header
 

نحو تاريخ للافكار الاسلامية حول التحديث والعلمنة
(1) من(3)


ميشيل هوبنك

جامعة اوترخت، هولندا

ترجمة محمد عبد الحميد

ظل موضوع قدرة الاسلام على استيعاب التحديث والتجديد موضوعاً مركزياً في الدراسات الاكاديمية حول الاسلام الكلاسيكي والحديث على حد سواء. واتخذ النقاش حول هذا الموضوع طابعاً اكثر الحاحاً وحضوراً بعد الصعود الواضح للإسلام السياسي في منتصف السبعينيات.

وشهد العقد الماضي اهتماماً ملحوظاً من قبل الاكاديميين الغربيين والمسلمين بذات السؤال ونشر كم كبير من الدراسات في مناقشة امكانية تعايش وتصالح مباديء وتعاليم الاسلام مع الحداثة والموضوعات الأخرى ذات الصلة بها مثل التنمية، العقلانية، العلمانية، الإنسانوية، الديموقراطية والعولمة. ومثل هذه النقاشات لا تدور في فراغ ايديولوجي بل تشكل في العالم الاسلامي جزءاً صميمياً من الجدل حول القيمة الثقافية المعرفية للاسلام، بينما تشكل في إطار العلاقات بين الغرب المُستعمِر سابقاً والعالم الاسلامي المستعْمَر سابقاً جزءأ من الجدل حول القيمة المعرفية الثقافية للحداثة او ما يسمي ب "الجدل الاستشراقي". في الوقت الراهن يبدو ان المناقشات الاكاديمية الغربية قد اصبحت حبيسة الاستقطاب بين اتجاهين متناقضين هما المقاربة "التبسيطية" والمقاربة "الجوهرانية". يجادل المستشرقون بانه من المتعذر تماما ًمصالحة التعاليم الجوهرية للإسلام بمفاهيم الحداثة، العلمانية والديمقراطية فيما يُحّاج آخرون، من رؤى تستند على العلوم الاجتماعية، بانه ليس هناك اصلاً جوهر خالص للاسلام، وإن تعاليم الاسلام يمكن فهمها بطرق لا حصر لها، وان كل تفسير من هذه التفسيرات المتعددة يحدده السياق التاريخي الاجتماعي السياسي الذي انتج فيه.

تمثل هذه الدراسة محاولة لبناء اطار تحليلي لوصف وتوضيح مواقف الفكر الاسلامي من قضايا التجديد والتحديث والعلمنة، وتتمحور المقالة اساساً حول كيفية تأثر الفكر الاسلامي الحديث حول القضايا الثلاثة المذكورة آنفاً بالفكر الاسلامي الكلاسيكي والكيفية التي ساهمت بها تجربة الهيمنة الاوربية على العالم الاسلامي منذ بداية القرن التاسع عشر في تشكيل الفكر الاسلامي. يحاول المقال، بوضع الفكر الاسلامي الكلاسيكي والحديث في منظور منهجي واحد، الاجابة على هذا السؤال بطريقة تجنبه الوقوع في شراك الجوهرانية والتبسيطية. وبدلا عن النظر الي الإسلام كعقيد مجردة ، تعالج الدراسة الفكر الاسلامي حول العلمنة والتحديث بإعتبارها قضية متغيرة ومتطورة عبر التاريخ الاسلامي وتم خلالها تبني وجهات نظر مختلفة مؤيدة ومعارضة للتجديد والتحديث. ومن الجانب الاخر لا ينظر المقال الي مواقف المسلمين المعاصرين من التحديث والعلمنة باعتبارها انعكاساً مباشراً للواقع الاجتماعي السياسي بل يتبني المقال وجهة نظر تقول بأن هذه المواقف لا يمكن فهمها بطريقة ملائمة إلا بالنظر الي انها تأثرت وتحددت جزئياً بالسياق الثقافي الذي تطورت ضمنه. وعلى العكس من مخاوف العديد من خصوم الجوهرانية، فإن هذا لايعني بالضرورة ان مواقف المسلمين لا تتغير ولا يمكن ان تتطور ولا ان المسلمين حبيسي جوهر ثقافي ما.

