كلاريس تَوينِي:- ورثاء إلى الأبد (ترجمة:- إبراهيم جعفر)...
- إبراهيم جعفر
- مشاركات: 1948
- اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am
كلاريس تَوينِي:- ورثاء إلى الأبد (ترجمة:- إبراهيم جعفر)...
[size=18][size=24][size=24]
كلاريس تَوْيْنِي
[ترجمة:- إبراهيم جعفر]
ورثاء إلى الأزليّة...
(دراسةٌ عن تناسخ الأرواح ذاتَ نماذجٍ إيضاحيّة)
[العنوان الأصلي:- Heirs To Eternity]
"فالجّسد إنّما يأخّذ هيئتَهُ من النّفسِ
والنّفسُ هيئةٌ والجّسدُ خِلقَةُ فِعلِها"
إدموند سبينسر
طُبِعَ في بريطانيا، للمرّةِ الأولى، في عام 6197 بِواسطةِ نيفيل اسبيرمان ليمتد (لندن).
صمّمت ديباجة الكتاب (الأصلي) فِيَونَا ماكقِريْقَورْ.
قِيْلَ عن هذا الكتاب:-
إنّ مفهومَ تناسُخ الأرواحِ ذو أهمّيّةٍ وشأنٍ. فهو- الآنَ- يبرُزُ، بقُوّةٍ مُتناميةٍ، في فكرِ الغربْ. وللعديدينَ من النّاسِ هو يهبُ مِفتاحاً من الأهميّةِ لفهمِ التّناقضاتِ المُحيرَةِ للحياةْ.
تمنحُنا كلاريس تَوْيْنِي في وُرثاء إلى الأزليّةِ مُسَاهَمَةً أصيلةً ورائعةً في أدبِ موضوعِها المُتنامِيْ. فالسيّدةُ تَوْيْنِي هي مُتصوّفةٌ طبيعيّةٌ ظلّتْ، لسنينٍ عديدةٍ، على وصلٍ مع كائنٍ سامٍ شاءتْ أن تُسمّيهِ "المُعَلِّمْ". وخلالَ ذاكَ الوصلِ تكوّنَ في ذاتِها، شيئاً فشيئاً، استشعاراً رُوحيّاً تيليباثيّاً تامَّ الوعيِ بذاتِهِ، جَلِيَّاً ويقينيّاً ككُلِّ ذلكَ الذي نَخْبَرُهُ في الحياةِ ’العاديّةِ‘ اليوميّةْ.
الذي فعلتْهُ السيّدة تَوينِي، في كِتابِها هذا، هو انتقاءُ عددٍ من الأشخاصِ يضُمُّونَ، فيما بينهم، دَانِيْ كَيْ، تشيسترتون، الجّنرال ديجُول، السّير ونستون تشرشل، روزاموند ليمان، تيلهارد دِي شَارْدِنْ وآخرينَ، ثمّ ربط حيَوَاتِهِمْ الحاضرةِ بالتّناسُخاتِ الشّتّى لحيَواتِهم الماضيةِ مُظْهِرَةً، بذلكَ، دونَ نِزاعٍ، كيفَ أنّ الحيَواتِ السّالفَةَ لأولئكَ قد أدّتْ دورها في حاضرهِم وأثّرَتْ على مجراه.
على سبيلِ المِثالِ، من هو دَانِي كَيْ؟ إنّه ليس شخصاً آخراً سوى هانس كِرستِيَنْ أندرسون. ولربّما كان الفلم الأعظم والأكثر شعبيّةً لذلكَ الممثّل المحبوب هو قصّة حياة هانس كِرِسْتِيَنْ! والأغرب من ذلكَ هو أنّ ملامحهُما مُتشابهَةٌ جدّاً.
وكما كتبتْ السيّدة تَوْيْنِي:- "تحقّقتُ من أنّ الإستشهادَ بسيرِ النّاسِ ذائعي الصّيتِ سيُجابهُ بكُلِّ أنواعِ الإحتجاجات- كما وسيَرْفَعُ الحَواجِبْ. لهذا السّببِ كتَمْتُ، بجُبنٍ، حيثيّاتَ البُحُوثِ التّي كُنتُ واسِطَةً لتوصيلِ مُحتوياتِها إلى النّاسِ، معاً وألبوماتَ لوحاتٍ وصُوَرٍ للإيضاحِ والمُقارنَةْ". الآنَ هي، على أيّ حالٍ، تشعُرُ بأنَّ الوقتَ المُناسِبَ لروايةِ القصّةِ قد حانْ.
إنَّ وُرثاءَ إلى الأزليّةِ هو، حقّاً، كتابٌ باعثٌ على التّأمّل.
الدّار النّاشرةْ.
المُحتَوَياتْ
1. مُفْتَتَحْ
2. الفصل الأوّل:- أصواتُ الحِكْمَة
3. الفصلُ الثّاني:- المُعلّمُ الماورائِيُّ يُواصلُ شرُوحاتَهُ:- كيف تتطوّرُ الحياة؟
4. الفصلُ الثّالث:- أمثلةٌ حيّةٌ.
5. الفصلُ الرّابع:- ذكرياتُ أطفالٍ عن حيَوَاتِهِمْ الماضيَةْ.
6. الفصلُ الخامس:- تيلهارد دي شَارْدِنْ.
7. الفصل السّادس:- "الفنَّانْ".
8. الفصل السّابعْ:- دَانِيْ كَيْ.
9. الفصل الثّامن:- الجّنرال ديجول.
10. الفصل التّاسع:- "ر".
11. الفصل العاشر:- السيّدة إيثيلْ اسمِثْ.
12. الفصل الحادي عشر:- روزاموند لِيمانْ.
13. الفصل الثّاني عشر:- ق. ك. تشيسترتون.
14. الفصل الثالث عشر:- السّير ونستون تشرشلْ.
15. خِتَامٌ بَصِيْرٌ...
لا تكُنْ مزهُوّاً، أيّها الموتُ،
رُغمَ أنَّ البعضَ سمّاكَ جبّاراً ومُفزِعَاً،
فأنتَ لستُ كذلكَ،
فأولئكَ الذينَ ظننتُ أنّكَ قد قهَرْتُهُمُوا ما ماتُوا
كذلكَ أنا، أيّها الموتُ المِسكينُ،
ليسَ لكَ من سبيلٍ إلى مِثْلِيْ!
جون دَنْ John Donne
مُفتَتَحْ
حكاية صُوفيّة
كُنتُ ماشِيَةٌ على الدّربِ فرأيتُ حَلَزَوْنَاً يسكُنُ جُحراً في الحائطْ. قُلْتُ:- "سلامٌ عليكَ أيُّها الحَلَزَون". كان الحَلَزَونُ يعرفُ الكلامَ فقالَ لِيْ:- "وعليكِ السّلامُ". قُلتُ لهُ:- "إنّني من بَنِي الإنسان". قال:- "وما ذاكَ؟" قُلتُ:- "حَسَنَاً، أنتُم لكُم عيُونٌ على جِذُوعِكُمْ. نحنُ، بنُو الإنسانِ، لنا جذوعٌ أيضاً، لكنّها على الطّرفِ الآخرِ من جسدِ أيٍّ منّا". "الطّرف الآخر؟!"، قالَ الحَلَزَون، "ما ذاكَ؟" قُلتُ:- "حَسَنَاً، جذُوعُنا، إن رأيتَهَا، لها أقدامٌ على أطرافِها". "أقدامٌ؟ ما الأقدامْ؟" قال الحلزون. قُلتُ:- "الأقدامُ هي أشياءٌ تنقُلُكَ في أنحاءِ الأرضِ بسُرعةٍ شديدةٍ ولمسافاتٍ بعيدةْ". "ذلكُم عجيبٌ جِدّاً!"، قال الحلزون، "هل هنالِكَ أيُّ شيءٍ لآخرٍ، عنكُمْ، غريبٌ؟" قُلتُ:- "نعمْ. نستطيعُ أن نأخُذَ ورقَةً ونَرْقُمُ عليها علامات، ثم نُسلّمُ تلكَ الورقةَ إلى إنسانٍ آخرٍ فيعرفُ ذاكَ الإنسانُ، بمُجرّدِ النّظَرِ إلى العلاماتِ المرقُومَةِ عليها، ما الذي كان يُفكّرُ فيهِ الإنسانُ الأوّلُ الرّاقِمُ لها".
- "أُهْ"، قال الحَلَزَون، "أرى أنّكِ إحدى "هؤُلاءْ"..."
- "ماذا؟" قُلتُ أنا.
- "حَسَنَاً"، قالَ الحَلَزَون، "إنّكِ واحدةٌ من أولئكَ الّذينَ يذهبُونَ بعيداً في تخيّلاتِهِمْ- إنّكِ كاذبَةٌ. أنتِ تُنبئِيْنَ عن أشياءٍ كثيرةٍ فتذهبُ بِكِ تهيُّآتُكِ بعيدَاً وتُحْكِيْنَ عمَّا ليسَ هو قابلٌ للتَّصدِيْقْ"
الفصلُ الأوّل
أصواتُ الحكمة
"ينبغي عليَّ أن أفهَمُ، عسانِي، من بعدِ ذلكَ، أؤمِنُ... الشّكُّ يقُودُنا إلى التّساؤلِ، وبالتّساؤُلِ نُدرِكُ الحقيقة". هكذا قال أبيلارد. أنا أتّفقُ مع أبيلاردْ. معهُ شككتُ. معهُ أُخِذْتُ للتّساؤُلِ (أو بالتَّساؤُلِ)... ومثلُهُ توصّلتُ إلى إدراكِ بعضِ وجهٍ من الحقيقةْ.
مع ذلكَ، إن اقتبسنا حديثاً عن "المُعَلِّمِ"* نراهُ يقول:- "ما هو حقيقةٌ للإنسانِ في مرحلةٍ ما من مراحلِ تطوّرهِ ليس حقيقةً لهُ في مرحلةٍ أخرى".
علينا- إذاً- أن نتبصّرَ بأنفُسنا ونعي بضَبَابِ الفِكرِ العُرفيِّ الذي يُحَوِّمُ ويُهوِّمُ حولنا عبر القرون فيحجِبُ عنّا وَسِيْعَ انتبَاهِنَا.
ما سأحاولُ أن أهبَهُ أنا هنا هو تفسيراتٌ قُدّمَتْ لي في إجابةٍ على تساؤُلِيْ. عليهِ سأصفُ ما حدثَ لي وكيفَ أنَّ ما أُعطِيْتُهُ غيَّرَ جِمَاعَ نظرتِي للحياةْ.
