جوزيف قرنق وأزمة المثقفين الجنوبيّين - عبد الماجد بوب

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

جوزيف قرنق وأزمة المثقفين الجنوبيّين - عبد الماجد بوب

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

.

صورة

.
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »


أوراق قديمة ... فى سياق جديد
كتيب "أزمة المثقفين الجنوبيين... مالها !"
بقلم جوزيف قرنق

عرض الدكتور عبدالماجد علي بوب

هذا الكتيب عبارة عن مجموعة مقالات كتبها الأستاذ جوزيف قرنق، أحد قادة الحزب الشيوعى الذين أعدمهم نميرى فى يوليو 1971م. وقد نُشرت لأول مرة فى صحيفة "الجنوبى" السرية التى أصدرتها مجموعة من المثقفين الجنوبيين مطلع عام 1961م، وتوقفت بسبب ملاحقة أجهزة الأمن آنذاك. وعاد جوزيف لتكملة تلك المقالات فى صحيفة "أدفانس" التى تولى رئاسة تحريرها بعد اكتوبر 1964م، وأضاف إليها الجزء الخاص بمنح المديريات الجنوبية حكما إقليميا ذاتيا.
وفى حياة هذا الرجل مفارقة محزنة. فقد كان جوزيف قرنق على الدوام صوتا وحيدا فى خضم الحركة السياسية الجنوبية المضطربة، ناصبه العداء رجال الكنيسة فى بحر الغزال، وعملوا ما وسعتهم الحيلة لعزله واتهامه بنقل "جرثومة" الماركسية الى الجنوب الذى خلا لهم لعقود عديدة. ولم يكن السياسيون الجنوبيون أكثر ترفقا به؛ فاتهموه بالعمالة للشمال تارة، وبالتخطيط لتحويل الجنوب الى منطقة نفوذ للحزب الشيوعى دون مراعاة لظروفه تارة أخرى. بينما انهمكت أجهزة المخابرات فى الشمال تحصي خطواته باعتباره مصدر خطر مزدوج (كشيوعى وجنوبى)، فلجأت الى تحديد اقامته فى مدينة واو حتى قيام ثورة اكتوبر 1964. وباستشهاده فى 1970، فقد الجنوب والشمال داعية السلام والديمقراطية والوحدة . والأفكار المضمّنة فى هذا الكتيب تنم عن فراسة ورؤية تنفذ من خلال الظواهر وعتمة المنطلقات العرقية، والأحكام المسبقة الى جوهر الأشياء. هذا قيض من فيض فى ميزان هذا الرجل وتزكية لمكانته بين الرموز الكبيرة فى تاريخ الحركة الوطنية السودانية .
يرجع الفضل فى جمع هذه المقالات وكتابة مقدمتها الموجزة واصدارها، الى طيب الذكر الدكتور معتصم البشير. وعلى صغر حجم هذا الكتيب الذى يقع فى نحو ثلاثين صفحة، الا أنه وثيقة عظيمة الفائدة لمن يهتم بنشأة وتطور الحركة السياسية فى جنوب السودان، وحركة المثقفين الجنوبيين منذ مطلع الخمسينات. كذلك يساعد هذا الكتيب فى التعرّف على التيارات المتصارعة فى جوف الحركة السياسية الجنوبية آنذاك. وثمة ملاحظة يحسن إيرادها عرضا، فالترجمة العربية المتداولة لعنوان هذا الكتيب هى "أزمة المثقفين الجنوبيين .." ولكن فى حقيقة الأمر، تحدث جوزيف قرنق عن حالة ارتباك وحيرة (بيربلكستى) لتعريف وتوصيف حالة تيار سياسى بعينه وسط المثقفين الجنوبيين، ويمكن تسميته مجازا "تيار الوسط"، ولم يذهب الى حدّ تسميتها أزمة (كرايسس). وهذا التمييز ربما تكمن أهميته فى إجلاء خطوط التماس بين التيارات السياسية الجنوبية فى ذلك الوقت، وتحديد مواقفها على نحو دقيق، خاصة فيما يتعلق بمصير العلاقة بين الشمال والجنوب .
