رحلات إ.روبيل في شمال السودان و كردفان 1822ـ1827

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

رحلات إ.روبيل في شمال السودان و كردفان 1822ـ1827

مشاركة بواسطة حسن موسى »










أدب الرحلة نوع فريد بين أنواع الكتابة الأدبية كونه يجمع بين العديد من الأنواع الأدبية و ذلك من واقع أن صاحب الرحلة يضطلع بنقل الحيوات المغايرة البعيدة و تقريبها لقومه الذين لم يغادروا بغاية تمليكهم العوالم الأجنبية الغريبة و المستبعدة بوسيلة الخيال الأدبي.
و أدب الرحلة قديم في ثقافتنا مثلما هو قديم في غيرها.فكتاب الرحلات الجغرافية و الفلسفية من ابن طفيل للمعري لإبن جبير للإدريسي لإبن بطوطة لرفاعة الطهطاوي للشدياق ساروا على خطى أدباء الرحلة الأقدمين مثل الشاعر الإغريقي هوميرصاحب الإلياذة و الأوديسة أو ماركوبولو الذي جلب مفاتيح حضارة الصين لمقامات الخيال الأوروبي
و جزء مهم من تاريخ السودان القديم وصلنا من خلال أدب الرحالة الذين سافروا في أقاليم السودان و أورثوا الإنسانية معرفة نادرة بأوجه حياة الأسلاف.و في هذا المشهد يتضامن الكتاب الأماجد: أحمد ابراهيم ابوشوك وفادية فضة و حامد فضل الله و خالد محمد فرح على بذل كتاب إدوارد روبيل للقارئ المعاصر. فشكرا لهم جميعا.







"رحلات في شمال السُّودان وكُردُفان وجزيرة سيناء، وساحل الحجاز (1822م - 1827م)
تأليف
الدكتور إدوارد روبيل
ترجمة
الأستاذة فادية فضَّة والدكتور حامد فضل الله
مراجعة
الدكتور خالد محمد فرح
*******
تقديم
أحمد إبراهيم أبو شوك