حكيتُ، في سيرتِي الذّاتيّةِ**، بالتّفصيلِ، قصّةَ مجيءِ "المُعلّم" من "الما وراء" فذكرتُ كيف أنّهُ، بعدَ تجاربٍ شعوريّةٍ صُوفيّةٍ بعينِها أدّتْ بي إلى مُمَارسةِ التّأمّلِ، وجدتُ أُذنَيَّ وعينيَّ بادئتينَ في التّفتّحْ. في "السّكِيْنَةِ" جاءنِي الهُدى فوجدتُ نفسي، تدريجيّاً، مُستقْبِلَةً تعليمَاً كانَ جديداً عليَّ. شاركتُ، في ذاكَ التّعليمِ، زوجي فناقشنا معاً الفلسفةَ التّي كانتْ تُسكَبُ خلاليْ. طبعاً تكاثرَتْ أسئلتِي فتنزّلَ علينا، بعدَ وهلةٍ ودونَ نداءٍ، "المُعلّمُ"، تنزُّلاً باراشوتيَّاً مُدهشاً، في عينِ حُجرةِ جِلُوسِنَا. جلسَ وتحاورَ معنا فأفسحَ، بذلكَ، مجالاً لزوجي سمحَ لهُ، أيضاً، أن يُوجِّهَ أسئلةً وأن يسمعَ ويُسجِّلَ، كذلكَ، كلَّ ما قِيْلَ.
أُبِيْنَ لي أنَّ هذا "التّجريبَ"، كما سمّاهُ "المُعلّمُ"، كان فقط إجراءاً مؤقّتَاً. "هُنالِكَ الكثيرُ جدّاً ممّا تودّينَ أن تُدرِكِيْ وهذه هي الطّريقةُ الوحيدةُ للمُجيءِ إليكِ:- خلال وسيطٍ فيزيائيٍّ"، قال "المُعَلِّمُ". ثمّ اسْتَدْرَكَ أنّهُ، بِمُضِيِّ الزّمنِ، سوفَ أجدُ إجاباتِ ما يُنازِعُنِيْ من أسئِلَةٍ في دخيلَةِ نفسِيْ:- "في السَّكِيْنَةِ ستجِدِيْنَ الحقيقةْ".
وهكذا انتهيْتُ، بالفعلِ، في السّاعةِ الموقُوتةِ وبعدَ سعيِ هُنَيْهَةٍ إثْرَ هُنَيْهَةٍ نحو التّناغُمِ مع المُستوياتِ الباطنةِ لكينونتِي، إلى اتِّساعٍ في البصيرةِ وإدراكٍ يقينيٍّ شاملْ. بِمُوجَزِ العبارةِ، انسكبَتْ في وَعْيِيْ شُعاعاتٌ من الرُّؤىْ كانتْ هي إجاباتِ تساؤُلِيَ القَلِقْ.
كثيرٌ من ذلك الذي وَمَضْتُ بهِ من معارفِ "المُعَلِّمِ" كَبَدْتُ في التّعبيرِ عنهُ في كُتُبِي الباكِرةْ. في هذا الكتابِ يتعيّنُ عليَّ أن أُحاوِلَ، خِتامَاً، أنْ أهَبَ قارئِي، بجلاءٍ، ما تعلّمتُهُ عن ديمومَةِ الحياةِ والشِّعُورِ المتّصِلَتَيْنَ*** اللّتينَ هما إرثنا جميعاً......... ذلكُم ما نُسمّيهِ "البعثَ" أو "تجَدُّدَ المِيلادْ".
* تُنبؤُنا المؤلّفةُ، كما سنرى من بين ثنايا هذا الكتاب، بأنّ لها "مُعلّمٌ"، أو "مُرشِدٌ رُوحيٌّ"، من عالمٍ آخرٍ "ما بَعْدِيٍّ" اتّصلَ بها، ليس رُوحيّاً فقط، بل بالتّجَسُّدِ والتَّهيُّئِ، وأنارَ بصيرتَها بالمحتوى الخارقِ لهذا الكتابْ... أنا، كما أحسُّ، ليس بـ"المؤَهَّلِ" الرّوحِ حتّى أُثبِتُ ذلكَ أو أُنفِيْهِ- المُترجِمْ.
** عهدُ الحقيقة (جورج ألان وأنون):- The Testament of Truth (Jeorge Allen & Unwin
*** في الأصلِ consciousness. تجنُّبَاً للترجمةِ الشائعةِ لهذه الكلمةِ، والتي تُقابِلُها بكلمةِ "وعي" في اللّغةِ العربيّةِ، شئتُ أنا هُنا أن أُترجِمُها إلى كلمةِ "شعور"، فإحساسي حدّثني أنَّ الكلمةَ الأخيرةَ هي الأنسبَ في مجالِ رؤيا "رُوحيّة" للكونِ والإنسانِ كالّتي يحتفلُ بها هذا الكتابْ- المُترجمْ].
2
الذين قرأوا كُتبي السابقة سيجدونَ موضوع "تناسخ الأرواح" قد عُولِجَ فيها كحجرِ الزّاويةِ، كذاتِ أساسِ التّطوّرِ النّافذِ خَلَلَ كلِّ "الطّبيعةِ"، نشوء المخلوقات وارتقاء الكائنات الإنسانيّة. وتُحَدِّثُ سيرتي الذّاتيّة عن كيفَ أنّهُ، ببدايةٍ متراخيةٍ تمثّلتْ، أوّلاً، في المُلاحظَةِ، الإستِقراءِ والإستنتاجِ، وأخيراً في "التّعليمِ" الذي وهبنا (أنا وزوجي) إيّاهُ "المُعلّمُ" من "البُعدِ الآخرِ"، ثُمَّ سَوْقِي إلى مرتبةِ قناعةٍ بذلكْ.
حتّى الآنَ، كما هو الشّانُ مع غالبيّتِنا، ظلّ مفهومُ البعثِ، أو تجدُّدِ الميلادِ، كامناً في هامشِ شعورنا أو مُتناثِرَاً حولنا في الرّيحِ مثل هباءِ أسديةِ النّباتْ. في كلّ حياتنا لهجَتْ ألسنةُ النّاسِ لاهيةً. فكم من مرّةٍ قيلَ فيها، بهزلٍ، كلامٌ مثل:- "قد كنتُ قطّاً في حياتي السابقة"؛ أو:- "لابدّ أنّكَ كُنتَ هِنري الثامن أو ميكيافيلّلي!" ذاكَ حديثٌ نُطِقَ كُلُّهُ بعبثٍ ومزْحٍ، لكنّهُ ما فَتِأ يُقالُ، كَرّةً وكرَّةً أخرى. فهنالكَ شيءٌ ما في الذّاكرةِ العميقةِ للجّنْسِ البشريِّ يجعلُ هذا المفهُومَ ينبثِقُ في الذّاتِ ويُوْهَبُ كتفسيرٍ لحادثٍ ما، لبعضِ غرابةِ أطوارٍ أو مَيزاتٍ شخصيّةٍ خاصّةْ. نحنُ، حينَ يُبَادِرُ خاطِرَنَا المفهومُ إيّاهُ، نضحكُ ونُلقِي بالفكرةِ جانباً. لكنّها تُعاوِدُنا، مرّةً أخرى، في مثقبلِ الزّمانْ.
لا أحدٌ يُحبّذُ المفهومَ المعنيَّ. "آهٍ، مرَّةٌ واحدةٌ تُكْفِيْ!" هكذا يستعجبُ فردٌ من النّاسِ، "فأنا لستُ بقادرٍ على كَبَدِ مُعاناةٍ ثانيةٍ لكلِّ ما عانيتُ في حياتي الحاليّةْ".
مع ذلكَ يظلُّ الإحتمالُ قائماً أنَّ كلَّ واحدٍ منّا قد مضى، بالفعلِ، في سبيلِ ذاتِ الكَبَدِ وذاتِ العيشِ مرّةً أخرى وأنّهُ ما يزالُ ماضياً، الآنَ، في نفسِ السّبيلْ.
في الحقيقةِ، إن استكشَفَ المرءُ تشعّباتَ ذلك المفهوم العريق، عراقة الدُّنيا، والذي اعتنقتْهُ الغاليّةُ العُظمى للنّوعِ الإنسانيِّ منذُ بدءِ التّاريخِ، لوَجَدَهُ، شيئاً فشيئاً، مُضْفِيَاً معنىً على ما كانَ لا معنىً لهُ، مُخْرِجَاً حكمةً وعدلاً ورحمةً من الفوضى، النّشُوزِ أو الشّذُوذِ، وضُوحاً من الهُلامِ ثُمَّ، أخيراً، فهمَاً من حيثُ لم يكُنْ، حتّى وقتذاكَ، شيئاً سوى بَلْبَلَةٍ تتلعثَمُ. فذلكَ المفهومُ- كما أراهُ- يهَبُ حياتَنا، في الكونِ الرّحيبِ، إيقاعاً مقبولاً لـ"ذاتِنا الدّاخليّةِ"، صِيغةً تجعلُ للعيشِ معنىً، تُقنِعُ العقلَ وتُغذِّيَ وتُعزِّيَ النّفْسَ.
*
أيُّ إنسانٍ متأمّلٍ يُبهتُ، بين الفينةِ والأخرى، بألغازِ الحياةِ، بتعدّدِ الأسئلةِ اللا مُجابةْ. من نحنُ؟ من أينَ أتينَا؟ لماذا النّاسُ مفترقُونَ واحدُهُم عن الآخرِ عندَ اعتبَارِ خصائِصِهِمْ الغريزيّة؟ لماذا يُولدُ إنسانٌ ما غنيّاً أو مَلَكِيَّ المنبَتِ في حينَ يُولَدُ إنسانٌ آخرٌ فقيراً؟ لماذا ينشأُ البعضُ في القِصُورِ والبعضُ الآخرُ في مُعسكراتِ لاجئينَ أو غِمَارِ قبائلٍ بدائيّة؟ لماذا ثمةُ أطفالٍ يُولدونَ
عمياناً أو مُقعَدِيْنَ، عباقرةً وعجائبَ زمانٍ أو مُختلّينَ عقليّاً؟ هل هذا هو العذابُ الإلهيُّ؟ أم هو الصّدفةُ والإتّفاقُ؟ أم هو مُحصّلةُ بُنيَانِ المرءِ الفيزيائيْ؟ لماذا يُعانِي من هُمْ، في الظَّاهِرِ، بريئُونَ مثلما يُعاني المُذنبُونْ؟ لماذا يبدُو أنَّ الخبيثَ يُمضِي، بينَ الأنامِ، مُعافىً وسالماً من الأذى فيما يموتُ الطّيّبُ موتَهُ؟ وهل الموتُ، في مُنتَهَى المَقَالِ، يُشكِّلُ عِقاباً؟ هل هو النّهايَةُ؟ وأنّى يكونُ هنالكَ "أبَاً" إلهيّاً ورحماناً يسمحُ لأمثالِ هذهِ الأشياءِ بالحدُوثْ؟...... لماذا يبدو أنّ بعضاً منّا "يعرفُونَ" أشياءاً عن الوجودِ بيقينٍ باطنيٍّ- هل نحنُ شاعرينَ بأننا، منذُ البدءِ، قد "عرفنا" تلكَ الأشياء بكيفيّةٍ ما؟
تلكَ جمهرةٌ من الأسئلةِ حيّرتْ ألبابنا. مع ذلكَ، تظلُّ إجابتُها الحاضرةُ التّي نتلقّاها من ذوي السّلطةِ، أو السّلطانِ، هي أنَّ "طُرُقَ اللهِ غيرُ مُمْكنٍ سبرِ غورِها".
