في عُشب الأب

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

في عُشب الأب

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

بعد أن أدمعتني، هدهدتني، غرست شراعاً في قلبي، ولوَّحت لعقلي بأكثر من منارةٍ، كتابة الأحضان الرقراقة هذه، جئت إلى إنشاء هذه الخيط، بكتابة موسومة بالشرايين والأوردة عن الأقربين؛ كما سأنشىء بضعة خيوط حفيَّة أخرى، متوازية في المحتويات ومتعالقة في الفكرة: "في عشب الأم"، "في عشب الأخ" على سبيل المثال فحسب.




تَمَرُّدُ الأشواق: ذكرى قبل سنوية لمؤسس أول مكتبة بالجزيرة أبَا


عمر محمد صالح ذو النون




"منك كل حِتَّة في الخاطر صبابة"
محجوب شريف



(1)

إن تناولتَ أيَّاً من الكتب بمكتبته المنزلية، تصفحته، بلا شك سوف يلفت نظرك عدد الجمل التي قد وضع تحتها خطوطاً من قلمه. ربما هي عادة بذاك الجيل من القُرَّاء، لكنها لاحقاً قد أفادت أمثالي ممن يعرضون الكتب بهذه الملفات الثفافية أيما فائدة... ومخجلٌ جدَّاً أن أقول له شكراً أو ما شالكها لفظاً، هذا الذي كلما طالعتُ وجهه يخالجني الشعور بالتقزم الشخصي. والتواصل اللطيف مكثف من جموع زملاء الدراسة وما بعدها، لنا ومعنا في قضاء فترات الأعياد والإجازات. حدث وأن (أخونا البرة جانا) ألفين وسبعة، تعددت الأحداث، تشابكت المواقف، تطوَّرت أوجه التواصل، لكن ظلَّ الناس هم الناس. وفي إحدى بوستات الفيسبوك، نشرتُ صورةً لأبناء جيراننا وميسرة، بكري بقاري، محمد بابكر ومأمون التلب، يتوسطهم والدي الراحل محمد صالح إبراهيم ذو النون، كانت رائعة وتظل، التقطها أخي ياسر محمد صالح. قلت في قرارة نفسي: "هؤلاء المتمردين حالياً، حقَّ لهم الاحتفاء، إذ يُدركون سرَّاً، بأنهم في حضرة المتمرد الأكبر"؛ (حقيقة، هم رهط متجاوز، لكل ما هو مقدس مجتمعياً).
مرَّت الأعياد وأحداثٌ تَلَت، ثم زارنا التشكيلي خالد حامد وهو في طريقه من كردفان إلى الخرطوم، بدعوة هاتفية من عزيزي محمد "سابل"، جاء وحدث وأن كان حريصاً على تصوير الرجل في الهيئة البسيطة، لسبب يقدّره هو، أمرٌ لَفَت نظري حينها. ثم بالعيد اللاحق (أضحية) ذهبنا ثلة نوعية، على رأسها عبد الله محمد طيب (أبسفة)، والذي كانت آخر زيارته لكوستي في عام 1978، حتى أتت هذه 2016، وفي طريق العودة بعد أيام لطيفة، كان كل حديثه بضرورة التوثيق لحياة هذا الرجل، وقال لي بالحرف: "إنت أقرب زول لأداء هذه المهمة، إن كان ذلك بالتسجيل الصوتي أو الكتابة، وحتى أن احتجت لتشجيع ومعاونة، أنا سوف آتي معك". فقلت له، بعد التقدير لاهتمامه،: "أنا لم أفكر بالأمر، لأنه موضوعة لها معايشين كثر أكثر عمقاً، فمثلاً حدث وأن التقيت بالشاعر شابو في دار عزة للنشر، قال لي: (أنا لازم أكتب عن هذا الرجل. فهي لحظات مميزة، لن تذهب طي النسيان، أن تأتي من الكوة وحوالي الدويم، لرجل في قلب قلعة الطائفية، لتجتمع به في وقت عصيب، شرطه المغادرة قبل خروج مصلي صلاة الصبح، تجتمع به وتسلمه المناشير). لذلك تركت الأمر لأصحاب المعايشة الرهيبة، بتقدير أن للرجل مآثر يعلمها الأفذاذ، ثم بَهَتَني، أبسفة بأنه في الوقت الحالي نحن برضو مفروض نكتب عن شابو، الذي كتب وحانت الكتابة عنه (أدركت حينها حجم هوة التوثيق بمجتمعنا، وخصلة الاتكاء). تحدثنا حديثنا ومضينا، ربما انغمسنا في رهق اليومي. ثم بعد أسبوعين فقط، بلغنا خبر أن الرجل تعثَّر وحدثت له كسورٌ جسيمة. ثم اجتهادات علاجية، تم احتواء الأزمة واستمرت المداواة. ثم عزف حينها والدنا عن تناول الطعام رغم كل الاجتهادات، وحضور رفيق دربه التاريخي (ميسرة الكبير)، فقد أصر على عزوفه بشكل حادّ في وجه وسيطنا، صديقه، خالنا. بعدها قال لي ابنه الأكبر، شقيقي، الأقرب لقراءته: (أبوي قرر أن يموت واختار الوفاة)، بعدها طفقت أتأمل، هل يمكن للفرد أن يرقد بسلام، ويختار المغادرة، إن لم يخالجه شعور بالاكتفاء من معاقرة مشاربها الحياة، هل أنجز المبتغى؟!