ارتبطت نشأة أدب الرحلات الغربي عن الشرق، بحركة الكشوف الجغرافيَّة الأوروبيَّة، وتبلور هذا الجنس من الأدب في شكل مؤلفات ومدونات ورسومات، تصف جغرافياً الأمكنة والطرق التي اكتشفها الرحَّالة الأوروبيون، كما أنها توثق لسياحاتهم ومشاهداتهم عن الشعوب التي تعرَّفوا عليها، وعلى أجناسها، وتقاليدها، وأعرافها، ودياناتها، ومخلفاتها الأثرية، دون النظر في مكوناتها الأدبيَّة والفلسفيَّة التي شكَّلت منظومات واقعها الحياتي. تناولت الدراسات الأكاديميَّة المعاصرة أدب الرحلات الغربي عن الشرق وفق منهجين؛ أكتفى أحدهما بقراءة النصّ الواصف للمشاهدات والأحداث التي دونها الرحَّالة الغربيون؛ بينما اعتنى الآخر بتحليل النصِّ، وتفكيك خطابه الاستشراقي القائم على ثنائيَّة الغرب والشرق، والمُسْتعمِر والمُستْعمَر، ونحن وهم. بِيْدَ أن بعض الباحثين قد رفضوا هذا المنهج الذي تبناه إدوارد سعيد( ) وآخرون، متعللين بأن أصوات الرحَّالة الغربيين عن الشرق تتباين نصوصها، ولا تسير على نمط واحد، بل تختلف الصور التي رسمها الرحَّالة عن ثقافات الشعوب المشرقية، حسب اختلاف البلدان التي ينتمون إليها، والأزمنة التي ارتحلوا فيها، والخلفيات المرجعيَّة التي انطلقوا منها، والدوافع الكامنة وراء رحلاتهم وأهدافها الاستراتيجية. ولذلك نتفق مع هلال الحجري، أنَّ الرحَّالة الأوروبيين يجب ألا نضعهم في سلة واحدة، ونتهمهم بالعمالة للاستعمار الغربي؛ لأن بعض الدراسات المعاصرة قد أثبتت أنَّ بعضاً منهم كانوا مستقلين في أهدافهم وغاياتهم، ولم يوظفوا مدونات رحلاتهم في خدمة الدول الاستعمارية. لكن هذا الاستثناء لا ينفي أنَّ تأهيلهم الابستمولوجي (المعرفي) قد أثر في توصيفاتهم وتفاسيرهم لبعض المشاهد والأحداث والوقائع التي مرت عليهم.
تمهد لنا هذه التوطئة النظر في الترجمة العربيَّة لكتاب الدكتور إدوارد روبيل (1794- 1884م)، الموسوم بـ "رحلات في شمال السُّودان [بلاد النُوبَة]، وكُردُفان، وجزيرة سيناء، وساحل الحجاز [البتراء]، 1822م - 1827م، ثم توطينها في إطار الرحلات السابقة لها، وأدبيات الرحلات التي استأنس بها المؤلف روبيل في تكملة صور مشاهداته ورواياته للأحداث والوقائع التي مرت عليه. ومن زاوية أخرى، تساعد هذه التوطئة في ابراز أهمية النسخة المترجمة لهذا الكتاب؛ لأن الدكتور روبيل لم يكن أول رحالة تطأ قدماه الأمكنة المشار إليها أعلاه؛ بل سبقه رحالة أخرون، أمثال المغامر اليهودي ديفيد روبيني (David Reubeni)، الذي وصل إلى سنَّار عن طريق سواكن عام 1522م، قادماً إليها من مكة المكرمة، ومدعياً انتسابه إلى البيت النبوي. ومن سنَّار انتقل إلى سوبا، ثم إلى دار الجعليين، ومنها إلى دنقلا عبر صحراء بيُّوضَة، وأخيراً استقر المقام به في قاهرة المعز عام 1523م. لكن بعض الدراسات التاريخية المعاصرة تصف رحلة روبيني بالغموض، وتشكك في صدقيَّة بعض المعلومات الواردة بين دفتيها. ويزيد هذا الغموض تعقيداً، إنَّ يوميات روبيني قد كتبت باللغة العبريَّة، ولم تنشر بعد، بل أُودعت بمكتبة بودليان في جامعة اكسفورد حتى عام 1867م، ويقال إن نسختها الأصليَّة قد فُقدت بعد ذلك التاريخ. ونشر هيللسون( )، وإشكولي( ) أجزاء منها، وعلَّقوا عليها. لكن المهم في الأمر أن ديفيد روبيني كان رحَّالةً ومغامراً، زار بلاط الفونج في سنَّار، وبلاد النُوبَة، وكتب عنها. وبعد أكثر من قرن ونصف من زيارة ديفيد روبيني إلى السُّودان، زار الطبيب الفرنسي شارلس جاكيوس بونسيه (Charles-Jacques Poncet) بلاد النُوبَة، ومنها واصل سيره عبر صحراء بيُّوضَة إلى سنَّار، ثم الحبشة؛ لعلاج إمبراطورها الذي كان يعاني من مرضٍ جلدي. وأخيراً تجسَّدت سياحات بونسيه في كتاب بعنوان "رحلة إلى أثيوبيا"، تُرجم إلى اللغة الإنجليزية، ونُشر في لندن عام 1709م( )، كما نقله الدكتور فضل الله إسماعيل علي والأستاذ خضر محمد سعيد إلى اللغة العربية، ونشرته جامعة السُّودان المفتوحة عام 2012م. وحوى الكتاب وصفاً مفصلاً عن الطرق التي مر بها بونسيه، وجغرافيَّة الأمكنة التي زارها، وعادات أهلها، وتقاليدها، وأنشطتهم الاقتصادية، كما قدم صورة حيَّة عن البلاط السلطاني في سنَّار، وأفاض في وصف رحلته إلى أثيوبيا، ومنها إلى القاهرة، حيث وافته المنيَّة عام 1706م. وبعد زيارة بونسيه إلى السُّودان (1698م) بسنوات قلائل، حضر القس الكاثوليكي ثيودور كرمب (Theodor Krump) على رأس بعثة تبشيرية، أرسلها البابا كليمنت الحادي عشر من روما إلى أثيوبيا؛ لكن مسار رحلته انتهى به في بلاد النُوبَة وسنَّار، ولم يسافر إلى إثيوبيا، ثم أخيراً غادر سنَّار، وساح قافلاً ببلاد الجعليين والشايقيَّة والنُوبَة إلى أن حطَّ رحاله بالقاهرة عام 1702م. وفي عام 1710م ألَّف كتاباً عن وقائع رحلته باللغة الألمانية، ترجمه البروفيسور جي أسبولدنق (Jay Spaulding) ترجمة أوليَّة إلى اللغة الإنجليزية، ويُذكر أن الدكتور أحمد المعتصم الشيخ قد نقله إلى العربية، لكن لم ينشر بعد في طبعته العربية. الرحَّالة الثالثة هو الإسكتلندي جيمس بروس (1730 -1794م)، الذي وصل إلى الإسكندريَّة في يونيو 1768م، ومنها واصل رحلته جنوباً إلى أن حطَّ رحاله بسنَّار، ومنها إلى غوندار بإثيوبيا، حيث دون مشاهداته عن أخلاق الإثيوبيين وعاداتهم وتقاليدهم، ووسائل كسب عيشهم، فضلاً عن البحث عن منابع نهر النيل؛ وفي السُّودان سجَّل مشاهداته والمرويات التي سمعها عن بلاط الفونج في سنَّار، ومدينة شندي، وكتب عن الحرب بين سلاطين الفور والمسبعات في كردفان. وأخيراً صدر حصاد رحلاته في خمسة مجلدات بعنوان "رحلات اكتشاف منابع النيل في السنوات: 1768- 1773"، في لندن عام 1790م( ). وأعقب ذلك، رحلات السويسري جون لويس بوركهارت (1784 -1817م) إلى جنوب مصر، وبلاد النُوبَة، وشبه الجزيرة العربية، بتكليف من الجمعيَّة الجغرافيَّة البريطانيَّة الملكية. ويبدو أنَّ بوركهارت يختلف عن الرحَّالة الذين سبقوه؛ لأنه قد أعدَّ لتلك الرحلات عدتها. والدليل على ذلك أنه قد درس اللغة العربيَّة في جامعة كمبردج، وتلقي محاضرات في الكيمياء والتعدين، والطب، والجراحة. وكان في أوقات فراغه، يدرب نفسه على المشي لمسافات طويلة، حافي القدمين، وحاسر الرأس تحت وطأة حرارة شمس صيف بريطانيا المشرقة، كما كان يجرب النوم على الأرض، ويطوع نفسه على أكل الأطعمة التي تناسب مناخ البلاد التي ينوي زيارتها. أبحر من لندن إلى طرابلس الشرق عام 1809م، وقضى بها عامين ونصف، حيث أضحى يُعْرَف بين الناس بحاج إبراهيم بن عبد الله، وفي الوقت نفسه طوَّر لغته العربية، ووسَّع مداركه بثقافة أهل الشرق وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم. غادر طرابلس الشام إلى القاهرة عام 1812م، حيث حظي باهتمام محمد علي باشا، ومنها واصل مساره جنوب إلى بلاد النُوبَة، ثم إلى مدينة شندي الشهيرة، وبعدها اتجه شرقاً إلى التاكا، ثم سواكن، ومنها عبر البحر الأحمر إلى جدة عام 1814م. استخدم اسمه المستعار، حاج إبراهيم بن عبد الله، لزيارة مكة والمدينة، وسيناء في خليج العقبة، وتوفي فجأة في القاهرة عام 1817م، عن عمر بلغ ثلاثة وثلاثين عاماً. وبعد وفاته، نشرت الجمعيَّة الجغرافيَّة البريطانيَّة