محمد محمود، في يوم المرأة العالمي، حول شهادة المرأة

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
نجاة محمد علي
مشاركات: 2809
اشترك في: الأربعاء مايو 04, 2005 1:38 am
مكان: باريس

محمد محمود، في يوم المرأة العالمي، حول شهادة المرأة

مشاركة بواسطة نجاة محمد علي »


حول شهادة المرأة

محمد محمود


1

مثّل تعيين الأستاذة القاضية نعمات عبد الله كقاضية قضاة السودان في أكتوبر 2019 إنجازا لافتا من إنجازات الثورة السودانية في حرصها على إنصاف المرأة واحتفائها بدورها المحسوس في الكفاح ضد النظام العسكري الإسلامي وفي ثورة ديسمبر المجيدة، وهو إنجاز جاء عقب الإنجاز الكبير لدخول المرأة ولأول مرة منذ الاستقلال لمجلس السيادة بتعيين الأستاذة عائشة موسى والأستاذة رجاء نيقولا كعضوتين فيه.

وتعيين امرأة كقاضية وبقدرما يستحق الإشادة والترحيب والاحتفاء إلا أنه يثير مسألة التناقض العميق الذي يعيشه وضعنا القانوني. فالسودان بلد تخضع قوانينه بصورة أساسية لأحكام الشريعة، وبالتالي فإن القوانين السائدة تعكس السمات الأساسية لتمييز الشريعة ضد المرأة التي هي في نظرها ذات أهلية قانونية ناقصة. وسيكون تركيزنا ونحن نحتفي بعيد المرأة هذا العام على تمييز الشريعة ضد المرأة في مسألة الشهادة.


2

وتشريع شهادة المرأة يستند كما هو معلوم على آية البقرة التي تقول: " ... واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن تَرْضَوْنَ من الشُّهَدَاء أن تَضِلَّ إحداهما فتُذَكِّر إحداهما الأخرى ... " (2: 282). وأهمية هذه الآية لا تكمن فحسب في التشريع المحدّد الذي تقرّره بشأن شهادة المرأة ولكن أيضا في تبيينها للأساس الذي ينبني عليه هذا التشريع وهو الحكم العام الذي تضمّنته عبارة "أن تَضِلَّ إحداهما فتُذَكِّر إحداهما الأخرى ... "

ولقد أجمع المفسّرون والفقهاء في فهم هذه العبارة أن المقصود بالضلال هو النسيان، أي أن تنسى إحدى المرأتين فتذكِّرها الأخرى. وفي تفسيره للعبارة حرص الرازي (ت 1209) على ربط نسيان المرأة بخاصية مستقرّة في تركيبها، فقال: "والمعنى أن النسيان غالب طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة في أمزجتهن. واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان على المرأة الواحدة، فأُقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى أن إحداهما لو نسيت ذكّرتها الأخرى ... "

ويتابع المفسرون هذا المنطق حتى عصرنا الحديث فيقول ابن عاشور (ت 1973) في تفسيره إن الضلال هنا بمعنى النسيان وإن هذه حيطة "من تحريف الشهادة وهي خشية الاشتباه والنسيان لأن المرأة أضعف من الرجل بأصل الجِبِلّة بحسب الغالب ... " وعندما نأتي لمفسر حديث آخر هو سيد قطب (ت 1966) فإننا نجده يتجنب لغة ابن عاشور الصريحة وهو يقرّر مبدأ الضعف الأصلي المركوز في فطرة المرأة وطبيعتها ليستخدم لغةً تصطنع قناعا "علميا". وهكذا يقول في تبرير العبارة القرآنية: "والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة. فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء، فتذكِّرها الأخرى بالتعاون معا على تذكّر ملابسات الموضوع كله. وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية. فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلا نفسيا في المرأة حتما. تستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطىء. وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة. وهذه الطبيعة لا تتجزأ، فالمرأة شخصية موحّدة هذا طابعها — حين تكون امرأة سوية — بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال، ووقوف عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء. ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكِّر إحداهما الأخرى — إذا انحرفت مع أي انفعال — فتتذكّر وتفىء إلى الوقائع المجرّدة." ولقد أطلنا في اقتباس ما كتبه سيد قطب لأن نظرته هذه تعكس ما أصبح موقفا ومنطقا سائدا وسط أغلب المسلمين المعاصرين في دفاعهم عن الشهادة المنقوصة للمرأة.