التجديد، السلطة والنظام الاخلاقي للمسلمين

يشير مصطلح "التحديث" عادة الي تغيرات اجتماعية وثقافية محددة حدثت في اوربا منذ عصر التنوير. لكن المصطلح في سياق نظري عام يعني القدرة على التأقلم الثقافي مع التغير الاجتماعي وهي عملية تجري باستمرار وتواصل في كل الثقافات(1). لفهم الفكر الاسلامي حول قضايا مثل التأقلم الثقافي والتجديد من المفيد النظر الي الاسلام كمحاولة لبناء مجتمع اخلاقي يستند الي نص من الوحّي المقدس. المجتمع الاخلاقي هو مجتمع يقوم على مثل اخلاقية قيمية تعمل كمنظومة معيارية من المرجعيات الاخلاقية التي يستند اليها الافراد والمجوعات المختلفة لتحقيق التواصل الفعال فيما بينها والتوصل الي اتفاقات عندما تتضارب مصالحهم. في حالة المجتمع الاسلامي فأن هذه المثل الاخلاقية مضمنة في نص محدد هو النص القرآني ويقوم المجتمع الاسلامي على اساس ان الله هو المصدر المطلق والنهائي للاخلاق وان الله قد اوحي بارادته للمرة الاخيرة للنبي بواسطة القرآن.

مثل هذا المجتمع الاخلاقي المستند الي نص يستبطن معضلة لا فكاك منها وهي التي اسميها في هذه الدراسة معضلة التجديد والسلطة. للمحافظة على فعاليته وصلاحيته للمجتمع، لا بد ان يكون المثال الاخلاقي مرناً ومفتوحاً للتأقلم المستمر والتفسيرات المتغيرة في الظروف الزمانية والمكانية المتغبرة والمختلفة من جانب، ومن جانب اخر، فإن عملية التأقلم والتغير تحمل معها مخاطر احتكارها بواسط افراد او جماعات معينة وتطويعها لخدمة اغراضهم الخاصة. اطلقت هذه المعضلة على مدار التاريخ الاسلامي جدلاً مبدئياً حول الحرية الاخلاقية للانسان ومشروعية تفسير المثل الاخلاقية للقرآن. يمكن تقسيم المواقف التي اتخذت حيال هذه المعضلة في العهدين الكلاسيكي والحديث الي ثلاثة اتجاهات نموذجية هي التحديثية والاصولية والتقليدية.

1- التحديثية او التجديدية ينادي بفكرة اعادة التفسير المستمرة للنصوص والمثل الاخلاقية التي تتضمنها. ودائماً ما تكون دوافع التحديثيين هي رغبتهم في جعل النظام الديني الاخلاقي متماشيا مع الظروف المتغيرة لمجتمعاتهم. لكن التحديثية قد استخدمت في احيان كثيرة بدوافع سياسية لعناصر ناشطة سياسياً تعمل على تجيير المثال الاخلاقي لخدمة مصالحها الدنيوية. في دعوتهم للتفسير والاجتهاد يركز التحديثيون على ان الطبيعة الدنيوية للمثل الاخلاقية القرانية والحرية الاخلاقية للانسان واستقلاله ويقولون ان تّباع تعاليم القرآن واحكامه الخلاقي يرتب من المنافع الدنيوية مايمكن للبشر ان يدركوه بإستخدام ملكاتهم العقلية.

2- يقاوم الاصوليون تفسير المثال الاخلاقي للقرآن والاجتهاد فيه بل ويرفضونه كلية. ويبرر الاصوليون رفضهم للإجتهاد بحرصهم على نقاء العقيدة وحماية المثل الاخلاقية للإسلام من إفساد الحكام والساسة الاخرين الذين يحاولون اساءة استغلالها لإضفاء المشروعية على اهدافهم السياسية الخاصة. في هذا الصدد يؤكد الاصوليون على تنزيه الله ومحدودية وذاتية الاحكام البشرية مما يعني ان الحقيقة الاخلاقية للقرآن تتجاوز نطاق الادراك الانساني بحيث تغدو اية محاولة بشرية تتعدى حدود التفسير الحرفي للنص محاولة غير موفقة بالضرورة وذاتية وتعبر دائماً عن المصالح الدنيوية للافراد.

3- الموقف الثالث هو الموقف التقليدي الذي يسمح بتفسير النص والمثال الاخلاقي بشرط ان يكون التفسير الذي يجمع عليه تفسيراً نهائياً ولا يقبل النقض او التعديل. وفقا لهذا التجاه فأن النص الاسلامي الملزم يتوسع باستمرار باضافة كل جيل تفسيراته لتفسيرات الاجيال السابقة. يمكن ان نعتبر الاتجاه التقليدي موقفاً وسطاً بين التحديثية والاصولية. تحاول التقليدية بسماحها بالتفسير والإجتهاد فيما يستجد وحظرها لاعادة التفسير ان تستجيب للحاجة الي الاستقرار والمرونة في نفس الوقت.

