بولا ، لولا الإسم...

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

بولا ، لولا الإسم...

مشاركة بواسطة حسن موسى »


  بولا فنان في صيغة الجمع
 

ثمة قولة مأثورة عن ابن عربي فحواها:" لولا الإسم لإنكشف المسمّى"  ،وأظن أن بولا ـ من خلال الأسماء التي يتخفى فيها طورا و يتكشف فيها أطوارا ـ يمثل بيننا كما الباحث عن الإسم الشامل النهائي القادر على احتواء تعدد هوياته و غواياته لولا أن هواياته و غواياته لا تثبت على حال.
أول معرفتي ببولا ـ عبد الله أحمد البشير ـ  كانت في بداية التحاقي بكلية الفنون ، من خلال الأصدقاء المشتركين من زملاء الدراسة الذين عرفوه كمدرس للفنون في المدارس الثانوية التي عمل بها قبل كلية الفنون ،ـ في حنتوب و القضارف ـ حيث كانوا ينادونه بـ "بيكاسو" ، من باب الإعجاب والإجلال، بالإحالة للإسباني الشهير الموهوب الذي استقر في الخيال الشعبي كمرجع لعبقرية الفن الحديث. كانت تلك فترة عرف فيها بولا بمهارته العالية في الرسم الواقعي. ثم مال عبد الله لإسم "بولا " في مطلع السبعينيات ، ربما لأن صورة بيكاسو لم تعد تناسب الموقف النقدي تجاه بابلو بيكاسو الذي شرع بولا في بناءه في تلك المرحلة، مرحلة تخليق نصه السبعينياتي الذي نشر في جريدة الأيام تحت عنوان "” مصرع الإنسان الممتاز" و الذي صور بولا فيه " بابلو بيكاسو" كنموذج للبورجوازي الصغير الذي يهدر الموهبة الجمالية على مذبح الإنتهاز السياس [1]
و بولا في الأصل هو لقب لاعب كرة اشتهر في مدينة بربر اسمه " حسن بولا" و يقال أن اسلوب بولا في لعب الكرة كان اشبه بأسلوب حسن بولا، و حكاية بولا مع كرة القدم طويلة تحتاج لفضاء يخصها ، و لا بد أن هناك من هم أدرى مني بتفاصيل سيرة بولا لاعب الكرة، بيد أني شهدت بولا" يضقل " مرة بكرة صغيرة في أحدى باحات كلية الفنون .و " الضقل" في المصطلح الرياضي الشعبي يدل على تلك المهارة الكروية التي تتلخص في السيطرة على الكرة لأطول مدة ممكنة و هي تنبل على ظاهر الرجل ، و قد تنبل من رجل لأخرى أو تصعد للركبة و الصدر و الرأس إلخ.كان بولا يتحكم في حركة الكرة من رجله اليمنى لرجله اليسرى في سهولة و عفوية، لكن ما أدهشني حينها كان هو إنغماسه التام في هذه الحركة البهلوانية التي لا تتيسر للاعب إلا بعد زمن طويل من المران. و كانت تلك أول مرة أرى فيها أحد اصدقائي الفنانين يتعامل مع حركات كرة القدم بتلك الجدية، ذلك أن جل اصدقائي الفنانين هم، إما لا مبالين بكرة القدم أو هم معادين لها ضمن توجسهم الغريزي من الرياضة بشكل عام.و أظن أن بولا كان يعتني بكرة القدم لأنه يجدها أدخل في نوع بالتعبير الجسدي الفردي الذي يعقلن الممارسة في مقام الرقص، منها في مبدأ الكرة كمنافسة بين الفرقاء المنظمين داخل المؤسسات الكروية الإجتماعية. فأنا لم أسمعه يوما يساهم في واحدة من تلك المناقشات  الطويلة التي كانت تستوعب مشجعي هذا أو ذاك من الأندية الكروية الشهيرة. ثم جاءت فترة تعمقت فيها صلتنا بعبد الله بولا فتعرفنا على أهله و صرنا نزور بيتهم في بحري لنكتشف انهم ينادونه ببابكر، و أظن أن اسمه الرسمي في شهادة ميلاده هو أبو قحافة أبوبكر الصديق أحمد البشير. و في رواية  أخرى "عوج أبو العَنَاق"، و العهدة على عمته زينب بت بشير و خالته بخيتة بت حسن التي كانت ترى طوله و نحافته فتحثه على الأكل الذي كان ضنينا على نفسه فيه كما جرت عبارته:
 
