"بين نارين"، من قصص حامد فضل الله القصيرة جدا

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

"بين نارين"، من قصص حامد فضل الله القصيرة جدا

مشاركة بواسطة حسن موسى »





قصص قصيرة جدا
حامد فضل الله
(برلين (أوراق ألمانية)

بين نارين

رن جرس التلفون، وجاء صوتها الناعم، مع وضوح مخارج الكلمات العربية، ممزوجة باللهجة الدينكاوية:
ـــ استقبلنا توا حالة نزيف متواصل.
نظرت الى الساعة وكان الوقت العاشرة ليلاً. غادرت مباشرة مقر اقامتي ــ مشيا على الأقدام إذ لا يستغرق وصولي إلى المستشفى سوى عشرة دقائق ــ الذي خصص لي منذ التحاقي متطوعاً ومعاراً من وزارة الصحة للسلاح الطبي بمدينة جوبا، للعمل في المستشفى الحكومي برتبة يوزباشي (نقيب).
سبقني إتايا كبير الممرضين، بفتح غرفة العمليات، وكان إتايا مشهورا جدا وسط (الجلابة)، فحقنة البنسلين كانت دائما في جيبه صباحاً ومساءً، فالكونغوليات كن بالمئات في جوبا! رفعنا المريض ووضعناه على طاولة العمليات. كان شاحبا وقد غامت عيناه. غرزت إبرة في الوريد وثبتها، لتقطير السائل، الذي اضفت اليه مضاد حيوي سريع المفعول. وغرزت إبرة التيتانوس(الكزاز) في العضلة. كان ينزف بشدة، لم يكن الجرح عميقا، ولكنه يكاد يغطي اسفل الساق اليمين. تمكنت من ايقاف النزيف بسهولة بعد إخراج الشظايا، وواضح ان الجرح لم يتجاوز بضع ساعات، لذلك قمت بخياطة الجرح ما عدا فتحة صغيرة.
كنت مندهشا لغرفه العمليات الأنيقة والمجهزة بالكامل، وتوفر الأدوية وحتى العنابر والأغطية النظيفة وانضباط المساعدين الطبيين والممرضات، في بلد يخوض حربا، مقارنة بمستشفى أم درمان، في عاصمة تنعم بالسلام.
عدت في اليوم التالي مبكراً الى العنبر لمعاينة المريض، قبل التوجه الى العيادة الخارجية، التي تستغرق نصف النهار. وجدته جالسا على سريره، وقفت الى جانبه، وعاد البريق الى عينيه، وكان يردد كلمات لا استوعبها، ولكنه كان يضغط على يدي بشدة. قالت الممرضة، لقد نام نوماً عميقاً استغرق كل الليل، وتناول الاِفطار والشاي بنفسه. نزعت إبرة الوريد، وقد عادة درجة حرارة جسمه الى طبيعتها. نبهت الممرضة بضرورة الحرص، على تناول المريض السوائل بكمية كبيرة، وحبوب البنسلين بانتظام.
وجدت امام باب العنبر ضابطا من جهاز الاستخبارات العسكرية بملابس مدنية، سألني عن حال المريض، فاستغربت. قال ان المريض، الذي اتابعه الآن، حسب معلوماتهم، بأنه ضابط في حركة الأنانيا، فلا بد من استجوابه على الفور، فالمعارك لا تزال تدور منذ ثلاثة أيام حول أطراف المدينة، وسوف تحضر سيارة عسكرية لأخذه لمقر القيادة. قلت له، لا يصح أخذ المريض عنوة، وهو لا يزال يتلقى العلاج وداخل مستشفى مدني، وهذا لا يتفق مع مسؤوليتي أيضاً. لم يقتنع، ويردد أهمية الموضوع. قلت له سوف أعمل على إخراج المريض، بأسرع فرصة ممكنة وعندما يتخطى بوابة المستشفى، يمكن للجيش أن يتصرف كما يشاء. وافق على مضض، وانصرف.
عدت في اليوم التالي مبكراً ايضا، لتفقد المريض، واندهشت، عندما وجدت السرير خاليا من المريض. كانت الممرضة تقف بجانبي، ممسكة بملف المريض، نظرت اليها مستفسراً. قالت:
ــ طلب المريض أثناء الليل الذهاب الى الحمام، ومن ذلك الحين لم يحضر وبحثنا عنه في كل العنابر. قلت:
ــ كيف يسمح له بالذهاب لوحده في الظلام والحمامات تقع في الركن المقابل للعنابر، دون مرافق.
ردَّت:
ــ كان يتحرك داخل العنبر بسهولة وبدون سند.
حملقت في وجهها، وقطبت جبيني وحاصرتها بعيني.
ــ فغضت الطرف وطأطأت رأسها، وبدأت ترتعش وتهتز يدها الممسكة بملف المريض. رفعت رأسها، ولمع التوسل في عينيها، مع دمعة لم تنحدر بعد.
ــ حركت رأسي بإيماءة مع بسمة خفيفة، فردتها بامتنان.
لم انتبه، عندما كنت أجادل ضابط الاستخبارات، بأنها كانت تقف خلف باب العنبر الموارب.
تم استدعائي في اليوم التالي الى الرئاسة.
أديت التحية العسكرية امام القائد "الشريف" الفارع الطول والمهيب، فهو قائد أكبر حامية عسكرية في الجنوب( الحامية الاستوائية) ويخوض أطول حرب في تاريخ القارة.
أشار عليًّ بالجلوس، وبدأ يتصفح الملف الموضوع على مكتبه الضخم، في عجلة، وكأنه يسترجع بعض النقاط.
ــ بدأ حديثه بحزم، مستعرضاً وأمراً ومحذراً، وظللت صامتاً ومتلقياً، فهنا لا مجال للجدال. وأختتم توجيهاته بتهكم مغلف بلهجة ودية:
ــ حتى التحية العسكرية، لا تؤديها بطريقة صحيحة، ولا مفر لنا الآن، من التعاون مع الضباط المدنيين.
وأمر لي بفنجان قهوة، وفلت من العقاب.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