الغالبيّةُ من النّاسِ قد نأتْ، الآنَ، بنفسِها عن الإعتِقادِ في الجّودِ الرّبّانِيِّ بسببِ جهلِها بقوانينِ العيشْ.
هنالكَ إجاباتٌ أكثرَ شمولاً، في الفهمِ، أكثرَ منطقيّةً، للأسئلةِ السّابقةِ حاضرةً، كما أرى، في تدبّرِ الإنسانِ لأمرِ "البعثِ" أو تجدُّدِ الميلادْ". فتلكَ الفرضيّةُ (فرضيّةُ البعثِ أو "تجُدّد الميلادْ")، إن نفذَتْ بصيرةُ المرءِ إليها بعمقٍ، جديرةٌ بأن تهبَنا تفسيراً ذا رُتبةٍ علميّةٍ ومعقولةٍ تُصيرُ، على ضُوئهِ، قوانينُ العيشِ مرئيّةً على أنّها مؤسَّسَةٌ على عواملٍ مُعِيْنَةٍ لنا على التّطوّرِ، عواملٍ ذاتِ مقاصدٍ وغاياتٍ، عواملٍ رؤوفةٍ بنا، مُحبّةٍ لنا ومانحةٍ إيّانا حرّيّةً في المقاماتِ العُلىْ. ذلكُم يُظهِرُنا على أنّنا، بدلاً عن أن نكونَ عاجزي الحيلةِ ومُرْتَهَنِيْنَ لمصيرِنا القيُّومِ، مسؤولونَ، شخصيّاً وعِيَانيّاً، عن طُمأنينِةِ كينوناتنا وعن الصّيغِ التي تتّخذُها حيَوَاتُنَا.
خلال الثلاثينَ سنةً الماضية، أو ما يُقارِبُهُنَّ، أُطْلِعْتُ، على هُدىً "ما ورائيٍّ" أوفاني بهِ "المُعلّمُ" البديعُ في استكناهِ الماضي، على كيفيّةِ البحثِ في تطوّرِ "الطبيعةِ" والإنسان من زاويَةٍ كانتْ، بالنّسبةِ لي، جديدةً كُلِّيَّاً.
أبانَ لي "المُعَلِّمُ" أنَّ الرُّوحَ ليستْ هباءاً ينثُرُهُ الخالقُ، صُدفَةً، في باطنِ كُلِّ جنينْ. فأيُّ رُوحٍ، كما علّمَنِي، لها تاريخٌ خاصٌّ بها فهي فهي غيرُ جديدةٍ وذاتُ حيَواتٍ عديدةٍ عاشتْها من قَبْلِ آناءَ سلُوكِهَا درب تقدّمها خلال أشكالٍ كثيرةٍ من "الوجُودِ الطَّبيعيِّ" ضمّتْهَا سيرُورةُ كينونةٍ شاعرةْ؛ إنّها قد شكذلتْ نفسها، عبرَ تجربةِ حَيَوَاتٍ شتّى، على هيئةِ الكينونةِ التي هي، الآنَ، عين ذاتِها.
قد تعلّمتُ شيئاً عن "الطّريقَةِ التي تُدارُ بها الشّؤونُ"، تعلّمتُ أنَّ في جِمَاعِ الحياةِ دفقةً (دفعةً) مُثابرةً صعوداً، بعيداً عن الأرضِ ونحو حالةٍ كينونيّةٍ أكثرَ تعقيداً؛ نحو شعورٍ، رُوحٍ أكثرَ. وهذا الإرتقاءُ ينطوي على انفِساحٍ في الإدراكِ، اتّساعٍ في الرّؤيةِ، وعلى تشرّبِ الكائنِ الإنسانيِّ بأبعادٍ أخرى من الكينونةْ. فالكائنُ الإنسانيُّ مُصوّرٌ نفسَهُ وِفْقَ إشعاعاتِ (انبثاقاتِ) الأُلُوهيِّ. وما الموتُ إلا "رَهَقٌ نفسانيٌّ"، إِنسلاخُ الجّسدِ المكدُودِ ونَسْجُ الرُّوحِ لجسَدٍ آخرٍ في مكانِهِ يُدثِّرُهَا على كوكبِ الأرضِ في زَمانٍ مُقبِلٍ.
هذا يبدو منطقيّاً بجلاءٍ. فهو أكبرُ بكثيرٍ، في منطقيّتِهِ، من أيِّ منطِقِيّةٍ مُمكنَةٍ لمفهومِ إلهٍ مُتقلّبِ الخاطرِ يُشكّلُ، عشوائيَاً أو كما يشاءُ، أرواحاً جديدةً كما تماثيلِ شمعِ المثّالِ ثم يدمجهُنَّ، على كيفِهِ، في مُحيطاتِ حيواتهِنَّ.
هكذا يبدو "تجدّد الميلاد" مقبولاً كتفسيرٍ لما هزمَ ألبابنا، حتى الآن، من مُحيراتِ الوجودِ بحيثُ أنَّ خاطرَ المرءِ الأوّلِ إزاءَهُ يُلزِمُ بالتّساؤل:- لماذا لم يُعرفُ هذا بصورةٍ جماعيّةٍ ويُدرس؟
إجابةُ هذا السؤال تأتي للخاطرِ، بالطّبعِ، في الحال:- في "الشّرقِ" كان الإعتقادُ في تناسخِ الأرواحِ دوماً هو القاعدةَ أو النّمُوذجْ.
كيف إذاً فاتَ ذلك الإعتقادُ على أهلِ العِلْمِ والثّقافةِ في الغربْ؟
إنّه لم يَفُتْ عليهُمْ. فالكثيرُ من اليونانيين القدماء قد استخدمُوا المفهوم (الإعتقاد) إيّاهُ كقاعدةٍ لفلسفتِهِمْ. كما وأنَّ بحوثَاً حديثة أظهرتنا، كذلكَ، على أنّهُ قد اعتُنِقَ دوماً في بُلدانٍ غربيّةٍ عديدةٍ، رُغمَ قسرِ الأرثوذوكسيّة لهُ على العيشِ "تحتيّاً" أو في الخَفَاءْ.
قبلَ مدّةٍ من الزّمانِ كنتُ أتحدّثُ مع يهوديٍّ إسرائيليٍّ عريقٍ، بطريرَكَ ذي سعةٍ في المعرفةِ أخبرني أنّهُ قبل ستّينَ، أو سبعينَ، عاماً خلتْ كان تناسخ الأرواح يُدرّسُ في كليّتِهِ الثّيواوجيّةْ. ذلكَ بناءاًعلى حجَرِ أساسِ فهمٍ للحياةِ زوّدتْ النّاسُ بهِ تعاليمُ الزَّوهار والكابلاّه اليهوديّتين [حركتين صُوفيّتين أو، على الأدقِّ، غُنُوصيّتينَ (عِرفانيّتينَ) يهوديّتين- المترجم]. "فقط مؤخّراً"، قال ذلك الرجل الموسوعة، "أودى نمُوُّ سُلطةِ العصرِ العِلْمِيِّ بشبابنا إلى البدءِ في نسيانِ ذلكَ "التّعليم" القديم، بل وإلى الإستِخْفَافِ بهِ".
كيف- إذاً- أُغْفِلَ "التّعليمُ" المعنيُّ في كتابِ العهدِ القديم؟
هُنا يبرُزُ للضّوءِ أنّ معظَمَ المتعّلمينَ تعليماً عالياً من بين الرّومان الكاثوليك، وهم اليعقُوبيّين، كثيراً ما ضمّنُوا ذاكَ المفهومَ عقيدَتَهُمْ (بالتّأكيدِ أولئكَ ما اعتبرُوهُ مُناسباً لعامّةِ النّاسْ). تُورِدُ دائرةِ المعلوماتِ (الإنسايكلوبيديا) الكاثولوكيّة أنَّ المفهومَ مدارَ الحديثِ قد قُهِرَ، في الحقيقةِ، في القرن السادسِ الميلاديِّ بفعلِ الدّسائسِ الماكرةِ للإمبراطور جستنيان وليس بأمرِ أيِّ سُلطةٍ كنسيّةٍ سماويّةْ... لنا عودةٌ لا حقةٌ لهذا الموضوع.
تُؤشّرُ حقيقةُ أنّ معتقدَ "تجدّد الميلاد" يُعاودُ- الآنَ- الظّهُورَ في العالمِ الغربيِّ ويُلاقِي قبُولاً واسعاً فيهِ إلى أنّ ذلكَ جُزءٌ من مِنهاجِ إرشادٍ (هُدىً) مُفاضٍ علينا، في هذا الزّمانِ، من قِبَلِ "قوىً إلهيّةْ". هذه القوى أفاضتْ علينا بذاكَ المِنهاجِ حتّى تُبصِّرُنَا بالعواملِ التي تحكمُ حياتنا وتُصحّحُ إساءاتٍ مُعيّنَةٍ في الفهمِ كامنةً في قلبِ بعضٍ من السايكولوجيا والفلسفة الحديثةْ.
في القرونِ الماضيةِ علّمتْنَا "الكنيسةُ" أن نُصلّي بإخلاصٍ للهِ القيّومِ كي يُعيدَ خَلْقَنَا ويُغيّرُنا، فنحنُ، عموماً، كنّا- حينذاكَ- مستوقِنِيْنَ من أنَّ اللّهَ [كما تتصوَّرُهُ الكنيسةُ- المترجم]، واللهَ وحدَهُ، هو صاحب المشيئةِ التي لا تُنازَعُ في شانِ مسؤوليّتِها عن أيِّ وجهٍ من وجوهِ كينونتِنا. هذا باتَ غير مُسلّمٍ بهِ في زماننا الحاضرْ. فالمُتفكّرُونَ أدركُوا أنّ هنالكَ الكثيرَ الذي ليس بِمُسْتَطَاعٍ جَعْلَهُ يتواءَمُ وهذه الفلسفةْ.
