مبااااالغة يا ود سكينة، سامي الصاوي

Forum Démocratique
- Democratic Forum
أضف رد جديد
حسن موسى
مشاركات: 3621
اشترك في: الجمعة مايو 06, 2005 5:29 pm

مبااااالغة يا ود سكينة، سامي الصاوي

مشاركة بواسطة حسن موسى »







مباااالغة يا ود سكينة!



سامي الصاوي*


"Full Circle – The Sheikh, The Mermaid, The Khawaja and The Queen" (الدائرة تكتمل - الشيخ والحورية والخواجة والملكة) هو عنوان الرواية الجديدة التي كتبها بالانجليزية الصديق صلاح حسن احمد وبعث لي بمسودتها قبل النشر. سألته عن سبب الكتابة بالانجليزية بعدما كتب روايتيه السابقتين "سن الغزال" وأبو الكلام" بالعربية، فأجاب قائلا إن قراء العربية لا يقرأون. وقد تتفق مع صلاح أو تختلف لكن الحقيقة هي أن الزمن تغيّر وتغيّرت معه أساليب التلقي. ولا زلنا نذكر أن السودان - حتى بداية الثمانينات - كان بين أهم الأسواق لدى الناشرين العرب بسبب نهم القارئ السوداني للقراءة.. لكن هذا موضوع آخر ربما تناولناه في مقالة مقبلة.
قرأت " الدائرة تكتمل" مرة ومرتين وثلاثا. بعثت لصلاح (ود سكينة) برسالة علي الواتساب كما يلي: " مباااااااااالغة! فول سيركل دي بتذكرني بشغل عمر خيري. تنشحط تقيف لساعات ما عارف انت بتعاين في شنو ولا ما في شنو وانت ذاتك منو.. وين ينتهي الواقع ووين يبتدي الماجيك. جبت لي الدوخة يا ود سكينة".
نعم.. اندهشت أن بين ظهرانينا - ونحن ما زلنا في بحبوحة الاسترخاء السوداني المعروف وتعلقنا بالقديم المأمون - من يكتب بهذه الصورة غير العادية، الصادمة أحيانا والتي تأخذ المألوف المستهلَك وتطوعه وتستنطقه ليحكي العجب العجاب.

عوالم متعددة
من قرية سودانية تنام في أحضان الريف ينتظر سكانها عودة موتاهم لإنقاذهم من الفقر والعوز الى باخرة نيلية في طريقها من اسوان الى الجنوب وعلي متنها موظف بريطاني مبعوث الى السودان، لا يدري أي أهوال تنتظره في تلك المستعمرة النائية، الى قصر بهيج خلف جبل البركل حيث تنتظرك الكنداكة في قدس الاقداس بكامل ألقها وسحرها.. الى أمسية بوهيمية يقضيها الشيخ الوقور في رفقة حورية النيل.. الى سراي الحاكم العام في الخرطوم لتشرب معه نخب الاستقلال.. الى عوالم أخرى تلتقي هنا وتفترق هناك.
دخول وخروج، شخوص واحداث، حلم وحقيقة: نسيج متشابك ومتداخل ومتمحور إن لم تأخذ حذرك سيطيح بعقلك وينزعك من منطقة الأمان والاستكانة الى عوالم مذهلة داخل عوالم حيث الأشياء ليست هي الأشياء وحيث الاحتمالات مفتوحة الى الآخر.. لتنتهي - كدائرة اكتملت - حيث بدأت لا تدري اين انت وكيف انت.. بل من انت.
عمر خيري عملها في الرسم وصلاح حسن أحمد عملها في الحكي. هذا عمل متقدم جدا ويساهم في كنس الاساليب والافكار العقيمة في كتابة الرواية العربية التي لم تخرج بعد من عهود جرجي زيدان واحسان عبد القدوس والعقلية التي تعود إلى ايام امرؤ القيس وقفا نبك.