الملكيَّة بلندن مدوناته تحت العناوين الآتية، "رحلات في بلاد النُوبَة والسُّودان"، 1819م( )؛ ورحلات في سوريا والبلاد المقدسة، 1822م؛ ورحلات في بلاد العرب، 1829م. ونقل فؤاد أندراوس كتاب "رحلات في بلاد النُوبَة والسُّودان" إلى العربية، وأصدر المجلس الأعلى للثقافة الطبعة الثانية، عام 2007م. ويَعتبر نسيم مقار جون لويس بوركهارت "عمدة الرحَّالة الأوربيين الذين زاروا بلاد النُوبَة والسُّودان في العصر الحديث، لما امتاز به من دقة في الملاحظة والمشاهدة، وتحري الصدق والأمانة، فيما أمدنا به من معلومات قيمة، شملت مختلف نواحي الحياة في أقاليم النُوبَة والسُّودان، التي قدر له زيارتها، ولقد حاز إعجاب وتقدير الرحَّالة الذين زاروا النُوبَة والسُّودان من بعده، وشهدوا له بصدق رواياته. ولذلك تحظى المعلومات التي جاء بها عن النُوبَة والسُّودان باهتمام وتقدير الدراسين والباحثين في تاريخ السُّودان الحديث خلال تلك الفترة"( )، أي الفترة السابقة للغزو التركي المصري. وبعد وفاة بوركهارت بثلاث سنوات، قرر محمد علي باشا، والي مصر من (1805- 1848م)، غزو بلاد السُّودان، فأرسل حملتين لهذا الغرض، إحداهما بقيادة ابنه إسماعيل إلى سنَّار، والثانية بقيادة صهره محمد بك الدفتردار إلى كردفان. رافق حملة إسماعيل ثلاثة رحالة أوروبيين، تركوا خلفهم مؤلفات كان لها أثرها البالغ في التعريف ببلاد السُّودان، والتحديات التي واجهت حملة إسماعيل باشا، والنتائج التي ترتبت عليها. وكان أحد هؤلاء الرحَّالة الفرنسي فريدريك كايو (1787 -1869م) الذي سجل مشاهداته التي امتدت لثلاث سنوات، زار خلالها مملكة (مروي القديمة)، وآثار المصورات الصفراء، والنيل الأبيض، وفازغلي، وسنَّار حاضرة سلطنة الفونج. ورسم بريشته لوحات نادرة عن المناطق التي زارها، وعزز تلك الرسومات بنصوص توضيحيَّة عظيمة الفائدة، وكما تحدث عن الغطاء النباتي، والأمكنة التي مر بها، وعادات أهلها، ولغاتهم، وتقاليدهم، ودياناتهم. وبعد عودته إلى باريس عام 1823م عرض مدوناته على مجموعة من العلماء، أشادوا بمحتوياتها، وأوصوا بطبعها في أربعة مجلدات، بعنوان: "رحلة إلى مروي والنيل الأبيض وإلى سيَّوة في خمس واحات أخرى في السنوات: 1819م، 1820م، 1821م، 1822م."( ) وترجم الدكتور فضل الله إسماعيل علي هذه المجلدات إلى العربية، ونشرتها جامعة السُّودان المفتوحة (الخرطوم) عام 2012م. وصف البروفيسور قاسم عثمان نور رسومات كايو عن آثار السُّودان "بالروعة، والدقَّة، والجمال".( ) أما الرحَّالة الثاني فهو جورج وادنجتون (1793- 1869م)، الذي كان زميلاً بكليَّة ترينتي بكمبردج، ومؤرخاً كنسياً، ثم أسقفاً بمدينة درم (Durham) البريطانيَّة. أصطحب في رحلته إلى السُّودان صديقه برنارد هنبري، ورافقا سوياً حملة إسماعيل باشا إلى سنَّار، وقدما وصفاً حياً لسير الحملة والتحديات التي واجهتها، وتطرقا إلى عادات وتقاليد أهل المناطق التي مرت بها الحملة، وسجلا وصفاً مفصلاً عن المعارك التي خاضها الجيش الغازي، وكذلك إحراق إسماعيل باشا في شندي. وكتبا سجلاً مفصلاً عن الآثار التي زاراها في شمال السُّودان. وبعد عودتهما إلى إنجلترا نشرا مدوناتهم في كتاب بعنوان: "صحيفة زيارة إلى بعض أجزاء من إثيوبيا".( ) لم تُترجم رحلة وادنجتون وصديقه هنبري إلى العربية؛ لكن المؤرخ نسيم مقار كتب عنها مقالاً مطولاً بعنوان "رحلة ودانجتون في السُّودان، 1820- 1821م، قدم فيه عرضاً مميزاً عن ظروف الرحلة ودوافعها الرئيسة، وأهميتها التاريخيَّة والعلمية، وسير حملة إسماعيل باشا وموقف الشايقيَّة منها، وشخصيَّة إسماعيل باشا، وقصة حرقه في شندي.( ) والرحَّالة الثالث هو الأمريكي جورج انجلش (1787- 1828م)، الذي تخرج من جامعة هارفرد عام 1807م، والتحق بعدة وظائف في الولايات المتحدة الأمريكية؛ لكنه لم يستطع الاستمرار فيها، وكان آخرها في القوات البحريَّة الأمريكية. وفي إحدى رحلاته البحريَّة إلى الإسكندرية، استقال انجلش من منصبه، واعتنق الإسلام، ثم التحق بجيش محمد علي باشا، الذي عينه قائداً لقوات المشاة في حملة ابنه إسماعيل باشا إلى سنَّار. وقدَّم وصفاً حياً للحملة والمعارك التي خاضتها، وبعد سقوط سنَّار، استقال من منصب وعاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نشر مذكراته في كتاب بعنوان: "رواية عن الحملة من دنقلا إلى سنَّار"، عام 1822م. ( )
أما بالنسبة لمصر وشبه الجزيرة العربيَّة فقد سبق إدوارد روبيل القبطان الدنماركي، فردريك لوفيج نوردن (Frederik Ludvig Norden)، الذي زار مصر عام 1737م، وأبحر في نهر النيل جنوباً إلى منطقة الدُر، وكتب كتاباً عن مشاهداته وملاحظاته في مصر ونهر النيل، نشره عام 1755م باللغة الدنماركية( )، ثم تُرجم النصّ الدنماركي إلى اللغتين الألمانيَّة والإنجليزيَّة لاحقاً. ويأتي بعده، المكتشف الألماني كرستن نيبور (Carsten Niebuhr)، الذي عمل في خدمة الحملة العربيَّة الملكيَّة الدنماركية، وزار الجزيرة العربية، وبلدان أخرى في الشرق الأوسط (1761 -1767م). وقد حظي كتابه عن الجزيرة العربيَّة ( ) باهتمام إدوارد روبيل، الذي رجع إليه في أكثر من موضع في رحلاته عن ساحل الحجاز.
يقودنا هذا العرض إلى أن هناك العديد من الرحَّالة الأوروبيين الذين زاروا السُّودان، ومصر، والجزيرة العربية قبل الرحَّالة الألماني إدوارد روبيل، وسجَّلوا مشاهداتهم وملاحظاتهم عن الطرق التي سلكوها، والأمكنة التي زاروها، والشعوب التي وقفوا على عاداتها وتقاليدها، وأديانها، وسبل كسب عيشها، ومخلفاتها الأثرية. لكن بعضهم تناول هذه القضايا وفقاً لمنطلقاته الثقافيَّة ونظرته الدينية- الاستعلائيَّة تجاه الآخر؛ لذلك كانت مدونات بعضهم، كما يرى روبيل، قد كُتبت "بلا ضمير، ليس فقط لخداعهم الجمهور عن طريق تكرار الأوصاف المعروفة منذ وقت طويل، ولكن أيضاً في تمرير جزء كبير من الوقائع غير المتجانسة التي لها اهتمام أحادي الجانب وعابر، وتحويل أعمال علميَّة محددة كي تصبح مواد تشبه الرواية للقراءة، وهي عادة ما تكون رؤى محددة معروفة منذ زمن طويل إلى حد ما."( ) ويبدو أن هذا كان واحداً من الأسباب التي شكلت انتقائية روبيل في الاستئناس بمدونات الرحَّالة الذين سبقوه في زيارة بلاد النُوبَة، وكردفان، والبتراء العربية. ولذلك نجده قد عوَّل على بوركهارت، وتعامل مع كايو ودانجتون بحذر، لا ينفي أن هؤلاء الثلاثة قد وثقوا مشاهداتهم وملاحظاتهم، والمرويات التي نقلت إليهم بمهنيَّة وموضوعيَّة تحسب لهم. ولتجاوز إخفاقات الرحَّالة الذين وصفهم بعدم النزاهة العلمية، يقول روبيل: "لتجنب هذه التجاوزات المختلفة، وضعت نصب عيني على النقطة الرئيسة، أثناء تعاملي مع المواد، وهي تقديم عدد قليل من الصفحات للجمهور. ولتجنب أي رسالة يُظن منها مصلحة مؤقتة وشخصية؛ ولتسهيل استخدام ملاحظاتي بصفة عامة، فإنّي لا أقدم كتاب رحلات يومية، وانما أضع جميع ملاحظاتي مجتمعة، التي كانت لي في أزمنة مختلفة، فيما يخص نفس المكان والمناسبة؛ ودون إغراق نفسي بالتفاصيل، أقدم حكمي النهائي المتواضع بأقل إيجاز ممكن."( ) وفي ضوء هذه الإشراقات يبقي سؤال جوهري، ما الأهمية التاريخيَّة والعلميَّة لرحلات إدوارد روبيل ؟