وكشأن كل الوثائق التاريخية، يتعيّن قراءة هذا الكتيب فى سياق الظروف السياسية وواقع العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة آنذاك، والأخذ فى الاعتبار مواقف الحكومات المدنية والعسكرية التى أفضت الى تفاقم المشكلات بين الشمال والجنوب. بين الأمس واليوم، انسابت أحداث وتغيرات هائلة فى حركة المثقفين الجنوبيين، الذين عناهم جوزيف.
فحتى عام 1956، لم يكن عدد الجنوبيين الذين تخرّجوا من جامعة الخرطوم يتجاوز أربعة خريجين؛ كان جوزيف أولهم ولحق به أبيل الير وهلرى لوقالى ونتالى ألواك. وكان جل المثقين الجنوبيين آنذاك من صغار الموظفين فى الخدمة المدنية، وكان أول عهدهم بالعمل النقابى والسياسى بعد انتهاء مؤتمر جوبا (1947)، حينما بادرت مجموعة من المستخدمين بتكوين "لجنة شئون الموظفين". وكان هدفها الرئيسى تحسين الأجور ولم تتطرق إلى مطالب تمس السواد الأعظم من سكان المديريات الجنوبية.
وفى هذا السياق، خلص جوزيف قرنق إلى أنّ حركة المثقفين الجنوبيين، على ضعفها ومحدودية برامجها تمكنت من إزاحة القادة التقليديين (زعماء القبائل والسلاطين) والتسلل الى موقع القيادة فى الحركة السياسية فى الجنوب. فقد كشفت وقائع مؤتمر جوبا (يونيو 1947) افتقار هذه الزعامات الى الحنكة التى تؤهلهم لمجاراة الأحزاب السياسية فى الشمال، وهى الأكثر حنكة ودهاءا. حدث هذا الانتقال سلميا بين الأجيال ولم ينتج عن صراعات وتضارب مصالح، كما كان عليه الحال فى مجتمعات أكثر تقدما. بقى الحل والعقد فى يد السلاطين، بينما تولّى أبناؤهم الذين نالوا حظا من التعليم بناء التنظيمات السياسية الحديثة واستخدموا أدوات العمل السياسى المبتكرة فى البرلمانات والمؤتمرات وفى التعبئة السياسية واقامة التحالفات الخ.
ويتطرق جوزيف إلى أزمة القيادة فى الحركة السياسية الجنوبية وتسلل العناصر "اليمينة المتطرفة" الى موضع القيادة. فقد كان للإدارة البريطانية فى السودان اليد الطولى فى دفع بوث ديو الى المقدمة وتنصيبه كزعيم للحركة السياسية فى الجنوب، وممثلها فى لجنة اعداد الدستور الانتقالى (1951). ومن هذا الموقع عمل بوث ديو على افشال التعديلات الدستورية المؤدّية للاستقلال. ويذكر جوزيف بأن هذا الموقف حمله على الإنسلاخ عن مجموعة بوث ديو، ومن ثمّ إلى الانضمام للحزب الشيوعى السودانى (1954).
يتناول جوزيف قرنق بالتحليل ثلاث تيارات رئيسية وسط المثقفين الجنوبيين. أوّلها التيار اليمينى المتطرف الذي ينادى ممثلوه بانفصال المديريات الجنوبية، وذلك انطلاقا من التناقضات "العرقية" والثقافية بين الشمال والجنوب. ويرى جوزيف بأنّ المنطلقات العنصرية لهذه المجموعة حالت بينها ووضع التناقض القائم مع الشمال فى حجمه الطبيعى، وجعلتها تتقاضى عن التناقض الأكبر مع الاستعمار. وخلاصة موقف هذه المجموعة أنّه اذا لم يكن بالامكان تحويل العربي إلى "زنجى" أو "الزنجي" إلى عربى فمن الخير لهما أن ينفصلا. وأبرز زعماء هذا التيار هم أزبونى منديري، وبوث ديو، والأب سترنينو لوهرى، وجوزيف أدوهو.
أمّا التيار الثانى بين المثقفين الجنوبيين، وهو الأوسع نفوذا بين المثقفين الجنوبيين، فإنّ جوزيف يصف حالتهم بالارتباك والحيرة السياسية. ويعزي ذلك الى تأرجح هذا التيار بين الوحدة والانفصال. فمن ناحية، يتهيّب هؤلاء تبنّي الدعوة للإنفصال عن الشمال إدراكا منهم لاحتمالات وقوع الجنوب فى أحضان الاستعمار. ومن ناحية ثانية، يخشى هؤلاء الدعوة للوحدة مع الشمال مخافة أن تفتح هذه الخطوة موارد الجنوب أمام مطامع الرأسمالية الشمالية .