رغبة دفينة

مشاركة بواسطة حسن موسى »




رغبة دفينة


استقبلت لأول مرة في عيادتي المحامي الشاب وزوجته الطبيبة الشابة، اللذان حضرا منذ أيام قليلة من وطنهما العربي. المظهر والملبس يدلان على الثراء والنعمة. بعد الكشف، أكدت لهما أن الحمل في الأسبوع الثاني عشر وشرحت لهما مراحل الفحوصات القادمة لمتابعة نمو الجنين، وحددت المعاينة التالية بعد أربعة اسابيع .
ودهشت عندما عادا بعد أسبوع واحد فقط، وقالت إنها تريد كشفاً دقيقاً مبكرا. قلت لها أن الكشف عن طريق نقب أو خزم الأمنيُوني للحصول على عينة من السائل الأمنيُوني من أجل التشخيص لا ينطبق على حالتها. وشرحت أنه رغم أن هذا الكشف يتطلب عملية صغيرة الا أنها ليست خالية من المضاعفات مما يهدد الحمل . ولكنها واصلت وبإصرار على طلبها وذكرت بأن في أسرتها أطفالا ولدوا مشوهين. قلت لها إن الكشوفات ومتابعة مراحل الحمل قادرة على أن تكشف عن أي خلل أو تشويه، ولكنها واصلت حديثها بأنها تعيش حالة نفسية قاسية وخاصة أنها الآن بعيدة عن أهلها. كانت تتكلم بافتعال ظاهر، عجزت حركات الوجه واليد أن تخفيه. كان زوجها يتابع حديثنا بصمت. وخدعتُ نفسي بالعامل النفسي وتم الكشف وحضرا بعد أسبوع واطلعتهما على نتائج التحاليل الدقيقة، وبشرتهما بأن المولودة القادمة ستكون معافاة وسليمة تماماً . غادرا العيادة على عجل!
تم الاجهاض في هولندا في المستشفى الخاص والمشهور ببورصة الاجهاض.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

( بين نارين) الفكرة و(بين مدينتين) الامتداد

مشاركة بواسطة حسن موسى »


أظن أن كفاءة قصص حامد فضل الله الأدبية تتأتى ـ فوق مهارته السردية ـ من كونه يبني سردياته على واقع معاش ينتقي منه تلك اللحظات التي تجود بها الحياة في تقلبات الأقدار المتواترة. و قد دعمت شهادة حمد النيل فضل المولى سردية "بين نارين" بشكل غير متوقع.
كتب حمد النيل فضل المولى عبد الرحمن قرشي من منيسوتا بالولايات المتحدة:




( بين نارين) الفكرة و(بين مدينتين) الامتداد


يقف الان مستشفى ام درمان مع رصفائه علي خط المواجهة للعدو الخفي باستعداد تام للكتائب البيضاء.
حملنا مريضة لهذا المشفى الصامد في التسعينات ، الممرض من غير يونيفورم يذاكر كتابا استعدادا للشهادة السودانية ، لا يوجد دكتور ولا سرير.
تطوع دكتور مرافق لنا وطلب اسطوانة اكسجين ، كلها كانت خالية.
الزمنا المريضة سريرها وخرجنا لننام في فناء المستشفى في نفس السرير الذي احضرناه من المنزل . الرجوع للبيت مستجيل ، حظر التجول بدا منذ قليل . ليلتنا تلك هرب فيها النوم هرب الامن من عيون الجبناء بسبب البعوض الذي تفنن في العض والطنين.
في العام 2005 بمستشفيي ابن سينا غرفة العمليات كانت مشعة بضياء ساحر تذكرك بحفل زفاف من ليالي الف ليلة وليلة . الكل مبتسم حتي المرضي تحت التخدير . المدير ( بهاء الدين ) والجراح ( الخير). )
جوبا ( مالك عليا ) في قلب الاحراش وبين انياب الكوبرا وزمن الكر والفر مستشفاها كان لوحة لدافنشي لا ينقصه البنسلين ولا امصال التتنوس وممرضة مع عملها تجيد فن الابتسام وهناك ممرض وجلابة لا يبخل عليهم بالحقن الاسعافية ساعة الطلب.
الدكتور فرغ من العملية وعاد للبيت مرتاح الضمير . اصبح الصبح والمريض تبخر . نسي النطاسي البارع ان يتحدث للاستخبارات بحذر والباب الموارب فضحه ، وراءه عيون المها وأذان تلتقط الهمسات. نجا الدكتور رغم ادائه غير السليم للتحية العسكرية ونال فنجالا من القهوة وشيء من التوبيخ المخفف من قائد الحامية المهاب.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

غطرسة

مشاركة بواسطة حسن موسى »




غطرسة

حامد فضل الله


شاركت في ندوة حول قضية الاندماج ومشاكل الأجانب في المانيا. وتعرضت في مداخلتي لنفاق بعض قياديي الأحزاب السياسية الذين يستغلون ورقة الأجانب لكسب الأصوات في الانتخابات والتعرض لقضايا هامشية ومضحكة مثل غطاء الرأس للتلميذة أو للمرأة المسلمة، غاضين النظر عن القضايا الأساسية مثل الأزمة الاقتصادية والبطالة وطرح الحلول لها، بما فيها قضية الاندماج. كان النقاش صاخباً وجِداليا وكنت بين الحين والآخر ألحظ امرأة تجلس في المقدمة تثرثر مع جارتها وتتضاحكان أو تتصفح مجلة بين يديها وقلما كانت تتابع الحوار. وفجأة وقفت ودون أن تطلب الكلمة وقالت بانفعال ومشيرة وهي تحدق فيّ:
- لماذا لا تذهب الى وطنك؟
سألتها بهدوء:
كمواطن لماذا لا أبقى هنا؟
اضطربت واحمر وجهها وانعقد لسانها ولم تنبس بكلمة.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الحب

مشاركة بواسطة حسن موسى »



الحب
وضعتُ صحف الصباح على المنضدة وفتحت باب الشرفة الزجاجي الكبير، فتسرب الهواء نقياً مع ضوء الشمس المشرقة. طار العصفوران القابعان في الركن. بينما واصل العصفور الكبير الارتفاع، هبط الصغير مرة أخري على الشرفة وأخفق في محاولته الثانية. نثرتُ بعض البذور على ارضية الشرفة وركنت إناءً مليئاً بالماء، وتركت الباب متوارياً. لم يلتقط العصفور الصغير حبة واحدة ولم يقترب من الماء، بل راح يشقشق بلحن حزين. هبط العصفور الكبير وتلاق المنقاران، وتكرر الصعود والهبوط والتلاقي عدة مرات، ثم شقشقا بعذوبة وارتفعا معاً وتواريا في الأفق بعيداً عن ناظريّ


برلين 25 مايو 2020

حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الآخر

مشاركة بواسطة حسن موسى »



الآخر



حامد فضل الله / برلين
(أوراق ألمانية)



