header

 

تمثّلات العلاقات الأسرية في أحاجي النوبا والبقارة*

دراســـة مقارنة

د. باتريسيا موسى 

 

قبل كل شيء أريد أن أعبّر عن سعادتي بهذه المناسبة التي تمكنني من تقديم البحث الذي بدأته في السودان عام 1981 لجمهور من السودانيين. والبحث هودراسة مقارنة في موضوع" تمثّلات العلاقات الاسرية من خلال أحاجي النوبا والبقارة في السودان". وقد قدمت هذا البحث للحصول على الدكتوراه في المعهد الوطني للغات الشرقية بباريس عام 1992.

ويهمني أيضا أن أقول بأني خلال الفترة بين 1981 و1992، الى جانب عملي في رسالتي، كنت أعمل بتعليم اللغة العربية في المدارس الثانوية بفرنسا. ولم تمكنني ظروف عملي كمعلمة في فرنسا منذ  عام 1992، من التفرغ لاعادة كتابة رسالتي بشكل يجعلها في متناول الجمهور العريض في اللغة الفرنسية وفي العربية.

من جهة أخرى، فقد تمكنت، منذ عام 1999، من نشر بعض الأحاجي التي جمعتها، في شكل كتب مصوّرة للأطفال في فرنسا. وذلك في دار نشر" قراندير".  كما ستصدر لي عام 2005 مختارات من أحاجي النوبا والبقارة جمعتها في كردفان عام 1981، وذلك عن دار نشر "ليكول دي لوازير" بباريس.

 وأخيراً، أرجوأن تتسامحوا مع لغتي العربية لاني منذ اقامتي الاخيرة في السودان عام 1981، لم أجد الفرصة لأتكلم بالعربية الا في مناسبات قليلة عندما أقابل بعض الاصدقاء السودانيين في أوروبا.

 

بعد هذه الملاحظات أقدم لكم بحثي من خلال أربعة نقاط هي:

أولا: أصل هذا البحث
ثانيا: التحليل المقارن كمنهج لفهم المعنى
ثالثا: نتائج هذا البحث
رابعا: أهمية المنهج المقارن لفهم تنويع المعنى ومعنى التنويع في الاحاجي.

وقبل أن أبدا في تقديم البحث أريد أن أعطيكم فكرة عن المسار الذي قادني لعمل هذا البحث.

 

1 ـ أصل هذا البحث

 لماذا تم اختياري للسودان؟

لماذا الأحاجي؟

ولماذا العلاقات الأسرية؟

لقد قضيت سنوات طفولتي بين مصر ولبنان وأفغانستان. ومن تجربة الاقامة في بلدان عربية واسلامية تكونت رغبتي في التواصل مع الناس في لغتهم وقررت أن أتعلم اللغة العربية. وفي عام 1977، في زيارة للسودان، وأنا قادمة من مصر،اكتشفت السودان لأول مرة وسحرتني طبيعة التعدد الثقافي الذي هو عربي وأفريقي في نفس الوقت.

بعد إكمال دراسة السوسيولوجيا واصلت دراسة الإثنولوجيا، وعندما كان علي اختيار موضوع بحث في الإثنولوجيا وقع اختياري على الأحاجي.

لماذا الأحاجي؟

أولاً، تم اختياري للأحاجي لطبيعتها الكونية، كما اخترتها لأنها تمكن الباحث من النظر للمجتمع من الداخل. وذلك من خلال الخطاب الرمزي الذي يعبر به المجتمع عن نفسه بنفسه كما يتخيلها.

وبالاضافة لذلك فالأحاجي تبدو لي مجال بحث مميّز، ذلك لأنها، وبطريقة غير مباشرة، تكشف عن القيم المفاتيح والمشاكل الأساسية التي يطرحها المجتمع على نفسه.

ولكل ذلك، بدا لي من الطبيعي أن اكتشافي للسودان، ومعرفتي للغة العربية، ورغبتي في تعميق معرفتي بالثقافة العربية الاسلامية من خلال خيالها الادبي، وكل ذلك دفعني لدراسة الاحاجي في السودان.