"..كانت تقول لي : "الطول، والبطول والحشا المَحَشور والسَدْر البَلا شْطور،"(والبطول: النحافة). وهذه لا تصنع عملاقاً كما ترى. وكانت عمتي زينب بت بشير "عمدة الرواة وعلماء الأنساب، وأهل الحل والعقد ببربر، تسميني "عوج أبو العَنَاق" ،(وهو الإسم المقابل لاسم عوج بن عنق بن النبي نوح)، الوارد في أساطير الشرق الأوسط. وكان مفرط الطول : "حلفوا قالوا كان يشيل السمكة من البحر يشويها في عين الشمش". ولم يكن الشك يساور زينب بت بشير قط في صحة هذه "الواقعة". وكنت عندما أعود في منتصف الليل من المذاكرة أو المؤانسة مع أصدقاء تصحو من نومها وتسألني "جيت ياعوج؟"، ثم تعاود نومها بعد أن تطمئن على وصولي."
كل واحد من هذه الأسماء يخفي و يكشف الدروب الكثيرة المتشابكة التي سلكها عبد الله و بابكر و أبو بكر ابوقحافة و عوج العناق و بيكاسو و بولا في رحلة حياته العامرة. و فرز دروب بولا الكثيرة هو من الأمور التي يمكن أن تندرج في سيرة أعمال هرقل، كون صاحبنا سلك دروبا غير مسبوقة في قارة جيوبوليتيك الثقافة السودانية المظلمة التي يختلط فيها كل شيئ بكل شيئ. و لعل اشق الدروب التي استشكلت على بولا وأشقت جملة الأشخاص المهتمين بسيرته هو ذلك الدرب الغريب ، درب المرض الذي افترس ذاكرته  في السنوات الأخيرة ،و غرّبه عن معاني حياة فريدة غنية بالدروس و العبر ، حياة تركت آثارا لا تنمحي في نفوس الرجال و النساء الذين تشابكت أقدارهم مع قدر هذا الـ "بولا " الخلاق الذي شكل نفسه كما يشكل اختراعاته المتصلة بين التصاوير و التصاويت و التحاريك و أنواع المفاهيم الفلسفية و السياسية .و لو قصرنا سيرة الحياة التي شكلها بولا على وجه المصور فيه لجانبنا الدقة لأن وجه المصور هو واحد بين وجوه عديدة متداخلة بين أحوال غواياته التي لا تحصى. لكن صورة المصور تهمني هنا لأن بولا انشغل معنا بالتصاوير زمانا و جعل منها وسيلة خلاقة لمنهـَجـَة الخروج كمبدأ في سياسات الحياة. وقد كان التشكيل ـ و مازال ـ بالنسبة لعصابتنا التي تحلقت حول بولا ، كان نوعا من حد ادنى نلتقي عنده و فضاءا مفهوميا نتقاسم مفرداته التي كنا نسكها من وحي تجاريبنا. و أظن أن بولا استطاع ان يفتح امام مجموعة تلاميذه في الثانويات و في كلية الفنون و أمام نفسه ـ في آن واحد ـ جملة من الأنفاق و المسارب الخفية بين صناعة التصاوير و بقية الصناعات المفهومية في الفلسفة و السياسة و التربية و الأدب و التاريخ..
 
اليوتوبيا الشيوعية
في تلك الفترة من مطلع السبعينيات توثقت عرى علاقتنا مع بولا و حوله و نحن طلبة في كلية الفنون الجميلة بالخرطوم كانت الكلية بالنسبة لنا فضاءا رحبا للتجريب الحر في مختلف دروب التجريب المادي و الرمزي التي تعن لشباب جامح متفائل في مطلع العشرينيات. و رغم أن استكشاف دروب التصاوير الحديثة و القديمة كان في مركز حركتنا إلا أننا لم نكن نستنكف عن التعريج على مقامات الخلق الأدبي و مقامات الفلسفة و الفكر السياسي بشقيه النظري و العملي. في تلك الفترة كان الحزب الشيوعي السوداني ما زال يبسط نفوذه الفكري على ساحة الفكر السياسي بفضل الجاه السياسي الذي حصله من ثورة اكتوبر 1964  ، لكن ساحات الخلق الجمالي التي كانت تستحوذ على اهتمامنا كانت قارة عذراء لم يرسم خرائطها أحد، أو قل أننا نظرنا في الخرائط القديمة التي ورثها الشيوعيون السودانيون من مواريث الماركسية اللينينية و لم نجد فيها المسارات التي كانت تثير فضولنا المفهومي في فضاء الفن.  و ضمن تلك الملابسات وصل بولا  لحلقتنا الوليدة متنكبا سمعة الفنان البوهيمي الوجودي المعارض و الخارج على كافة الإتفاقات السياسية و الجمالية التي تواضع عليها حرس الماركسية اللينينية في السودان. و أنا استخدم عبارة " حرس الماركسية اللينينية في السودان" للتنويه بالنبرة اللينينية القوية التي كانت تطبع الخطاب الجمالي في نهاية الستينات و بداية السبعينات و هي بعض من عواقب التأثير السياسي الطاغي للشيوعيين السودانيين بعد ثورة اكتوبر 1964 . في تلك السنوات كانت مدارس الحزب و حلقاته هي مصدر القناعات السياسية و الفكرية و الجمالية بين غالبية اليساريين السودانيين  ، لكن بولا كان من ذلك النفر القليل الذي تعرف على الفكر المادي الحديث في اشكاله الماركسية و الوجودية و آمن باليوتوبيا الشيوعية دون ان يمر من مدرسة الحزب الشيوعي و قد كلفه ذلك أنواعا من اللجاجات السياسية الناجمة عن سوء الفهم  و قلة الحيلة الفكرية من طرف حراس اللينينية الحنيفة. كان الـ " رفاق" يتعاملون معنا كـ " ديموقراطيين ساكت" دورهم يتلخص في دعم  خط الحزب و تغزير الشيوعيين في  الملمات.و حقيقة لم  يكن  لدينا مفر من دعم هذا الحزب الذي صنع ثورة أكتوبر1964 فعاقبته دوائر الرجوع المحلية و الدولية عقابا دمويا و لا حقته و لا حقت كل الديموقراطيين المتعاطفين معه. و كانت "الجبهة الديموقراطية"، التي دخلناها عن طواعية ، بمثابة الوعاء التنظيمي الذي نعلقن فيه علاقاتنا مع كوادر الحزب الشيوعي. لكن صعوبات العمل اليومي مع " الرفاق" كانت تتكشف عن حالات من سوء الفهم الفكري و السياسي بشكل لا يخلو من الخشونة.ربما لأننا كنا نعتبر أنفسنا شيوعيين بطريقتنا  الفوضوية المشاترة،و هي طريقة غير نظامية فحواها أن اليوتوبيا الشيوعية ليست حكرا على أعضاء الحزب الشيوعي السوداني. و بطريقة ما كانت علاقتنا بالرفاق الماركسيين اللينيين تتطور عبر تناقض " ما بريدك و ما بحمل بلاك". و ربما لأن " الرفاق" اللينيين كانوا،و بالذات بعد العسف السياسي الذي عانوه بعيد أحداث 19 يوليو الدامية، كانوا يعون صعوبة الإستغناء عن مساهمتنا في الجبهة الديموقراطية.و قد تطرق بولا نفسه لطبيعة موقفه البالغ التركيب، ضمن ذلك التحالف العصيب مع الشيوعيين السودانيين   ، و ذلك حين اضطر لأن يوضح لبعض محاوريه أن علاقته الوثيقة بالفكر الشيوعي لا تعني انخراطه في "خط" الحزب الشيوعي السوداني.