الأهمية التاريخيَّة والعلميَّة لرحلات إدوارد روبيل
تتبلور الأهميَّة التاريخيَّة والعلميَّة لرحلات إدوارد روبيل في النقاط الآتية:
أولاً: اعتقد أنَّ الدكتور خالد محمد فرح قد أفلح في اختيار كتاب إدوارد روبيل بأن يُترجم إلى اللغة العربية؛ لأن الكتاب لم يحظ باهتمام الباحثين في مجال الدراسات السُّودانية، والدليل على ذلك أن المؤرخ المصري نسيم مقار قد أصدر كتاباً بعنوان "الرحَّالة الأجانب في السُّودان، 1730 – 1851م"، لم يتطرق فيه إطلاقاً إلى الرحَّالة الألماني إدوارد روبيل. ويبدو أنَّ مقاراً قد تأثر في ذلك بما كتبه عالم المصريات البريطاني، السير بدج (1857- 1934م) عام 1907م، عن "السُّودان المصري"، حيث خصص في مجلده الأول فصلاً كاملاً (ص: 1-63) عن "الرحَّالة وعلماء الآثار في النُوبَة والسُّودان المصري"( )؛ إلا أنه لم يتناول فيه رحلات روبيل. وأخيراً جاء كتاب البروفيسور قاسم عثمان نور عن "السُّودان في كتب الرحَّالة والمؤرخون"، عام 2013م، دون أدنى إشارة إلى رحلات روبيل وأهميتها العلميَّة لتاريخ السُّودان الحديث. وفوق هذا وذاك، أنَّ روبيل كان أول رحالة أوروبي يزور كردفان، ويكتب عن واقعها السياسي والاجتماعي في بدايات العهد التركي المصري في السُّودان؛ ولذلك يعتبر كتابه سابقاً لكتاب الرحَّالة الألماني، ألفريد أدموند بريم، الموسوم بـ "رحلة دارفور، 1847- 1852م"، والذي ترجمه النور عثمان أبكر إلى اللغة العربية، وأصدرت دار مدارك بالخرطوم للطباعة والنشر طبعته الأولى عام 2010م.