أما التيار الثالث فى صفوف المثقفين الجنوبيين، فهو يعارض الدعوة للإنفصال، ويرفض وجهة النظر القائلة بأن التناقض القائم بين الشمال والجنوب هو تناقض "عرقى". بالاضافة الى ذلك، يرى ممثلو هذا التيار أنّ التناقض القائم والمحتمل مع الرأسمالية الشمالية هو تناقض حقيقى بلا شك ولكنه تناقض ثانوى بالنظر للتناقض الأكبر مع الاستعمار. ويشير هؤلاء إلى مسئولية الحكومات الشمالية وتغاضيها عن التظلّمات المشروعة للجنوبيين، وعدم الإصغاء لمطالبهم فى الحكم المحلي، واللجوء الى العنف فى مواضع ومواقف كانت تتطلب أعمال الحكمة السياسية وبعد النظر لكسب ثقة المواطنين الجنوبين واستمالتهم الى جانب الوحدة. ويدعو أفراد هذا التيار الى تحالف الحركة السياسية فى الجنوب مع الحركة النقابية والحزب الشيوعى، باعتبارهما أوّل من نادى بمراعاة خصائص المديريات الجنوبية الثقافية وضرورة منحها شكلا من أشكال الحكم المحلي وحق انتخاب مجالسها النيابية. ظل أفراد هذا التيّار قلة محدودة، ولكن نشاطهم وأهدافهم السياسية كانت لها أصداء لا يمكن التقاضى عنها . وتلقت هذه المجموعة دفعا قويا بانعقاد "مؤتمر الشباب الجنوبى" الذى انعقد فى عام 1957 فى مدينة واو. كان هذا المؤتمر بمثابة الرد على مؤتمري جوبا الثاني والثالث فى أعوام 1954 و 1955 حيث أعلن مطلب "الفدريشن" بواسطة الحزب الليبرالى وصار فيما بعدا قاسما مشتركا لدعاة الانفصال أمثال أزبونى منديرى وغردون أيوم والأب سترنينو وأدوهو
ويكرّس جوزيف حيّزا مقدرا لدحض مطلب الانفصال بسبب الاختلافات العرقية بين الشمال والجنوب. ويواجه المثقفين الجنوبيين بالسؤال عن احتمالات المستقبل أمام المديريات الجنوبية اذا اختارت طريق الانفصال. ويطرح عليهم تساؤلا ذا مغزى فى ضوء تجارب افريقيا آنذاك: فاذا كان الاختلاف العرقى هو أساس مشكلة الحنوب، فكيف يفسر المرء الصراعات الدامية بين شرق وغرب نيجريا أو الصراع بين شمال وجنوب غانا ومطالبة قبيلة الأشانتى بالانفصال، وكذلك مطلب الباغندا باقامة مملكتهم الخاصة فى يوغندا. ومن نفس المنطلق كيف يفسر المرء أسباب الصراع الذى احتدم بين دولتين عربيتين هما مصر والعراق .
ويتطرق الكاتب الى تجربة الزنوج الذين تم تهجيرهم فى رحلة معاكسة من الولايات المتحدة وأوربا حيث اقاموا دولة خاصة بهم فى ليبريا فى القرن التاسع عشر. وكانت النتيجة وبالا على سكان ذلك البلد الأصليين حيث أذاقهم "أشقاؤهم" الزنوج العائدون مرارة الاذلال والاستغلال. واستمر هذا الوضع المخزى حتى عام 1930م. ويذكِّر جوزيف بأن الاختلافات العرقية لوحدها، حتى فى فى مثل ظروف جنوب افريقيا، لا تعكس حقيقة المشكلة القائمة، ويتعيّن على المرء أنّ لا يتوقّف عند ظواهر الأشياء، بل أن يذهب إلى تقصى جذورها وأسبابها .
