header
مقالات، دراسات، بحوث
Articles, Etudes et Recherches | Essays, Research
 

نزعة المركزة الأوربية والتدوين التاريخي للحضارة السودانية

"التحول من رؤية مصروية - أبيضية متوسطية الى رؤية سودانوية"

د. أسامة عبدالرحمن النور

(3)

التركيب الريزنري

إذا حاولنا تحديد الاتجاهات الأساسية في دراسة تاريخ السودان القديم، التى سادت في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، أي في الفترة التى أخذت في الظهور فيها أولى التقارير الكاملة عن الأعمال الميدانية الجارية في منطقة السودان القديم، فإنه من الممكن ملاحظة تيارين مع مراعاة الأخذ بعين الحسبان كافة التذبذبات. ينظر التيار الأول الى تاريخ مملكة مروي بوصفه إعادة احياء منحطة للحضارة المصرية التى اقتبسها السودانيون والزنوج، غير القادرين على المحافظة على رقيها بسبب دونيتهم العرقية. ويرتبط هذا التيار الى حد كبير بالعلماء الألمان. ويرتبط التيار الثاني أكثر بالمؤرخين وعلماء الآثار الإنجليز، والأمريكيين، والى حد ما الفرنسيين. منطلقين من الوقائع، المتوصل إليها بمساعدة المصادر الوثائقية والمادية، فإنهم يلتزمون طرحاً براجماتياً للأحداث دون محاولة الوصول الى استنتاجات معممة، ويركزون على تدقيق الكرونولوجيا، والصلات الأسرية، والمسميات الجغرافية وما الى ذلك، وهو بدون شك أمر مطلوب ومفيد لكنه لا يمثل الهدف النهائي للبحث التاريخي. لكن علينا أن نذكر أن الالتزام بذلك المبدأ لم يكن بصورة مطلقة، ذلك أنه يمكن تلمس روح النزعة العنصرية في بعض الحالات هنا وهناك(). كثيراً ما يقود التحليل الموضوعي النقدي الصارم الى استنتاجات مفيدة. أثبت هذا التيار أنه الأكثر خصوبة. مع ذلك تقابلنا أعمال، تكون فيها استنتاجات المؤلفين بشأن الطابع العام لحضارة السودان القديم وتطورها مرتبطة ببعض الملاحظات الصحيحة. يتجلى ذلك بوضوح أكثر لدى ريزنر عندما يعمم نتائج اكتشافاته في كرمة وفي جبانات الملوك السودانيين، والتى حاول عن طريقها إعادة تركيب تاريخ السودان القديم في عصر الدولة الوسطى والمرحلة الانتقالية الثانية، وفي عصر مملكتي نبتة ومروي.

الصرحان الضخمان من الطوب غير المحروق في كرمة الذين أشار إليهما لبسيوس (1) والمسميان بالاسم المحلي "الدفوفة"، ويعني مفردها "دفي" في لغة المحس قرية محصنة، صار الأكبر منهما يعرف بـ "الدفوفة السفلى" وفي حالات بـ "الدفوفة الغربية" وهو الأقرب الى مدينة كرمة الحالية والى النهر. المبنى الثاني الأصغر يعرف باسم "الدفوفة العليا" أو بـ "الدفوفة الشرقية" يتوسط مدافن جبانة تبعد 3.5 كيلو متر عن النيل.