رن جرس الهاتف، تناول السماعة وضغطها على أذنه، فسمع صوتها دافئا وواضحا اعتذرت عن عدم الحضور لوعكة طفيفة، وأكدت أنها ستعود غداً إلى المكتب، فهي تعلم أن السكرتيرة الثانية في عطلتها السنوية وسائق سيارته الخاصة طريح الفراش. شكرها وتمنى لها العافية، ثم أعاد السماعة إلى مكانها وفتح النافذة فتسرب الهواء البارد إلى الداخل نقيا منعشا.
فكر أن يذهب مباشرة إلى البنك للتوقيع على بعض المستندات المالية ويلتقي بالمدير الذي كان قد دعاه أكثر من مرة لتناول القهوة معه، دون أن يتمكن من تلبية الدعوة ويتناول الصحف العربية من وسط المدينة أيضاً.
غادر منزله متخففا من مشقة عمل اليوم المنصرم. كان الربيع قد وضع بصماته على كل شئ، السماء صافية، والحدائق استعادت خضرتها، وأزهار النرجس استيقظت من سباتها.
تفاديا للزحام قرر أن يترك هذا اليوم سيارته ويستقل الباص، وهو قرار يتفق مع الحيوية التي كان يشعر بها منذ الصباح الباكر.
صعد الباص على عجل فانغلق الباب الأوتوماتيكي خلفه. ولاحظ نظرات الركاب متسائلة أو متوجسة تتبعه حيث أستقر على المقعد الوحيد الخالي بجوار امرأة نقلت بسرعة فائقة حقيبة يدها إلى الجهة الأخرى، وضغطتها بقوة إلى جسدها، حتى أنه لاحظ احتقان الدم في عروق أصابعها النافرة.
تساءل في سره: ماذا لو كان الذي يجلس إلى جانبي رجلاً، ماذا كان سيفعل يا ترى؟ تخيله يعقد ساعديه فوق منطقة الحجاب الحاجز، ويلتفت إليه بنظرة تفضح ما يدور في رأسه، هذا مستحيل. لم يشأ أن يمضي في هذه الافتراضات أبعد من ذلك. إلا أنه شعر بالانقباض، وانتابه قلق غامض فبدأ يتطلع بنظرات شاردة إلى المارة والمباني من خلال النافذة. فيضان من البشر، رجال، نساء وأطفال يدخلون أو يغادرون المحلات التجارية، سيارات لا حصر لها تمرق على الجانب الأخر من الشارع. عاد بنظره إلى الداخل، حدق في الركاب دون أن يراهم، وفي الممر بين المقاعد توقفت نظرته عند امرأة في مقتبل العمر، تعلقت بها كما الفراشة على المصباح. أصابته رعشة خفيفة ما لبثت أن تصاعدت وانتشرت في جسده كله. كاد أن يقفز من مقعده ويضمها إلى صدره صائحاً "مونيكا، مونيكا" لكنه استعاد صفاء ذهنه: ما هذا الجنون؟ كيف يمكن أن تكون مونيكا؟.
خلال دقائق عادت إلى ذهنه ذكريات ثلاثة عقود مضت، سنوات الشباب والدراسة والحياة الطليقة، ذكريات اللقاء الأول بمونيكا، حبه الأول وجنونه الأول. وقفت أسرتها موقفاً متشدداً من تلك العلاقة. وجد والدها في ذلك ذريعة للانتقال مع أسرته إلى مدينة أكبر ومنصب أكبر ونقل أبنته إلى جامعة أخرى. كانت شهوراً قاسية كادت أن تعصف بحياته.
نظر إلى المرأة التي لا تزال تقف في الممر الذي يفصل صفي المقاعد، كاد أن ينهض ويتجه نحوها ليسألها: هل أنت ابنتها؟ لكنه تمالك نفسه وبقي جالساً.
"يخلق من الشبه أربعين" أسر لنفسه وشعر بارتياح مفاجئ فابتسم لنفسه، لكنه لم يستطع منع نفسه من اختلاس النظر إليها. تملى وجهها المشرق، ملابسها الأنيقة، لون فستانها المتجانس مع لون أقراطها والسوار حول معصمها وحقيبة يدها. تأملها كما يتأمل لوحة فنية، تخيلها سكرتيرة في إحدى الشركات الكبيرة، وفكر في مونيكا من جديد. في هذه اللحظة فاجأته المرأة وقد انحدرت نظرته إلى حقيبة يدها التي كانت تتدلى بعفوية حول كتفها الأيسر، أدارت ظهرها بحركة عصبية، واندفعت نحو الباب وعندما توقف الباص غادرته مسرعة.
غادر الباص أيضاً. عند تقاطع الشارع شعرت بخطواته خلفه، قفزت إلى الجانب الآخر غير عابئة بإشارة المرور الحمراء وصياح المارة وأبواق السيارات. أطلقت ساقيها للريح دون أن تلتفت إلى الوراء. عبر الطريق مع بقية المارة متجهاً صوب البنك، وقد بدت العمارة أمامه شاهقة شامخة. شعر باكتئاب وحزن عميق. أن شيئاً ما قد تغير في هذه المدينة القديمة الجديدة، مدينة أحلامه وشبابه، وكان قد ظن أنه بعد هذه السنوات الطويلة قد أصبح أحد مواطنيها.
أتجه بخطوات متثاقلة نحو البنك متسائلاً: هل يعود إلى استخدام السيارة رغم الزحام القاتل الذي عم المدينة منذ توحيد شطريها؟ أم يستقل الباص من جديد متأبطاً كتاباً ألمانياً ضخماً أو ممسكاً بإحدى الصحف الألمانية، ووجد نفسه يضحك لهذه الفكرة.

