في ذكرى 18 يناير ووقفةٌ في مقام "تسقط بس"/ د . محم

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عثمان حامد
مشاركات: 312
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 7:04 pm

في ذكرى 18 يناير ووقفةٌ في مقام "تسقط بس"/ د . محم

مشاركة بواسطة عثمان حامد »

في ذكرى 18 يناير ووقفةٌ في مقام "تسقط بس"

محمد محمود

تصادف الذكرى الرابعة والثلاثون لإعدام الأستاذ محمود محمد طه في يناير 1985 انتفاضة السودانيين الكبرى الثانية ضد النظام العسكري الإسلامي. وذكرى إعدام طه ترتبط بعقوبة الرِّدّة وهي أعلى تجسيد لقهر الدولة الدينية واعتدائها على حرية الفكر والتعبير، وهو اعتداء رسّخه نظام الإسلاميين عبر المادة 126 في القانون الجنائي الحالي.
كان طه من الرعيل الوطني الثاني (بعد رعيل حركة 1924) الذي تلقّى تعليمه في كلية غردون وبدأ يعمل على تكوين فكره السياسي المعادي للاستعمار. ورغم انقسام هذا الجيل بين اتحاديين أرادوا الاتحاد مع مصر واستقلاليين رفضوا ذلك إلا أنهم أجمعوا على أن وسيلتهم لتحقيق هدفهم هي الكفاح السلمي، وكانوا في هذا متأثرين بالتجربة الهندية التي قادها المهاتما غاندي في اتجاه حركة المقاومة غير العنيفة للاستعمار. واستندت رؤية غاندي على التمييز بين العنف والقوة ورأى أن اللاعنف ليس وسيلة الضعيف وإنما هو على العكس وسيلة القوي المؤمن بقضيته والمؤمن أن الوسيلة يجب أن تنسجم مع الغاية وأن الغاية العادلة لابد أن تكون وسيلتها عادلة. وقال غاندي عن اللاعنف إنه "أعظم قوة متاحة للبشرية. إنه أعتى من أعتى سلاح للتدمير ابتدعه ذكاء الإنسان." وهكذا اعتبر غاندي المقاومة السلمية أكثر الأسلحة فعالية في أيدي المواطنين العاديين.
قَبِلَ طه بهذا التمييز بين العنف والقوة ورأى في ثورة أكتوبر 1964 لاحقا النموذج الأعلى لانفصال القوة عن العنف إذ أنها برهنت "أن القوة ضرورية للتغيير، ولكن العنف ليس ضروريا. بل إن القوة المستحصدة التامة تلغي العنف تماما، فصاحبها في غنى عن استخدام العنف وخصمها مصروف عن استخدام العنف بما يظهر له من عدم جدواه ... " (لا إله إلا الله، 1969، ص 6 – 7). وأكّد طه أيضا على العلاقة بين الغاية والوسيلة إذ كان مدركا أن "الوسيلة الكاملة طرف من الغاية الكاملة." إلا أن طه لم يكن نموذجا على المفكر أو السياسي المنسجم مع فلسفة الإدانة الأخلاقية للعنف إذ أن رؤيته القائمة على بعث الإسلام عنت ضمن ما عنت على المستوى النظري الدفاع عن عنف دولة محمد وتبريره والدعوة على مستوى برنامجه المطروح لبعث عقوبات الحدود بكل قسوتها وعنفها. وعلاوة على ذلك ورغم أنه رفع في الخمسينيات شعار "الحرية لنا ولسوانا" والتزم به في الستينيات عندما وقف ضد قرار حلّ الحزب الشيوعي إلا أنه ما لبث أن تخلّى عنه عندما ساند انقلاب جعفر النميري في مايو 1969 ودافع عن قهر نظامه بحجة أنه حمى السودانيين من خطر الطائفية ومشروع الدستور الإسلامي. وكان طه قبلها قد أيّد انقلاب إبراهيم عبود في نوفمبر 1958 بنفس حجّة المناهضة للطائفية. وهكذا وعلى المستوى السياسي كان عداء طه للطائفية أكبر من إيمانه بالديمقراطية التي لم يثق بقدرتها، حتى وإن كانت ناقصة، على تحرير وعي السودانيين وأصبحت الغاية عنده مبرّرة للوسيلة إذ رأى في قهر الأنظمة العسكرية وسيلة مشروعة للوصول لغاية الانعتاق من أسر الطائفية.