شأنه شأن كل الزوار الى المنطقة، لفتت الدفوفة السفلى نظر ريزنر بمجرد وصوله الى كرمة النُزل، ووصفها بأنها عبارة عن مبنى ضخم بقمة مسطحة مع جانبين يكادان أن يكونا عموديين، والمبنى في حالة تآكل بفعل العوامل الجوية، لكنه لازال يرتفع ليبلغ 19.3 متراً. محاطاً بأكوام من الأنقاض، يبدو المبنى في هيئة منصة مستطيلة تقطع عتبات سلالم كتلتها الى الأعلى. قياسات المبنى تبلغ 52.3 x 26.7 متراً في قاعدته. ولاحظ ريزنر أن الجدران تمت تقويتها في مستويات مختلفة باستخدام عوارض خشبية وضعت أفقياً في البناء من الآجر وهى، في اعتقاده، سمة مميزة لمثل هذا النوع من المباني المصرية الضخمة من الآجر في تحصينات الجندل الثاني، مع اعترافه بأن هذا النوع من المباني يختلف عن أي بناء معروف في مصر نفسها. دفع وجود بينة دالة على استخدام تقنيات البناء المصرية بـ ريزنر الى طرح افتراض بأن الدفوفة شيدت عن طريق مصريين. وقد زادت قناعته بفرضيته تلك نتيجة ما عثر عليه فى الأنقاض. فقد عثر في الأطلال القريبة من الدفوفة السفلى على أجزاء من جرار مصرية مصنوعة من الخزف والحجر، حمل بعضها أسماء فراعنة مصريين من فراعنة الدولة القديمة. ولاحظ أيضاً ذات الأجزاء من التماثيل الحجرية التى شاهدها لبسيوس. أرخ تلك بالأسرتين الثانية عشر والثالثة عشر. في واجهة الدفوفة الغربية، كشف ريزنر عن كوم مؤلف من مئات بقايا سدادات جرة وأختام من الطين، والتى أمنت خيوط ربطت في السابق الصناديق الخشبية. وبفضل أسلوبها والأسماء الملكية المحفوظة عليها تمكن ريزنر من تحديد انتمائيتها الى ملوك الهكسوس في شمال مصر (الأسرتين الخامسة عشر والسادسة عشر، حوالي 1668- 1570 ق.م.). يبدو أن السدادات والأختام تشير الى أن الناس هنا استوردوا سلعاً من الهكسوس. وتدلل طبقات من الرماد والفحم، وآثار حريق على الجدران وأخشاب محروقة لازالت تظهر في الطوب، أن الدفوفة والمنطقة المحيطة تم تدميرها بفعل حريق بعد فترة ليست بالطويلة في أعقاب وصول تلك السلع. تكهن ريزنر بالتالي بأن الموقع كان مركزاً تجارياً مصرياً قصياً في السودان وأن الدفوفة كانت قلعة مصرية صغيرة. كل ذلك تم تدميره، في اعتقاده، بفعل هجوم سوداني منسق في عهد الهكسوس (2).

على بعد ما يزيد قليلاً عن الثلاث كيلو مترات الى الشرق من موقع المدينة قامت جبانة قديمة صخمة. هنا، في حافة الصحراء، علَمت آلاف التلال المنخفضة الدائرية أو دوائر حجارة سوداء مواقع مدافن تكاد تصل الى الأفق. حتى قبل أن يبدأ في التنقيب، استطاع ريزنر أن يلاحظ اختلافات معتبرة في الأجزاء المختلفة من الجبانة. تجمعت المقابر الصغيرة في الطرف الشمالي؛ وفي الجزء الأوسط قامت مدافن كبيرة محاطة بمجموعة من المقابر الصغيرة؛ وفي الطرف الجنوبي، سادت المدافن الكبيرة. العديد من تلك المدافن الكبيرة بلغ قطر الواحدة منها ثلاثون متراً، وبلغ قطر أربعة منها حوالي المائة متر للمدفن. وسط تلك الجبانة الضخمة قامت الدفوفة العليا، المبنى الضخم الثاني في المدينة من الطوب غير المحروق، والذى وسمه ريزنر بـ "ك-2". وأماطت مجسات لاحقة اللثام عن أطلال لمبنى ثالث مشابه تآكل بفعل العوامل الجوية، ووسمه ريزنر بـ "ك 11". افترض ريزنر أن هذين المبنين كانا بمثابة معابد جنائزية شيدت لخدمة الاحتياجات الطقوسية للأفراد المهمين المقبورين في المدافن الأكبر.

في الكثير من السمات، ذكرت مدافن كرمة ريزنر بمقابر المجموعة الثالثة التى سبق له التنقيب فيها في الأطراف الشمالية للسودان القديم (أي ما يعرف حالياً بالنوبة السفلى). بعضها احتوى على نماذج متفرفة لما رأى فيه ريزنر نوعاً من فخار المجموعة الثالثة، بمخططاته المحفورة المملوءة بدهان أبيض، لكن حجم المدافن، ومرفقاتها الجنائزية الثرية، وعادات الدفن غير العادية كانت مختلفة تمام الاختلاف عما رآه من قبل، وكانت مختلفة كلياً عن تلك الموجودة في مصر.