"... 
 أجد في "تعريفي"، الذي يتبرع به كثيرٌ ممن لا يعرفونني، ومن لا يتحرون الدقة في التعريف على وجه العموم، بأنني أصدر عن عقيدةٍ سياسيةٍ فحسب، فيه اختزالٌ شديدٌ جداً، وشاسع البعد عن "كينونتي المتحولة" على الرغم ارتكازها على ثوابت تحرر الإنسان وصيانة كرامته وحقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من كل صنوف الاستغلال والتغريب والإذلال. 
فأنا، في تقديري، أصدر رؤيةٍ فلسفيةٍ للعالم، أتحمل مسئوليتها وحدي، فيها تراث الحركة الشيوعية السودانية والعالمية التاريخي الفكري والنضالي. أعني الحركة الشيوعية التي كانت قائمةً، والقائمة اليوم بالفعل، بكل مشكلاته وأسئلته. وفيها من قبل ومن بعد تراث حركات التحرر الإنساني الفكري والثقافي الأخرى العديدة التي أعتقد أنها حركاتُ شيوعية من دون أن تسمي نفسها. وفيها مساهمتي الخاصة القائمة على أسئلة الوجود والمعنى المزلزلة التي لم توليها الحركات الشيوعية التي كانت قائمةً، والقائمة، بالفعل، ما تستحقه من نظرٍ فلسفي دقيقٌ شديد التعقيد، ولا ينفك محفوفاً بالأسئلة الشائكة. وفي الموضوع مما يليني بلا شك مسائل فلسفية عويصةٌ مستشكلة، لا يسمح الحيز، ولا طبيعة المنبر، بالتوسع فيها. وأكتفي منها بالقول بأنه ليس من الدقة بالفعل كما ذكرتِ أن يُحسب خطابي الفلسفي على الحزب الشيوعي أو خلافه. وأنا حَذِرٌ جداً من أن أجشم الحزب الشيوعي، أو "اليسار العريض" كما يقول بعض الإخوة [وليس بينهم إخوات]، ممن يتبرعون بتعريفي غصباً عني، ومن دون أن يعرفوني أصلاً، مسئولية خطابي الذي قد لا تُحمد عقباه في احتمالات مساسه العديدة، بل مساسه الفعلي، بالمسكوت عنه في الحركة الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية في بلادنا. وليت كل القائلين يملكون مثل هذا الحذر المنهجي الحاذق الجليل الذي تجلى في مداخلاتك في هذا المنبر، وفي هذا البوست منذ اللحظة الأولى. مما يجعلني شديد السعادة بهذه الإضافة النابهة للحوارات المقبلة، والجارية الآن. "
 