إذا اختار الجنوب درب الانفصال فسوف يقع بلا شك تحت هيمنة الاستعمار وتستباح موارده. وهذا ما عجزت عن أخذه فى الاعتبار مجموعة المثقفين من مؤيدى التيار اليمينى المتطرف. ومشكلة الكنغو ماثلة للعيان (انقضّت القوى الاستعمارية على الكنغو الذى استقل حديثا وأغرقته فى دماء وانقسامات سعيا للهيمنة على ثرواته المعدنية). أما اذا كان هؤلاء يأملون فى أن ينضم الجنوب الى اتحاد دول شرق افريقيا، فهذه الدول نفسها لا زالت تتلمس الطريق لاستكمال استقلالها الوطنى وسد الطريق أمام الاستعمار الحديث. فلا جدوى لهذا الاقتراح؛ ومن الخير للجنوب أن يبقى على علاقته مع الشمال حيث الحركة الجماهيرية أشد عودا وأكثر تجاربا ووعيا. إهمال هذه الاعتبارات يوضّح بجلاء أن أنصار التيار اليمينى المتطرف من المثقفين الجنوبيين "مغامرين سياسيين".
والنقطة الجوهرية فى هذا الكتيب والتى يعود اليها جوزيف قرنق مرارا كنقطة انطلاق فى نقضه لأفكار السواد الأعظم من المثقفين الجنوبيين تتمثل فى قناعته العميقة بأنه لا سبيل أمام السودان فى سعيه للتحرر الاقتصادى وتحسين الأوضاع الاجتماعية وبناء مجتمع ديمقراطي، وحل مشاكل الأقليات القومية؛ إلّا بسد المنافذ أمام تسلل الاستعمار الحديث. وفى ذات الوقت يحذر من تلهّف البرجوازية المحلية (السودانية) لاستغلال موارد الجنوب. ويقول بأن تجارب السنوات الماضية تبعث على التوجس لدى المواطنين الجنوبيين. فقد تواصل الإستغلال فى صوره البغيضة على أيدى فئات شبه الاقطاع والبرجوازية وكبار البيروقراطيين فى جهاز الدولة، بالابقاء على ضريبة "الدقنية" وضريبة العشور، والعمل القسرى، والفوارق فى الاجور، وشح الاموال المخصصة للتعليم. وكذلك سياستها الهوجاء لفرض الثقافة العربية الاسلامية على سكان المديريات الجنوبية. هذا الواقع حمل أعدادا من المثقفين الجنوبيين الأكثر اعتدالا، أمثال بولين الير، سرسيو ايرو، داى داك، و فرانكو قرنق على فقدان الثقة فى الحكومات الوطنية، خاصة بعد أن تزايد القمع عقب زيارة رئيس الوزراء - اسماعيل الأزهرى – للجنوب. ولنكن صريحيين، يقول جوزيف: اذا كان أعوان الاستعمار البريطانى ودعاة الانفصال قد أعدوا المواد المتفجرة، فقد قدم لهم الأزهرى عود الكبريت الذى أضرم النار وقاد البلاد الى عاقبة وخيمة. وكان تمرد الوحدات العسكرية الجنوبية وردود الفعل الهوجاء من جانب الحكومة نذيرا خطيرا لما يحمله المستقبل فى طياته.
عاد جوزيف بعد انقطاع لم يكن هينا، وواصل مابدأه فى هذه المقالات. وقدم دراسة لمؤتمر أركويت عام 1970 تطرق فيها لـِ "التركيبة البنيوية للاقتصاد والحكم الاقليمى الذاتى". والأفكار المضمّنة فى تلك الورقة تلقي الضوء على مسئولية الاستعمار فى تعميق أزمة التطور الاقتصادى غير المتوازي بين المركز والأطراف المهمشة، وما تبع ذلك من هيمنة مثقفي الشمال على السلطة والثروة. كما أنه تطرق فى تحليله الى أن الحكم الأقليمى الذاتى هو الحل الأعدل الذى يتناسب وواقع المديريات الجنوبية الاجتماعى والاقتصادى. وبسبب تلك الاعتبارات نفسها لم يرَ جوزيف جدوى لمطلب تقرير المصير. والحق يقال أن مطلب تقرير المصير للجنوب - كما تعارف الناس عليه اليوم - لم يكن من بين الخيارات التى تداولها المثقّفون الجنوبيون آنذاك. ولم يجد طريقه للقاموس السياسى إلّا بعد انعقاد ندوة واشنطن المعروفة فى النصف الثانى من تسعينات القرن الماضى .
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