من الضروري النظر الي الاتجاهات الثلاثة المذكورة آنفا باعتبارها نموذجا نظريا مرجعياً يمكن ان تستخدم في تحديد اتجاهات الحركات الاسلامية والمفكرين، فيما تتجاوز وجهات النظر الفعلية التي يتنبناها المسلمون التقسيم الجامد وتمتد في متوالية بين الحدود القصوي وغالباً ما ما تمزج بين اكثر من اتجاه. لذلك فإن السؤال المطروح فيما يلي من الدراسة ليس عما اذا كانت حركة ما تنتمي لاتجاه ما، بل الي اي حد وبالنسبة لمن يمكن اعتبار حركة محددة تحديثية او اصولية او تقليدية(2).

التجديد والسلطة في الاسلام الكلاسيكــــــي

بعد اقل من قرن واحد من الرسالة المحمدية تمكن العرب من تكوين امبراطورية شاسعة واجهوا فيها مشكلات اخلاقية وتشريعية تتجاوز بكثير آفاق ومخيلة المجتمع الذي نزل فيه القرآن، لذلك يمكن اعتبار العلماء الذين تصدوا لمهمة التفسير والإجتهاد في تلك الظروف الواقعية الملموسة السائدة في المناطق المختلفة للإمبراطورية (3) -يمكن اعتبارهم- الرعيل الاول من التحديثين في الاسلام وقد استمد اهل الرأى هؤلاء العون والمساندة من مجموعة من الفقهاء العقلانيين وعلى رأسهم المعتزلة الذين نهلوا من معين الفلسفة اليونانية. لقد اعتبر المعتزلة انفسهم الحماة الحقيقيين لمبدأ التوحيد مما قادهم الي الإعتقاد بأن القرآن "مخلوق" في زمن تاريخي محدد ولابد من تفسيره مجازياً، وان القول بأن القرآن يمكن ان يطبق حرفيا في اى زمان ومكان يمكن ان يرقي الي الشرك بالله في نظر المعتزلة لأن المسلمين لايعبدو ن الله في هذه الحالة بل يعبدون القرآن ككيان منزه.(4)

مبدئياً عمل التحديثيون الاوائل باستقلال نسبي عن السلطة الساسية لكن سرعان ما اسفر مبدأ حرية الإجتهاد والتفسير عن وجهه الأخر ومحدوية كوامن الحرية فيه بإعتباره المبدأ الذي مكّن السلطة السياسية من تطويع الحقائق الدينية واستغلالها لمصلحتها. هذه المفارقة اصبحت اكثر سفوراً في عصر الخليفة المأمون (833-848) الذي تبني مذهب المتعزلة كمذهب رسمي للدولة ونكل بخصومهم الفكريين فيما يشبه "محاكم التفتيش". مثل هذه المحاولات التي قام بها الحكام لإحتكار التشريع والتفسير وُوجهت بمقاومة عنيدة من الفقهاء الاصوليين بقيادة احمد بن حنبل (ت 855). في مواجتهم للاستغلال السياسي السيء للقرآن اعلن تلاميذ ابن حنبل معارضتهم لأي اجتهاد (5)، لكن الحنابلة ، على اية حال، تيقنوا من ان القرآن وحده لايكفي كنظام قانوني في الظروف المعقدة للامبراطورية الاسلامية المترامية الاطراف وبالتالي تطور البديل الأخر بالقول بأن التشريع يجب الا يعتمد على الاجتهاد البشري بل على التقاليد النبوية المتمثلة في "الحديث" وهي الاقوال والافعال المنسوبة للنبي فيما عدا الوحي المنزل. بالرغم من ان بعض الاحاديث التي جمعت بواسطة اهل الحديث الاوائل قد يكون صحيحة إلا ان المؤرخين الاوربين الان متفقون على ان الاحاديث هي تشريعات المفسرين الاوائل التي نسبت للنبي لاحقاً. وبهذه الطريقة وضعت قيود مشددة على التفسير والاجتهاد وفي نفس الوقت اكتسبت الاحاديث النبوية والمشرعين الاوائل اهمية اكبر بإضافتها الي جسم النصوص الاسلامية النافذة وتعاظم نفوذ اهل التقليد وقاد قبول الحكام السياسيين بتفسيراتهم الي تعزيز الاسلام السني كما نعرفه اليوم(6).