  أظن ان العفوية التي بنينا بها تحالفنا الجمالي و السياسي حول شخصية بولا ،و نحن طلبة في كلية الفنون كانت تعود في بعض اسبابها لكوننا لمسنا في تجربة بولا الفكرية و السياسية  سعة في المواعين افتقدناها عند الرفاق الماركسيين اللينيين الذين كنا نقاسمهم ذلك الخندق السياسي و الجمالي الذي استضاق بعد" حركة 19 يوليو التصحيحية" التي ضلع فيها العسكريون الشيوعيون ضد نظام النميري. و التي اتخذ الفرز السياسي السوداني بعدها شكله الدموي غير المسبوق في تاريخ الحركة السياسية الحديثة .و أعتقد أننا فهمنا التركيب البالغ لموقف بولا السياسي و تضامنا معه لأننا كنا نرى فيه صورة الفنان الفصيح الذي لا يتصور فعل الثورة خارج حركة الخلق الفني. و ما أسميه "فعل الثورة"، في إتفاقنا العفوي البريئ تلك الايام، كان يتلخص في كلمة واحدة هي "الخروج "، الخروج على كافة الأعراف و التقاليد و اللوائح التي صنعها غيرنا ضمن طموح نجهل دوافعه الحقيقية.كانت فكرة الخروج تتخلق بيننا في عفوية كبيرة بين مباحث السلوك اليومي التي شغلتنا، في معاني ما نأكل و ما نلبس و ما نعشق إلخ، بنفس الجدية  النقدية التي كنا نبديها في مباحث الفكر السياسي أو الجمالي. و قد وصل بولا لكلية الفنون كمعيد في نفس السنة الدراسية [1970/1971] التي التحقنا فيها بالكلية. لكن بولا كان معلما  تسبقه سمعة الفنان البوهيمي المشاغب التي جعلت نظار المدارس الثانوية ،التي عمل بها في الستينات، يتخلصون منه بالنقل الإداري من مدرسة لأخرى. فنقل من مدرسة حنتوب الثانوية بسبب " الفوضى" التي زرعها في هذه المؤسسة العريقة المحافظة حين اسس، مع بعض المعلمين الشيوعيين، "طلائع الهدهد"،مجموعة طلابية يسارية للعمل الثقافي، على نموذج  تنظيم " أبادماك" القريب من الحزب الشيوعي السوداني في نهاية الستينيات [3].بعد حنتوب الثانوية  تم نقل بولا للقضارف الثانوية ، فبادر بتأسيس جمعية "طلائع القندول"، ثم نقل لأحدى ثانويات الخرطوم قبل أن يفرضه الأستاذ محي الدين الجنيد معيدا في قسم الرسم بكلية الفنون، و التي لم يبق بها سوى عام دراسي واحد بسبب أن إدارة الكلية تضايقت من حركته وسط الطلاب و اعتبرته مسؤولا عن البلبلة الفكرية و السياسية التي بدأت تعصف بالسكون البيروقراطي للكلية. وفي كل هذه الحركة الواسعة، داخل الجغرافيا الإدارية لتعليم الفنون ، كان بولا معلما للرسم في معنى أن الرسم كان في مركز همّه المهني،و رغم أن همومه الجمالية كانت تكشف عن فنان متعدد الغوايات، إلا أن غواية الرسم  كانت فضاءا مشتركا التقينا عنده كلنا. و من شعاب فضاء الرسم استكشفنا قارة الأسئلة الجمالية و السياسية التي كان يطرحها علينا الواقع الإجتماعي السوداني  في تشابك علاقاته مع الواقع الإجتماعي العالمي.
اليوتوبيا التربوية
و لعل اكثر غوايات بولا غرابة كانت تلك الغواية الفريدة التي لا أجد لها اسما افضل من "غواية العناية" بالآخرين، و لا اشتط لو قلت ان بولا من أكثر من عرفتهم انتباها لحضور الآخرين من حوله و أظن أن غواية العناية بالآخرين هي سبب الشعبية الواسعة التي يتمتع بها بين دوائر الأشخاص المتنوعين الذين عرفوه في مختلف مراحل تطور مشروعه التربوي .و أنا أقول:" مشروعه التربوي" و في خاطري جملة الأفضال الفكرية و الجمالية التي انتفعت بها و أنا ضالع في تلك العصابة الملهمة التي تحلقت حول بولا في السبعينات. كنا خرجنا من الثانويات و في ذاكرتنا السياسية ملامح وعي نقدي بكون فشل ثورة أكتوبر 1964 و وهزيمة الأنظمة العربية في 1967 و جملة الأزمات السياسية في العالم الثالث إنما تنبئ في الحقيقة بضرورة التضامن بين قوى الثورة في العالم أجمع على تعريف جمالية جديدة و شاملة لفعل الثورة جمالية تجعل من الإنسان غاية الثورة و وسيلتها في آن . و ضمن هذا المنظور الطوباوي المشاتر وجدنا في مشروع بولا التربوي عزاءا سياسيا وطاقة تفاؤل جديد زودتنا بقناعة لا تتزعزع بجدوى الفن في منظور التغيير الإجتماعي .
كان المشروع التربوي لبولا يعتمد على فكرة أن المعلم يتعلم من التلميذ مثلما يتعلم التلميذ من المعلم . هذه الفكرة البسيطة في صياغتها تنطوي على غايات فكرية جبارة زعزعت جملة القناعات التربوية التي خبرناها في تجربتنا الدراسية السابقة .و تجربتنا السابقة انبنت على مبدأ المعلم الذي يأتي لصالة الدرس و هو يحمل الإجابات الناجعات للأسئلة التي لم يطرحها التلميذ، فيأخذ التلميذ بضاعة المعلم و يحفظها و يتربص بها يوم الإمتحان الذي قد يكرم المرء فيه أو يهان!.. هذه الصناعة التربوية البائدة القائمة على قهر التلميذ و مصادرة حقه في المبادرة المعرفية و إلغاء فضوله و تجاهل اسئلته الحقيقية، هي مؤسسة سياسية متكاملة غايتها تخليق اشخاص مطيعين يحذقون الإنحناء و يقبلون إعادة انتاج الإمتثال الطبقي. و قدأثارت تفاكير بولا التربوية الناقدة لنموذج التربية التقليدية التي تمسخ التلميذ عبدا للإستاذ[ من علمني حرفا صرت له عبدا]، أثارت حماسنا الثوري الشاب كونها تنظر لعملية التعلم كمشروع شراكة ينخرط فيه المعلم و التلميذ بهدف الوصول لإجابة أو لإجابات للأسئلة المطروحة عليهما ضمن علاقة المبحث المطروح ضمن ملكوت الواقع الحي.
و قد حكى النور حمد بعضا من سيرة بولا المربي في حنتوب الثانوية  بأسلوب شيق حيث كتب
"..
عبد الله أحمد بشير، الذي أشتهر بـ (عبد الله بولا)، تخرج من كلية الفنون الجميلة، قبيل نهاية عقد الستينات، من القرن الماضي، وقدم، مباشرة،إلى حنتوب الثانوية، معلماً للفنون، فأحدث فيها إنقلابا، معرفيا، وتعليميا، وثقافيا، غير مسبوق. قلب عبد الله بولا، لحظة أن وصل إلى حنتوب، مفهوم علاقة الطالب بأستاذه. أقبل عليه البعض، بشغف شديد، وشخصي واحد منهم، وسخر منه البعض الآخر، وبقيت الأكثرية على السياج، تراقب ذلك الأمر العجاب. 
 .."". 
مثًل عبد الله بولا برنامجاً تعليمياً، ومنهجاً دراسياً، حياً، موازياً للمنهج الدراسي الحكومي العقيم، الذي لا يستجيب، ولو قليلا، لجوع الروح، والعقل. وكما قال بشرى الفاضل، جئنا إلى حنتوب، من قرى ريف الجزيرة، أغرارا، أقرب ما نكون إلى خلو الوفاض، من حيث التحصيل المعرفي. جئنا بشذرات متفرقات من المعارف المحدودة، مما وصلنا عن طريق معلمينا، في المدارس الوسطى. شذرات كان قوامها، الإنشاء، والتدبيج الخطابي،  ".."
وحين التقينا بعبد الله بولا، انداحت دائرة وعينا كثيرا، فقد انفتحنا، عن طريقه، على آفاق المعرفة الإنسانية في فضائها الأكثر رحابة. كان المنهج المدرسي، لا يقوم على أقرار صريح، بأن المعرفة تتقدم. ولذلك فقد ظل سجينا لصورة ماضوية. وأصبحت الحداثة، بكل ما تعني، واقعة، تقريبا، خارج أسوار ذلك المنهج، الساكن. حتى الحداثة التي مثلها، في وقت مبكر جدا، كل من التجاني، يوسف بشير، ومعاوية محمد نور، ومحمد محمد علي، وحمزة الملك طمبل، منذ عشرينات القرن الماضي، ظلت هي الأخرى، خارج اسوار ذلك المنهج الدراسي!! فالمنهج الدراسي قد كان مصريا،ً أولا، وأخيرا!!