هل لإلهٍ و"أبٍ" مُحبٍّ أن يجعلَ أطفالاً يُولدُونَ عمياناً، مُقعَدِيْنَ أو مُلتاثِي العقلْ؟ هل لهُ أن يتسبّبَ في ولادةِ "أطفالِهِ" (عِيَالِهِ) في أوضاعِ فقرٍ ومرضٍ، وفي عائلاتٍ ليسَ بمقدُورِها أن تُعيلَهُمْ؟
تلكَ الأسئلةُ، التّي أرهقتْنَا في الماضي، تلقى إجاباتَها فقطْ عندَ الإعمالِ المُتَدَبِّرِ عليهَا لقوانينِ "الكارما" وتجدّد الميلادْ.
نحنُ أنفُسُنا نحّاتُو أرواحِنَا. فنحنُ نعلمُ أنَّ "الإنسانَ هو ما يُخاطِرُ الإنسانَ في قلبِهِ". ثمةُ حجّةٍ شائعةٍ تقولُ إنَّ تعاليمَ الإنجيلِ ليس فيها ما يُشِيْرُ إلى تجدّدِ الميلادْ... لكنَّ ذلكَ موجُودٌ هُناكَ إن نشدْنَاهُ. فكُلُّهُ واردٌ في النّصُوصِ المُقدّسَةْ. فقط نحنُ عاندْنَا في إساءةِ قراءتِهِ.
"ما مِنْ شيءٍ يغرسُهُ الإنسانُ إلا وهو يحصدُهُ أيضَاً". مع ذلكَ، يبدو ذاكَ "الحصادُ" وكأنّهُ كثيراً ما لا يتمُّ في حياةٍ واحدةْ. فكثيرٌ من خارِقَِي النّواميسِ الإلهيّةِ، تماماً كخارِقِي النّواميسِ البشريّةِ، يلُوحونَ أحياناً وكأنّهُم يتمكّنُونَ من النّفاذِ بعيداً عن أيّ حسابْ.
ما الذي عناهُ المسيح (عليهِ السّلامْ) حينما قال لتلاميذِهِ:- "من يعتقدنُي النّاسْ؟" وحينَ رُدَّ على إجابةِ تلاميذه له بأنّه، كما يقول البعض، "يوحنّا المعمدان"، "الياس"، أو جيرِيْميَاه، كما يقول آخرون، قائلاً إنَّ "الياسَ هو الذي، حقّاً، يجيء أولاً إلى العالم... لكنّني أقولُ لكُم إنّ الياسَ، بالفعلِ، حاضرٌ الآنَ بينكُمْ، وإن ما تبيّنتُمثوهُ؟"... ثم ما الذي أومأتُ إليه هذه الرواية الإنجيلية في إنبائنا أنّ أولئكَ التلاميذ "فهموا" أنّ المسيحَ (عليهِ السّلام) إنّما "تحدّثَ إليهم عن يوحنّا المعمدان..." وفي ختمها لما تروي بذكرِها أنّ المسيحَ (عليه السلام) تحدّث، مرةً اخرى، لتلاميذه عن يوحنّا المعمدان وقال لهم:- "إن اصغيتُمُوا إليَّ أشهدُ لكم بأنَّ هذا [’يوحنّا المعمدان‘- المترجم] هو الياس الذي أُنبئْتُمْ بقدومِهِ. ألا فليسمع هذا منّي كلُّ من لهُ أذنان تسمعانْ"؟
المسيح (عليه السلام) كان يروي هنا حديثاً عن أمرٍ لابدَّ أنّ عموم الناس، في عهده، قد صدّقُوا بهِ. ذلكَ هو أنّ الإنسانَ يُولدُ ولادةً أخرى في مستقبلِ أيّامهِ ويُسمّىْ إِسماً جديداً. فالياسُ (أو أليجا) قد عاد- وفقَ ما قالهُ- إلى العالم في شخص يوحنّا المعمدان كي يخدم "الحقيقة".
هنالكَ إشاراتٌ أخرى، في الإنجيلِ، إلى هذا المعتقد. وربّما كانتْ مُضمّنَةً فيهِ، أيضاً، غيرُها من الإشاراتِ العديدةِ إليهِ في عهودٍ خلتْ وتمّ، أخيراً، حذفها منهُ أو إخفاؤُها.
كُتِبَ في كِتابِ الوحيِ The Book of Revelations ما يلي:- "ذلكُم الذي يقهرُ مشيئتهُ الفرديّةَ (في سبيلِ مشيئةِ اللّهِ) سأجعلُ لهُ دُعامةً في معبدٍ إلهيٍّ، ثم ’سوف لا يخرُجُ من هُناكَ أبداً‘..."
في حكمة سليمان نجد، أيضاً، ما يأتي:- "كنتُ طفلاً طيّباً بطبيعتِهِ، والآنَ آلتْ إلى نصيبي رُوحٌ طيّبةٌ. كلاّ! الأوفقَ أنّي، لكونِي طيّباً، جئتُ في جسدٍ برئٍ من الدّنَسْ".
لمحةٌ إلى قلّةٍ من الإقتباساتِ عن كتاباتِ آباءِ الكنيسةِ الأوائلِ ستُكفِي للشّهادةِ على كيفَ أنّ مفهومَ "إعادة الميلاد" قد كان، في غابرِ العهودِ، منتشرَاً بين النّاسِ وغريزيّاً في أفئدتِهِمْ.
تحدّث جَسْتِنْ مارتر عن استيطانِ الرّوحِ لأكثرِ من جسدٍ واحدٍ، لكنّه قالَ إنّها حين تأخذُ شكلاً مُجسّدَاً للمرّةِ الثّانيةِ فإنّها لا تستطيعُ تذكّرَ حيواتِها السّابقَةْ.
وقال القدّيس قِريقَورِي، أسقف نِيسا:- "إنّهُ لمن الضرورةِ المطلقةِ للرّوحِ أن تكونَ معافاةً ومُطهَّرَةً. فإن لم يكن ذلك حادثٌ لها خلال الحياةِ على الأرضِ هذي فإنّهُ يجبُ أن يغدُو مُتَمَّمَاً فيها في حيواتٍ مستقبليّةْ".
وأقرَّ أورِيْقَنْ، الموصوف في الموسوعة العلميّة البريطانيّة بأنّه "أكثرَ آباءِ الكنيسةِ ذيُوعاً في الصّيتِ، باستثناءِ القدّيس أوغسطين ربّما"، بما يأتي:- "من المعقولِ للأرواحِ أن تُحلَّ في الأجسادِ وفقاً لخصالها وأفعالها السابقة. فأولئكَ الذينَ استعملوا أجسادهم في عملِ أقصى ما يُمكنُ من الخيرِ ينبغي أن يكونَ لهم الحقّ في أجسادٍ ممنوحةٍ مؤهّلاتٍ أعلى من تلكَ التي لدى أجسادِ الآخرينْ. إنّ الرّوحَ، التي هي في طبيعتِها لا ماديّة وخَفِيّة، لا توجد في أيّ مكانٍ مادّيٍّ دونَ أن تحُوزَ على جسدٍ مناسبٍ لطبيعةِ ذاكَ المكانْ. إستناداً على ذلكَ هي تخلعُ، في وقتٍ معلومٍ، عنها جسدها، الذي كان ضروريّاً لها من قبل لكنّه ما عاد موائماً لوضعيّتها المتغيّرة، وتُبدِّله بجسدٍ ثانٍ" (Contra Celsum).
لم يُهيّأ، إلا في زماننا هذا، لتلكَ المفاهيم الصعبة لحقيقةِ الفرقِ بينَ مادّةِ الأشياءِ الفيزيائيّةِ والجواهر الرّوحيّة أن تُتَرْجَمَ إلى صيغٍ أكثرَ عقلانيّةً وأسهلَ فهماً عبر استخدام مصطلحات العلوم عن الذّبذباتِ وطولِ الموجاتِ وتردُّداتِها. فالرّوحُ قد قُدّتْ من تردّداتِ طاقةٍ أعظمَ، في سُرعةِ انطلاقِها ولطافتها (رهافتها)، من تردّداتِ طاقةِ مادّةِ الأشياءِ الفيزيائيّةْ. ذلكَ لأنّ الظّاهرَ، مثل ثلج فوق بركة، هو انعكاس الباطن.
كتبَ القدّيس أوغسطين، أسقُف هِبُو، في Contra Academicos:- "إنّ رسالةَ إفلاطون، الأصفى والأسنى في كلّ الفلسفة، قد بدّدتْ، أخيراً، ظُلُمةَ الخطأ، والآنَ هي، أساساً، تشعُّ قُدُماً في إفلوطين:- إفلاطونيٌّ يُشبِهُ أستاذهُ شبهاً شديداً ربّما يميلُ بالمرءِ إلى الظّنِّ بأنّهما قد عاشا معاً أو أنّ إفلاطون، على الأرجح- ما دام هنالك فترة زمنية طويلة جداً بينهما- هو الذي بُعثَ، مرّةً أخرى، في شخصِ إفلوطينْ".
إفلاطون، طبعاً، قد دَرَّسَ تلاميذهُ معتقد "إعادة الميلاد"، كما وكتبَ عنهُ بِتَواتُرٍ. وكتبَ هيرونيموس، في Epistola Ad Demetriunem:- "معتقدُ هجرةِ الأرواحِ، باعتبارهِ حقيقة تقليديّة ما كانَ لها أن يُبَاحَ بِها، قد عُلِّمَ، خِفيَةً، مُنذُ أزمانٍ عريقةٍ، لأعدادٍ صغيرةٍ من النّاسْ".
ربّما نتساءلُ عمّا دعا الكنيسةُ المسيحيّةُ، لاحقاً، إلى إسقاطِ المعتقدِ المعنيِّ خارجَ تعاليمِها. ثمةُ ضوءٍ جديدٍ يُلقَى، على هذه المشكلةِ، في الأزمنةِ الاخيرةْ. ذلكَ ما يُمكنُ قراءة تفاصيله في مجلدين ضخمين عُنونَا التّناسخ:- منتخبات شرقيّة-غربيّة وصفّهُما جوزيف هيد وس.ل. كرانستون واحتوتْ على مئاتٍ من الاقتباساتِ حولَ هذا الموضوع من كتاباتٍ للمفّكرين العظام منذُ الأزمانِ الباكرةِ وحتّى الوقتِ الحاضرْ.