يتشكل النص الملزم في الاسلام السني اليوم من القرآن والسنة التي تمثل التقاليد والاحاديث النبوية. وعلى اساس هذه النصوص الواسعة نشب خلاف جديد بين مؤيدي الاجتهاد ومعارضيه. واتخذ مذهبان وهما المذهبين الحنبلي والظاهري موقفاً اصولياً من قضية الاجتهاد يقوم على التعارض الحاد بين السنة والبدعة وزعموا ان كل المعرفة الاخلاقية الدينية موجودة حرفياً في نص القرآن والسنة وبالنتيجة رفضوا اي تفسير او تشريع يستند الي العقل البشري وبإعتبارها محض بدعة(7).

مثلت افكار الصوفيين والفلاسفة المسلمين اهم مصادر الإلهام الفكري للإتجاهات التجديدية التي تطورت في القرون اللاحقة، وقال دعاة التجديد بأن المعنى الحقيقي الباطني للوحي غالباً ما يكون مخبوءاً وكامناً خلف المعاني الظاهرية للنص ولا يمكن فهمه إلا بالتأويل. بالرغم من ان هذا الاتجاه قد نهض ايضا على فكرة سمو الوحي وعصمته كمصدر للمعرفة الاخلاقية إلا ان الفلاسفة والصوفيين قد اعترفوا بقدر كبير من الحرية الاخلاقية والاستقلال للإنسان. وذهب الفلاسفة المسلمون مثل ابن سينا (ت 1037) وابن رشد (ت 1198) الي ان العقل البشري يمكنه التوصل الي تبيان المقاصد الإلهية للنصوص بقدر من الموثوقية الموضوعية طالما تمسك بدقة بالمنهجية الفلسفية الصحيحة (8).

ابتداء من القرن التاسع تبلور موقف وسطي بين الموقفين المتطرفين للتجديديين والاصوليين ببروز التيار السني التقليدي بإتفاق فقهاء المذاهب المالكية والشافعية والحنفية على اعتماد الإجتهاد الفردي اضافة للقرآن والسنة كمصدر من مصادر المعرفة الاخلاقية، وعلى اية حال فقد اتفق على ان الاجتهاد يظل مصدراً ظنياً للمعرفة ولا يمكن ان يصبح معرفة وثوقية إلا اذا اقترن بالاجماع الذي عرفه معظم فقهاء هذه المذاهب بأنه ما اتفق عليه العلماء. إن مفهوم اجماع الامة كمصدر للسلطة الاخلاقية سبق ان قُدم ونوقش من قبل العلماء في وقت مبكر ولم يكن جديداً في ذاته، لكن التقليديين اعتقدوا بان الإجماع الذي تم اقراره لا يمكن اعادة تفسيره او نقضه ويصبح ملزماً للاجيال القادمة.وكان المبدأ الجوهري للسنية التقليدية هو وجوب إتباع احكام العلماء السابقين او ما يسمي بالتقليد (9). توسع الغزالي (ت 111) بإستفاضة في شرح السنية التقليدية وتكريسها وبالرغم من اعترافه بمنطق الفلاسفة وخاصة الحدس الصوفي كمصدر مشروع ولا غنى عنه للمعرفة الأخلاقية إلا انه انكر بشدة إدعاء بعض الفلاسفة والمتصوفة بان معرفتهم البشرية يمكن ان تقود الي معرفة مؤكدة وموضوعية بالإرادة والمقاصد الإلهية. بالنسبة للغزالي لا ينتج عن الجهد البشري الفردي إلا معرفة ظنية وذاتية ولا يمكن ان يتحول هذا الي معرفة مؤكدة إلا بإجماع المؤمنين عليها (10).