(2)

ثمانينات القرن السابق، هي فترة غنية على مستوى حياتنا كأفراد حوالي الصبا، يميزها عنفوان حالتك العمرية والبيئة التي أنت متفاعل داخلها. البيت على انفتاحه، تداخل الجيران، المعارف ثم قاطنيه الذين هم أهل، أخوة واخوات، قرايب من مناطق مجاورة، يطلبون العلم، كادحي الوظائف والصنعة، مجتمع أقرب لاكتساب تعريف الواقع، يجتذب انتباهك وتركيزك بتلقائية غير غافلة.
صينية الغداء بفناء الدار، يؤمها جمعٌ متواصلٌ له لغةٌ من التواضع والاحترام، وأشياء سوف يترجمها وعيُكَ لاحقاً؛ الراديو بعد عالم الرياضة، تنتقل موجته إلى إذاعة أخرى هي صوت الحركة الشعبية، جيش حركة تحرير السودان. ينتابك تشتتٌ ما، إذ أنك بالمساجد تستمع إلى إشادات بسلوك النظام، ضد نفس أناس هذا الصوت الإذاعي (كنا نرتاد المساجد لأداء معظم الصلوات، بل حتى أننا جزء من حلقات دراسية هناك يقدمها أساتذة لنا بالمدارس في واقع مختلف ومودة تجنيدية) خلالها بالشوارع والبيوت، نلتقي على خفيف بأخوة يكبروننا*، يدرسون بالجامعات، يتحدثون معنا عن هذه المواظبة الدرسمسجدية بسخرية غير مؤذية (كانت جرعات) فاعلة، أتت أكلها بعد أقل من ثلاثة أعوام. وقد دعم ذلك شيء من حوارات ومجادلات بين أساتذتنا بالمتوسطة#. وعودة إلى الحال الأسري، عادة ما يزورنا بعض الأقارب والأصدقاء على مستوى كبار العائلة، يثيرون ذكريات، يخوضون نقاشات، وفي ذات الحين تعرج ذاكرتك إلى المتوافر بمكتبة المنزل، أصناف الكتب المتداولة بين أيدي قاطنيه. وهي حقبة غرة، تشكيلية، مترعة بتداخل الأخيلة ومحكات الواقع، زمن في موازاته كنا متوافرين على ارتياد دور السينما والحفلات العامة والخاصة، خلال بقية الأنشطة العمرية (علي أن أُذكِّر بأن مكتبة محمد صالح ذو النون بالجزيرة أبا هي النواة الرئيسية لمكتبة كوستي الوطنية)، ربما في قمتها تبدأ بالانتباه لقيمة وكنه والدك.. كان من محير الأمور حينها أنه يكتب خطاباً إلى إدارة المدرسة، ثم، دون تردد، يتم عفوك من كل الرسوم بكامل الترحيب (أنا وعزيزي ود الحاج)، حتى في ذات مرة انتبه، محمد منصور للأمر وقال لي: (انت أوعى تكون قلت ليهم عم ذو النون تعيش انت؟). ومنها انتبهت لإدهاش الكتابة.