ثانياً: قد أعدَّ الدكتور إدوارد روبيل نفسه إعداداً جيداً من الناحيتين المعرفيَّة والميدانيَّة قبل أن يشرع في تنفيذ رحلات إلى بلاد النُوبَة وكردفان، والبتراء العربية، والدليل على ذلك قوله "تشكلت لدي فكرة القيام برحلة طويلة في شمال شرق إفريقيا، وللتحضير وفقاً لذلك عدتُ عام 1818 إلى أوروبا. وفي طريقي إلى موطني مررت بجنوة، حيث حالفني الحظ، وتعرفت شخصياً على البارون فون زاك؛ أبلغته بخططي المستقبلية، لم يشجعني هذا الرجل ...، بل قدَّم ليَّ عرضاً بتدريسي علوم الفلك العمليَّة المفيدة للمسافر، مما استوجب بقائي بعض الوقت في جواره. ... [كما اخترت] ... جامعة بافيا؛ لتنمية معارف أكثر في تاريخ العلوم الطبيعية، والعلوم المرتبطة بها. لقد احتجت لعدة سنوات للحصول على ما احتاجه من معارف ضرورية، ولشراء كل ما يلزمني من معدات متعلقة بمخطط سفري." وإلى جانب هذا الإعداد الأكاديمي والاستعداد الميداني، يبدو أن المؤلف قد أطلع على منشورات من سبقوه، أمثال بوركهارت، وكايو، وادنجتون؛ وبموجب ذلك قد وضع خطةً علميَّةً رصينةً، أسهمت لاحقاً في إصدار كتابه المرجعي، متعدد المشارب المعرفيَّة في تاريخ وجغرافيا وانثروبولوجيا وآثار المناطق التي زارها (1822- 1827م)، فضلاً عن فرضيته القاضية بأن العمارة المرويَّة القديمة قد تأثرت بفن العمارة الهنديَّة. ولا عجب في أنَّ هذه الفرضية تفتح المجال لعصفٍ ذهنيٍ أوسع، كما أنها تحتاج إلى تحقق مهني من علماء الآثار المعاصرين.

ثالثاً: ترجع أهمية رحلات روبيل إلى أنها اتسمت بالدقَّة والموضوعيَّة والمهنيَّة العالية في توثيقها للمواقع الأثريَّة وتعزيزها برسومات توضيحيَّة، ومن الشواهد في ذلك وصفه الدقيق لآثار جزيرة "تُمْبُسْ "في الطرف الجنوبي من شلال حَنِّكْ. على الضفة الشرقيَّة لنهر النيل هناك كتل صخريَّة ضخمة من الغرانيت المائل لونه للحُمرة، وبينهما هناك تمثال ضخم مصنوع بشكل جيد، وهو أيضاً من الغرانيت. وهو معمول بشكل كامل على الطراز المصري. القدم اليسرى هي، كالعادة إلى الأمام؛ الرأس والوجه مشوهان. اليدان مشدودتان إلى قضبان أسطوانيَّة قصيرة تستريح على الوركين. يحيط عورته بمئزر مخطط؛ أما أساور اليدين، وقلائد الرقبة، فهي بمثابة الزينة. طول التمثال بالكامل هو اثنا عشر قدماً. على كتلة صخور قريبة من الغرانيت، حفر نقش هيروغليفي طويل بحروف صغيرة."