هيمنت التقليدية على الاسلام السني كتيار سائد منذ القرن العاشر وبالرغم من ان هذا المذهب قد اعترف بضرورة الاجتهاد من حيث المبدا إلا انه احاط ممارسة الاجتهاد بقيود مشددة، وبمرور الزمن ادى الاخذ بقاعدة وجوب اتباع اجتهادات العلماء السابقين تراكم كم كبير من الاجتهادات الفقهية من ناحية والي وضع مزيد القيود على الاجتهاد من ناحية اخري، الي الحد الذي إقتصر فيه الاجتهاد على حيز محدود من القضايا الدينية والتشريعية شديدة التفصيل. اثر التراكم المضطرد للاحكام الفقهية على العلماء السنيين التقليدين مما جعلهم يميلون تدريجياً الي الاعتقاد بأنه قد ياتي يوم لا يكون فيه بين المسلمين من هو مؤهل لممارسة الإجتهاد. في البداية ظلت هذه الفكرة مجرد افتراض نظري حتى القرن الثامن عشر حيث بدأ بعض العلماء التقليديين في الاعتقاد بانه لم يعد هناك مجتهدين في عصرهم بالفعل ان "باب الاجتهاد قد اغلق" على حد تعبيرهم(11).

القول بهيمنة هذا التيار لا يعني انه لم تكن هناك معارضة له، خاصة من قبل اتباع المذهب الحنبلي، خلال تلك الفترة الطويلة التي ساد فيه التيار التقليدي، حيث مر المذهب الحنفي نفسه بتغرات عميقة. اثبت الافتراض الاساسي الاول بان القرآن والسنة يقدمان اجابة حرفية شافية لكل سؤال قيمي معرفي مطروح عدم جدواه عملياً، وقد اضطر العلماء الحنابلة الي الإذعان، بعد تررد ومشقة، ابتداءً من القرن التاسع ، ان الاجتهاد امر ضروري لا مفر منه. وهكذا نجد ان معارضة الحنابلة للتقليدية لم تكن موجهة ضد الاجتهاد في اطلاقه بل في الحكم بأن الاجتهاد الذي تم الاجماع عليه يصبح ملزما ونهائيا حتى للاجيال القادمة. وكلما تصلبت وتشددت مواقف التقليديين في هذا الصدد لتصبح عقبة كأداة امام الاجتهادات الجديدة، كلما تقدم خصوم التقليديين لحمل عبء التجديد على عاتقهم. وفي هذا السياق تطورت لدى الحنابلة فكرة ضرورة ظهور "مجدد" على رأس كل قرن هجري لتجديد الدين (12). واكتسب الاصرار الحبنلي على مفهوم السنة مقابل مفهوم البدعة معنىً جديداً في سياق معارضتهم للتقليديين. وقد اقتضى ذلك رفض ركام كبير من الاجتهادات التاريخية لإستعادة الصلة والعودة للمصادر الاصلية المتمثلة في القرآن والسنة. ومن المفوم ان المطالبة الراهنة اليوم بالعودة للسنن الاصلية لم يعد موقفاً متناقضاً مع الدعوة للإجتهاد(13).

يعتبر الفقيه ابن تيميه (ت 1328) واحد اهم ممثلي هذا التيار الحنبلي المعتدل. بطريقة مماثلة لتلك التي تبناها الغزالي، اعترف ابن تيمية بالملكات العقلية البشرية والحدس الصوفي كمصادر لمعرفة الحقيقة الدينية لكنه رفض دعاوي بعض الفلاسفة بأن هذه المصادر لها نفس عصمة الوحى وموثوقيته. ورفض ابن تيمية وجوب إتباع إجماع السلف الذي هو التقليد واعتبر ان الاجماع الوحيد الملزم هو إجماع الصحابة(14).

في القرون التي تلت ابن تيمية، يبدو ان اصوات التيارات المعارضة للتقليديين قد خفتت الي حد كبير، حتى نهايات القرن الثانت عشر وبداية القرن التاسع حيث بدأت موجة جديدة من معاداة التقليدية تملثت في محمد بن عبد الوهاب (ت1792) محمد بن علي الشوكاني (ت 1832) ومحمد بن علي السنوسي (ت 1859)، وقد رفض ثلاثتهم فكرة اغلاق باب الاجتهاد وانتفاء الحاجة للمجددين. ومثلما كان الحال مع ابن تيمية، فقد توجه هؤلاء ايضا بمعارضتهم بشكل اساسي لفكرة التقليديين القائلة بوجوب اتباع التقليد واجماع السلف(15). وما يهم نقاشنا هنا هو ان السجال الاسلامي التقليدي حول التجديد والاجتهاد مر بمرحلة من الانبعاث عندما بدأ التأثير الاوربي على العالم الاسلامي في الظهور.

يتواصل بالصفحة التالية


 

© جميع حقوق النشر محفوظة للجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية
TOUS DROITS RSERVS © 2005
Copyrights © 2005Sudan for all. All rights reserved

Web designers/ developers:mardisco