(3)

في الوقت المزاجي بهدءة الليل يزوره صفاء الفضفضة. يبدأ بتسريب شيء من ذكريات نشأته، بل وكيفية انتقاله من الإقليم البعيد دارفور حوالي الجنينة، في شبه قافلة مرتحلة، وفق ذاك الوصف، إذ هو طفل مُنتَزع من خؤلته والأم، لصالح البقاء فى صدر الوالد "الذي يبدو أنه كبير قومه، حسب التلميحات"، واختار له والدة، ربما مرضعة من أقاربه بالرحلة، حتى تحتضنه. ليكون المستقر، بنهاية المطاف، بالنيل الأبيض نواحي منطقة الشوال في مجاورة لابن السيد المهدي "عبد الرحمن"، ولن نعلم بوضوح، لماذا لم يحط هذا الرهط بقلب الجزيرة أبَا، التي قد سبقهم عليها قوم من العشيرة. وبطبيعة الحال، السيرة تبث لنا متقطعة، وفق المواقف والشجن.
في صدفة ما، أو قَدَرٍ مَرسوم، اكتشف الرجل، ربما لمح حقيقة، جاذبية الحياة المدنية. التعليم وحق أن تنعم بحياة أكثر إنسانية. لكن، هنا، وفق بيعة معلومة من دستور الطائفة، أنت في ظلٍّ من الحماية، تصاحبها الخدمة والولاء لأصحاب السيادة، أولائك الذين سعيت لمجاورة بركتهم. فأنت وعيالك من التابعين، الطائعين. فيكون مصير الصبية ارتياد معسكرات زراعية، وخلاوي لتعاليم الدين وما إلى ذلك، شيء اسمه: "النظام".
وباكتشافه لإمكانية التحرر عبر التعليم العام بالمدن المجاورة، فقد اتخذ قراره، بعد مجادلات وحوار استطاع، أخذ إذن والده (الفكي). وهي قصة قد رافقت تفاصيلها أشياء من إظهار إعجازية الفقراء وأهل الدين لإثنائه عما عزم، لكن الأمر لم ينطل على صبيّ؛ قد اكتشف أفقاً لا تُقاوم جاذبيته. نجح في أمره، تحرَّرَ من تلك القبضة، وذهب أبعد. إلا أن قوة أهل "النظام" لم تقف صامتةً، بعد فراره من قبضتها، وارتفاع صوته المجاهر بمقاومة التجهيل والسخرة؛ اشتعل حنقها عليه، ثم، لاحقاً، حاولت أن تقتصَّ منه، استفادت إلى مدىً أبعد، وظَّفت الأمر لصالح سطوتها في اتخاذه نموذجاً لمن وَلَجَ سلّم التعليم، فالنتيجة عندهم، في وصف هذا الحال: أن مصافحة أية عوالم خارج جبة الكهنوت المُسَلَّم به (مدارس الكفار أنموذجاً)، تؤدي إلى نتائج ملؤها التجديف؛ يصبح الأبناء كفار ملاحدة. الأمر هكذا، لا تعوزه صياغة لغة خارج الترهيب. ثم داخل دائرة بهذه البساطة وفاعلية تأثير أهل البركة، تقرَّرَ، عرفياً، أن يُحرم من يصغرونه من التعليم أو مواصلته. أناسٌ إن قابلتهم اليوم لأدركت، من عمقِ حكمتهِم، فداحة الفقد وإضاعة فرصة التطور، التي هي حتماً ذاهبة لإحداث تغييرٍ بهم وبمجتمعهم.