أما الفكر الفلسفي، وعلم النفس، ونظريات الحكم، والإقتصاد، فقد كانت، كلها، خارج ما يتعرض له المنهج المدرسي!! ولكن حُسن طالعنا، جاءنا بعبد الله بولا، الذي أتانا بالمنهج، الحداثي، الموازي، الذي كنا نحتاجه. إذ بين عبد الله بولا، والسر مكي أبو زيد، إنفتحت مسالكنا على السياب، والبياتي، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، وغيرهم. وأيضا على أدب المقاومة الفلسطينية (درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وغسان كنفاني، وغيرهم). كما انفتحنا على الماركسية، ونقد اليسار الجديد، وعلى سارتر، وفرويد، ويونغ، وإيريك فروم، وغيرهم.

تحول بولا في سنوات قليلة من أستاذ إلى صديق عمر، ورفيق درب، رغم فارق السن بيننا. معه زرنا أهله في مدينة بربر. ".."  

كما زار معنا بولا،" حلة حمد الترابي"، وجلس مع أبي في الحوش، ساعات طويلة. وظل أبي يحدثه، في غير ملل، عن قصص أجداده الصالحين، إذ وجد أبي فيه، مستمعا نادرا. ولم يعهد أبي مستمعين يهتمون بجنس قصصه، من قبيلة الأفندية، لابسي البناطيل. وقد كان أبي حاكيا من الطراز الأول. وهو ممن تستحلب عيون السامع الغارق في الإستماع، مخيلته، وذاكرته، استحلابا. أصبح بولا، صديقا لأبي، ولكثير من أهلنا الذين ظلوا يسألون عنه، لسنوات وسنوات، "..
[ أنظر الرابط السابق]
 في هذه القدرة الإستثنائية على الإستماع، و لو شئنا سميناها " فن الإستماع" ، يكمن سر بولا المعلم، فبولا يستمع لمحدثية بتفرغ و تركيز لا يعرف العجلة،
 و هو قمين بالتأني عند كل كلمة، و قد يتأنى عند الصمت الذي بين كلمات محدثه فيسمع فيه ما لا يقوله اللسان. و لذلك فهو يدهش محدثيه الذين تعودوا على الكلام مع الناس الذين يوالونهم بسماع تقريبي. كتب فيصل محمد صالح يحكي تعرفه على بولا
"..
 ...بدا[بولا ] يعلمني العزف على العود في منتصف السبعينات ,انا مازلت شافعا يافعا ".."
شاهدت بولا للمرة الاولى وهو قادم في إجازة مع أخي الأكبر هاشم إلى بورتسودان، كان ذلك في النصف الأول من السبعينات فيما أظن ، وفي ايام احال هدوء منزلنا الساكن إلى شئ آخر. ظللت اتابع مبهورا النقاشات الطويلة ومحاولات الرسم والعزف على كل الآلات، ثم كما ذكرت انت تلك الملابس الغريبة لكليهما - بولا وهاشم- وكان هذا عالم اكبر من قدرتي على الفهم
لكن رغم كل هذا صار بولا صديقي ، قرا محاولاتي الشعرية البائسة ..وأدهشني أنه اهتم بها وناقشني في تفاصيلها، ظل بولا بالنسبة لي كائنا محرضا على المعرفة باستمرار ، وأنظر الآن وبدهشة لاجد أني لم اتفق معهما- بولا وهاشم - فكريا وسياسيا، لكن ظلا باستمرار مثلا على احترام النفس وخيارات الآخرين، ولو لم يكونا كذلك لما كان صعبا عليهما أن يقلبا خياراتي الفكرية والسياسية فقد كنت غض العود ..ضعيف المنطق فيما أظن
عبد الله بولا طاقة هائلة من الفكر والثقافة العالية وفوق هذا وذلك الإنسانية الندية، ولطالما تمنيت ان تكون لدي قدرته العالية على التواصل مع كل الناس والتعلم منهم ، بغض النظر عن مستواهم التعليمي 
أظن إن أعظم ما أملكه الآن هو صورة فوتغرافية للوحة (بورتريه) جميلة رسمني فيها بولا في منتصف السبعينات
 
 
 
 
 
"كوميونة باريس " [نسخة الـ إس تي إس]
 