كان إعدام طه أكبر تعدٍّ على حرية الفكر والتعبير في تاريخ السودان الحديث. صحيح أن حلّ الحزب الشيوعي قبلها كان تعدّيا صارخا على حرية الفكر والتعبير، إلا أنه كان تعديا اتّخذ بالدرجة الأولى شكل الحظر السياسي مُعِيدا الحزب الشيوعي لوضعية شبيهة بوضعيته في ظل الحكم الاستعماري عندما كان محظورا طبقا لقانون النشاط الهدّام ولكن من غير أن يتعرّض الشيوعيون لأحكام شخصية تدينهم بالرِّدّة رغم أن حيثيات الجمعية التأسيسية انطلقت من الإدانة الدينية. إلا أن حالة طه اختلفت من حيث أن عنصر القهر الديني، وعلى تداخله مع عنصر القهر السياسي، كان هو العنصر الطاغي والحاسم — وهو قهرٌ مثّل الإخوان المسلمون وحلفاؤهم القوة الأساسية التي عملت على تكريسه ليبقى حيا بيننا تجسّده المادة 126.
إن ذكرى يوم 18 يناير تعني الكثير لقضية التغيير وقواها في السودان لأن سيف الشريعة الذي جرّده الإسلاميون في ذلك اليوم عام 1985 ما زال مُشْهَرا فوق رقاب السودانيين. في ذلك اليوم تجمّع الإسلاميون وهم يكبّرون في ساحة سجن بحري ولكن باقي السودانيين لزموا بيوتهم وهم يحلمون بغد أفضل. وعندما جاء فجر انتفاضة أبريل استبشروا به ولكن من كبّروا في ساحة سجن بحري كانوا لهم بالمرصاد ونجحوا في الانقلاب على الديمقراطية في ليل بهيم حوّل كل الوطن لسجن كبير. ومن ليلتها مات عدد غير مسبوق في تاريخنا واُضطر عدد لا يحصى لمغادرة الوطن لاجئين ومهاجرين.
إلا أن قهر الإسلاميين، ورغم تطاول ليله البهيم، لم يُفقد السودانيين إيمانهم بغد أفضل ولم يكسر عزيمتهم وظلوا يقاومون بمختلف الأساليب. وعندما بادرت عطبرة وفجّرت انتفاضتهم الحالية لينتقل لهيبها للعاصمة وباقي مدن السودان واصلت الجماهير بقيادة الشباب تقاليد المقاومة اللاعنيفة الموروثة من تراث الحركة الوطنية وأكتوبر وأبريل. وهذه الطبيعة اللاعنيفة والسلمية لانتفاضة شعاراتها الحرية والسلام والعدالة هي ما يشكّل التحدي الأكبر لجماهير الانتفاضة في مواجهة نظام يستمدّ شرعيته ليس من تمثيلهم وإنما من الإسلام ويستمدّ أمنه اعتمادا على أضخم وأعنف آلة قمعية في تاريخ السودان الحديث ولا يرعوي عن إبادة أي عدد من المواطنين.
وإن كانت ثورة أكتوبر هي أم انتفاضات السودانيين ضد أي نظام عسكري فمن الطبيعي أن نفكر في الانتفاضة الحالية وفي ذهننا النموذج الأكتوبري. كان طه معجبا إعجابا عميقا بثورة أكتوبر التي قال عنها "إنها ثورة فريدة تمكن بها شعب أعزل من إسقاط نظام عسكري استأثر بالسلطة مدى ست سنوات. ثم كانت ثورة بيضاء، لم ترق فيها الدماء. وكانت إلى ذلك ثورة بغير قائد، ولا مخطط، وبغير خطباء، ولا محمسين للجماهير. وتم فيها إجماع الشعب السوداني رجالا ونساء وأطفالا بشكل منقطع النظير، فلكأنها ثورة كل فرد من أفراد الشعب تهمّه بصورة مباشرة وشخصية ... " (لا