeton University Press, 1999.
Zizek, Slavoj. Der neue Klassenkampf: Die wahren Gründe für Flucht und Terror. Berlin: Ulstein 2016.


صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

يا سلام، يا سلام!
شكراً يا حسن، أولاً، على مناولتنا لهذه الورقة التي لن تفارق ذاكرتي بسبب نفاذها وتحفيزها ولأن موضوعتها مما يشغل بالي. - وكم أنا مدين، أولاً، لبولا، لك، لعبد الله علي إبراهيم وعشاري على لفت الوجدان والعقل، الداخليين، لمسألة الهوية. كما شكراً، أولاً، لكل من حامد فضل الله وفادية فضة على هذه الترجمة الواضح إلمامها وحذاقتها. وشكراً، ثانياً، على الإهداء.

أظنني يجب أن أعاود "مجتمعات متخَيَّلة Imagined Communities" لبنيديكت أندرسون و"الديمقراطية غير محققةDemocracy De-Realized" لهومي بابا، وأعود.
أضف رد جديد