و صبر بولا على الإستماع لم يكن يضاهيه سوى صبره على المشاهدة، أو " الشوف" كما كنا نعبر في مصطلح عصابة الرسامين.و أظننا كنا نعول على " الشوف" أكثر من تعويلنا على" التكنيك " أو " الحرفنة ". ذلك أن فعل " الشوف" ينهض على منهجية واسعة قوامها التعامل مع المرئيات في تشابكها مع صورة الوجود الكبرى ، بينما " الحرفنة التقنية" تكشف عن نظر جزئي منبت عن كلية علاقات التعبير الجمالي. هذه الـ " مَهـَلـَة " التي تطبع حركة بولا و سكونه كسبت له ثقة التلاميذ مثلما كسبت له ثقة الأصدقاء. و حقيقة فالمسافة بين تلاميذ بولا و أصدقائه كانت تضيق كلما تقدمت أطراف العلاقة على درب المعارف المتبادلة.في مثل هذا السياق تطورت علاقتنا ببولا و نحن طلبة في كلية الفنون  أولا ثم و نحن ناشطين متحركين  في أرض جيوبوليتيك الثقافة السودانية. كنا نأخذ منه و نعطيه مثلما كان يأخذ منا و يعطينا في كرم وفي سماحة بلا حدود.و لا عجب فقد كانت تلك أيام " الكوميونة".و الـ " كميونة" ، تيمنا ب[ " كميونة باريس" الفانية  التي أعلن فيها شعب باريس استقلاله و سيادته على شرط حرية لم تدم أكثر من شهرين[ 1871] . كانت " الكميونة"هو الإسم الذي اطلقناه على عصابتنا التي كانت تتقاسم الكثير و القليل من زاد تلك الأيام التي سكنا فيها في داخلية معهد الخرطوم الفني، [التي كن اسمها الـ " إس تي إس" ]. كان المبدأ الغالب هو الشراكة في كل شيء، من الأكل و الشراب و التبغ و الملابس و أدوات و خامات الرسم و الكتب لغاية صداقات الأصدقاء الوافدين من خارج كلية الفنون,فكان الأصدقاء و اصدقاء الأصدقاء الوافدين من الجامعة أو من الاقاليم يجدون في كميونتنا امكانية الأكل و السكن بأريحية تامة.بل أن بعضهم سكن معنا لشهور حتى حسبه البعض طالبا بين طلبة الكلية.و قد لعبت تلك التجربة دورا مهما في تقوية روابطنا كشباب وافد من أقاليم السودان المتباعدة  مثلما كان لها تأثيرها الإيجابي على تربيتنا السياسية.وأظن أن " الكميونة " كانت هي النواة الصلبة التي أمكن عليها اعادة بناء مؤسسات العمل السياسي المشروع و غير المشروع في الأيام التي ساد فيها القهر السياسي ضد الشيوعيين و الديموقراطيين في مؤسسات التعليم العالي في مطلع السبعينيات.
 و على مستوى التجربة الجمالية لعبت تجربة "الكميونة" دورا مهما في تهيئة نوع من حيز رمزي مطبوع بمزاج  التمرد و الخروج، أمكن فيه استيعاب العصاة الجدد الذين وصلوا لكلية الفنون بعدنا.
مرة، و نحن في سنتنا الأولى، في واحدة من نهارات  الجمعة الصائفة، كنا قد قررنا الذهاب لأستوديو التلوين لرسم بورتريه. و حين وصلنا أمام الأستوديو كان الباب مغلقا، و في الحقيقة كانت كل ستوديوهات الكلية مغلقة، فقد كان اليوم جمعة. لكننا عزمنا على دخول الأستوديو فقمنا بفتح أحد نوافذ الأستوديو و دخلنا منها و استقرينا نرسم إلى أن مر بسطاوي بغدادي، عميد الكلية آنذاك، و سمعنا نتحدث داخل الأستوديو المغلق الباب. أطل بسطاوي من النافذة فعرفنا و سألنا. " إنتوا دخلتوا كيف؟ و الباب مقفول؟" فأجبناه " نطينا بالشباك يا أستاذ ". نظر بسطاوي ناحية بولا الذي كان منهمكا في الرسم و سأله : " يا أستاذ عبد الله إنت برضو نطيت معاهم بالشباك؟" فأجاب بولا بالإيجاب.لم ينطق بسطاوي بكلمة بعدها و ذهب في حال سبيله, في نهاية العام الدراسي ، حين تم اخطار بولا بأن انتدابه لكلية الفنون انتهي، لامه بسطاوي على حادثة دخوله الاستوديو من النافذة مع طلبة السنة الأولى. بعدها عمل بولا بتدريس التربية الفنية بثانويات العاصمة و بمكتب النشر لغاية النصف الثاني من السبعينيات قبل أن يغادر السودان لفرنسا، لكن طوال تلك الفترة لم ينقطع بولا عن المداومة على رفقة جماعة الكميونة.
 