إله إلا الله، 1969، ص 5 – 6). إلا أن ما يقوله طه عن ثورة أكتوبر باعتبارها ثورة من غير قائد كلام غير صحيح يتجاهل الدور الحاسم لجبهة الهيئات التي أدّى قيامها "في خضم ردود الأفعال المباشرة إزاء مقتل الطالب أحمد القرشي طه ... إلى توظيف الانفعال والغضب الشعبي لرحاب العمل الثوري الموجّه لإسقاط [نظام عبود]. ولقد لعبت جبهة الهيئات الدور الطليعي في ثورة 21 أكتوبر لأنه قد كان لها الفضل في قرارها بإنزال شعار الإضراب السياسي العام على أرض الواقع وحيز التطبيق، فكان هو السلاح الذي فتك بالحكم العسكري. ولم يتوقف عمل جبهة الهيئات عند إعلان الإضراب العام فظل قادتها يتابعون عملية تنفيذه في العاصمة والمدن السودانية المختلفة التي تكونت فيها تنظيمات جبهوية على طريقة جبهة الهيئات ... مما أدى إلى نجاح الإضراب العام وقيادة المظاهرات في كافة أرجاء السودان." (أحمد بابكر محمد خير، "جبهة الهيئات: موعد قصير الأجل مع التاريخ" في خمسون عاما على ثورة أكتوبر السودانية، تحرير حيدر إبراهيم علي وآخرون، 2014، ص 1). إلا أن طه ومع إعجابه العميق بثورة أكتوبر اتهمها بأنها ومع امتلاكها لـ "إرادة التغيير" لم تكن تملك "فكرة التغيير". قال طه هذا رغم أن القوى السياسية التي شاركت في أكتوبر (على اختلاف توجهاتها الفكرية) أصدرت وثيقة الميثاق الوطني في 27 أكتوبر الذي عكس إجماعهم على الخيار الديمقراطي الدستوري. ومقابل هذا الإجماع الأولي الذي ما لبثت أن انقلبت عليه أحزاب اليمين في سعيها لفرض "دستور إسلامي" أراد طه لثورة أكتوبر أن تتحوّل لثورة إسلامية تطرح ما أطلق عليه "الدستور الإسلامي الصحيح". (انظر منشور الحزب الجمهوري "أسس حماية الحقوق الأساسية"، 20 مارس 1969).
هل نستطيع تطبيق ما قاله طه عن ثورة أكتوبر على الانتفاضة الحالية عند المقارنة بينهما؟ ربما بدت الانتفاضة في البداية وكأنها بلا قيادة إلا أن واقع الأمر أن تجمع المهنيين والقوى السياسية الحليفة والقيادات الشبابية هي الجهات التي تقوم الآن بدور شبيه بدور جبهة الهيئات إذ تقود الانتفاضة وتنسّق بين قواها. هل نستطيع أن نصف الانتفاضة بأنها مجرد "انتفاضة جياع" (كما تصفها بعض جهات الإعلام) وأنها لا تملك أفكارا؟ إن شعارات الانتفاضة تلخّص ما تطمح له: حرية، سلام، وعدالة. والمفتاح لما تريد الانتفاضة تحقيقة هو كلمة "حرية" والتي تعني في نهاية الأمر وعلى المستوى السياسي الديمقراطية. إن الديمقراطية كانت الحدّ الأدنى الذي وحّد كل السودانيين في أكتوبر. إلا أن طموح الانتفاضة الآن أكبر إذ أن جيلها يريد الديمقراطية وشيئين آخرين افتقدهما علاوة على افتقاد الديمقراطية في ظل النظام العسكري الإسلامي وهما السلام والعدالة. وهذا الجيل يدرك إدراكا عميقا علاقة الترابط الوثيق الذي يجمع هذه الشعارات الثلاثة.