أما بالنسبة لموضوع العلاقات الأسرية فقد بدا لي صائباً باعتبار أن علاقات الأسرة، في قلب كل حياة اجتماعية، تكون دائماً في أصل الصراعات الواضحة والخفية. ومن هذا المنظور، فإن الأحاجي تحكي عن الظروف التي تنشأ فيها المشاكل والخلافات المهمة والتي يؤثر حلها على حركة المجتمع.

فالأحاجي تعالج مشاكل العلاقة بين أفراد الأسرة بطريقة غير مباشرة، من خلال شفرة رمزية تطرح معنىً معيناً. هذا المعنى المعين يكشف عن خطابين مختلفين:

ـ الخطاب الأول يخص التعبير عن نظام اجتماعي ظاهر بقواعده الضرورية لحركة المجتمع.

ـ الخطاب الثاني يكشف عن وجهات نظر ذاتية وعفوية ولا واعية، لكنها ضرورية للتوازن النفسي للشخص الذي يخضع للقواعد التي تضمن التماسك الاجتماعي.

لقد قمت باختيار دراسة العلاقات الأسرية الاكثر تمثيلاً في مجموعة نصوص الأحاجي التي جمعتها، وذلك باعتبار أن كل علاقة تساعد على فهم العلاقات الأخرى، على أساس أن العلاقات الاسرية تشكل نظاماً متكاملاً، كل علاقة فيه تأخذ معناها من موضعها بالنسبة لمجمل النظام.

 

2 ـ التحليل المقارن كمنهج لفهم المعنى

ان اختياري لمنهج المقارنة له علاقة باهتمامي بالبحث عن معنى لما تقوله لاحاجي عن المجتمع وعن العلاقات الاسرية. وفي هذا الاطار اخترت دراسة أحاجي قبيلتين سودانيتين متجاورتين هما البقارة الحوازمة والتوبا من منطقتي الدلنج وهيبان. وهذا الاختيار محكوم برغبتي في عكس الواقع الثقافي السوداني الذي يتميز بالتداخل الثقافي بين المجموعات الثقافية والعرقية المتجاورة. وبالاضافة الى لك فمن الصعب دراسة تمثلات ثقافة ما، بشكل منعزل، دون اعتبار الثقافات الاخرى التي تتعايش معها وما يتبع ذلك من تداخل ثقافي. وفي النهاية فان المواجهة بين التمثلات المختلفة لثقافتين متمايزتين تساعد على اضاءة خصوصية كل ثقافة منفردة وتمكننا من فهم أسباب هذه الاختلافات. ولذلك أعتبر أن الحجوة هي فعل ثقافي لا يمكن فهمه الا من خلال مواجهة الروايات المختلفة لنفس الحجوة واعتبار الوسط الاجتماعي الثقافي الذي تم فيه جمع الحجوة.

ومن خلال المنهج المقارن، فان بحثي يندمج في تيار منهج التحليل المقارن للأحاجي.  وهوالمنهج الذي بدأته في فرنسا، الباحثة الاثنولوجية " جانفييف كلام غريول"، وتبعها في ذلك فريق من الباحثين الفرنسيين من المتخصصين في الادب الشفاهي لغرب أفريقيا. وضمن هؤلاء الباحثين أستاذتي التي أشرفت على بحثي" البروفسيرة "كريستيان سيدو" وآخرين مثل "دنيس بولم" و"فيرونيكا غيروغ كارادي" و"ديانا راي أولمان" و"سوزي بلاتيل". وفي ما يخص بحثي فان المنهج المقارن يبدوأكثر كفاءة لمعالجة موضوع مزدوج يمكن من خلاله تطبيق المقارنة على مستويين:

ـ مستوى  باطن الثقافة المعينة

ـ ومستوى التقابل بين ثقافتين مختلفتين.