حين أقول اننا  كنا نأخذ من بولا و نعطيه مثلما كان يأخذ منا و يعطينا  فذلك لأننا وصلنا أرض الرسم من قناة غير التي وصل بها بولا، فهو قد تعلم من " شيوخ" مثل الصلحي و تاج السر أحمد و محي الدين الجنيد ، الذين كانت تربطه بهم علاقة ود مشترك فوق هم البحث الأكاديمي.لكن شيوخ الأكاديميا الجمالية  ما كانوا ليغامروا بالدخول في شعاب المعارف الثورية الحديثة التي ارتادها بولا ،الطالب البوهيمي المعاند، أبان خروجه الثوري على مسلمات الفكر الجمالي المحافظ. نقل إلينا بولا شغفه بتجويد صناعة الرسام من شيوخه ، و على رأسهم الصلحي، مثلما علمنا غياب الحدود بين تصانيف الرسم التجريدي  و السوريالي و الرسم الآخر المزعوم واقعيا.و أظن أننا نقلنا إليه شغفنا بالرسم في حرية لا تستنكف عن طلب اللقيات الجمالية في مباحث الرسم المجاورة للتلوين الأكاديمي الكلاسيكي [ الخط و الكاريكاتير و الزخارف ].كان بولا ما يزال يعمل في تدريس الرسم [ دروينغ] ،حين قال لي مرة أنه لا يعتقد أن إتقان الصناعة بالنسبة للرسام الملون يقتضي من الطالب تجويد الرسم أولا قبل أن يتصدى للتلوين. و تلك كانت دوغما أكاديمية صلدة في كلية الفنون،و قل في كليات الفنون عموما، و استشهد بولا على ذلك بتجارب اشخاص سلكوا الدرب المعاكس فوصلوا لتملك الرسم بعد عبور أرض التلوين الحر أو حتى عبور اراض مغايرة كالخط أوالعمارة  أو التعبير الجسدي الحر. و قولة بولا تستقيم حين نقبل مفهومه للرسم كممارسة ذات سيادة جمالية قائمة بذاتها.الرسم  كطريقة في عقلنة  حركة الأشكال و الأحجام ضمن  فضاء الخلق التشكيلي.
في نهاية مارس 1977 اقام  " بولا"، معرضه الفردي الأول بقاعة مكتبة المجلس البريطاني بأمدرمان. و بولا آنذاك من الشخصيات المحورية في حركة النقد التشكيلي منذ بداية السبعينات "..معظم أعمال بولا المعروضة ( حوالي ثلاثين عملا) كانت منفذة بالأحبار الملونة على الورق.و كتب بولا، في نص قصير يؤطر للمعرض، ان إهتمامه بـ " خلق أشكال في  حالة علاقات تركيبية تهدف إلى التجدد" يعطيه حرية اكبر في معالجة علاقات الأشكال بصرف النظر عن كونها اشكال توضيحية (فيقراتيف) او تجريدية.و يضيف بولا  في نفس الوثيقةأن الأعمال التي عرضها تمثل جزءا من مساهمته الشخصية" في عمل جماعي تشرع فيه مجموعة من الشبان السودانيين تتحرك من مفهوم للعمل الخلاق يتجاوز روح التخصص الضيقة الأفق لتغطي كافة نواحي المعرفة اللازمة لعمل خلاق ذي طبيعة كلية(..)ذلك ان النشاط الذي لا يعرف مكانه في البناء المركب للمعرفة الهادفة للتغيير يصبح بلا غاية" .و كلام بولا في معرضه يمكن ان يقرأ كنوع من بيان سياسي مضغوط لحركة مجموعة التشكيليين الديموقراطيين التي كانت منظمة في شكل جبهوي شبه سري سميناه "الأستوديو"أو " الصندوق"، و كنا ابتدرناه كشكل أهلي لمساعدة الفنانين الذين طالهم الفصل التعسفي بسبب نشاطهم السياسي. لكن فيما وراء التصاوير و الأدب النقدي يكتسب معرض بولا اهمية  من حيث كونه انطوى على إنتباه جديد للمعاني السياسية المضمنة في للشكل الطقوسي لمحفل الإفتتاح.فقد جرت العادة ان معارض السبعينات  يتم إفتتاحها بواسطة وزير الثقافة او ممثل له ( وكيل الوزارة او رئيس" المجلس الأعلى للآداب و الفنون" او مدير مصلحة الثقافة)، و ذلك بسبب المساعدة المادية و التقنية و الإعلامية التي تقدمها وزارة الثقافة للفنانين العارضين.لكن بولا تجنب حضور السيد وزير الثقافة باختياره لطفل ذي ثمان سنوات ( محمد الجزولي) لكي يقوم بافتتاح معرضه الذي  كانت انتلجنسيا العاصمة كلها تنتظره. و مع إفتتاح الطفل محمد الجزولي لمعرض بولا تم بشكل حاسم تثبيت مفهوم معرض التشكيل كحيز للحركة السياسية التي تتم بالتداخل مع الحركة الجمالية. يقول بولا في مطبوعة  إفتتاح معرضه:
" جرى و ساد زمنا طويلا، و بدافع الرغبة في تجميد الفن، القول بأن الفن نشاط كاشف عن اعماق النفس الإنسانية. و هذا القول على مافيه من الصحة، قول مضلل لأنه يتحرك من إعتبار التكوين النفسي للإنسان معطى قبليا. و النتيجة الحتمية لمثل هذا الفهم هي التعامل مع الفن باعتبار انه باعث و منشط للإسقاطات الشخصية الموجودة قبلا. و على هذا المنطق الميتافيزيقي يتأسس النقد السلفي الذي يصرف النظر عن قيم التشكيل الأساسية متوجها إلى البحث عن الموعظة و الإرشاد و البواعث النفسية للفنان المختزلة في تصور ضيق الأفق عن دور الفن الإجتماعي و النفسي.
يتحرك موقفي من موقع مخالف للمنطق السالف، إذ ارى ان المأثرة الحقيقية للعمل الخلاق ـ و منه الفن ـ هي تكوين و تأسيس  هذه الأعماق بالأصل. فالتكوين النفسي للإنسان هو نتاج تاريخه الإجتماعي، نتاج عمله الخلاق في المقام الأول. ذلك ان هناك  ما هو نتاج للإنجازات المدمرة المسؤولة عن كل اشكال التدني النفسي التي لحقت بالإنسان.
صادرة اعمالي ضد مؤسسة القمع الثقافي، ضد تركة النقد الإسقاطي،ضد الغياب المتدثر بالرموز بديلا عن الفعل.."
 
 
الوقت
 
و أعمال بولا التي عرضها في تلك الفترة كانت مطبوعة بنبرة الخطاب الجمالي الذي تمخضت عنه تجاربنا المعملية في مباحث الأشكال ، و هي تجارب ساهم فيها مجمل الأشخاص الذين انخرطوا في عصابة " الكوميونة"، في تلك التجارب  التي يمكن القول بأنها كانت تجارب رسامين عاكفين على الرسم الخطي ، وكنت ترى غلبة أساليب الرسم الخطي المتعدد المصادر، من أعلام حركة الرسم الخطي من شاكلة البريطاني الرسام و الشاعر "أوبري بيردسلي"، [1872ـ 1898] ، الذي خرج من ثنايا حركة الـ "الفن الحديث" [ آر نوفو ] لرسامي حركة الـ " باوهاوس"[ بول كلي و واسيلي كاندنسكي] مرورا برسامي دار روز اليوسف المصريين لغاية رسومات تاج السر أحمد و ابراهيم الصلحي و عمر خيري.و قد كان التقارب و التداخل بين المباحث التشكيلية مسؤولا لحد كبير عن حالات التشابه الشكلي بين أعمال أفراد العصابة. وفي معارضنا الجماعية ، في تلك الفترة، كان بعض الأصدقاء يلوموننا على صيانة التشابه الكبير بين الأعمال المعروضة ، لكننا لم نكن نبالي كثيرا بتحديد شجرة  نسب الأعمال، و أظن أن مقاربتنا للرسم من مدخل البحث المعملي في صياغة الأشكال، حصنتنا من حمية تملك الأساليب و الطرائق التي كنا ننفذ عليها أعمالنا.و أظن أن غياب أي سوق للرسم ساعدنا في تجنب التعامل مع انتاجنا كموضوع للبيع، فقد كنا نرسم إحسانا ثم يتقاسم الصحاب أعمالنا بعد انقضاء المعرض.و أظن أن هذا المدخل حررنا[ أو على الأقل حررني أنا شخصيا] من هم السوق لاحقا ، و ذلك على قناعة شعبية واقعية فحواها أن "الرسم ما بيأكـِّل عيش في بلد زي السودان".
و لا أظن أن أي من أفراد عصابتنا الفنانة قد تمكن من أكل عيشه ببيع أعماله الفنية سواء في السودان أو في الخارج ، لكن أغلبنا ما زال ، و قد تفرقنا شذر مذر ، يواصل الرسم إحسانا بنفس الحماس القديم دون أن يعتني بمطالب السوق.
في مجموعة أعماله الباريسية المتأخرة التي نفذها بالزيت و بالأكريليك و الأحبار تحول بولا من الاسلوب السبعينياتي لمباحث تشكيلية مغايرة تماما. هذه المباحث الجديدة تتمدد في فضاء أيقوني واسع من رمبرانت لـ إيقون شيلي لعمر خيري و وصلحي و فرانسيس بيكون، و داخل كل من هذه الدوائر المتداخلة يتحرك بولا بعفوية و بحرية كبيرة لا تبالي إلا بانسجام الصورة المادية مع صورة الخاطر.لكن صورة خاطر بولا لا تثبت على حال لأنه سينظر غدا إلى ما أنجزه اليوم على المسند المادي فلا يطيق الشقة المتنامية ، عند كل نظرة، بين صورة المسند و صورة الخاطر القلق الوسواس. مرة و أنا أتأمل في واحدة من تصاويره الأخيرة، قال:" ياخ الصورة دي محتاجة لشغل  زيادة لكن ألقى ليها وكت وين؟! ". آخر مرة سمعت  فيها بولا يشتكي من قلة الوقت قلت له:" يا زول إنت عشان تكمّل حاجاتك عاوز ليك يوم من نوع الأيام المذكور في القرآن أن طولها " خمسين الف سنة" فراقت له الفكرة ولكني كنت متأكدا أن بولا في نهاية ذلك اليوم سيشتكي من ضيق الوقت..
 