3

وعندما ننظر لهذا الموقف السائد بدقّة فإننا نجده يتوتّر بين منطقين كما يتضح من كلام سيد قطب أعلاه. فهو منطق يدرك من ناحية أن شهادة المرأة الناقصة هذه عكست وضعها في مجتمع القرن السابع الميلادي في الجزيرة العربية، أي أن حكم الآية لا ينفصل عن السياق التاريخي لعلاقات القوة التي قهرت النساء وأبعدتهن عن دائرة النشاط الاقتصادي والمعاملات المالية (باستثناءات قليلة مثل خديجة بنت خويلد) مثلما أبعدتهن عن دوائر أخرى. إلا أن سيد قطب يقدّم أيضا منطقا آخر يستند على ما يراه اعتبارا ثابتا ذا طبيعة تعلو على أي سياق تاريخي. وحسب هذا المنطق فإن الوظيفة البيولوجية للإنجاب وما يتبعه من مسئولية أمومة تجعل المرأة ذات تكوين نفسي انفعالي يهبط بقدرتها العقلية وتصبح عاجزة عن الوقوف "عند الوقائع بلا تأثر ولا إيحاء". هذه المرأة التي يغلب عليها الانفعال والمتبلبلة عقليا وهي تواجه وقائع الأشياء هي المرأة "السوية" ذات "الشخصية الموحّدة" في عُرف قطب، ولو تحدثنا عن امرأة ذات وجدان وانفعال حيّ وناضج وعقل كامل فإننا نتحدّث عن امرأة "غير سوية".

وعندما نغادر آية البقرة وننظر للموقف من شهادة المرأة في الواقع التاريخي للمسلمين فإننا نجد أنفسنا بإزاء موقفين متباينين. فبينما أعطت آية البقرة المرأة شهادة منقوصة جعلتها على النصف من الرجل فإن ممارسة المسلمين كما يعكسها واقعهم التاريخي تأرجحت بين حرمانها حرمانا تاما من الشهادة في بعض الحالات وقبول شهادتها بل والاعتماد عليها اعتمادا تاما في حالات أخرى. وبالنسبة للوضع الأول يخبرنا الزيلعي في كتابه نصب الراية عمّا قاله الزُّهْري من أن السُّنّة قد مضت منذ فترة محمد وأبي بكر وعمر أن لا شهادة للنساء في الحدود والقِصاص، وهو الأمر الذي يؤكّده الحديث المنسوب لعلي بن أبي طالب أنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود والدماء. أما بالنسبة للحالة الثانية فإن الزيلعي ينقل لنا أيضا عن الزُّهْري أن السُّنّة قد مضت أنه تجوز شهادة النساء فيما لا يطّلع عليه غيرهن من ولادات النساء وغيرهن، وهو قول نجده أيضا منسوبا لابن عمر حيث يقول: لا تجوز شهادة النساء وحدهن إلا على ما لا يطّلع عليه إلا هن، من عورات النساء وما يشبه ذلك من حملهن وحيضهن. وقد اختلف الفقهاء حول العدد، فذهب البعض أن شهادة امرأة واحدة كافية في الولادة والبَكارة وما لا يطّلع عليه الرجال، بينما ذهب آخرون إلى اشتراط أربع (وهؤلاء فكّروا بمنطق الاتساق مع ما تقرّره آية البقرة حتى وإن قبلوا على مضض بشهادتها المنفردة).


4

ماذا فعل المشرّع السوداني فيما يتعلّق بشهادة المرأة وهو ينشط لبعث أحكام الشريعة؟ عندما ننظر لقانون الإثبات لسنة 1994 فإننا نجد أن المادة 62 (ب) تقول عن إثبات جريمة الزنا إنها تثبت بـ "شهادة أربعة رجال عدول". أما المادة 63 (ب) عن إثبات باقي جرائم الحدود فإنها تقول إنها تثبت بـ "شهادة رجلين كما تثبت عند الضرورة بشهادة رجل وامرأتين أو أربع نسوة" (قانون رقم 31 لسنة 1994). وهكذا نجد أن المشرّع السوداني انحاز في شهادة الزنا لرأي جمهور الفقهاء الذي يشترط الذكورة في الشهادة. إلا أنه عندما أتى لباقي الحدود فإنه تساهل ولم يشترط شرط الذكورة الذي يعمّ الحدود وإنما فتح الباب لحكم الضرورة وإمكانية الشهادة المنقوصة للمرأة.

هذا هو وضع التناقض العميق الذي يعيشه السودان اليوم وتعاني منه خاصة البلاد العربية والإسلامية التي ظلت خاضعة لأحكام الشريعة أو عملت على إحيائها. وهو وضع تمثّل الحالة السودانية قمة تناقضه إذ تجلس على قمة الجهاز القضائي امرأةٌ قاضية لا تعترف الشريعة لها بكامل الأهلية القانونية.

هذا وضع لن تنفك أزمته تتّسع وتتعمّق لأن المرأة في كل البلاد العربية والمسلمة انطلقت في درب تحرّرها وتحقيق كرامتها الإنسانية انطلاقا لا تستطيع الشريعة أن تكبحه أو تسدّ طريقه لأن الوضع الطبيعي الذي يحقّق حرية وكرامة مجموع المجتمع بنسائه ورجاله هو الوضع الذي يعترف للمرأة بكمال عقلها وأهليتها القانونية غير المنتقصة ويلغي كل القوانين التمييزية ضدها.


محمد محمود أستاذ جامعي سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم
وجامعة تفتز ببوستون
ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان.

[email protected]


أضف رد جديد