رابعاً: إنني لا أدعي معرفةَّ في اللغة الألمانيَّة؛ لكنني أثمِّن النصّ العربي المترجم، لرحلات إدوارد روبيل، من واقع أنه قد كُتب بلغةٍ سلسةٍ، وأسلوبٍ عربيٍ مبينٍ، ومستوفٍ للقواعد المرعيَّة في اللغة العربيَّة، وحسب مبلغ علمي أنَّ ذلك يرجع إلى براعة المترجمين، الأستاذة فادية فضَّة، التي تعمل في مجال الهجرة واللاجئين بألمانيا، ولديها خبرة واسعة في مجال الترجمة والتأليف؛ والدكتور النطاسي حامد فضل الله، صاحب المواهب المتفردة في مجال الترجمة، والتأليف، والقصة القصيرة. كما يُحمد للمترجمين الجهد القيم الذي بذلاه في إعداد الحواشي التوضيحيَّة والفذلكات التعريفيَّة التي لامست في أهميتها هامات المتون.

خامساً: تقدم هذه الترجمة، لكتاب الدكتور إدوارد روبيل، إضافة نوعيَّة للمكتبة العربية؛ وذلك لما تكتنزه من معلومات مهمة عن مصر، وشمال السُّودان، وكردفان، وشبه جزيرة سيناء، وحوض خليج العقبة، والحجاز، والحبشة. وبذلك تسجل فتحاً جديداً للباحثين العرب؛ ليعيدوا النظر في قراءاتهم لبعض السرديات التاريخيَّة في ضوء النصوص المترجمة؛ لأن صيرورة كتابة التاريخ تكمن في اكتشاف المعلومات الجديدة، والمناهج البحثيَّة الفاعلة في تعديل النتائج التي تمخضت عن أبحاث السابقين. وفضلاً عن ذلك، فإنَّ رحلات روبيل تتناول مرحلة تاريخية مفصلية، شهدت انهيار الدولة السعوديَّة الأولى (1744- 1818م)، وإحكام المصريين قبضتهم على نجد وسواحل الحجاز، كما شهدت بدايات الغزو التركي المصري للسَّودان الذي أحدث قطيعةً مع تراث أهل البلاد الوسيط، ومهد الطريق لميلاد حقبة جديدة.

سادساً: وفي الختام تبقي لي كلمة أخيرة، مفادها الشكر والتقدير إلى الذين رشحوني لقراءة هذه النصّ البديع في نسخته النهائية قبل الطبع؛ والتهنئة الصادقة إلى الدكتور خالد محمد فرح على انتخاب هذا النصّ الجدير بالقراءة والترجمة إلى العربية؛ والثناء والعرفان إلى المترجمين الأستاذة فادية فضَّة، والدكتور حامد فضل الله، على عنايتهما الفائقة والمهنيَّة المتميزة في إخراج النصّ المترجم بصورة جيَّدة ورائعة بين يدي القارئ الكريم، وعلى ربطهما لمتون النصّ بحواشٍ اضافيةٍ ومفيدةٍ للقارئين والباحثين. وبناءً على ذلك، آمل أن تفتح هذه الترجمة الباب لبقية أدبيات الرحَّالة الألمان وغيرهم عن السُّودان؛ لتحظى بترجمات عربيَّة حاذقة، تخرجها إلى دائرة الضوء.

أحمد إبراهيم أبوشوك
الدوحة، 21 أكتوبر 2018م


انظر:
Edward W. Said, Orientalism, New York: Pantheon Books, 1978.
تُرجم الكتاب للغة العربية: إدوار سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربيَّة للشرق (ترجمة محمد عناني)، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2006م.
لمزيد من التفصيل انظر:
S. Hillelson “David Reubeni: An Early Visitor to Sennar”, Sudan Notes and Records, Vol. 16, No. 1 (1933), pp. 55-66; Hillelson, “Reubeni's Journey Author”, Sudan Notes and Records, Vol. 18, No. 1 (1935), pp. 153-154; S. Hillelson, “David Reubeni's Route in Africa”, The Jewish Quarterly Review, New Series, Vol. 28, No. 3 (Jan., 1938), pp. 289-291.
لمزيد من التفصيل انظر:
A. Z. Aešcoly, "David Reubeni in the Light of History”, The Jewish Quarterly Review, New Series, Vol. 28, No. 1 (Jul., 1937), pp. 1-45; A. Z. Aešcoly, “David Reubeni's Route in Africa: Abyssinia or Sudan?”, The Jewish Quarterly Review, New Series, Vol. 30, No. 2 (Oct., 1939), pp. 217-219.
لمزيد من التفصيل انظر الترجمة الإنجليزيَّة لكتاب بونسيه:
Monfieur Poncet, A Voyage to Ethiopia, Made in the Years 1698, 1699, and 1700, Describing Particularly that Famous Empire; as also the Kingdoms of Donogla, Sennar , Part of Egypt, with the Natural History of those Parts, Faithfully translated from the French Original, London: W. Lewis, 1709, pp. 20-21.
لمزيد من التفصيل انظر:
James Bruce, Travels to Discover the Source of the Nile, In the Years 1768, 1769, 1770, 1771, 1772 and 1773, 5 Volumes, London: G.G.J. and J. Robinson, 1790.
لمزيد من التفصيل انظر:
John Lewis Burckhardt, Travels in Nubia, London: J. Murray, 1819.
نسيم مقار، الرحَّالة الأجانب في السُّودان، 1730-1851م، القاهرة: مركز الدراسات السُّودانية، 1995م، ص 39.
لمزيد من التفصيل انظر:
Frederic Cailliaud, Voyage a Meroe, au Fleuve Blanc au-dela de Fazoql, dans le midi du royaume de Sennar, a Syouah, et dans cinq autres oasis: fait dans les annees 1819, 1820, 1821 et 1822. T. 3, 4 vols., Paris, 1827.
قاسم عثمان نور، السُّودان في كتب الرحَّالة والمؤرخين، الخرطوم: مركز قاسم لخدمات المكتبات، 2013م، ص113.
لمزيد من التفصيل انظر:
George Waddington and the Rev. Barnard Hanbury, Journal of a Visit to Some Parts of Ethiopia, London: John Murray, 1822.
نسيم مقار، "رحلة وادنجتون في السُّودان، 1820- 1821م، كتابات سودانية، كتاب غير دوري، يصدر عن مركز الدراسات السُّودانية، القاهرة، العدد 5، أغسطس 1994م، ص 78-98.
لمزيد من التفصيل انظر:
George Bethune English, A Narrative of the Expedition to Dongola and Sennaar, Under the Command of His Excellence Ismael Pasha, Undertaken by order of His Highness Mehemmed Ali Pasha, Viceroy of Egypt, London: John Murray, 1822.
لمزيد من التفصيل انظر:
Frederic Louis Norden, Voyage d'Egypte et de Nubie, Copenhagen, 1755.
لمزيد من التفصيل انظر:
Carsten Niebuhr, Beschreibung von Arabien: aus eigenen beobachtungen und im Lande, Gedruckt in der Hofbuchdruckerey bey Nicolaus Möller, 1772.
إدوارد روبيل، رحلات، شمال السودان وكُردُفان، و جزيرة سيناء وساحل الحجاز، خاصة من منظور جغرافي ــ إحصائي، فرانكفورت ام ماين، إصدار فريدريش ويلمانز، 1829.
المصدر نفسه
انظر:
E. A. W. Budge, The Egyptian Sudan, its History and Monuments, vol. 1, London: Paul, 1907.
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