على المستوى الداخلي للثقافة المعينة فان دراسة الروايات المتنوعة لنفس الحجوة المتركزة حول علاقة أسرية بعينها وفي داخل نفس القبيلة، تكشف أن كل رواية تسمح لنا بفهم مستويات عديدة لمدلول الحجوة.  وتعدد الموضوعات الأسرية لعلاقة معينة يعطينا مؤشرات بالنسبة للمشاكل المختلفة التي تطرحها هذه العلاقة وتكشف لنا عن غنى وتعقيد العلاقة: مثلا، حسب مجموعة الاحاجي التي جمعتها عند البقارة، فان علاقة " الأم والابن" تظهر من خلال موضوعة " الزواج المحرّم" inceste، بينما علاقة "الاخ والاخت"  تظهر من خلال ستة موضوعات مختلفة، كموضوعة "الاخت الخائنة" أو "الاخت التي اختطفها الغول".

وعلى مستوى التقابل بين ثقافتين مختلفتين، فان دراسة الروايات المتنوعة للموضوعات التي تأتي من ثقافتين مختلفتين وتختص بعلاقة أسرية معينة انما تبرز خصوصية هذه العلاقة داخل كل ثقافة. وهكذا فان تحليلنا المقارن، رغم أنه يدين بالكثير لمدرسة الشكلانيين "الفورماليست" Formalistes عند "فلاديمير بروب" Vladimir PROPP، وذلك من حيث صرامة المنهج التي تعتبر ضرورية لكل بحث حول " السردية"  Narrrativité فان منهجي المقارن ينطرح ضمن منظور معاكس:

اذ بينما يتميز منهج الفورماليست بأن دراسة الروايات المتنوعة تمكّن الباحث من ابراز بنية مشتركة (Structure commune) لكل الأحاجي، فان منهجي لا يرتكز على البنية المشتركة للروايات المختلفة إلا لإبراز الاختلافات التي تميّز كل رواية، وللبحث عن مدلولات هذه الاختلافات من خلال مرجع (référence) ثابت للوسط الاجتماعي الثقافي. هذا المنهج يسمح باعتبار المكون الدلالي (Composante sémantique) للأدب الشفاهي حسب توجه أعمال "كلود ليفي شتراوس" وتحليله البنيوي للأسطورة Mythe وهو التحليل الذي يهتم باكتشاف تنويعات التفاصيل الناتجة عن وسط اثنوغرافي معين. ذلك أنه في ما وراء المعنى الظاهر، فان كل كل التفاصيل ذات معاني رمزية.

 

3 ـ نتائج هذا البحث:

هذا البحث يقوم على دراسة سبعة وثلاثين حجوة، جمعتها  لدى البقارة والنوبا.  وبالاضافة الى هذه الاحاجي استخدمت حوالي الثلاثين رواية من أحاجي المجتمع العربي الاسلامي في السودان،ومن أول نتائج هذا البحث هوأن عند كل قبيلة نلاحظ أن هناك علاقة أسرية أكثر تمثيلا من العلاقات الاخرى.  فعند النوبا مثلا هناك علاقة " الام وطفلها" بينما عند البقارة نجد العلاقة الاكثر تمثيلا هي علاقة " الاخ وأخته".

(أ) العلاقة الاكثر تمثيلاً:

الأم وطفلها عند النوبا

عند النوبا فان العلاقة الاكثر تمثيلا في مجموعة نصوص الدراسة هي علاقة " الام وطفلها"، وهي علاقة تحتل مركز الخلية الاجتماعية الصغيرة التي تمثلها الاسرة الاساسية المكونة من الاب والام وأطفالهم. وبينما لا يتم تمثيل علاقة " الام وطفلها" في أحاجي البقارة الا من خلال موضوع الزواج المحرّم  Inceste بين " الام والابن"، فان نفس العلاقة في أحاجي النوبا يتم تمثيلها من خلال أربعة مواضيع مختلفة هي:

1ـ البنت المستعادة بواسطة أمها

2 ـ البنت والأم ذات الوجهين: الأم الراشدة والأم غير الراشدة.