ساد، في الإعتقادِ العامِّ، أنَّ "البابا" هو أوّل من أعلنَ، في مؤتمر القسطنطينيّة الثاني في عام
553م، تحريم الإعتقاد في "الوجود القبليّ للأرواح". لكن التّمعّن عن كثبٍ في هذا الموضوع يكشف لنا أنّ ذاكَ التّحريمَ قد أعلنَهُ ليس "البابا" وإنّما الإمبراطور جستنيان وأساقفتهُ.
يظهرُ أنّ جستنيان، في اجتماعٍ فوق-العادة، قد فرض على أساقفته تحريم معتقدات معينة قال بها أوريقن. كان البابا، في ذلك الوقت، في القسطنطينيّة حيثُ عُقد الإجتماعُ إياه. لكنه رفض الحضور. بين ثنايا تفاصيل أوفى عن هذه المسألة أوردتها الموسوعة العلمية الكاثولوكية نجد الإقتباس التالي:- "يسهلُ على المرء أن يفهم كيف أنّ "توصية" ذاكَ الإجتماع فوق-العادي قد عُوملت، بالخطأ، في فترة متأخرة، على أنّها- أو كأنّها- "قرارٌ" أصدره مجلي الكنائس الفعلي".
يبدو واضحاً مما سبق أنّ العلماء الكاثولوكيين قد بدأوا ينفون الزّعم بأنّ الكنيسة الرومانيّة قد قامت بأيّ دورٍ في تحريم معتقدات أوريقن، موحينَ لنا، بذلكَ، بأنّها كانت، أثناء كلّ القرون الطويلة التي صدّقت فيها أنّها أدانتْ أوريقن، مُخطئةً في حقّ نفسِها. على كُلٍّ، هنالك نتيجة وخيمة واحدة لذلك الخطأ (أو تلك الغفلة) ظلّت، حتى الآن، باقيةً وهي، تحديداً، استبعاد معتقد الوجود السابق للأرواح، وضمنيّاً معتقد تناسخ الأرواحْ، من تعاليم الطائفة المسيحيّةْ.
خلال العصور المظلمة غُصِبَ المعتقد المعنيّ، عبر اضّطهاد معتنقِيْهِ، على العيشِ في الخفاءْ. فطائفتا "الكاثارس" و"الألبيجينسيس" في جنوب فرنسا، واللتين آمنتا بهذا المعتقد، قد أبادتهما، بمنتهى القسوة، محاكم التّفتيش، لكنّه استمرّ، في السّرِّ، باقياً كمضمونٍ مركزيٍّ في عقائدِ فِرَقٍ (مِلَلٍ) دينيّةٍ كثيرةٍ وفلسفاتْ، ومن ثمّ أزهرَ وسط مفكّري عصر النّهضةْ.
دعنا نقتبسُ حديثاً آخرَ من الموسوعة الكاثولوكيّة:- "إنّه [مُعتقد تناسخ الأرواح] كان ركناً عامّاً عند العديدِ من نُظُمٍ لفكرٍ فلسفيٍّ وإيمانٍ دينيٍّ مُستَقِلَّةً عن بعضِها البعضِ جغرافيّاً وتاريخيّاً معاً... هذه العالميّةُ يبدو أنّها تَسِمُهُ، كواحدٍ من تلك العقائد العفويّةِ، أو الغريزيّةِ، التي تستجيبُ بها طبيعةُ الإنسانِ لمشاكلِ الوجُودِ العميقةِ والمُلحّةْ... في وجهِ عقيدةٍ كتِلكَ هي، عند النظرةِ الأولى، بعيدة الغور، ومع ذلك هي، في ذاتِ الوقتِ، واسعةَ الإنتشارِ نُقادُ نحنُ إلى استِبْدَاهِ بعضِ أسبابٍ عامّةٍ كثيرةٍ تعاضدتْ معاً على استيلادِها في النّفُوسْ. قد نُشيرُ، في هذا السبيلِ، إلى أسبابٍ قليلةٍ من تِلكْ:-
1. القناعةُ العالميّةُ، بالفعلِ أو عمليّاً، بأنّ الرّوحَ هي كينونةٌ حقيقيّةٌ مُميّزةٌ عن الجّسدِ وأنّها تبقَى- مُستقلّةً عنهُ- بعد الموتْ.
2. على ارتباطٍ بهذا يبرزُ المطلبُ الأخلافيُّ المُلزِمُ بأن يكونَ هنالكَ- أو في هذا الوجودْ- قَصاصٌ مستقبليٌّ عادلٌ مُشتملٌ على جزاءاتٍ مُثيبَةٍ أو مُعاقِبَةٍ، تِبْعَاً للسّلوكِ الخيّرِ أو الشّرّيرِ للمرءِ في حياتِهِ الدُّنيويّةْ. معتقد هجرة الأرواح يقدّمُ مُسوّغاً مقبولاً، بدرجةٍ ما، لهاتين العقيدتين اللتين هما، بالفعلِ، فِطرتينْ.
3. المعتقد المعنيُّ يمدّنا بتفسيرٍ مُرضٍ لظاهرةِ الوِرَاثَةْ".
من الغريبِ أنّه ضمن "الأسباب العامّة الكبيرة" المذكورة أعلاه لم يضع الكاتب في الإعتبار مُجمل "التّعليم" الّذي، منذُ بدءِ التّاريخِ، مُنِحَ، بمُثابرَةٍ وعلى مدىً عالميٍّ، للإنسانِ من "قوىً عُليَا".
ومن بين الشواهد المعاصرة العديدة على ما نقول تندرج، بلا شك، تجربتي الخاصة التي أقنعتني بأنّ التّعليمَ الإلهيَّ دوماً ما يُساقُ للنّاسِ، حين تكونُ لهم آذانٌ تُصغِي، في صِيغٍ تُوافِقُ معتقد تناسخ الأرواحْ. فانا ما قرأتُ الثّيوصوفيّة وفلسفاتِ الشّرقِ، ومن ثمّ علمتُ بأنموذجيّةِ هذا المعتقد في الشّعورِ الإنسانيِّ منذُ عهودٍ خلَتْ، إلاّ بعد سنينِ طويلةٍ من كتابتي لكتابيَ الأوّل- ذلكَ الكتابُ الّذي "سُرِّبَ" خلالي من المجالِ "الما بعديِّ".
من بين الأقوال الكثيرة المتقابلة لبعض المفكّرين العظام عبر العصور كلّها، والتي جمعها س. ل. كرانستون وجوزيف هيد في تناسخِ الأرواح:- منتخبات شرقيّة- غربيّة (جوليان بريس، نيويورك 1619)، قد نقتطف ما يأتي:- "جاء في الزُّوهار اليهودي:- "كي تبلغ هذه الغاية فإنّها [الأرواح] يجب أن تُنمّي في ذواتِها جميعَ الكمالاتِ الّتِي غُرِسَتْ بذورها فيها. وإن ما استكملتْ الأرواحُ هذا الشّرط أثناءَ حياةٍ واحدةٍ فإنّها ينبغي أن تبدأ حياةً ثانيةًن ثالثةً... وهكذا حتّى تكتسبُ (أو تستوفِي) الحالَ الذي يُهيّؤُها للتّوحّدِ، مُجدّداً، مع الله"..."
وقالَ قَوْتَهْ:- "كم هو حَسَنٌ أنَّ على الأنسِ أن يمُوتُوا، وإن كانَ ذلكَ فقط كي يمسحُوا عنهُم انطباعاتَهُمْ ويعُودُوا [للحياةِ] صافينَ تماماً".
وقال هيُوم، الفيلسوفُ الإنكِليزيُّ، إنَّ "تناسُخَ الأرواحِ هو النّظامُ الوحيدُ الذي تستطيعُ الفلسفةُ الإصغاءَ إليهِ".
وفي عهدنا هذا كتب هنري فورد:- "العملُ هباءٌ إن لم نكن نحنُ قادرينَ على الإنتفاعِ بالخبرةِ التي جنيناها، في حياةٍ واحدةٍ، في الحياةِ (الحيواتِ) القادمة... العبقريّةُ خبرةٌ. يبدو أنّ البعضَ يظُنّها هبةَ أو موهبةً، لكنّها ثمرةُ خبرةٍ طويلةٍ في حيواتٍ عديدةْ. بعضُ الأرواحِ أعرَقُ (أقدَمُ) من الأخرى، لذا هي عارفةٌ أكثرْ".
وكتبَ غاندي:- "... الذي قُلتُهُ عن "تجدّد الميلادِ" سديدٌ. ومن عطفِ الطبيعةِ علينا أنّنا لا نتذكّرُ ميلاداتنا الماضية. فالحياةُ ستغدو عبئاً إن نحنُ حملنا ثِقَلَ ذكرياتٍ كتلكْ".
... أخيرَاً، علّنا نتّفقُ مع ف. و. مَيَارْسْ على أنّهُ "ليس من السّهلِ على المرءِ أن يتحقّقَ من صِدْقِ أيِّ نظريّةٍ عن "الخلقِ المُباشِرِ" لأرواحٍ هي على على مراحلٍ مفترِقَةٍ من التّقدّمِ كهاتيكَ التي تدخُلُ حيّزَ الأرضِ مُتخفّيَةً في هيئةِ الإنسانِ الفانْ. فالمرءُ يشعُرُ أنّه "ينبغي" لها أن تكونَ موصُولةً- فيما بين ذواتِها وغيرِها- باستمراريّةٍ ما؛ شكلٍ ما من أشكالِ الماضي الرّوحِيِّ".
بعبارةٍ أخرى، يتطلّبُ العقلُ تفسيراً للحياةِ يضعُ في اعتبارهِ أنّ "الحياةَ" بحاجةٍ إلى زمانٍ أطولَ من ثلاثةِ عشريناتٍ من السّنينِ وعشْرٍ كي "تُنجِبُ" لنا عباقرةً أمثال موتسارتْ أو مايكيلانجلو، آينشتايِنْ، قاليليُو، بيتهوفن أو شكسبير؛ رجالٌ سبيكةُ أرواحهِم أتمَّ صياغةً من أن تُشكَّلَ في عهدِ حياةٍ واحدةٍ قصيرةٍ، هنا على الأرضْ.