(4)

لكنه النظام، ولاء السخرية.
جديرٌ بالذكر أنه، أثناء هذا التعتيم والتخويف من العِلم والتعلم، كانت الأسرة المبروكة قد أرسلت إحدى شابّاتها (أنثي وحيدة في اغتراب ببلاد الكفرة) إلى التعليم بالولايات المتحدة! أما فهي إشارة لما سمعته بأم أذني، من أمي كلتوم بت البسطجي (عطرة المرقد، لطيفة السيرة) هي قصة حكتها، وهي شقيقة رفيقه التاريخي، حدثت بوقت ووالدي لم يتزوجها بعد. قالت: [من المعتاد كطقس أن يأتي كل المحبين تجمهراً للقاء السيد في فناء السرايا بالجزيرة أبا، عند قدومه من أم درمان موسمياً؛ هو حشد فوق الطبيعي، تحفّه أجواء من الانشراح والتفاؤل في تقبل البركات. من ضمن القادمين لهذه الملمة كان جدنا وزوجاته وبناته، اللائي تتقارب أعمارهن. وكان ابنه في هذه الحاضرة (أبَا) قد ابتدء في صعود سلم الأفندية، له اسم، بيت وأصدقاء. هرولت أمي (الصبية) إلى عمها الفكي، وأخبرته أن لا جدوى من طرق باب منزل ابنه، فقد ذهب الأخير إلى الدويم (لاحظ في هذا اليوم الميمون) ليسجل لأخيه وابن اخته بمدارس ما بعد الكُتَّاب، والتي حالياً تعني الأساس. وهنا صاحت إحدى زوجات الجد: (ولدك مرق بي دربه وبقى كافر، أنا وليدي، حرمان عليه دريب جناك، الأمه غايبة، لا مدارس لا شيوعية...)! ثم تبعتها ابنة الفكي -الأخت الأكبر للأفندي- بذات الأمر حول تعليم ابنها.. وقد استجاب الفكي لرغبتيهما....

(5)

وعودة إلى ما سبق، فبعد أن أخذ الرجل موافقة الوالد في أمر مفارقة (النظام)، كجزء مهم، إلا أن الأهم هو حفظ ماء وجه الوالد أمام دستور البيعة، قال والدي: كان السبب الوحيد تحايلاً لارتياد وملامسة جغرافيا المدينة هو الذهاب إلى المستشفى في حالة حرجة. فما كان عليَّ، وأنا في وسط مهام الحواشة، مملوئاً بإحساس الظلم، إلا أن أن أضرب إصبعي الكبير بالرجل، باستخدام الطورية التي بيدي، وأنزف، وقد كان "قطع ربع الإصبع الكبير"، (حكيت ذلك قبل سنين لأسامة عباس فادمعت عيناه، وقال لي: أنت ابن رجلٍ حر..)... مما أثقل علي شيء من مسؤوليات أحاول الآن الانتباه إليها.
هي غويصة أعلم ذلك. ثم رفع قَدَمَه (والدي وهو يحكي) ليلتها ورأيت ذلك الإصبع، الفداء، الذي بسببه تحرَّرَ هو، ثم ولدنا نحن كأبناء مدينة في غاية الحداثة (كوستي) لموظف متمرِّد، له رؤية حدودها جغرافيا بذاك الزمان، الاتحاد السوفيتي أولاً، ثم العالم أجمع، وليس بلدة الشوال.

(6)

وعلى ذكر السيد وأبهة السرايا، الأتباع والمريدين، فقد افتتح والدي مكتبة قبل أن ينخرط بالسلك الوظيفي، وحدث أن بسطجي الدائرة هو الشخص المكلف بتوصيل الصحف إلى مكتب السيد، الإمام حينها. قال أبي: بعد أن انتظم أمر إرسال الصحف إلى السرايا، وهي عادة ما تكون صحيفة الأمة وعدد من الصحف المستقلة، تجرأت يوماً وحشرتُ بينها صحيفة الاتحادي والميدان. وبعد استلام الإمام للصحف، بدقائق نادى على البسطجي، مستفسراً عن من وأين وكيف تباع هذه الصحف؟
وفي بساطته، أجاب البسطجي -مع توضيح أنها مكتبة ابننا ود الفكي ذو النون- ثم أردف الكلام بأن: هل هنالك شيء سيدي؟! رد السيد بأن لا مشكلة، وأمره بالانصراف. مع العلم بأنه، لاحقاً، أصبح ود الفكي صهراً للبسطجي، الذي هو جدي، والد أمي كلتوم أبكر عبد الله، الشهيرة بـ(بت البسطجي).