ولقد أثبت السودانيون أنهم قادرون على استعادة ديمقراطيتهم إلا أن التحدي الأكبر الذي يواجههم الآن هو: أي ديمقراطية أو الديمقراطية بأي فهم؟ إن الديمقراطية بمعناها الأصلي هي حكم الشعب، وهذا يعني أن مرجعية الديمقراطية ومصدر شرعيتها وسلطاتها هي الشعب مما يعني استبعاد السلطة الدينية. وهكذا فإن هناك شرط ملازم للديمقراطية لا يمكن أن تتحقّق بدونه وهو العلمانية بمعنى فصل الدين عن السياسة والدولة. إن مبدأ الحرية في ظل الديمقراطية يسمح بحرية التدين مثلما يسمح بحرية اللاتدين ويساوي بين كل الأديان من غير تمييز ضد دين الأقلية لصالح دين الأغلبية لأنه لا توجد أغلبية أو أقلية عندما يتعلّق الأمر بالحقوق الأساسية التي يكفلها الدستور إذ أنها حقوق إنسانية أصيلة غير قابلة للتصرّف. ويجب أن ننتبه في الحديث عن الديمقراطية والعلمانية أنه وبينما أن الديمقراطية تحتاج للعلمانية وأن النظام الديمقراطي هو نظام علماني بالضرورة، إلا أن العكس ليس صحيحا إذ أنه من الممكن لنظام ديكتاتوري أن يكون علمانيا.
إن القهر الدموي الذي ظل السودانيون يتعرّضون له منذ 30 يونيو 1989 يضعهم الآن في صدام مباشر مع المشروع الإسلامي ويرفعهم في نفس الوقت وبدرجة غير مسبوقة لمستوى التحدي الديمقراطي بالمعنى الحقيقي للديمقراطية كسلطة شعبية تنبع منهم ولا علاقة لها بسلطة دينية. إن التعارض بين المشروع الإسلامي والديمقراطية أصيل لأن المشروع الإسلامي يبيح انتهاك حرمة الآخر الذي يصل حدّ استباحة حياته، مثلما كان الحال في إعدام طه وفي التهديد الدائم الذي تمثّله المادة 126. وهذا الانتهاك للأخر الذي يصل حد استباحة الحياة سمة وممارسة أصيلة لم تنفصل عن تاريخ الدولة الإسلامية منذ نشوئها، وكان من سوء حظ السودانيين أن يكتووا بنارها تحت المهدية وفي أخريات فترة النميري وتحت ظل النظام الحالي.
والأمل الكبير أن تحسم انتفاضة السودانيين الحالية مسألة الدين والدولة وتحقّق بذلك ما عجزت انتفاضة أبريل 1985 عن تحقيقه مما مهّد للإسلاميين أن يثبّتوا أقدامهم وينقضوا بعدها على الديمقراطية. لا شك أن السودانيين قد حسموا خيارهم لصالح الديمقراطية، فالديمقراطية يلهج بها الآن حتى بعض الإسلاميين الذي قرروا أن يقفزوا من السفينة الغارقة. إلا أن مسألة الدين والدولة لا تزال عالقة ولا تزال تمثّل عصا الترهيب الفكري الأخيرة التي يهدّد بها أصحاب المشروع الإسلامي. إن عبرة العقود الثلاثة الأخيرة ودرسها الأساسي في تقديرنا ليس فشل النظام فحسب، فهذا أمر أصبح يجاهر به حتى إسلاميون كانوا بالأمس في خدمته وشاركوا في جرائمه، وإنما هو إدراك فشل المشروع الإسلامي نفسه وثبوت إفلاسه إذ ليس في أي مشروع ديني (سواء كان إسلاميا أو منتميا لأي دين آخر) ما يحلّ مشاكل الواقع البشري المعاصر. إن المطلوب منّا، ولا نشك أن هذا هو حلم شبابنا وهم ينتفضون، هو اللجوء لوسائل عصرنا لمواجهة مشاكلنا وحلّها، وفي مقدمتها وسيلة الديمقراطية.
إن شعار "تسقط بس" الذي يهتف به المنتفضون ليل نهار هو إعلانهم لسقوط المشروع الإسلامي، ولكن الوجه الآخر لهذا الشعار لابد أن يكون إعلانا بولادة وعي ديمقراطي علماني — وعي يخرجنا من عقابيل الماضي وانسداده ليفتحنا على آفاق مستقبل أكثر رحابة وإنسانية.


محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان.
[email protected]
أضف رد جديد