دفن أهل كرمة موتاهم بطريقة جد مختلفة عما كان لدى المصريين. وضع الموتى في قبور حفرت في رمال الصحراء، وحفظت أجسادهم لا بفعل تحنيط وإنما بالجفاف الطبيعي. كانت أجساد الموتى وهم يرتدون أفضل ملابسهم، في وضع مقرفص على أحد جانبيه وكأنهم نيام، على جلود أبقار أو على عناقريب (مراقد) خشبية. ترافقهم ودائع من الجرار الفخارية للأكل والشرب، وقطع من اللحم، وممتلكاتهم الشخصية. خلافاً للمصريين لم يكتف أهل كرمة بأن يقبروا معهم نماذج حيوانات وخدم. كثيراً ما يرقد بجانب الميت قربان حيوان أو أكثر، بل واحتوت العديد من المقابر على قرابين بشرية. المدافن الأكبر التى تنتمي بوضوح لحكام محليين، ضمت أجساد عشرات أو في حالات مئات القرابين من النساء والأطفال والرجال بأسلحتهم. بعد الدفن تملأ الحفر بالرمال وتغطى بتلال كبيرة غير مرتفعة بحصى الصحراء.

ورغم أن المدافن والعادات الجنائزية في كرمة اختلفت اختلافاً بيناً عن تلك المعروفة في مصر، فإن المدافن الكبيرة في الجزء الجنوبي للجبانة احتوت على ثروة من السلع الترفية المصرية، بما في ذلك تماثيل مصرية. كذلك يبدو أن بعض عناصرها المعمارية وزخرفها مستقاة، فيما يبدو، من مصر، وكشفت أجزاء توابيت مصرية، قليلة للغاية، على الأقل عن أن القليل من الناس قبروا طبقاً للعادات المصرية الى حد ما. وتظهر عتبة باب اقيم في بوابة ك-2 (الدفوفة العليا) نحت قرص شمس مجنح، وهو رمز معتاد لإله الشمس المصري. وأطلق ريزنر على هذه الجزء الجنوبي للجبانة اسم "الجبانة المصرية" لاعتقاده بأن التماثيل المصرية التى تم الكشف عنها في المدافن الكبيرة كانت تماثيل للمقبورين فيها، رغم أن العادات الجنائزية التى تظهر فيها لم تك مطلقاً مصرية الطابع. أهمية خاصة بالنسبة لريزنر مثلتها مسلة مكسورة عثر عليها في الأنقاض بالقرب من ك-2، وهى مسلة تسجل ايصال استلام وقعه مسئول مصري باسم أنتف لعدد 35 ألف طوبة غير محروقة لبناء قصر يسمى "أسوار أمنمحات" في العام الثالث والثلاثين من حكم الفرعون أمنمحات الثالث (حوالي 1809 ق.م.). افترض ريزنر مباشرة أن هذه الوثيقة تسجل الاسم القديم لمدينة كرمة.

مدفن كرمة الأكبر حجماً والأكثر اتقاناً، ك-3، احتوى على تمثال مشظى لـ حب دجفا، وهو مسئول مصري مرموق في الفترة المبكرة للأسرة الثانية عشر، وتمثال أكبر حجماً لزوجته، سنوي. الشخصيتان معروفتان أصلاً من النقوش التى وجدت في مدفن فارغ شيد لهما في أسيوط بمصر (3). وبعد أن أقنع نفسه بأن كرمة كانت مركزاً تجارياً مصرياً محصناً، "أسوار أمنمحات" في السودان، استخلص رايزنر بأن حب دجفا، تاركاً مدفنه المصري غير مستخدم انتقل الى كرمة وتولى أمر المكان. وطرح ريزنر نظرية تقول أن حب دجفا بعد أن أشرف على تشييد الدفوفة السفلى، توفي في كرمة ودفن في ك-3 طبقاً للعادات السودانية مع حاشية قرابين من خدمه السودانيين وحريمه (4). كان التمثال الكبير لزوجته وهى في وضع جلوس وسط أجساد القرابين، بحالة جيدة. إن هذا التمثال واحد من أروع تماثيل المملكة الوسطى التى تم الكشف عنها ويوجد حالياً بمتحف بوسطن للفنون الجميلة.