في ذكرى جوزيف قرنق - عبد الماجد بوب

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

فى ذكرى جوزيف أ . قرنق!
عبد الماجد بوب

لما دعوت الصبر بعدك والأسى ** أجاب الأسى طوعاً ولم يجب الصبر

عندما وقع إنقلاب هاشم العطا عصر 19 يوليو، كان جوزيف قرنق فى طريقه إلى خور عمر (وادى سيدنا) فى مهمة لا علاقة لها بالإنقلاب الذى أحكم قبضته على مواقع الجيش الرئيسية. فأتصل به هاتفياً السيد إبراهيم جادالله، وكيل وزارته، ليخبره بما تمّ؛ وأن المحاضرة التى كان جوزيف بصدد تقديمها لكبار ضباط الجيش فى قاعدة الطيران، صارت فى ذمة التاريخ. ولم يقف جوزيف على حقيقة ما حدث إلا بعد أن إلتقى عدداً من رفاقه، وجرى تكليفه بوضع القوانين التى تقرر إصدارها.
وجوزيف، لكل من هو ملم بتفاصيل إنهيار الصلة بين نميرى و بين الحزب الشيوعى، سبق أن أبدى رغبته فى تقديم إستقالته من مجلس الوزراء، بينما كان البعض من رفاقه السابقين يتوسل للحصول على مقعد فى إحدى إدارات البنوك أو مؤسسات الحكم. فقد كان جوزيف حقيقة ممن يعفون عند المغنم. وكان سبب عزوفه عن البقاء فى منصبه أنّ مجموعة القوميّين العرب فى مجلس الثورة لم توافق إلا على مضض على برنامجه لحل مشكلة الجنوب بمنحه حكماً ذاتياً إقليمياً. ورأى هؤلاء أن الجنوب إذا نال تلك الصلاحيات سوف يمثل عائقاً أمام قيام "الوحدة العربية" مع مصر وليبيا وسوريا.
وهذا الموقف له جذور عميقة. وللتدليل على ذلك، نذكر على سبيل المثال أنّ الخطاب الذى القاه رئيس الوزراء بابكر عوض الله صباح 25 مايو لم يتضمن أى إشارة من قريب أو بعيد لمشكلة الجنوب. وقد أورد الراحل محمد أحمد محجوب هذه الوقائع فى كتابه "الديمقراطية فى الميزان" (الصفحات 247 – 242) . وكان على مواطنى الجنوب أن ينتظروا حتى إصدار مايعرف بإعلان يونيو 1969م، الذى تضمن منح المديريات الجنوبية حكماً ذاتياً إقليمياً. ومن بين نماذج المضايقات التى تعرض لها جوزيف فى تصريف عمله: شح الموارد المخصصة لإعادة تعمير ماخلفته الحرب من دمار، وتأهيل العائدين. وقد أورد القاضى أبيل ألير ضمن مذكراته أن البيروقراطيّين الشماليين فى الجنوب رأوا فى تطبيق الحكم الذاتى الإقليمى إنتهاشاً من سلطاتهم، فلم يألوا جهداً فى تعويق عمل وزارة الجنوب. ويقول ألير أن الإدارى الشمالى المتواجد آنذاك فى ملكال خصّص لموظفى وزارة الجنوب "تكل" صغير، لم تسع منافذه لإدخال المعدات المكتبية المطلوبة.