(7)

وعلى لسان ابنه الأكبر، حدثني ميسرة قال: "أيام العنف الطلابي وأحداث مقتل الغالي عبد الحكم مطلع الثمانينات بالقرن المنصرم، حضر والدنا إلى الخرطوم ثم قابله اطمئناننا، بمنزل أهالينا في أمدرمان، بل هو منزل أحد ضحيتي فكرة الأثر التجديفي لارتياد المدارس، التي ذكرناها. مضت الأيام والحوارات وفي لحظة توديع، فاجأه الوالد بالسؤال "ميسرة، اشتري ليك مسدس؟".. جرت مياه كثيرة تحت الجسر، ثم يذكر ميسرة أنه في هولندا، قد تم الاحتفاء به بشدة من قبل رجل لأول مرة يقابله، وكان ذلك نتيجة معرفة الرجل لموضوع كوستي وذوالنون. ثم قال: نحن كجيل نكن لهذا الرجل عميق الاحترام، فقد خبرنا منه حق الدفاع عن الخصوصية.
تصور أن والدك هذا قد هاجم المصلين صباحاً في زاوية عباس (كوستي، النصر مربع 7)، حاملاً حربة، مهتاجاً لأن أحدهم قد سخَّر ميكرفون الدار للتشهير والتنكيل بخصوصيات الرجل.. لتعود بمسيرة الذاكرة، بما حدث زماناً، فقد تدفقت الناس، تأتي في مجموعات، تقدم اعتذاراتها للرجل وتطمئنه على سلامة حقوقه.
وكان هذا في زمان، لم تذر به منابر صلوات الأمة، جماعات الهوس والترهيب بعد. وقد صادفت هذه الفعلة، من يدرك جيدا مدى فظاظة الأذى الذي قد ينجم عن استغلال لغة الدين....

(8)

وعودة إلى مواقفه مع الأبناء، وفي سنين لم تبعد كثيراً عن الآن، كان قد أبدى عدم ارتياحه حول تشغيل صبية بالمنزل للمساعدة. لكن شقيقتي عفاف، التي تُكَثِّفُ تَفَجُّعَهَا عليه الآن، عبر الأسافير، لم تخضع لرؤيته، باعتبار انشغالها الوظيفي وضرورة ترتيب البيت.. ثم حَدَث وأن قدمت ذات يومٍ من العمل ولم تجد الفتاة.. نظرت إلى أبي بتساؤل غير مرتاح، فقال: "نعم قد صرفتها"، ولم يُسهب في حديثه. اكتفى بأن مدَّ إليها صحيفة، مفتوحة على صفحة محددة، وقد برز في موضوعها أمرٌ عن محاربة استخدام الأطفال. وعلى ما أظن أنها كانت اتفاقية سيداو.

(9)

يناير 2017، اليوم الذي يسبق ذكرى فتح/سقوط الخرطوم بيوم، وعلى طريق النيل الأبيض، كانت البصات زاحفة مكتظة بجموع أهالينا الأنصار من النيل الأبيض، متجهين شمالاً لاستقبال الإمام الصادق، العائد، توقيتاً، للاحتفاء بهذه الذكرى. كنا نعكس مسيرنا، حاسرين، علنا نحطّ في لحظةٍ، لكن الطريق كان طويلاً إلى كوستي يومها. فقد تم وأن توسد جسد والدنا الثرى، وبدأت العزاءات.
ربما هو تاريخ موفق للمغادرة، أو هكذا كانت عبقرية التزامن.




------------------------
إشارة:

سبق أن نُشر هذا النص في ملف "الممر الثقافي"، الذي يشرف على تحريره مامون التلب، عدد الجمعة 6 أكتوبر 2017.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

كتبت محمد أحمد محمود، على إثر رحيل والده:



عندما يغيب الأب

محمد أحمد محمود




(1)
يرن الجرس، تنظر للرقم، ويهجمك شعور بالانقباض، تحس على التو بأن الصوت الآتي من الطرف الآخر متغيّر ومتوتّر، ويزداد انقباضك، ثم يسقط الخبر. يحاصرك الخبر ويمسك بخناقك، وتحسّ بذلك اللسع الحاد في المآقي الذي يسبق انهمار الدمع.