3 ـ الأم والابن ذو الوجهين: الإبن غير الراشد (المأكول) والابن الراشد (قاتل التنين). وهذا الأخير مصنّف، تحت الرقم 300، ضمن مصنف الأحاجي النموذجية العالمية "آرن وطومبسون"

Arne & Tompson

4 ـ الأم المتوحشة (أو المرفعين الذي لبس جلد الأم).

ومن خلال الموضوعات الثلاث الاولى تنطرح مشكلة العبور الاجباري من علاقة الدم لعلاقة المصاهرة وما يترتب عليها من انفصال بين الام وطفلها. والاحاجي تلفت النظر لضرورة الانتباه لخطر الام المتملّكة Mère posséssive  ضمن مجتمع أبوي (بطرياركي).

وبالنسبة لموضوع "الابن قاتل التنين" في الرواية النوباوية، فان من المهم ملاحظة أن انتصار الإبن البطل على الوحش ينتهي بوصول البطل إلى السلطة السياسية وليس إلى الزواج كما في الحجوة النموذجية العالمية.

أما بالنسبة للموضوع الرابع (الأم المتوحشة) فهو يرد في روايات نوباوية عديدة حيث أن الوحش يحل محل الأم الحامل ويتبنى طفلها كأم ويحل محلها كزوجة أيضاً. وفي هذا الموضوع نلاحظ قلب موتيف "جلد الحمار". وهو موتيف نجده في الأحاجي الأوروبية حيث البطلة تلبس جلد الحمار لتتجنب الزواج المحرّم مع والدها الذي يرغب في الزواج منها، بينما في الحجوة النوباوية نجد أن الحيوان يلبس جلد المرأة.

إن موضوع "الأم المتوحشة " يؤكد واقع مركز المرأة في المجتمع النوباوي. فالمرأة حتى بعد أن تثبت خصوبتها وقدرتها على الإنجاب، فهي تظل مرأة غريبة على عشيرة زوجها، وعلى صعيد الخيال الرمزي العائلي فهي تعتبر متوحشة، بل وخطرة. ما العلاقة الأكثر تمثيلاً عند البقارة فهي علاقة "الأخ والأخت".

 

علاقة "الاخ والأخت" عند البقارة:

في كل مجموعة نصوص أحاجي البحث فان علاقة الأخ وأخته هي التي تنتج أكثر الموضوعات تنوّعا. ويمكن تفسير هذا بأنه في المجتمع العربي المسلم في السودان ـ كما في المجتمعات العربية المسلمة عموما ـ فان العلاقة بين الأخ والأخت تتميز بمسلك عاطفي تطبعه المبالغة، ويتنوع بين الحنان المفرط للعنف الذي قد يبلغ حد القتل. ويتم ذلك غالبا خلال وسط تقليدي يعتبر "شرف البنت" قيمة أساسية.

وهكذا، فإن علاقة "الأخ وأخته" تنتج ستة موضوعات مختلفة هي:

1 ـ الأخت التي خطفها الغول

2 ـ الأخ الممسوخ حيواناً (وهي حجوة أوروبية نموذجية)

3 ـ الأخت "بلا يدين" ( وهي رواية سودانية عربية مقابلة للحجوة الأوروبية النموذجية رقم 706 )

4 ـ  الأخت الخائنة (وهي رواية سودانية عربية مقابلة للحجوة الأوروبية النموذجية رقم  315 ورقم 590 )

5 ـ  الأخ المربوط على ظهر الوحش

6 ـ  العلاقة المحرمة بين الأخ والأخت.

هذه الموضوعات المختلة تؤكد على ضرورة أن يتولى الأخ تنظيم زواج الأخت. ولكنها تعكس أيضا غموض هذه العلاقة.  لأنه في سياق الأحاجي غالبا ما ينوجد الأخ وأخته في حالة عزلة تجعل من الصعب على أي منهما أن يتوجه نحو علاقة مصاهرة خارجية.