قد نضيفُ لذلكَ أنّهُ، في هذا العقد، قد عُرِفَ عن يونج، وهو أحد السايكولوجيين العظام، توصّلُهُ إلى إيمانٍ بمُعتقدِ تناسُخِ الأرواحْ. بدأ ذلكَ الإيمانُ يتجلّى بينَ سطُورِ كِتابِهِ الأخيرِ (ذكريّاتٌ، أحلامٌ وتأمّلاتْ)... ثم أنّ أولئكَ الذينَ كانوا على صلةٍ حميمةٍ معهُ عرفوا أنّهُ قد انتهى إلى موقفٍ شموليٍّ مُصدّقٍ بحقيقةِ "تجدّد الميلادْ".
3
سوف أحاول، في هذا الكتاب، أن أصف، في المقام الأول، تلك المناحي من عقيدة تجدد الميلاد التي جاءتني من "المعلّم الما ورائيّ" الذي هو، جليّاً، علاّمةٌ في قراءةِ ما سُمّيَ، في "الشّرقِ"، السّجِلاّتُ الأكاشيّةْ.Akashic Records ذلكَ لأنّني إن لم أتحدّثْ، بصراحةٍ، عمّا تمكّنْتُ من لمحهِ واستيعابِه من ذلكَ سأهدرُ الوقتَ والجّهدَ اللذينَ أُكْرِمْتُ بهُمَا، أو فِيْضَ بِهُمَا عليَّ، حينَ أُشْرِبْتُ بالتّعليمِ الذي عُلّمْتْ.
تذبذبتُ عندَ كتابةِ الفقرةِ الأخيرةْ... أنّى لي أن أصِفَ منبعَ ما واتاني دون أن أتراءَىْ مُتباهِيَةً؟ مع ذلكَ يجبُ عليَّ أن أُحاوِلَ بذلَ ما عُلِّمْتُ، عبرَ السّنينِ، للنّاسْ. وبما أنّ قصّة مُجِيء "المعلّمِ" إليَّ (وزوجي) قد رُوِيَتْ، بصراحةٍ، في كتابي الأخيرِ فإنّي مُلزَمةً بأن أكُونَ واضحةً بشأنها هنا أيضاً.
في مناسبةٍ باكرةٍ، حينما كان "المُعلّمُ" معنا يُجيبُ، بصبرٍ، على أسئلتِنَا (فيما يُقيّدُ زوجي إجاباتَهُ على الورقِ)، استجمعتُ شجاعتي وسألتُ "زائرنا" السّامي عن إمكانِ أن نُطْلَعَ على إسمٍ نعرِفُهُ بهِ.
- "هل هذا مُهِمٌّ؟" قال وهو يرفع حاجبيهِ قليلاً.
- "حسناً، إنّهُ مهمٌّ قليلاً"، قلتُ مُعانِدَةً.
- "قد كانتْ لنا كلّنا أسماء عديدةْ". أجابَ.
كان ذلك هو النحو الذي مهّد بهِ للحديثِ عن مسألةِ "تجدّد الميلادْ".
- "يلزمُ الرّوحَ أطولُ كثيراً جدّاً من عهدِ حياةٍ مُفرَدَةٍ على الأرضِ حتّى ترتقي بنفسها إلى كائنٍ لهُ قدراتُ فيلسوفٍ، موسيقيٍّ أو حكيمْ. بنو الإنسانِ يحيونَ مرّاتٍ عديدةٍ على كوكبِ الأرضِ، تتخلّلُها أحياناً فتراتٌ طويلةٌ من الرَّاحةِ والعُطلَةِ في عالمِ "الرّوحِ"، قبلَ أن يُوسّعُوا مُحتواهُمْ، طاقتَهُمْ أو وُسعَهُمْ، إلى مدىً كافٍ لهم لأن "يكتسُوا" بما قد ندعوه "أجنحة اللا عودة". إنّكَ لا تستطيعُ أن تصُبَّ ربعَ جالونٍ من اللّبنِ في جرّةٍ خُصّصَتْ لرطلٍ. فأحياناً يُمكنُ للمرءِ، في مرحلةٍ معيّنةٍ من تطوّرِهِ، أن يحُوزَ على ذكرى أو رؤيةِ الأدوارِ التي أدّاها في قرونٍ ماضيةٍ. تلكَ قد تُسمّى "استِرجاعاتْ"..."
- "وهل نحتفظُ، في حيواتنا، بذاتِ الملامح؟"
- "بلى، لكن باختلافٍ بسيطٍ. سببُ ذلكَ هو أننا نُنشئُ أنفسنا على هيئةِ فكرنا، عبر ردّ فعلنا على ظروفنا".
وعندما سألتُهُ عن الدور الذي تقوم به الوراثة في حياتنا (حيواتنا) قال مجيباً:- "هنالكَ حديثٌ جَلَلٌ عن كونِ الجّيناتِ من صميمِ تركيبةِ الإنسانْ. ويُقالُ فيهِ إنّها مسؤولةٌ عن طبيعةِ شخصيّتِهِ. هذا هو الحالُ لحدٍّ معيّنٍ، لكنّهُ من النَّادرِ، إن لم يكُنْ مُطلَقَاً، للمتدبّرينَ اعتبارَ إحلالات جينات معيّنة في الجّسد أثراً (مُسبَّبَاً) وليس سبباً". ثم وصفَ كيفَ أنّ الجّينات والكروموسوماتْ هي جُزئيّات طاقة خلقتها عاداتُ تفكيرِنا في حيواتنا الطّويلةِ الأعصُرْ. فالجّيناتُ، أو مُقابِلَهُنَّ في الرّوحِ، كما قالَ، "يُمارِسْنَ جاذبيّةً مغناطيسيّةً على نوعي الأبُوّةِ والأمومةِ اللذينَ يردنهُما".
- "وهل نُلاقي، على الأرضِ، من أحببناهم في حيواتٍ ماضيةٍ؟" سألتُ.
- "بلى. فحيثما ترينَ في الإنسانِ شيئاً أكثرَ من قليلٍ أو عامٍّ فإنّكما تكونا قد التقيتُما من قبل- كثيراً ما تكونُ صلتُكُما تلكَ قديمةً". أجابَ.
في أواخرِ الحديثِ وجّهتُ لهُ سؤالاً قد كان مُؤرّقُنِي:- "هل للتّنويميّةِ المغناطيسيّةِ الذّاتيّةِ شأنٌ بوضعيّةِ الوعيِ (الشّعورِ) المُصعّدِ هذِهِ؟"
- "بلى"، أجابني "المُعلّمُ"، "فتلكَ شكلٌ من أشكالِ التّنويم المغناطيسيِّ الذّاتيِّ أو، على الأرجحِ، "إلغاء" التّنويم المغناطيسيّ الذّاتيِّ. فأنتِ، كإنسانةٍ، منذُ وجودِكِ في الرِّحْمِ وما بعدهُ، في حالةِ حُلُمٍ. وإن هُيّئَ لكِ- من بعدِ ذلكَ- تصعيد الوعي (الشّعور) عندكِ إلى مرتبةِ الأنا، الرّوح، فإنّكِ تكونينَ، حينذاكَ، طالعةً خارجَ "اللا حقيقة" وداخلةً في الحقيقة". وفي موقفي هنا والآن أنا لستُ، على أيِّ نحوٍ، مُنفتِحَاً على إشعاعاتِ كلِّ مجالي "الحقيقةِ"، لكنَّ ما أرى أرى بكمالٍ هو في ذاتِ درجةِ ما بلغتُ أو حصّلتُ في ذاتي من التّصاعد (التّسامي) نحو تلكَ الغاية، و أيُّ مجالٍ من هاتيكَ يجدُ المرءُ نفسهُ متوافقاً (متناغماً)، في الحالِ أو في الآنِ، معهُ قد يُعتبرُ حدَّ طاقتِهِ الكماليّةِ الحاضرةْ. طبعاً ذاكَ ليسَ هو حدٌّ ثابتٌ لجِماعِ طاقتِهِ الكماليّةْ. فهو ممكنٌ له أن يرقَى بتلكَ عبر الصلاةِ والتّطوّرِ الشخصيِّ وفقَ ما رسمَهُ السيّد المسيح للنّاسِ من درُوبٍ".
ذلكم كان مجرى هاتيكَ المُقابلات:- أسئلةٌ منّا وأجوبةٌ منهُ تستغرَقُ، ليلةً إثرَ ليلةٍ، وقتاً أكثرَ من ساعتينِ في الجّلسةِ الواحدةْ. ثم أنّ هنالكَ شيءٌ وعدني بأنّه سوف يحدثُ وحَدَثَ. فمع صيرورة الزمان بتُّ قادرةً على الإصغاءِ، بجلاءٍ شديدٍ، لصوتِ " مُعلِّمِنَا" في طيِّ السّكينَةِ ممّا رسّخَ تواصلنا الكامل معهُ. وهكذا، بعد ما يُقارب العامينَ، ما عادَ، ثانيةً، يتنزَّلُ إلينا على المستوى الفيزيائيْ. وكما وضّحَ لي، هو قد استخدمَ طريقةَ المُجيءِ إلينا عبرَ آليّةٍ، أو وسيلةٍ، فيزيائيّةٍ حتّّى يهبني إيماناً وثقةً في إصغائيَ الخاصِّ وما يردُنِي، عبرَهُ، من حكمةٍ منهُ. ولكوني إبنةُ عصرنا الشّكّاكِ فقد لا يُقيّضُ لي أن أكُونَ، بطريقةٍ أو بأُخرى، قادرةً على تصديقِ وارداتِ سَمَاعِيَ الرُّوحيِّ دونَ مُبارَكَةِ ذاكَ التّجَسّدِ الرّائعِ- الّذي اتّخَذَ من زوجِي شاهدَاً عليهِ.
***
وفيما الزّمنُ ماضٍ برزَ إلى الضّوءِ ما كانَ، في مرآيَ، اكتشافٌ عظيم الأهمّيّةْ. ذلكم هو عثوري، قبل سنينٍ ذاهبةٍ قليلةٍ، على أثرٍ لعالمِ النّفسِ الأمريكيِّ الدّكتور إيان ستيفينسون. هذا الباحثُ ذو التّوجّه الشّديد العلميّة قد أمضى سنيناً عديدةً وهو يستقصي حالاتِ أكثرَ من ألفِ طفلٍ قادرينَ على تذكّرِ حيواتهم الماضية. في سبيله ذاكَ طافَ د. ستيفينسون جميع أرجاء العالم مُلتقيَاً عائلاتِ وأصدقاءَ وأقربَاءَ أطفالٍ يافعين- كبِرُوا، لا حقاً، وعاشوا حتّى الآن [6197]- قد شهد الذين من حولهم لهم على حديثهم عن حيواتٍ ماضيةٍ عاشوها. بأقصى حذرٍ وانتقاءٍ متمعّنٍ للدلائلِ كتب د. ستيفينسون، في البدءِ، مقالاً (أو استبياناً) أورد فيهِ أربعاً وثمانينَ حالةً من حالاتِ أولئك الأطفال المُنمازينْ. ثم نشرَ، لاحقاً، كتابهُ المُسمَّىْ عشرون حالة موحية بتناسخ الأرواح. وقد بلغني أنّه، الآنَ، يعدّ منتخباً جديداً للحالاتِ إيّاها.