ويعلو الصوت بداخلك: لا، لم يمت!
كيف يموت وأنت تحمله نابضا في ذاكرتك. هأنت تكاد تلمسه لمس اليد، يتراءى لك بجلبابه الأبيض الناصع البياض وطاقيته البيضاء التي تغطي مؤخرة رأسه ومركوبه الأبيض اللامع، لا تسمع صوتا ولكنك ترى وجها مبتسما، وجها عركته العقود ولم تنل منه إذ قاومها بسماحته وتسامحه وصبر لا قاع له.

يلسع الدمع عينيك وتحس بمرارة في الأحشاء، إلا أن يد الذاكرة الرحيمة تمتدّ لتجذبك وتضعك في حضرته. هاهو جالس على عرش الأبوة وهأنت تتقلب في أطوارك. هأنت طفل يحبو ويرفع عينيه ليرى وجها مبتسما يلتحم بالسماء. هأنت يافع تفوح منه رائحة التمرد والرغبة في اختبار العالم، وتتلفت لتجده قد أحاطك بفضاء فسيح من التفهّم والتسامح. هأنت راشد قد دخل معترك الحياة، وتتلفت لتجده سندا صديقا يعاملك وكأنك ندّه.

(2)
وذات ليلة مظلمة في بداية صيف قاسٍ تتحرّك الدبابات، وتصحو لتجد الوطن قد سُلب وعاد السجن الكبير الذي كانت قد تهاوت جدرانه قبل سنوات قلائل. ينهار عالمك وتجد نفسك ضمن الأفواج الأولى لمنفيِّي الوطن الجدد، وتصبح رقما جديدا ينضاف للقائمة الطويلة لمن وجدوا أنفسهم في المنافي منذ فجر الاستقلال بفعل الحروب الأهلية وقمع الأنظمة العسكرية وطغيانها. تجد نفسك بعيدا عن مراتع الصبا ومذاق الوطن وألوانه وأصواته، بعيدا عن الأم والأب، بعيدا عن الأخوات والأخوان، بعيدا عمن أحببت من أهل وأصدقاء. تحملهم في جوانحك، وتراهم في أحلامك وكوابيسك، ضاحكين وعابسين، فرحين ومكتئبين، شَبْعَى وجَوْعَى، مرتوين وظَمْأى، وتراهم وعيونهم تنظر بلهفة وتوق للفضاء الفسيح خلف القضبان.


(3)
هل كان أبوك وجيل أبيك من عامة المواطنين يتوقعون أن يطعنهم ذلك الخنجر وهم يكافحون من أجل الاستقلال ويحلمون بكرامة الاستقلال؟ هل خطر ببالهم أن الوطن سيُسلب مرات ويعجز ابناؤه عن العيش فيه؟ هل خطر ببالهم أن ما عجز الاستعمار عن فعله سيرتكبه بعض أبناء الوطن فيمزقونه ويقتلون مواطنيهم ويسجنونهم يعذبونهم ويشرّدونهم؟ هل خطر ببالهم أن الوطن سيدخل القرن الحادي والعشرين وهو من أفقر البلاد وأكثرها استبدادا وفسادا وأن المشروع الوطني سينتكس ليصبح مشروع عودة لأحكام وقيم القرن السابع؟

(4)
وتفكّر في أبيك وجيل أبيك. وتستوقفك الكثير من الصفات. كان التسامح صفة أصيلة من صفاته وصفات جيله، حتى صديقه الذي كانوا يصفونه بـ "الخامسي" كان رجلا معتدلا لا ينقصه شيء من التسامح. وتسأل نفسك: من أين أتى هذا التسامح؟ لم ترَ جدّك الذي مات قبل أن تولد، وعندما تسأله عنه تجد طرفا من الإجابة إذ أن أبيه كان متسامحا واسع الصدر. ولكن لعل الإجابة تلتحم أيضا التحاما وثيقا بواقع السياق الذي نما وترعرع فيه، وهو سياق سمح بالتعايش بين عناصر ثقافية مختلفة دخلت كلها في التكوين والتشكيل الثقافي للأفراد. ربما كان أبوك محظوظا لأنه هاجر لصقع آخر في الوطن ولامس عناصر ثقافية جديدة، ربما كان محظوظا لأنه هاجر من مدينة صغيرة ذات تنوّع محدود لمدينة أكبر ذات تنوّع أعظم. لا شك أن ذلك ساعد على تمديد أفقه واتساعه، إلا أن كل ذلك تفاعل مع تلك الخميرة الأساسية التي ظل يحملها داخله وهي صفة التسامح.