برلين، أكتوبر 1997

حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

الجدار

مشاركة بواسطة حسن موسى »



الجــدار


قصة قصيرة

حامد فضل الله \ برلين (أوراق ألمانية)



تتردد (م) منذ أربع سنوات على عيادتي بانتظام من أجل الفحص الدوري وتجديد وصفة أقراص منع الحمل. إنها امرأة في مقتبل العمر، ممشوقة القوام، شفتاها دقيقتان وعيناها واسعتان جميلتان، ترسل إلى الوراء شعرها الطويل، أنيقة الملبس دون تكلف.
حكت لي في إحدى الزيارات، أنها عاشت تجربة حب عاصفة مع زميل لها أثناء الدراسة.
".. كان شاباً طويل القامة، وسيماً، طلق اللسان مع ميل إلى الدعابة المحببة. وكنا نحن الفتيات نتنافس في التودد إليه، حتى فزت بقلبه. كنا لا نفترق حتى أثناء العطلة الدراسية. ثم قطع علاقته بي فجأة ودون أسباب. كانت فترة عصيبة كادت تعصف بحياتي، حتى تعرفت على زوجي الحالي الذي يكبرني بسنوات قليلة، أثناء أحد المؤتمرات الصحفية، فأعاد لي توازني. رجل قوي الشخصية والبنية، ذو ثقافة واسعة ورفيعة، يعمل مديراً لإحدى الشركات الكبيرة."
ذكرت لي (م) قائلة: "عندما يحتوينا المخدع ويأخذني بين ذراعيه ويضمني شوقاً وفي لحظة الصعود، تداهمني صورة وتنفس صديقي السابق، فتتوتر أعصابي وأكاد أختنق. فأشعر في هذه اللحظة وكأنني أخون زوجي وأغدر به، ويتملكني الحزن وأتألم في صمت، غير قادرة على مفاتحته خشية أن أجرحه، فهو يحبني حباً صادقاً."
علمت أيضا أنها تعمل الآن محررة في إحدى الصحف البرلينية واسعة الانتشار. تحرر مع زميل لها، الصفحة الثالثة المختصة بالسياسة الخارجية وخاصة العالم الثالث.
وأصبحت منذ ذلك الحين أتابع كتاباتها التي تتصف بالموضوعية وبالتحليل الدقيق المنصف والنظرة الثاقبة، خلافاً لغالبية الإعلام الألماني المتحيز ضد قضايا ومشاكل العالم الثالث.
كانت تحرص على أن تكون آخر مريضة أستقبلها، فهي تسرف في الحديث، سريعة الكلام، ورغم ذلك تأتي مخارج حروف كلماتها واضحة تمتزج بصوتها الرخيم، لدرجة أن المرء لا يمل الإنصات إليها.
كانت تناقشني وتسألني عن وطني. وأندهش أحياناً لسعة اطلاعها على التطورات التي تجري فيه، وليس فقط بسبب أزمة دارفور التي يشوبها كثير من الافتعال عبر الاِعلام الغربي وتختفي خلفها الأغراض.
لم تسألني يوماً لماذا تركت وطني، ذلك السؤال الذي يخشاه كل مغترب. وتستغرب قائلة: ".. كلما يخرج وطنكم من أزمة يسقط في أخرى، هذا البلد الواسع بشعبه الطيب الذي يملك إمكانيات كبيرة يمكن أن تدفع به إلى مصاف الدول النامية الناجحة."