كسر طوق الرقابة
الملاحظ ان معظم الروائيين السودانيين عندما يكتبون أو يفكرون في الكتابة يفرضون على انفسهم رقابة ذاتية تلغي - في كثير من الأحيان- الحوجة لتدخل الرقيب الرسمي. وتتجلى هذه الرقابة الذاتية ليس فقط في انتقاء الكلمات والتعابير والمواقف الآمنة ولكن في كبت الإفصاح العفوي عن مشاعر الكاتب الداخلية وحرمانه من استخدام الواقع كمنهل حر للابداع بغير مهابة.
و مرد هذه الرقابة الذاتية هو بالطبع الكوابح الاجتماعية و"الاخلاقية" المستمدة من التعاليم الدينية والتي أدت عبر القرون الى الخنوع والمسكنة والتسليم وسط الناس بما في ذلك الكُتّاب. ارادة الحاكم يجب ان تطغي اذ ان الحاكم لا يعنيه من التعاليم الدينية إلا ما يساعده علي اخضاع الرعية. يضرب بيد من حديد علي كل من يجرؤ من الكُتّاب علي فضح او انتقاد السلطة الحاكمة حتي ترسخ سلطان الرقابة الذاتية في نفوس معظم الكُتّاب وصار بمثابة طبيعة ثانية لهم. ومعلوم ان الطبيعة تجنح تلقائيا نحو الأمان علي حساب المخاطرة كقاعدة بيولوجية محضة.

كيميائية فريدة
رواية " الدائرة تكتمل" ذهبت مدى ليس بالقصير في تحدي تلك القاعدة. فالكاتب خفف - بوعي او بلا وعي - من الضغط علي فرامل الرقابة الذاتية، وأعطى الضوء الأخضر لقلمه يتجول بلا حسيب او رقيب في عالم الواقع مرة وفي عالم الخيال مرة. ينسل من هنا ليعود من هناك بعفوية واسترخاء. يغوص في دهاليز التاريخ كما يراه وليس كما حكاه المؤرخون، ثم يمزج ذلك التاريخ بالحاضر في كيميائية فريدة. يحكي بلسان انجليزي ليعود للغة عربية ليست ذات عوج... واحيانا ذات عوج. يأخذ شخوصا من الواقع ليلبسهم زي الخرافة والعكس صحيح.


واقع سحري
استطاع المؤلف ليس فقط ان يلغي الرقابة الذاتية في هذا العمل بل ان يسخر الواقع نفسه (الذي يهابه معظم الروائيين) ليخلق منه واقعاً سحرياً تصدقه اذا تعاملت معه كواقع، وتصدقه اذا تعاملت معه كسحر وتستمتع به اذا تعاملت معه كواقعية سحرية. الخيار لك. اما الكاتب فقد قال قولته راسماً لنا لوحة متكاملة ومتداخلة ومتحركة دوماً بين الخيال والواقع بحيث لا تعرف تماماً متي ينتهي هو ليبدأ الحلم ومستوعباً تفاصيله مهما بدت عجائبية. لا يهم ان كانت الاحداث تتوافق مع التاريخ ام لا. ولا يهم ان كانت الشخصيات تتصرف وفق نواميس المألوف. ولا يهم ان كانت اللغة تنصاع للائحة اخلاقية ام لا. واختيار المؤلف للكتابة باللغة الإنجليزية كان اختيارا موفقا، فقد اعطي بعد الملهاة للشخصيات الانجليزيه وطرافة للشخصيات السودانية.
" الدائرة تكتمل" رؤى تحولت الى كلمات وكأنما الكاتب رآها اولا كشريط سينمائي وقرر ان يحوله الى رواية مكتوبة. أستطيع أن أقول - والامر كذلك - إن بالإمكان ارجاعها الى أصلها السينمائي بدون كبير عناء. هذه رواية سيتوقف عندها الكثيرون، وربما تكون علامة فارقة في تطور الرواية السودانية.




===========



* سامي الصاوي من طلائع صنّاع السينما السودانية الذين سعوا إلى إعادة تشكيل المجتمع عبر النهوض بالفيلم من مجرد التسلية إلى التربية الفكرية والتوثيق البصري. وبسبب استحالة التعامل مع المؤسسة التي تعتبر السينما سلعة تكميلية وليست أداة أساسية لنهوض المجتمع وتقدمه، هجر العدسة (مؤقتا) الى القلم ويعمل حاليا في تأليف كتاب توثيقي عن شخصيات وأحداث أم درمانية فريدة.

أضف رد جديد