 

وثاني نتائج هذا البحث تتعلق باختلاف الموقف من العلاقة المحرمة  عند البقارة وعند النوبا.

(ب) اختلاف الموقف من العلاقة المحرمة عند البقارة وعند النوبا:

بينما نجد أن موضوع العلاقة المحرّمة في أحاجي النوبا ليس ممثلا الا بالنسبة لعلاقة "الاب وبنته"، ففي أحاجي البقارة يجد موضوع العلاقة المحرّمة تمثيله في علاقة "الأم وابنها" وفي علاقة "الأخ وأخته".  وفي هذه الحالات الثلاث فان موضوع العلاقة المحرّمة يشهد عن علاقة إشكالية تتميز باستثمار عاطفي مبالغ فيه.

عند البقارة يمكن فهم الاستثمار العاطفي المفرط للأم تجاه ابنها على أساس عزلتها الاجتماعية، بالنسبة لزوجها وبالنسبة لأسرة زوجها، فابنها هو رأسمالها.

أما الاستثمار العاطفي المفرط للأخ تجاه أخته، عند البقارة، فيمكن تفسيره بالدور الاجتماعي للأخ ضمن المجتمع العربي المسلم الذي يوكل للأخ مهمة حماية عذرية أخته.

وعند النوبا يمكن فهم الاستثمار العاطفي المفرط من طرف الأب تجاه بنته كنوع من الاستحواذ الأبوي في إطار نظام الزواج عند النوبا. وهو نظام يربط بين زيجة الأب وزيجة البنت لأن الأب يستفيد من مهر بنته لإكمال" مؤخر صداق" زواجه هو.  وهذا الوضع يجعل الأب يهتم بمصير زيجة بنته كما لو كانت تخصه شخصيا.

وثالث نتائج هذا البحث تخص

(ج) اختلاف الموقف من علاقة القرابة عند البقارة والنوبا:

إن علاقة " ابن العم وبنت العم" علاقة ذات تمثيل واسع في أحاجي البقارة، وذلك يمكن تفسيره بتقليد الزواج التفاضلي بين أطراف علاقة العمومة.

أما علاقة "العم وابن أخيه" أو" الخال وابن أخته" فهي تختلف من قبيلة لأخرى كما تختلف داخل قبيلة البقارة، حسب طبيعة العلاقة، سواء كانت  علاقة عمومة أو علاقة خؤولة.

وعند النوبا نجد أن الخال وحده يجد التمثيل في علاقات الأحاجي. وذلك من خلال دور الخال واهب الثروة والمعلّم. في حين أن علاقات الأحاجي عند البقارة  تكشف عن تعارض بين صورة العم القاتل والخال الذي يعطي ابن أخته زوجة.

وموضوع " العم القاتل " يكشف عن نزاع مدسوس بين العم وابن أخيه، وهو نزاع ربما يتفسّر باعتراض العم على نظام الميراث الإسلامي الذي يعطي الابن حقوقا في ثروة والده  لا يعطيها للعم. ولذلك فقد يشعر العم بالظلم.

أما موضوع " الخال واهب الزوجات"، فهو يمكن أن يعبّر عن اعتراض على الزواج التفاضلي مع ابنة العم لصالح الزواج مع ابنة الخال.

ورابع نتائج هذا البحث تخص:

(د) أهمية المنهج المقارن لفهم تنويع المعنى ومعنى التنويع في الأحاجي:

هذا البحث مكنني من مسح التمثلات الأسرية عند البقارة وعند النوبا بفضل المقابلة بين الروايات المختلفة للأحاجي.  وقد استرعى انتباهي أمران خلال هذه المقابلة:

الاول هوأن بعض العلاقات الاسرية المختلفة انبنت على بنية روائية واحدة.

والثاني هو أن بعض العلاقات الأسرية المتطابقة أو المتناظرة تطرح تمثّلات مختلفة حسب اختلاف الوسط الاجتماعي الثقافي.