كنت أجادلها أحياناً دون عقلانية متعامياً عن فسادنا وتخلفنا وقصورنا مدفوعاً بالغيرة الوطنية والهُوية القاتلة وخداع النفس أمام الآخر.
وأسألها: ألا تخشين من مغبة كتاباتك. فتقول: إن زميلها في التحرير يشاطرها فكرها السياسي والاحترام المتبادل. كما أن رئيس التحرير صحفي متمرس وذكي، وقلما يتدخل في تقاريرنا تحاشياً لغضب الناشر. ولكن السند الحقيقي يأتي لنا من رسائل وتعليقات القراء والقارئات.
قالت لي، وهي تبدو حزينة، إن حُلمها بالحمل لم يتحقق منذ تركت الأقراص قبل عامين. كنت أردد لها وأذكرها بأن كل الفحوص التي أجريت لها ولزوجها لم تثبت أن هناك سبباً يمنع الحمل، وأن الأمر يتطلب قليلاً من الصبر. فتقول: "إلى متى والعمر يتقدم بي، وكل صديقاتي ومعارف زوجي أنجبن، وأسرة زوجي تضغط في انتظار الوليد."
كنت أخشى ألا تعود مرة أخرى. ولكني أجدها فجأة أمامي، وأشعر بالزهو لأنها لا تزال مقتنعة بصواب تشخيصي.
جاءت مرة شاحبة الوجه، جلست قبالتي صامتة على غير عادتها. ولما شعرت بتوجسي، قالت لا داعي للقلق، ليس بي شيء وإنما مرهقة فقط من تراكم العمل. فحصتها كالمعتاد ونصحتها بأن تأخذ إجازة طويلة بصحبة زوجها. قالت: "كيف أستطيع أن أقنع زوجي منطقياً بأن يتخلى عن عادة العطلات القصيرة؟" قلت لها: هناك طرق كثيرة لا تحتاج إلى المنطق، تستخدمها المرأة لإقناع الرجل. فانفرجت شفتاها ببسمة دالة.

انفتح الباب واندفعت (م) بحيوية فائقة إلى غرفتي متخطية الممرضة، باسطة ذراعيها العاريتين أمامي، "ألا ترى أن سمرتي تفوق سمرتك!". قلت لها: ذلك وقتي وهذا دائم، وأشرت إلى بشرتي. ضحكت وأردفت:" يا لها من عطلة، ويا له من صيف! كان الهواء منعشاً نقياً، لم نشاهد قطرة مطر واحدة، والشمس لا تغيب حتى الساعة العاشرة مساءً، تعقبها النجوم التي تزين قبة السماء الزرقاء الصافية، وينعكس بريق ضوئها على أمواج البحر بصورة خلابة. لا ننظر إلى الساعة ونستيقظ كما يحلو لنا ونتمطى في خدر عذب. وتواصل: "على مائدة الإفطار ونحن نتهيأ للرحيل، أحاط خصري بذراعيه وجذبني إليه وقال إنه لم يشعر في ليلة البارحة ونحن في قمة الذروة بمثل رعشة جسدي وحرارة أنفاسي من قبل. لقد كانت حقاً ليلة رائعة. تعلقت بعنقه ودفنت رأسي في صدره لأحبس دموعي، كأننا مراهقان."
نظرت إليها، غضَّت البصر وتوردت وجنتاها وصمتت خجلى كأنها أسرفت في البوح. وعندما ابتسمت لها أطمأنت وواصلت متممة: "حضرت مبكرة على خلاف المعتاد لأنني أشعر منذ أيام بثقل في ثدييّ مع شعور بالغثيان والدوار." فحصتها وقلت لها إن هناك بوادر حمل مبكر. لم ترد على كلماتي، وحتى عندما وضعت الممرضة نتيجة الفحص المخبري أمامها. بدت وكأن الكلمات انحبست في حلقها. أزالت بيدها الدموع قبل أن تنحدر على خديها، وتمتمت" لا أصدق....لا أصدق ... وكأنني في حُلم. كيف أزف الخبر إلى زوجي؟"
نهضت، وقبل أن تخطو إلى الأمام، هتفت: "يا إلهي، لقد نسيت من فرط اضطرابي أن أخبرك، بأنني، عندما كنت أتجول على الشاطئ وأستمتع بالرمال الناعمة الدافئة تحت قدميّ، شاهدت صديقي السابق يفترش الأرض، وقد ترهل جسده وتكورت بطنه وتساقط شعر رأسه. تطلعت إليه وبادلني نظرة خاطفة وانطلقت قبل أن يصيبني الدوار."
تقدمتها باسطاً يدي لها مودعاً، ضغطت عليها بدفء وامتنان قبل أن تتواري خلف الباب.

أضف رد جديد