لكَ أن تتصوّرَ- أيّها القارئ- نشوتي حين أُرْسِلَتْ إليَّ تلك الكتاباتُ من "أمريكا" وآنما اطّلعتُ، طيّها، على حالاتٍ عديدةٍ مُستكْنِهَةٍ، أو شارحةٍ، لآثارِ طَبَعتْهَا على الجّسدِ والذاكرةِ الحاضرةِ أحداثٌ ماضيةٌ تذكّرها أطفالٌ من بلدانٍ كثيرةٍ ومختلفةٍ في هذه الدّنيا كانوا قد بدأوا، فيما بين السنين الثانية والنّصف والخامسة من أعمارهم، في استرجاعِ (أو استدعاءِ) حيَواتِهم الماضيةِ بوضوحٍ وتفصيلٍ كبيرْ. وثّقَ د. ستيفينسون البُرْهانَ المُتاحَ على هذا بتدقيقٍ وحرصٍ عظيمينْ. عندَ بلوغ أولئك الأطفال سنّ الرّشدِ وما بعدها شعروا بأنّ ذكرياتهم عن حيَوَاتِهم الماضيةِ شارعةً في الأُفُولِ، لكننّ كثيراً منهم ما زالوا، حتى حينذاكَ، قادرينَ على استدعاءِ الملامحِ الأساسيّةِ لتلكَ الحيَوَاتْ.
تنطوي الكتاباتُ تلكَ، حسبَ وِجهةِ نظري الخاصّةِ، على أهمِّيّةٍ شديدةٍ، ففيها وَجَدْتُ حالاتٍ مُفصّلةً تشرحُ، بتوسّعٍ وانطلاقٍ، آثارَ أسبابٍ ماضيةٍ على أجسادِ وأنفُسِ شخصيّاتٍ حيّةٍ في الزّمنِ الحاضرْ. عطفَاً على ذلكَ حُمِّلَتْ الكتاباتُ إيّاها ما هو مُوشٍ بما عُلّمْتُهُ من "البُعدِ الما ورائيِّ" للوجود:- ملامحٌ من "كارما" ومن نفاذاتِ قوانينٍ روحيّةٍ كانت قد بدتْ لي، في الماضي، مستحيةً على أن تتعيّنْ.
في زمنٍ آتٍ، سيغدو، بلا شكِّ، تمعّنٌ دؤوبٌ، كتمعُّنِ د. ستيفينسون، في ذاكَ السّبيلِ مُعينَاً على إثباتِ مُعتقَدِ تعدّد الميلادِ في سِجِلِّ جِمَاعِ المؤثّراتِ العاديّةِ والأتوماتيكيّةِ على تطوّرِ السّلالةِ الإنسانيّةْ.
إنتقى لي "المُعلّمُ"، عبرَ السّنينِ، حالاتٍ كثيرةً للدراسةِ، أمثلةً ونماذجاً، لأناسٍ أحياءٍ وأحياناً مشهورين، مُبينَةً للمسائلِ التي كان يُجَلِّلُهَا لي. ثم وقفتُ، عندَ مؤلّفاتِ د. ستيفينسون، على حالةٍ إثرَ حالةٍ لأطفالٍ وصبيانٍ يافعِيْنَ مثَّلَتْ إيضاحاتَ جليَّةً لانعكاساتِ (تبادُلاتِ) العلّةِ والمعلولِ التي مُرِّنْتُ على توقُّعِ حدُوثِها في الحياةْ.
تلكَ الكتاباتُ وهبتْنِي الشّجاعةَ على أن أبُثَّ، على الورقِ، بعضاً مما بَسَطَ لي "المُعَلِّمُ" من طيّاتِ حالاتٍ بعينِها لتناسُخِ الأرواحِ، فالعهُودُ، قطعاً، ستتغيّرُ و"الغيرُ أُورثوذوكسيٍّ" اليَومَ سيصيرُ "أورثوذوكسيَّ" المُستقبَلْ.
4
علينا، الآنَ، أن نبدأَ الحكايةَ من أوَّلِهَا.
في هاتيكَ الأيّامِ الباكرةِ قال لي "المُعلّمُ":- "أنا أمنحُكِ الرّؤيا وانتِ تصُوغِيْنَ رؤيايَ في هيئةِ كلماتٍ". لكنّهُ كثيراً ما جاءتْ الكلماتُ، العباراتُ الجّليّةُ، منهُ أيضاً. كنَّ يقعْنَ، في خاطِرِي، وقعَ نردٍ على صفحةِ شمعٍ دافئٍ:- مُطلقَاً في طيِّ السّكيْنَةِ.
"البساطةُ الماثلةُ في صَفَقَةِ عُشبٍ هي مقياسُ جهلِها". كم هو ذا موضوعٌ للتأمّلْ! ففي ثناياهُ تكمُنُ االفلسفةُ جميعُهَا.
كُلُّ الحِكْمَةِ مُتنزِّلَةٌ من "المورِدِ الأسمَى". فهي، في الإنسانِ الفردِ، مُركّبٌ روحيٌّ من الطّاقاتِ الخلاّقةِ التي تبذُلُها "الأُلُوهيّةُ" في الكونِ فتنجذبُ لهُ في حيَواتِهِ العديدةْ. فكما تفيضُ الشّمسُ بإشعاعاتها المنسربة عن كليّةِ الطّاقاتِ الثّاويةِ فيها، على الكونِ الخارجيِّ، كذلكَ تفيضُ "الأُلُوهيّةُ" بشُعاعاتِ الرّوحِ الإلهيِّ التي تخلقُ الحياةَ كلّها. نحنُ نُنشئُ، في أنفُسِنَا، قنواتٍ أو مَجَالٍ لقبُولِ هاتيكَ الطَّاقاتِ الإلهيّةْ.
الخِليَةُ المُفرَدةُ إلهيّةٌ في جوهرِها، بسببِ الشّرارةِ الإلهيّةِ التي تُحييها. فثمةُ شُحنةِ طاقاتٍ أوّليّةٍ (بُدائيّةٍ) تهبُها خاصيّةُ حياتِها الأصليّةْ. إنّها تنمو مثلُ كُرَةِ ثلجٍ فوقَ حقولِ ثلجِ الطّبيعةِ فتَسْتَجْمَعُ مزيداً من الطّاقاتِ الإلهيّةِ في باطنِها، تستوعبُها في ذاتِها لملايينِ السّنينِ وتُنشِّرُ نفسَها، خلال ذاكَ النِّمُوِّ وذاكَ التّطُوُّرِ، في هيئاتٍ هيَ دوماً أكثرَ تعقيداً أو تركيبيّةً.
إذاً لُبُّ كلِّ شيءٍ ينتسبُ إلى جوهَرِ الرّوحِ، فهو منبثقٌ عن الألوهيّةْ.
الرّوحُ التي هي في الخِليةِ بسيطةٌ، غيرُ معقّدةٍ. فهي، في طورِهاَ ذاكَ، لمّا تزَلْ غيرَ عريقةٍ في الزّمانِ لتجذبُ إلى نفسِها كثيراً من القراميدِ البانيةِ لرُوحٍ صرفٍ:- تلكم الشّحناتُ الطّاقيَّةُ الشّاعَّةُ من "الرُّوحِ الإلهيِّ".
إنّ صَفَقَةَ العُشبِ تظلُّ- ما دامتْ محضَ صَفَقَةِ عُشْبٍ- بسيطَةً. فرُغمِ حملِها، في ثناياها، لشحناتِ طاقةٍ إلهيّةٍ أكبرَ بكثيرٍ في مدى تعقيدِها وشدّتِهَا، من مُجرّدِ نُثارَةِ حياةٍ إلا أنّها، مُقارنَةً بغيرِها من كائناتٍ حيّةٍ، تظلُّ شيئاً بُدائيّاً وأوّليّاً. ذلكَ لأنَّ درجةَ البساطةِ في هيئتِها ومُكوّناتِها هي- كما أسلفتُ- مقياسُ جهلِهَا (أي افتِقارِها- حتّى ذاكَ الآنَ من آنَاتِ مَرَاقِيْهَا- إلى قوى الحِكمةْ).
إنطلاقاً مما سبق قد نصوغُ، في الخيالِ، مراقي سلَّم الحياةِ، معالمَ سبيلِ الطّبيعةِ فنُدَرِّجُهَا، في مرائينَا، صُعُدَاً من اللّبِّ (المركزِ) الأبسطِ للطّاقةِ الرّوحيّةِ على كوكبِ الأرضِ والمركُوزِ في المادّةِ إلى أشكالِ حياةِ الطّبيعةِ المتناميةِ أبداً في تركيبيّتِهَا. ثم انعطافاً أعلى، من هُناكَ، على الإنسانْ. ثم نقولُ، إغناءاً لذلكَ، إنّ أيَّ لُبٍّ، أو عَصَبٍ، رُوحيٍّ موجودٌ في الكونِ، أو في الحياةِ، يُواتِرُ نمُوّهُ هُناكَ عبرَ استيفائِهِ الدّائمِ في ذاتِهِ لمزيدٍ من طاقاتِ الرُّوحِ المُكوّنَةِ للحياةِ، الوعيِ والشّعُورْ.
قد قِيلَ إنَّ "اللهَ ينامُ في المملكةِ المعدنيّةِ، يحلُمُ في النّباتَاتِ، يستيقظُ في المملكةِ الحيوانيّةِ، ويصيرُ واعياً في الكائنِ الإنسانيِّ". ذلكُم لأنّ مُكوناتَ الحياةِ والوعيِ مورُوثَةٌ في هيئةٍ حُثاليَّةٍ في كلِّ ذرّةٍ، فالذّرّةُ ما هي إلاّ غِطاءٌ برَّانِيٌّ لقوىً روحيّةٍ جُوّانيّةْ.
البساطةُ تعني الجّهل.
التّركيبيّةُ تُنشئُ الإنسانْ.
لا نهائيّةٌ من تركيبيّةِ الطّاقاتِ الإلهيّةِ الخلاّقَةِ تُبدِعُ الحكيمَ، القِدّيسَ، الكائنَ الإنسانيَّ المُتحرّرْ.