ترجمة رحلات روبيل في السودان

مشاركة بواسطة حسن موسى »



صدور الترجمة العربية لرحلات الألماني روبيل في السودان ومصر والحجاز قريبا
ترجمة: حامد فضل الله وفادية فضة
مُراجعة: خالد محمد فرح
هذا الكتاب الذي يسرُّنا أن نضعَ بين أيدي قراء العربية أولَّ ترجمةٍ له إلى هذه اللغة ، يُمكنُ ترجمة عنوانه الذي هو في لغته الأصلية:
Reisen in Nubien. Kordofan und dem peträischen Arabien, mit Kupfern und Karten
حرفياً هكذا: " أسفارٌ في بلاد النوبة ، وكُردُفان والبتراء العربية: خاصة من منظور جغرافي – إحصائي ". ولكننا آثرنا التصرُّف والترخُّص في ترجمة هذا العنوان ، فعمدنا إلى شرح مدلوله ، وإبراز حقيقة المقصود منه ، من دون إخلال بالمعنى الذي هدف إليه المؤلف في تقديرنا. وقد كان هدفنا من ذلك ، هو أن ننقل مضمون ما قصد إليه المؤلف بمصطلحات معاصرة ، وأكثر سيرورة ، وأسهل إدراكاً بالنسبة لذهن القارئ غير المتخصص في الوقت الراهن.
ولذلك فقد عمدنا إلى تعديل العنوان الأصلي ، لكي يكون عنوان الترجمة الحالية هو: " رحلات في شمال السودان ، وكُردُفان ، وجزيرة سيناء ، وساحل الحجاز ". ذلك بأنَّ جميع تلك المناطق كما هي معروفة حالياً ، وكما ظلت تُعرف أيضاً منذ زمان بعيد ، هي بالضبط ، ذات المناطق التي ساحَ فيها مؤلف هذا الكتاب ، الألماني الجنسية ، الدكتور إدوارد روبيل ، بين عامي 1822 و1826م ، وألَّف عنها كتابه المعنيِّ.
فمصطلح " البتراء العربية " الجغرافي الذي استخدمه المؤلف في عنوان هذا الكتاب على سبيل المثال ، قد يبدو عسيراً على الفهم والإدراك بالنسبة للقارئ المعاصر ، إن لم يكن مضللاً له بالكلية. فقد لاحظنا أنه يستخدمه لكي يدلل به على المنطقة التي تشمل شبه جزيرة سيناء وحوض خليج العقبة والمنطقة المحيطة به ، بما في ذلك الساحل الشرقي لذلك الخليج ، امتداداً إلى ساحل الحجاز الشمالي. والحق هو أن مصطلح البتراء هذا هو من مخلفات الفكر الجغرافي الروماني القديم ، الذي كان يقسم الجزيرة العربية إلى ثلاث مناطق أو أحزمة جغرافية هي من الشمال إلى الجنوب: بلاد العرب الصخرية أو Arabia Petra ، وبلاد العرب الصحراوية أو Arabia Deserta ، وبلاد العرب السعيدة أو Arabia Felix التي هي اليمن. وقد كانت سياحة المؤلف في الواقع بعيدة جدا عن جميع تلك المناطق الثلاث ، مما حتم علينا تعديل العنوان هي هذه الجزئية.
أما مؤلف هذا الكتاب الذي نحن بصدده ، فهو الدكتور فيلهلم بيتر إدوارد سيمون روبيل Eduard Rüppell . وهو رجل ألماني الجنسية ، كان عالماً بالتاريخ الطبيعي ، ورحالةً ، ومُستكشِفاً. وُلد الدكتور روبيل بتاريخ 20 نوفمبر 1794م بمدينة فرانكفورت ، وتُوفي بتاريخ 10 ديسمبر 1884م.وقد نشأ في أسرة ميسورة الحال ، إذ كان والده يعمل في مجال المصارف.
كان روبيل مُغرماً بالسفر والسياحة والاستكشاف منذ مطلع شبابه ، مما دفعه للسفر إلى مصر في عام 1817م. وقد كانت تلك هي أول رحلة يقوم بها إلى إفريقيا بدون هدف علمي محدد ، إلاَّ أنه قام بعد ذلك بين عامي 1822 و1827م ، بجولة استكشافية كبيرة ، وعبر رقعة جغرافية واسعة ، قادته إلى أرض النوبة بشمال السودان ، وكُردُفان عبر صحراء بيُّوضة ، حيث زار كُلاً من بارا والأُبيِّض وقد كانت يومئذٍ تحت حكم محمد بك الدفتردار صهر محمد علي باشا ، عشية الغزو التركي المصري للسودان ، ثم اتجه شرقاً وعبر النيل الأبيض مروراً ببلدة ود شَلعِي ، ومنها عبر أرض الجزيرة إلى ود مدني. ثم اخترق أرض البُطانة واتجه شمالاً إلى الدَّامَر ، ومنها إلى مصر عبر شمال السودان مجددا. وانطلاقاً من القاهرة ، رافق روبل قوافل الحجيج المصري إلى جزيرة سيناء ، وهبط معها بمحاذاة الساحل الشرقي لخليج العقبة ، ثم سار بموازاة ساحل الحجاز الشمالي ، إلى أن وصل إلى مدينة جِدَّة.
وقد دوَّن روبل ملاحظات دقيقة للغاية حول كل ما شاهده خلال سياحته تلك ، وإن شئنا الدقة فلنقل إنه دون ملاحظات حول كل ما استوقفه وشد انتباهه بصفة خاصة. كما أنه رسم مجموعة من الصور والأشكال والخرائط ، التي نشرها أيضاً ملحقةً بنص مدوناته عن وقائع رحلته المذكورة.
إن سياحة الألماني روبيل في تلك الأقطار المتباينة ، والتي تشمل شمال السودان ، وكردفان ، ومصر ، وشبه جزيرة سيناء ، وحوض خليج العقبة ، والحجاز والحبشة ، وتأليفه عنها كتابه هذا بالتالي ، تجئ في الواقع في سياق صحوة ملحوظة أو انتفاضة ، انتابت الدوائر العلمية ، والتجارية ، والسياسية ، والعسكرية ، والدينية التبشيرية الأوروبية ، خصوصاً منذ أواخر القرن السابع عشر الميلادي ، وبصفة أخص خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، حدت بتلك الدوائر إلى الانطلاق نحو مختلف أصقاع العالم ، من أجل استكشافها ، والوقوف على أحوالها ، من مختلف الجوانب والأبعاد ، وذلك استجابة لجملة من الدوافع والأهداف الخاصة والعامة ، والفردية منها والجماعية ، التي تهم أولئك الأفراد ، أو تلك الدوائر المذكورة آنفا.
وبوسعنا أن نذكر من بين تلك الرحلات الاستكشافية التي سبقت تاريخياً رحلة روبيل التي نحن بصددها الآن ، وعلى سبيل التمثيل فقط ، وخصوصاً مما له علاقة بالسودان ، وجواره الإقليمي العربي والإفريقي ، رحلات كل من: القس البافاري ثيودور كرُمب Theodoro Krump ، الذي زار سنار في عام 1701م وألف كتاباً عن وقائع رحلته تلك ، والتي ترجمها مؤخرا إلى العربية لحسن الحظ ، السفير الدكتور أحمد المعتصم الشيخ ، ونأمل أن نرى هذه الترجمة منشورة قريبا ، والقُبطان والمستكشف الدنماركي " فردريك لودفيج نوردن " Frederik Ludvig Norden الذي أبحر في عباب نهر النيل في كل من مصر والسودان في عامي 1737 و1738م ، وألف كتاباً في ذلك صدر في عام 1755م ، والمستكشف الدنماركي أيضاً كارستن نيبور Karsten Niebuhr الذي قام بسياحة واسعة في أقطار الجزيرة العربية بين عامي 1761 و1767م ، والاسكتلندي جيمس بروس James Bruce الذي قام برحلة من أجل اكتشاف منابع النيل في عام 1772م ، قادته إلى كل من الحبشة وسنار وشمال السودان ومصر ، والانجليزي جورج براون George Brown الذي زار دار فور انطلاقاً من مصر وشمال السودان عبر درب الأربعين في عام 1793م ، والسويسري جون لويس بوركهارت الذي قام بجولة شملت مصر وشمال السودان حتى سنار ، وجزيرة سيناء ، والحجاز وبلاد الشام بين عامي 1813 و1817م ، ثم الفرنسي فريدريك كايُو الذي صحب حملة إسماعيل باشا لغزو السودان في عام 1820م ، وألف عنها كتابه الشهير " رحلة إلى مروي " أوVoyage à Méroé ، وتلاه مباشرة الفرنسي أيضاً لينان دو بلفون ، الذي كان أول مستكشف أوروبي يزور معلم " المصورات " الأثري المروي الشهير في عام 1822م. هذا ، إلى جانب مستكشفين ورحالة آخرين ، لايتسع المجال لذكرهم جميعا.
وللحقيقة فإنَّ مُراجع هذه الترجمة ، كان قد سمع لأول مرة باسم الرحالة الألماني إدوارد روبيل وكتابه هذا ، عندما وقع على إشارة في معرض مطالعته قبل بضعة أعوام ، في رسالة ماجستير في علم الآثار بعنوان: " المصورات الصفراء من منظور علم الآثار البيئي " ، من إعداد الدكتورة " الآن " رشا حسن العطا ، مفادها أن إدوارد روبيل قد ذكر في كتابه الذي أوردت الباحثة عنوانه كاملاً بلغته الألمانية الأصلية ، في الهامش بأسفل الصفحة المعنية ، أنه كان يود زيارة معلم المصورات ، ولكنه لم يتمكن من ذلك.
ولما لاحظ المُراجع أنَّ تاريخ صدور كتاب روبيل هو في عام 1829م وهو تاريخ متقدم نسبياً ، مما يجعله أول أوروبي معاصر ومعروف يزور كردفان وعاصمتها الأبيض ، فقد حفزه ذلك على السعي بكل ما أُوتي من عزم على الاستعانة بمن عسى أن يستطيع ترجمة هذا السفر المهم من الألمانية إلى العربية تعميماً للفائدة.