العديد من الموضوعات التى اكتشفت في المدافن تم التعرف عليها بوصفها مصرية؛ أخرى لا نظائر مصرية لها. مراقد الدفن (العناقريب)، على سبيل المثال، كانت منحوتة وموصولة مثلها مثل تلك التى تم الكشف عنها في مصر، لكن معظمها زين بأشكال حيوانية وبطريقة غير معروفة في مصر. وأعجب ريزنر بصورة خاصة بفخار كرمة المصقول بجزئه الأعلى الأسود، والذى لا يشبه أي فخار نظير له. مع ذلك، فإن ريزنر بالنظر الى هذه المجاميع الهجينة استنتج بأن مبدعي هذه الحضارة كانوا مصريين، وهم الذين حفزوا الحرف السودانية ودفعوا بها الى الارتقاء الى مستويات غير مشهودة من الابداع (5).

طالما أن المسئول المصري حب دجفا معروف بأنه عاش في عهد سنوسرت الأول (حوالي 1971- 1928 ق.م.)، فإن ريزنر نسب المدفن ك-3 لتلك الفترة مقترحاً أن هذا المدفن، الأكثر ثراءً وسط المجموعة، كان هو الأقدم. كذلك افترض أن اسم أمنمحات في تسمية "أسوار أمنمحات" لا بدَّ وأن يكون والد سنوسرت، أمنمحات الأول (حوالي 1991- 1962 ق.م.). الجرار التى تحمل أسماء ملوك من الأسرة السادسة (2400- 2250 ق.م.) تشير، في رأي ريزنر، الى احتمال وجود جيب مصري هنا معاصر لتجار مصريين مثل حرخوف.

نسبة لنقصان حجم المدفن والثروة وعددية الموضوعات المصرية من الجنوب الى الشمال في الجبانة، اعتقد ريزنر بأن المصريين هجروا بالتدريج الموقع بعد الدولة الوسطى وسلموا السلطة لحكام سودانيين، وهؤلاء الأخيرين هم الذين قبروا في المدافن الشمالية. من وجهة نظر ريزنر، كانت المدافن الكبيرة في الطرف الجنوبي للجبانة هى الأقدم وهى ابداع للعبقرية المصرية؛ أما المدافن الأصغر والأشد فقراً في الطرف الشمالي للجبانة فهى اللاحقة وهى نتاج انحطاط سوداني مزعوم ومجرد صورة باهتة للمجد السابق (6). رغم قدراته الفائقة عالماً للآثار، فإن تحيزات القرن التاسع عشر الثقافية ونزعة المركزة المصرويولوجية، المميزة للعديد من الدارسين الأمريكيين والأوربيين في أيامه، عمته تماماً من استيعاب حقيقة ما اكتشفه.

حتى قبل نشر التقرير النهائي في عام 1923، وجه المعاصرون لـ ريزنر نقداً شديداً لبعض تفسيراته. في عام 1920، ذكر هرمان يونكر، الذى كان يجري تنقيباته الخاصة في الأطراف الشمالية للسودان القديم في الفترة 1910 الى 1912، بجلاء أن مدافن كرمة سودانية أصيلة شكلاً وطقوساً وأن كل ما هو مصري فيها من مواد لا بدَّ وأن تكون مستوردة. وراى بأن المدافن تنتمي لحكام سودانيين، ونبلائهم، وأسرهم، والذين كانت لهم صلة بالأفكار، والحرف، والمنتجات المصرية. كما عبر عن وجهة نظر تقول بأن الدفوفة السفلى من غير الممكن أن تكون قلعة مصرية، ذلك لأنها صغيرة للغاية وتقع بعيداً عن أقرب نقطة حدود مصرية في سمنة بما يجعل الدفاع عنها أمراً صعباً (7).