 
::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
هوامش
ـــ
[1] [ أنظر : " بيكاسو ، معجزة الإنتهازي ،سلسلة مقالات تحت عنوان : ـ
مصرع الإنسان الممتاز في " الأيام" 30 مايو 1975]
 
 
[2] رسالة  خاصة من النور حمد
 
[3]
"  
 ا اطلق الحزب الشيوعي في سنوات الستينيات تنظيم" تجمع الكتاب و الفنانين" "آبادماك"( الإله المروي يمثل الأسد ذو الرؤوس الثلاثة كتعبير عن روح التعدد الثقافي و العرقي للمجتمع السوداني).و كانت اهم مآثر تنظيم ابادماك تتمثل في التوجه لـ "الشعب" في الحواضر و الأرياف  لإستلهام تراثه الفني في ال" حرب" الآيديولوجية و لتنويره سياسيا ـ بوسيلة الفن ـ فكانت القوافل الثقافية التي تنطلق من العاصمة نحو الأرياف تنظم المعارض و الندوات و العروض المسرحية و الأمسيات الشعرية و في نفس الوقت كانت تحاول تجميع مآثر التراث الشعبي و أعادة توظيفها ضمن منظور حديث.لعبت تجربة أبادماك دورا  كبيرا في تسويغ فكرة الفن كعنصر مهم في بناء هوية وطنية سودانية قائمة على منطق الوحدة في التعدد و في  تقديم مفهوم الثقافة كأحد محفزات التنمية الإجتماعية . للإستزادة أنظر نصي" حين دخل الشعب في الغاليري" :
When The People entered the gallery,inThe South Atlantic Quarterly, 2010,No.1, Duke University Press
 
 




سأعود
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »



شكراً لك التفصيل الدقيق يا حسن ،

أذكر مرة عرضت على بولا لوحة رسمتها في منتصف السبعينات بألوان البودرة ،وكانت هلامية ليس لها مركز أو شكل متحد . ورأى أن يكون للوحة هيكل افتراضي ، ومركز وأطراف . ونصحني بإصلاح العمل . وبذلت جُهدي ، واكتشفت قوانين الترابط والوحدة والتناقض في داخل اللوحة . وبذلت جُهدي ليعود العمل الفني ناضجاً .
تلك بعض توجيهاته الفلسفية الفنية ، التي لا يلزمك بها ، وكان يقول هي تجوّد العمل الفني .
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »


إن ميراث بولا غير محدد الاتجاه ، بوصلته ليست كبوصلة رفاقه . بالفعل إن اليوم عنده يوم ليس له آخر. وتشغله الجوانب الفنية الحرفية والنفسية والفلسفية والثقافية والوجودية ... كل مراجعه موسوعية الهوى ، وأصدقاؤه الحميميين هم الذين يعرفون كيف يهمس في أذانهم النغم الشجي . وتجربته الحيوية متسعة ، لا تحدها حدود.
ياسر الشريف المليح
مشاركات: 1745
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:24 pm
مكان: ألمانيا
اتصال:

مشاركة بواسطة ياسر الشريف المليح »

سلام يا حسن وكل من يمر من هنا

والسلام على روح الإنسان المثقف الحر بولا

أحسن الله عزاء الأحبة جميعا


صورة
صورة العضو الرمزية
إبراهيم جعفر
مشاركات: 1948
اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am

مشاركة بواسطة إبراهيم جعفر »

السلام، ثم السلام، الذي هو روح البدن، على روح الإنسان عبد الله أحمد البشير، في أزليته الإنسانية فيما وراء حجاب الغياب، وما هو بغياب...

العزاء والحزن حتى صدود الصمت الطاعن الذي يغلبه أي كلام عند هذا الموقف للصديقة نجاة محمد علي وبناتهما (هي وعبد الله) فاطمة وعزة نوار، ثم لهم حسن العزاء في الذكرى وعرفان كُثُرِ الأصدقاء والأحبة الكبير والغامر، الذاهب حتماً إلى عبد الله عند "جهته الأخرى" تلك،على ثمار "تعدد هوياته وغواياته" التي أوفاها الحديث مولانا حسن موسى، رضيت الألوهة عنه وأرضته...


https://www.alrakoba.net/articles-actio ... -91322.htm
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

وداع نقدي اختاره الصديق حسن موسى ليضيف صفحة جديدة لقصة عبدالله بولا ، غير المسرودة .
أضف رد جديد