(5)
وتلاحظ صفة أخرى هامة في أبيك وجيله وهي الانشغال بالهمّ السياسي. لا يهتمون بما يحدث في الوطن فحسب وإنما بكل ما يحدث في العالم لأنهم يدركون ترابط الأشياء. هذا الهمّ المقيم غرسه فيهم الكفاح من أجل الاستقلال. صحيح أن الطور الأول في كفاحهم كان طور تحسّس واستكشاف للدرب انقسموا فيه لاتحاديين واستقلاليين، إلا أن الطور الثاني كان طور الطفرة الاستقلالية عندما اندمجت كل الأطياف في (الأزرق والأصفر والأخضر) ليولد الاستقلال. وبذا لم يكن جيل أبيك باستقلالييه واتحادييه جيل الاستقلال فحسب وإنما كان أيضا جيل الانقسام الحزبي (والطائفي). إلا أن حزبيتهم (وحتى طائفيتهم) حملت واحتضنت بذرة إيجابية هي بذرة شجرة الديمقراطية السودانية، وهي شجرة لا تزال حتى الآن تكابد وتبذل قُصارى جَهْدها لتوطّن جذورها وتمدّها ولتنشر غصونها باسقة وريفة تظلّ كل السودانيين.

(6)
وتقول لنفسك: صحيح أنه ذهب بعد أن تجرّع غُصّة إخفاقات ما بعد الاستقلال وبعد أن شهد المجاعات والمجازر وبعد أن شهد تراجع التسامح وانسحابه وبعد أن شهد انقسام الوطن، إلا أنه ذهب متماسكا وعاضّا بالنواجذ على استقامته وكرامته، وربما ظلّ حتى اللحظة الأخيرة يحمل جذوة جيله وأملهم بأن يصبح وطنهم "علما بين الأمم".
صورة العضو الرمزية
سيف عثمان
مشاركات: 85
اشترك في: الاثنين فبراير 08, 2010 6:53 pm

مشاركة بواسطة سيف عثمان »

[font=Arial]" الشتاء ينغّص نوم أبي
ببول منظم
يعبر ناحية سريري فتلفحني رائحة الأب
أراقبه يمشي ببطء وابريقه في يده
يعالج سرواله في الطريق
مخربشا نوم أسرته بالتنحنح
أو بورد فائض عن صلاة العشاء"

الرجال المهمون - في هذه الأحوال -
دخلوا بيتنا في غروب كئيب
يثقلون رؤوسهم بالعمائم
يرفعون أصواتهم بالتعازي المقيتة
ينهروننا ويحولون بيننا وبين البكاء مع أمّنا
كأنا سننسى أبينا بعد ساعتين من موته
يجلبون بعجلة الزيت والسكر والشاى والطحين
حتى أن غرفتك الصغيرة لم تفهم كيف أنها دكّان

النساء تباكين قليلا
وتفرغن للطهي
ربما دون نار كان لينضج بالثرثرة

ما أسرع ما يموت الرجل
قبل أن تفقأ عينه يتناولون الزلابية

.......
كتابة قديمة خطرت ببالي وأنا أقرأ هنا.أستدعيتها من الذاكرة ولست موقنا اذا كنت قد أحسنت بكتابتها هنا قبل أن أستشيرك

آخر تعديل بواسطة سيف عثمان في الخميس نوفمبر 28, 2019 12:58 pm، تم التعديل مرة واحدة.
صورة العضو الرمزية
عادل القصاص
مشاركات: 1539
اشترك في: الاثنين مايو 09, 2005 4:57 pm

مشاركة بواسطة عادل القصاص »

يا سلام يا سيف!

هذا عمل إبداعي بديع.
هذا نص شعري رائع.
هذه قصيدة خلَّابة.

لقد أمسكتْ بي.
لقد أمسكتْ بي.
أضف رد جديد