حركة التطابق والاختلاف تبرر إجراء تحليل مقارن جديد له غايتان:

الغاية الأولى هي غاية أدبية غرضها فهم أفضل للحجوة كنوع أدبي : لماذا وكيف يتم استخدام بنية روائية واحدة لعلاقات أسرية مختلفة ؟

الغاية الثانية هي غاية اثنولوجية غايتها الإجابة على السؤال: بأي طريقة يمكن لنفس العلاقة الاسرية أن تطرح تمثّلات مختلفة ؟

وإذا رجعنا لحالة العلاقات الأسرية المختلفة التي تنبني على بنية روائية واحدة، مثلا عندما يتم اختطاف البنت بواسطة الغول ويذهب الأخ أو الأم أو إبن العم لاستعادتها، فالتفسير الممكن لهذه الحالات الثلاث يختلف من حالة لأخرى.  لأنه في حالة الأم التي تسترجع بنتها فموقف الأم عاطفي وغايتها وصل الصلة العاطفية التي انقطعت بعنف مع بنتها.  أما في حالة الأخ الذي يسترجع أخته فموقفه ذو دلالة اجتماعية لأنه يعتبر وصيا على أخته باسم العشيرة وهو يهتم بتزويج أخته باعتباره وليها. وبالنسبة لابن العم الذي يسترجع بنت عمّه فموقفه ذو دلالة حقوقية لأنه حسب العرف القبلي فابن العم هو الأكثر أحقية في الزواج من بنت العم. ويمكن تلخيص المسألة بأن دلالة الاستعادة ترتهن بغاية الاستعادة حسب موقف الشخص الذي يستعيد البنت رغم أن بنية الحجوة واحدة في كل الحالات.

أما في حالة العلاقات الأسرية المتطابقة أو المتناظرة التي تطرح تمثّلات مختلفة نجد العلاقة المحرمة بين أحد الوالدين والطفل. فمثلا العلاقة المحرمة تظهر من خلال علاقة "الام وابنها" في أحاجي النوبا، بينما في أحاجي البقارة تظهر العلاقة المحرمة من خلال علاقة" الأب وبنته".

في حالة العلاقة المحرمة  في أحاجي البقارة يتم تمثيل موقف الأم باعتبار رغبتها في التخلص من غريمتها العاطفية: زوجة ابنها التي تقاسمها محبة ابنها.

وفي حالة العلاقة المحرّمة في أحاجي النوبا، فإن موقف الأب يتم تمثيله كغريزة حيوانية فالتة.

هذا الجزء الأخير من رسالتي مكنني من التأكيد على الافتراضات والتأويلات التي قدمتها.  ولكن من المهم أن تأتي أبحاث أخرى في الأدب الشفهي للنوبا والبقارة لتكمل وتثري أو تعارض نتائج هذا البحث.  وفي الختام، أرجو أن أتمكن، بفضل هذا البحث من عرض أهمية دور التحليل المقارن في دراسة تمثلات العلاقات الأسرية في الأحاجي من أجل فهم أفضل للمجتمع الذي يتقاسم فضاءه النوبا والبقارة. ذلك لأن الحجوة، من خلال ثبات بنيتها وتركيب تنويعاتها، تظل وسيلة نافعة ودقيقة للدخول في تشعّب العلاقات الأسرية.

 

 من اليسار الى اليمين باتريسيا موسى، حسن موسى، عالم عباس ومهدي بشرى في معهد الدراسات الأفريقية الاسيوية.

 

 

 * نص محاضرة  قدمتها د.  باتريسيا موسى بالعربية بمعهد الدراسات الأفريقية  والآسيوية، الخرطوم 30 ديسمبر 2004.

 

© جميع حقوق النشر محفوظة للجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية
TOUS DROITS RSERVS © 2005
Copyrights © 2005Sudan for all. All rights reserved

Web designers/ developers:mardisco