ونعود للوراء لإلقاء الضوء على شخصية جوزيف. وقد تضمنت مذكرات ألير شذرات هنا وهناك فى وصف زميل دراسته فى المرحلة الثانوية. ويقول بأن جوزيف كان شخصاً متفوقاً، كارزمياً حاضر البديهة ومداعباً. وفيما بعد أصبح جوزيف أول طالب جنوبىّ يلتحق بكلية القانون، فيما سميت مؤخراً بجامعة الخرطوم. أعقبته كوكبة من المثقفين الحقوقيين الجنوبيين النابهين ومن بينهم أبيل ألير، وناتالى ألواك ، وصمويل لوباى وغيرهم. وقد حرص جوزيف على قضاء فترة العطلات الثانوية بين قريته فى أطراف التونج، ومدينة واو. وكانت فترة إقامته هناك مليئة بالحركة والنشاط فى أوساط الشباب على وجه الخصوص، كما ذكر لنا أحد معاصريه وإسمه ترتسيو أحمد. وكان الشباب يتحلّقون حوله ويصغون إلى آرائه الجريئة حول مشكلة الجنوب وهى مازالت فى أطوارها الأولى. وفى المقابل كان أفراد الهيئات التبشيرية فى واو يحاصرونه، ويألبون بسطاء الناس ضده بسبب افكاره "الجهنمية". وقد حدث عند مغادرة جوزيف مدينة واو عائداً إلى الخرطوم، أن رسم أحد القساوسة "الرومان" حماراً يهنق تجاه الطائرة الجاثمة على الأرض وبداخلها صورة لشاب برباط عنق إشارة إلى جوزيف. وكتب على "اللوحة" عبارة تنضح بالعداء الذى يتعارض مع قيم المحبة والتسامح المسيحى.
فى عام 1954م، قرر جوزيف الإنفصال عن المجموعة السياسية الواقعة تحت نفوذ الزعيم بوث ديو، أحد مؤسسى "حزب الجنوب" الذى تحول فيما بعد إلى "الحزب الليبرالى"، وفى حوالي عام 1955م إنضم إلى الحزب الشيوعى، وانتخب فى أول مؤتمربعد ذلك عضواً فى لجنته المركزية. وبوث ديو، نفسه، تخلى عن الحزب الذى شارك فى تأسيسه وانضم بعد أحداث "توريت" إلى صفوف حزب الأمة.
ذكر لنا الدكتور خالد حسن التوم، وكيل وزارة الصحة سابقاً، أنّه تعرّف على جوزيف عن قرب خلال فترة الإمتياز التى قضاها فى مستشفى واو فى عام 1957. وخلال تلك الفترة جاء إلى واو رئيس القضاء، المرحوم أبورنات، فى طواف لمراجعة عمل المحاكم هناك. وكان محل حفاوة على الطريقة المعهودة. وتعرّف خلال ذلك على جوزيف، وقضيا جل الوقت فى حوارات طويلة فى شتى أمور مهنة القضاء والمحاماة والمسائل السياسية، التى أصبح أبورنات فيما بعد أحد صناعها. و خلّف ذلك اللقاء انطباعاً حسناً لدى أبي رنات عن جوزيف، فقد حثّه على أن ينضم إلى سلك القضاء، ووعده بأن يجعله مسئولاً عن الهيئة القضائية فى المديريات الجنوبية. وقد كانت ولا زالت مثل هذه السانحة مما يسيل له لعاب الطامحين إلى الجاه. وجوزيف كانت أمامه مشاريع كبيرة تتعدى المغانم الشخصية، فقدم إعتذاراً لائقاً لأبى رنات، واستأذنه فى أن يوفر له مقعداً فى سيارته المتوجّهة إلى جوبا. فقد كان جوزيف فى طريقه للإشتراك فى الحملة الإنتخابية لمرشح الحزب الشيوعى السودانى (باب الله) فى منطقة ياى.
خلال فترة الحكم العسكرى الأول (58 – 1964م)، أصدر جوزيف صحيفة "أدفانس" Advance السرية، إلا أنها لم تعمر طويلاً. والمهم فى هذا الصدد أنها تضمّنت سلسلة مقالات على قدر كبير من الجرأة والنظرة الواقعية للأسباب التى أدت إلى إندلاع الحرب الأهلية فى جنوب السودان. هذه المقالات الهامة جمعها وحققها الراحل دكتور معتصم البشير. وصدرت فى كتاب معروف بعنوان:
The Dilemma of the Southern Sudanese Intellectuals: Is it Justified?
وهو كتيب عظيم الفائدة وجدير بالقراءة، لا يضير فى شيء إذا لم يتفق القارىء مع كل محتواه. ولكن سيتعيّن حينها على القارئ الذكى أن يحدد مواضع الإختلاف مع منهج الكاتب وإستنتاجاته. وفى هذا الكتيب يُلقي جوزيف الضوء بتركيزعالٍ على مشكلة التنمية غير المتوازية بين الشمال والجنوب، بسبب تمركز السياسة الإقتصادية للإستعمار البريطانى ، حيث تحقق التقدم فى تلك المناطق التى تعرضت للإستغلال الرأسمالى المكثّف، وترك الجنوب فى وهدة التخلف بسبب وعورة المكان وإنعدام الأمن وضمور السوق المحلى وقلة جدواه لتسويق المنتجات الرأسمالية المصنّعة. ويسلط جوزيف نيران النقد على سياسة المناطق المقفولة التى أفضت إلى عزلة الجنوب عن المجرى العام للتطورالإقتصادى والثقافى (التعليم). ويقدم فى سياق تشخيصه الدقيق لأزمة المثقفين، عينات لمواقف فئات المثقفين الجنوبيين وحيرة بعض أقسامهم فى مسألة الوحدة بين الشمال والجنوب، بينما تبنت فئة أخرى بزعامة بوث ديو وسترنينو لوهرى ثم أزبونى وجوزيف أدوهو وأقرى جادين موقفاً إنفصالياً صريحاً. وفى تلك الفترة المبكرة، لم يؤيد جوزيف حق تقرير المصير للمديريات الجنوبية (نفس الموقف تبنته الحركة الشعبية لتحرير السودان حتى عام 1993 عندما أقدمت مجموعة لام أكول وريك مشار "المنشقة" بتوقيع إتفاق فرانكفورت الذى أقرّ مبدأ حق تقرير المصير).
ومما يحزّ فى النفس أن جوزيف قد عانى ما عانى من الإعتقال التحفظى والسجن قبل أن يصدر بحقه حكماً طائشاً وجائراً على أيدى المحكمة "الإيجازية"ً التى قضت باعدامه شنقاً.
وفى جنوب السودان، لم يلق جوزيف حقه من التقدير بسبب إنتمائه للحزب الشيوعى السودانى، وجرأة أفكاره، وثبات مواقفه وانصرافه عن المكاسب الشخصية. ويجهل أو يتجاهل الكثيرون هنا وهناك مساعي جوزيف للتوصل لحل سلمى لمشكلة الحرب الأهلية. غير أنّ ممثل الأنيانيا فى المملكة المتحدة، الراحل مادينج دى قرنق كتب بعد إجتماعه الأول مع جوزيف (اكتوبر 1970) إلى قائد الأنيانيا اللواء جوزيف لاقو:
"لدى قناعة تامة الآن بأن السلام إذا لم يتحقق على أيدى الحكومة الحالية فى الخرطوم ، فسوف يطول إنتظارنا لسانحة مماثلة ."
ورد عليه اللواء لاقو:
"سير على بركة الله !"
بعد إعدام جوزيف أطبق الحزن على المخلصين الأوفياء ممن تعرفوا على هذا المناضل المرموق. كان مادينج شهماً ووفياً للشهيد جوزيف؛ فقد كتب فى مجلة الأنيانيا "قراس كيرتن" فى عدد نوفمبر1971:

" إنّ حكومة نميرى لا تتورع عن إرتكاب أحط الحماقات ، كما حدث بحق جوزيف قرنق وقادة الحزب الشيوعى السودانى ."

وعبر أبيل ألير بكلمات حزينة عن فجيعته فى محنة العدالة فى يوليو 1971م "لقد كان إعدام عبدالخالق محجوب ورفاقه ، فصلاً مخزياً لن ينمحى من سجلات القضاء السودانى." (أبيل الير : المذكرات)
فى طريقه لتسليم نفسه بعد فشل إنقلاب 19 يوليو، عرج جوزيف على المستوصف الذى وضعت فيه زوجته لوداعها ومولوده الذى أطلق عليه الأطباء هناك إسم الحارث.
هاشم محمد صالح
مشاركات: 29
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 10:25 pm

صديقي المُثابر جوزيف قرنق

مشاركة بواسطة هاشم محمد صالح »

ذاعت بين الناس قصيدة كمال الجزولي في نعي جوزيف قرنق. القصيدة التالية غير معروفة على نطاق واسع، على الرغم من احتشاد مقاطعها بالإيقاع العالي والتردد البديع وصخب قافيَتها (القافِيَّة). وكذا احتدامها بعواطف إنسانية جيّاشة مضطربة ومتناقضة؛ عبّر عنها الشاعر دونما مواربة، في حالة تجلٍّ صادقة يبدو فيها التقديرالعميق للشهيد وصفاته وجزع إنسانيّ على مصيره المأساوي، وفِي نفس الوقت الإدراك الفادح للمسافة الفكرية التي تفصل بينهما.
فصاحب المرثيّة هود.محمد الواثق المحاضر (السابق؟) بشعبة اللغة العربية بجامعة الخرطوم. ومحمدالواثق كان من بين المعتقلين (الإسلاميّين) المودعين تحفظياً في كوبر في ذاك الوقت.

صديقي المثابر
جوزيف قرنق (*)

صديقي الُمثابر جوزيف قرنقْ
ترامى قُبَيلَ احتدامِ الشفقْ
إلى سجن كوبر حيثُ شُنِقْ
فيا ربِ هلْ
على روحهِ أقرأُ الفاتحة
فقد عدِمَ القبرَ والنائحة
وأُلحِدَ في التُربِ كيفَ اتفقْ
**

وكان إذا جاشَ مِواره
تدافعه روحه الثائرة
وصادمت الكونَ أفكاره
وكم أنبت الكونُ من زهرةٍ ناضِرة
فكنتُ إذا
تمادتْ به الفكرةُ الجانحة
أشيح إلى مكة القرية الصالحة
أُعوّذ نفسي بربِ الفلقْ
على أن جوزيف قرنقْ
كما شهِدت دمعتي السافحة
جميل المحيا جميل الخُلُقْ
فياربِ هلْ
على روحهِ اقرأ الفاتحة
فقد عَدِمَ القبرَ والنائحة
وأُلحِدَ في التربِ كيف اتفقْ

(*) نسخة منشورة على ويكيبيديا
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AC%D9 ... ite_note-2
ومحرّر الصفحة يورد رواية ماجد بوب بنفس الصياغة الواردة أعلاه؛ ولكنّ مصدره رابط ميّت لمدوّنة غريبة. د. بوب كان أكثر ما ينشر في سودانيز أون لاين.


عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

لك الشكر الجزيل أيها العزيز هاشم
تحية لك في زمان صعب فرّق الأحباء ، ولولا تكنولوجيا العصر ، لكُنا أحياء كالأموات الذين كانوا
في شخص الرحيم جوزف قرنق . غادر بهدوء . ونسيه الشمال وتذكره حزبه في كل سانحة .
عبد الله الشقليني
مشاركات: 1514
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 6:21 pm

مشاركة بواسطة عبد الله الشقليني »

هذا الملف في حاجة للقراءة بتأني
أضف رد جديد