تلقي العديد من النصوص المصرية التى يعود تاريخها للدولة الوسطى بدورها شكاً فيما يتعلق بنظريات ريزنر. تكشف تلك النصوص أن مصريي تلك الفترة نظروا بوجل لفكرة الموت والدفن في بلد أجنبي (8). فعلى سبيل المثال، سجل تاجر مصري، اسمه سابني، في مقبرته في أسوان رحلته المحفوفة بالمخاطر الى جزء قصي في السودان للعثور على جثمان والده الذى كان هو الآخر تاجراً ومات هناك. كان هدف رحلته هو تحنيط الجثمان وإعادته الى مصر ليقبر في مدفن مناسب، وهو ما سيضمن لأبيه حياة أخرى هانئة. وقد تلقى سابني، نظير عمله هذا ونظير المنتجات السودانية القيمة التى جلبها معه للقصر الملكي، مدحاً لائقاً وتكريماً من الفرعون، احتمالاً بيبي الثاني.

نسبة لغياب معلومات جديدة عن كرمة في القرون التى أعقبت الحفريات، ونظراً للسمعة المهنية العالية التى اشتهر بها ريزنر، بقيت آراؤه حول كرمة سائدة. في عام 1941 نشر سيف سودربيرج إعادة تحليل حذرة لمادة كرمة وتعرف على بينات أثبتت بطلان بعض فرضيات ريزنر الأساسية ودعمت كلياً آراء يونكر. كشفت دراسة أعمق للمدفن الكبير ك-3، الذى اعتقد ريزنر بأنه خاص بـ حب دجفا المسئول المصري في عهد الأسرة الثانية عشر، عن أجزاء من تماثيل أخرى يرجع تاريخها للأسرة الثالثة عشر وخنفسانات مقدسة وأختام من فترة الهكسوس اللاحقة. أثبت ذلك ليس فقط أن المدفن لا يخص حب دجفا ولا أي من المصريين الذين تصورهم التماثيل، بل أيضاً أن المدفن أقدم من ذلك بما لا يقل عن قرنين. بكلمات أخرى، فإن التماثيل والجرار الحجرية والخزفية التى عُثر عليها في المدفن كانت، في رأي سودربيرج، موضوعات ترفية "تحف أثرية" تم اقتناؤها من قبل صاحب المدفن (9).

وفي محاولته إعادة تركيب تاريخ مملكتي نبتة ومروى، في المقام الأول سلسلة نسب الأسرة الحاكمة أو تواريخ بعض الملوك المتفرقين، افترض ريزنر، معتمداً على سلسلة من المقدمات، والتى اتضح حالياً عدم صحتها كلياً، أن الأسرة الخامسة والعشرين كانت ليبية الأصول. بالتالي فإنه أرجع مؤسسي مملكة نبتة الى أسلاف أجانب. من الناحية الموضوعية فإن ذلك يفضي الى ذات فرضية ماسبيرو التى تقول بأن الأسرة الخامسة والعشرين تأصلت من كهنة طيبة، أي، نفي إمكانية السودانيين في أن يؤسسوا باستقلال دولة. الحق أن ريزنر ودنهام ابتعدا عن الادعاء بدونية السودانيين. ويلاحظ ريزنر أن الملوك الجالسين بعيداً الى الجنوب في عرش نبتة تمكنوا من الدخول الى مسرح السياسة الدولية. ويشير الى أن صراع الملوك السودانيين مع ملوك آشور انتهى بهزيمة السودانيين، لكنه لا يقدم الأسباب التى أدت الى الهزيمة. يكتفي ريزنر بالملاحظات البلاغية "كانت فترة امبراطورية الإثيوبيين الليبيين سريعة الزوال - فقط 80 سنة، إلا أن طابع هذه الأسرة العظيمة تطور غالباً بفضل الاخفاقات أكثر منه بفضل النجاحات". هذا "الطابع" ظل باقياً على مدى 800 عام هى عمر مملكة مروي. تتخفي في مثل هذه المعالجة المثالية الفكرة ذاتها التى عبرت عنها مواقف العلماء الألمان. هكذا، يقود التناول "الوقائعي"، المعتمد على مقدمات خاطئة، مقروناً بمنهجية مثالية، الى استنتاجات مسبقة. انتقال العاصمة جنوباً الى مروي نتج عن الوضع الاقتصادي الأفضل "لجزيرة مروي". كانت مروي إثيوبية، لا مصرية مثل نبتة، وفي النهاية تمكنت هذه المنطقة من ضم كل السودان. أهمية السودان القديم، في نظر ريزنر، تكمن في كونه كان بمثابة مركز عبور أمامي للحضارة المصرية الى أواسط أفريقيا التى تقطنها "كتلة خاملة من الأجناس السوداء". مع مرور الوقت تبدأ عملية انحطاط الحضارة المصرية، والتى يفسرها بالتمازج مع عناصر اثنية سوداء البشرة، غير قادرة على "ابداع دوافع في الفن والعلم والدين".