وهكذا اهتدى المُراجع إلى التواصل مع صديقه الطبيب الاستشاري والمثقف والكاتب السوداني المقيم بالمانيا منذ بضعة عقود ، الدكتور حامد فضل الله ، وعرض عليه القيام بهذا المهمة ، فوافق على النهوض بها مشكوراً ، فأنجز هذا العمل بكل همة واقتدار بالاشتراك مع السيدة الفلسطينية الفاضلة المقيدمة بدورها في المانيا ، الأستاذة " فادية فضَّة ".
ولعل مساهمة الدكتور حامد فضل الله الأساسية في ترجمة هذا العمل من الألمانية ، تفتح الباب أمام المثقفين السودانيين الذين يجيدون هذه اللغة ، فيبادروا إلى ترجمة مثل هذه المصنفات بل الكنوز المكتوبة بهذه اللغة إلى اللغة العربية ، من أجل تعظيم الاستفادة مما فيها لسائر الباحثين والطلاب ، وذلك على غرار ما صنع مثلاً ، الشاعر الراحل الأستاذ النور عثمان أبَّكر ، الذي صدرت له قبل وفاته ، ترجمة كتاب الرحالة الألماني " بريم " 1847 – 1855 عن السودان ، عن دار " مدارك " بالخرطوم.
هذا ، وقد اقتصر دور المُراجع على مراجعة اللغة والصياغة ، وضبط أسماء الأعلام ، والمواضع الجغرافية ، فاجتهد في هذا الخصوص ما وسعه ذلك ، بالرجوع – بطبيعة الحال – إلى المصادر والمراجع ذات الصلة ، وخصوصاً ما كان منها متعلقاً بتاريخ تلك الفترة مما هو متوفر لديه ، وكذلك عن طريق الاستعانة بالخبراء والمختصين والعارفين من بعض أبناء المناطق المعنيَّة.
إلى جانب ذلك ، فإننا قد عمدنا إلى إدخال جملة من الاضاءات على المتن ، متى ما رأينا ذلك لازماً وضروريا ، وجعلناها في عبارات مقتضبة بين أقواس في سياق النص نفسه. كما حرصنا على ألآَّ تبدو تلك الإضاءات مخلَّة بتداعي السرد ، أو مُشوِّشة على القارئ بقدر الإمكان. وفي نفس الوقت ، تركنا الهوامش الاعتيادية ، التي تميل إلى التفصيل والشرح بإسهاب ، في أماكنها بأسفل الصفحات ، كما هو معتاد في إخراج الكتب وتنسيقها.
كذلك عمدنا إلى ترك بعض أسماء الأعلام والمواضع الجغرافية كما رسمها المؤلف نفسه بالحروف اللاتينية على الطريقة الألمانية بالطبع ، إلى جانب تعريبنا لها بصورة قطعية غالباً ، أو تقريبية افتراضية أحياناً ، تدل عليها علامات الاستفهام التي أمامها متى ما وجدت ، إذ عسى أن يتمكن القارئ من فك شفرتها ، فيقرأها على النحو الصحيح ، الذي ربما شق على الكاتب نفسه نطقه وبالتالي رسمه بطريقة أقرب إلى الأصل.
وأما عن الدوافع والأسباب التي حدت بنا إلى ترجمة كتاب رحلة روبيل هذا إلى اللغة العربية ، فلأنَّه – بحسب ما نعلم – لم يُترجم قط حتى إلى اللغة الإنجليزية ناهيك عن العربية. وذلك رغم أهميته البالغة في بابه ، وثرائه الواضح ، واشتماله على جملة هائلة من المعلومات والبيانات والإحصاءات الجغرافية والتاريخية والمناخية والصحية والطبيعية والاقتصادية والثقافية والآثارية والأنثربولوجية، التي تتعلق بالمناطق التي ساح فيها روبيل وبسكانها ، والتي يعنينا منها على وجه التحديد ، وبصفة أخص: سودان أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر.
والملاحظ بصفة عامة ، أن سائر المؤلفات ذات الصلة ، التي سبقت كتاب روبيل هذا في الظهور ، والتي أشرنا إلى البعض منها هاهنا ، كثيراً ما يُستشهد بها كمراجع يرجع إليها الباحثون والطلاب في سائر مجالات العلوم الإنسانية التي ذكرناها آنفا ، ولكنهم نادراً ما يشيرون إلي شئ مما أورده روبيل في سفره هذا. وربما كان السبب في ذلك ، هو أنه مكتوب باللغة الألمانية ، التي هي لغة محدودة الانتشار في منطقتنا ، مما مثل حاجزاً أساسياً حال دون الاستفادة مما في هذا السِّفر طوال هذه السنوات. وذلك لعمري ، هو واحد من الأسباب التي حدت بنا لتعريبه.
ولعل من غريب ما يجدر بنا ذكره بهذه المناسبة ، أن البريطاني ريتشارد هِلْ Richard Hill ، مؤلف كتاب: معجم تراجم أعلام السودان ، أو A Biographical Dictionary of the Sudan الصادر في طبعتين أولاهما في عام 1951 والأخرى في عام 1967م ، والذي صدرت منه مؤخرا ترجمة إلى العربية بقلم الأستاذ سيف الدين عبد الحميد ، لم يترجم لإدوارد روبيل هذا من بين من ترجم لهم من سائر صنوف الكُتاب والرحالة الأجانب الذين زاروا السودان، وألفوا كتباً عنه السودان منذ أقدم العصور وحتى عام 1948م ، إلاَّ في طبعته الأخيرة الصادرة في عام 1967م ، وذلك على الرغم من أن السير هارولد مكمايكل ، الذي هو أحد أوثق مصادر هِل ، قد ذكر في كتابه: " تاريخ العرب في السودان " أو A History of the Arabs in the Sudan ، الرحالة روبيل هذا بالإسم ، وأشار إلى أنه قد قابل " الحاج منعم " زعيم حَمَر في كردفان في حوالي سنة 1824 أو 1825م.
هذا ، وإن كان لنا ما يمكن أن نُشير أو ننوِّه إليها من مميزات بعينها ، أو وقفات خاصة مع كتاب الألماني روبيل هذا ، من حيث المحتوى ، مما يجعله جديراً بإقبال الطلاب والباحثين عليه ، فضلاً عن عامة القراء والمهتمين ، هو أنه قد احتوى على قدر هائل من المعلومات عن السودان وغيره من المناطق الأخرى التي زارها هذا المستكشف ، الأمر الذي من شأنه أن يروق ويستهوي علماء وطلاب التاريخ والجغرافيا والآثار والإناسة والفولكلور وغيرها.
ذلك بأن المؤلف مثلاً ، قد عقد أكثر من فصل للحديث عن آثار السودان ، ووصفها وصفاً تفصيلياً دقيقاً ، من لدن حلفا شمالاً ، وحتى البجراوية جنوبا وما وراءها ، ونشر صوراً وأشكالاً ومخططات لبعض مكوناتها ومعالمها في كتابه ، وفي ذلك تتمثل أهمية ما لاحظ وكتب ورسم ، ولو من باب معرفة وضع الحالة التي كانت عليها تلك الآثار ومحتوياتها في تلك الحقبة التاريخية ، بما يُمكِّن من الدرس والبحث والمقارنة بما دونه معاصروه ، أو من أتوا بعده من الرحالة والمستكشفين الآخرين ، وبما حدث لها لاحقا. وبهذه المناسبة ، فقد أوضح روبيل أن الفرنسي كايُو الأذيع صيتاً منه بكل تأكيد ، قد أخذ أشياء منه ولم يشر إليها على حد زعمه.
ولعل مما تفرد به هذا الرجل وسبق إليه ، أنه ربما كان أول من أطلق فرضية احتمال أن يكون المعمار في مملكة مروي ، قد تأثر بفن العمارة الهندية ، أو لعله من أوائل من قالوا بذلك على أقل تقدير.
وبالمقابل ، يقدم المؤلف كذلك ، وصفاً حيوياً وأخَّاذاً لمدينة جِدَّة ، ذلك الميناء الشهير بساحل الحجاز في خواتيم الربع الأول من القرن التاسع عشر ، وحركة الحجاج والمسافرين والتجار بها ، كما يقدم أيضاً ، وصفاً دقيقاً للخصائص الجغرافية والطبيعية والسكانية والاقتصادية لشبه جزيرة سيناء ، ومنطقة شرق خليج العقبة ، ومجمل ساحل الحجاز الشمالي خلال نفس الفترة.
أما فيما يتعلق بشخصية روبيل كما يُستشف من خلال أسلوبه ولغته ، فنستطيع أن نقول أن روبيل قد بدا شخصاً بسيطاً ومتواضعاً ومهذباً بصفة عامة ، وأنه قد انتهج تبعاً لذلك أسلوباً بسيطاً ، ولغة سهلة ومباشرة. وقد ظهر بصفة عامة كشخص لا يميل إلى التهويل والمبالغة ، أو تعمد إيراد الغرائب والأعاجيب. كما أنه بدا خصوصاً غير مفرط في إبراز مثالب الآخر غير الأوروبي على نحو ما درج على ذلك بعض من سبقوه وبعض من أتوا من بعده من المستكشفين والرحالة ، الذين كانوا يعمدون إلى تكريس وترويج صور نمطية معينة عن الآخر ، تكون سالبة في معظمها ، وأن لم يخلُ كتابه من ذلك بصورة مطلقة. على أنه بدا في كثير من الأحيان ، منصفاً على الأقل ، إن لم يكن متعاطفاً مع الأخر تماما في بعض الأحيان.
هذا ، ومن المؤمل أن ترى هذه الترجمة النور خلال الأشهر القليلة القادمة بإذن الله ، صادرةً عن دار " المصورات " بالخرطوم. والله وليُّ التوفيق ،،،،،،
أضف رد جديد