هائلاً كان فضل ريزنر في مجال تركيب كرونولوجيا نسبية ومطلقة لـ نبتة ومروي. المخطط الكرونولوجي الذى اقترحه لازال معترفاً به في الوقت الراهن مع ادخال بعض التعديلات الأساسية. اتضح خطأ تأكيداته بأنه على امتداد فترة محددة تزامنت أسر متوازية في العاصمتين. بالطبع فإن ريزنر بوصفه متخصصاً في علم الآثار لا مؤرخاً شدد اهتمامه على طابع الصروح المعمارية، والفن، والحضارة المادية. لكن تظل محدودة معالجته للظواهر التاريخية وتفسير أسبابها.

هوامش

 على سبيل المثال نقرأ في المقدمة التى كتبت للتقرير عن أعمال التنقيب في اريكا، "أنه لم يحدث للشعوب الزنجية أن حافظت على سيادتها لفترة طويلة في بلدان شمال أفريقيا وأنه عادة ما تكون السيادة لأعراق شمال أفريقيا البيضاء، الذين يحتلون سواحل البحر الأبيض المتوسط ويرجعون الزنوج الى موطنهم في الغابات. عندما "تنامت بالصدفة الإمبراطورية السوداء قصيرة الأجل وغير المستقرة (يقصد مملكة مروي- أسامة) ومدت حدودها حتى البحر الأبيض المتوسط، فإنها دحرت في نهاية المطاف وأبعدت في كل الاتجاهات" (انظر المراجع Randall-MacIver 1909: 2).

المراجع

(1) Lepsius, R. 1853, Discoveries in Egypt, Ethiopia, and the Peninsula of Sinai. London: Bentley, pp. 233-234. See also Reisner G.A. 1923, Excavations at Kerma, Parts 1-3. Vol. 5 of Harvard African Studies. Cambridge, Mass.: Harvard University Press, pp.14-18.

(2) Reisner G.A. 1914, ‘New Acquisitions of the Egyptian Department: A Garrison Which Held the Northern Sudan in the Hyksos Period, about 1700 B.C.’ Bulletin of the Museum of Fine Arts 12(69):9-24. id., Op.Cit. 1923, pp.21040.

(3) Reisner G.A. 1918, ‘The Tomb of Hepzefa, Nomarch of Siut’. Journal of Egyptian Archaeology 5:79-98.

(4) Reisner G.A. 1923, Excavations at Kerma, Parts 4-5. Vol. 6 of Harvard African Studies. Cambridge, Mass.: Harvard University Press, pp. 554-559.

(5) Ibid.

(6) Ibid.

(7) Junker H. 1920, Bericht uber die Grabungen der Akademie der Wissenschaften in Wien auf den Friedhofen von El-Kubanieh-Nord, 1910-1911. Vienna: Akademie der Wissenschaften in Wien, Philosophischhistorische Klasse. Denkschriften 64(3), pp. 18-26.; id. 1921 Der nubische Ursprung der sogenannten Tell el-Jahudiye Vasen. Vienna: Akademie der Wissenschaften in Wien, Philosophischhistorische Klasse. Sitzungsbericht 198(3), pp.94-105; id. 1932, "Bemerkungen zur Kerma-Kunst." Studies in Honor of F. L. Griffith. London: Egypt Exploration Society.

(8) Breasted, J. H. 1906, Ancient Records of Egypt, vol. I, Chicago: University of Chicago Press, p. 163; Lichtheim M. 1973, Ancient Egyptian Literature. Vol. 1, The Old and Middle Kingdoms. Berkeley: University of California Press, pp.229-30.

(9) Säve-Söderbergh T. 1941, Agypten und Nubien: Ein Beitrag zur Geschichte altdgyptischer Aussenpolitik. Lund: Ohlsson, pp. 103-116.

 

© جميع حقوق النشر محفوظة للجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية
TOUS DROITS RSERVS © 2005
Copyrights © 2005Sudan for all. All rights reserved

Web designers/ developers:mardisco