الموتُ، كما ندري، ليس هو مُنتَهَى رحلةِ النّفسْ. فنحنُ، في اعتقادي، قد تجاوزنا، في ترقّينَا الشِّعُورِيِّ أوالرُّوحيِّ، درجةَ السّعيِ المُثابرِ للبُرهانِ على خلُودِ النَّفْسِ، على تواصُليّةِ الوعيِ والشّعورِ في أبعادٍ أَرَقَّ من الكينونةْ. هُنالكَ يدخُلُ الفردُ مرحلَةً، طويلةً كانتْ أم قصيرةً في حُكمِ حاجةِ نفسِهِ إليها، مُفعَمَةً بحالٍ من الإهتمامِ والإنتعاشِ الرّوحيِّ، بحالٍ من "الرّحيلِ دونَ كوابحٍ" في المجالي الما ورائيّة. مع ذلك ليس ذاكَ هو الوطنُ الدّائمُ للنّفسِ السّاعيةْ. حقّاً إنّ القليلينَ، في هذا العصرِ، قد يكونوا من الجثرأةِ بحيثُ يدّعُونَ، كما هُمْ في حالتِهم الحاضرة، مستوىً، نسيجاً من الإمتيازِ الرّوحيِّ يؤهّلُهُمْ لمقامٍ أزليٍّ في المجالِي السّماويّةِ الفردوسيّةْ.
"الدّنيا مدرسةٌ لتنميةِ وتطويرِ الرّوحْ. ونحنُ، رُغمَ بلُوغنا، في سعينا الوجُوديِّ، مرتبةَ الإنسانِ، لا نستطيعُ، بعدَ، أن نفترضَ لأنفُسِنَا جدارةً بالحياةِ في اتّحادٍ أبديٍّ مع الأُلُوهيِّ. ثم أنّنا، كما نحنُ في حالتنا الحاضرة، قد لا نستشرِفُ، أصلاً، تشوّفَاً، في ذواتِنا الآنيّةِ، إلى مثلِ ذلكَ الغتّحادْ. فنحنُ- حقيقةً- لا نزالُ مُستوجِبِيْنَ مُكابدةً في سبيلِ تلكَ الدّرجةِ من الإمتِيازْ. بالتأكيد سيجد الكثيرون منا أنفسهم معرّضينَ، بسهولةٍ، للإعتلالِ إن هم عاشوا في الأجوازِ الملائكيّةِ، في فرادِيسِ البَرَكاتْ. فالإندغامُ الأبديُّ في "الكُلّيّةِ الإلوهيّةِ"يستلزمُ منّا انسجاماً في اندياحِنا الشّعوريِّ وصفاءاً في قًوانا الروحيّةْ [يحضرُني، في هذا المقام، بيتُ شعرِ أبي الطيّب المتنبّي القائل:- ومن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ/ يذُقْ به مُرّاً الماءَ الزّلالا. ذلكَ لكأنّي بالكاتبةِ تحدّثنا هنا عن "سقمنا" الرّوحيّ العصريّ الحاجبِ لنا عن "هيئةِ الإنتباهِ الشّعوريّ الجديرةِ بأن تفتحنا على تلكَ الأجوازِ وتلكَ الفراديس- ففمُنا- إن التففنا، حسب المقام الحاضر لكتابتنا هذه، على معاني المتنبّي الشّعريّة الحقيقيّة- يكونُ، روحيّاً، متعوّداً، في هذه الحالةِ، على المرارةِ إلى حدِّ نسيانِ "الحلاوةِ الأصليّةِ لمذاقِ فردوسنا الرّوحيّ القديمِ الذي رسمتْ صورتَهُ، في لا شعورنا الكلِّيِّ العريقِ، جميع الأديان البشريّة الجّليلة، سماويّةً كانتْ أم "غيرَ" سماويّة- المترجم].
ما الذي يمكنُ فعلُهُ بشأن ذلك؟
حسناً، قد عُلّمْنَا أنّ فترةً دراسيّةً أرضيّةً (دنيويّةً) أخرى سوف تُعيننا في سبيلنا. فهي- حسب ما يرى ذلك التعليم- ستُروّضُ أنفسنا وأرواحنا على التّناغِمِ مع رحابِ الكمالْ. ذلكَ لأنّها تُوفي حاجتنا التي لا غنىً لنا عنها، إن أردنا أن نصونَ للأزليّةِ بُعدَ الكينونةِ الرّوحيّةِ، إلى انفساحٍ في الرّؤيا وسعةٍ في الرّوحْ:- تلكما الخاصّتان المميّزتان لكلِّ من له نورُ وجدانٍ (وعيٍ) عارفٌ بالرّوحْ.
ربما نكون الآن، بالفعلِ، متقدّمينَ، تقدّماً مُعتبرَاً، في سبيلِنا إلى هذه الذبذبة الرّوحيّة العاليةِ؛ هذا الغورِ الكينونيّ البعيدْ. مع ذلكَ فإنّ كثيراً منّا هم من السّالكينَ المتأخّرين، سيّما وأنّهم ما يزالوا محتاجينَ إلى عددٍ من الفتراتِ في مدرسةِ الخبرةِ (التّجربةِ) الأرضيّةِ قبلَ أن يفُوزُوا بالإمتيازِ الرّوحيِّ الموسومِ بهش سبيلُ كسبِهِمْ هذا.
هكذا- إذاً- ترجعُ الرّوحُ، مجدّدَاً، إلى الأرضِ بجسدٍ يافعٍ، بشخصيّةٍ جديدةٍ تتّخذُها رداءاً لنفسها وروحها. ثم، عبر خبرتها الدُّنيويّةِ، تُدرّبُ ذاتَهَا على أن تكونَ مُستأهِلَةً للحريّةِ المكينةِ في المستوياتِ العميقةِ من الكينونةِ الما ورائيّةْ.
نحنُ نحتاجُ إلى أن نحوزَ على الغبطةِ في مجالي الفردوس الأزليّة.
هل نحنُ، بعدَ، انتهينا إلى مقامِ الجّدارةِ بحالٍ كتِلْكَ؟
يقيناً، نحنُ نشعُرُ بأنّنا- حاليّاً- عندَ مقامٍ هو دونَ ذلكَ.
ما أرواحُنا المتلاشيةُ الأجرام، في مشهدِ مصهرِ الأرواحِ الجّليلِ الذي هو جِماعُ الواحدِ المُهيمِنِ، إلا لهبُ شمعةٍ. وكونُ الحالِ كذلكَ فيهِ إنباءٌ لنا بأنَّ النّوعَ الإنسانيَّ، في مُجْمَلِهِ، ما راوحَ بعيداً جدّاً في صعودِهِ إلى أعلى سُلّمِ التّطوّرِ الكينونيِّ السّامقْ. فنحنُ- بنُو البشرِ- ما نزالُ أقزاماً في حضرةِ القوى الدّيناميّةِ الّتي تَتَوَهّجُ في الوجُودِ طالعةً من قًدرةِ الواحدِ المُهيمِنِ الخالقَةْ.
إذاً يبدو وجوبُ قيامِ مدارجٍ وجوديّةٍ شتّى تتدخّلُ بينَ الأشكالِ العديدةِ للحياةِ ومساراتِ نموّها المستطاعة أمراً محتملاً. فتلكَ المدارجُ- كما ألمحَ سابقُ ما قُلنا- تُوَسَّعُ وتُتَمَّمُ هاتيكَ الأشكالُ فتُوائمُها، ما وجدتْ إلى ذلكَ سبيلاً، مع حالِ وجودٍ تَصَوُّرُهُ مُتجاوزٌ جدّاً لطاقاتِ خيالِنَا.
مجالي الطبيعة، في مختلف أنحاء الأرضِ هذي، هي مُنْشِئَةً المدارجَ إيّاها. فسُلّمُ الكينونةِ يمتدّ من كيميائيّاتِ الأرضِ الفيزيائية، صُعُدَاً عبر جميع وضعيّات الطبيعة النباتية، المخلوقات المائية، الحيوانات، إلى الإنسان- ثم إلى اقانيمٍ ماورائيةٍ قُدّتْ من مادّةٍ دقيقةٍ بديعةٍ ليس لحواسّنا، في حالتها الحاضرة القاصرة، أن تُنبئَنَا عنها. طبعاً هذا لا يعني أنّ تلك الأقانيم غير موجودةْ. فهنالكَ أدلّةٌ كثيرةٌ تُظهِرُنَا على ذاكَ الوجودْ.
كلٌّ نفسٍ إنسانيّةٍ، كما عُلّمْنَا، تطوَّرَتْ خلال مدارجِ الطبيعةِ المختلفةِ حيثُ، شيئاً فشيئاً، نمّتْ محتوى طاقتِها الرّوحيّةِ حياةً إثرَ حياةْ. ذلكم وهب تلك الانفسَ- وما يزالُ يهبهُنَّ- مزيداً من "مادّةِ" الشّعورِ، إدراكاً واعياً أكثرَ غوراً وعُمقاً.
ثمةُ قوّةٍ مغناطيسيّةٍ هنا تجذُبُ إليها، عبر عمليّة تناغمها مع الوجودِ الفسيح، انثيالاً دائماً من الطّاقاتِ الرّوحيّةِ- هاتيكَ إشعاعاتٌ من المنبعِ الإلهيِّ الخلاّقْ. إنّها تفيضُ، بتواتُرٍ، خلال الكون جميعه مُشتملَةً فيها على جواهرِ الحياةِ، العقلِ، الوعيِ، والرُّوح.
تلك الجّواهرُ تصوغُ أرواحنا. فالرّوحُ، أيضاً، تنمو. ذلكَ عبرَ انسرابِ إشعاعاتِ الكينونةِ الأُلُوهيّةِ إليها في حالِ تمثّلها العينيِّ كفردٍ، كـ"أنا".
نحنُ- إذاً- مخلوقون، في جوهرنا، من مادّةٍ (خامةٍ) أزليّةٍ وإلهيّةْ. والرّوحُ المنداحةُ في أيٍّ منّا غيرُ قابلةٍ للفناءْ. وفي آنِ الموتِ فقط تنخلعُ عنّا هيئتُنا الفيزيائيّةْ. ثمَّ تَستنفرُ الرُّوحُ إليها، من بعدِ ذلكَ، كلَّ الطَّاقاتِ التي اكتسبتها خلال خبراتِها في الماضي- تلك الأنماط من الطاقات المعبّر عنها بِوَاسِطَةِ النَّفس، الغطاء الخارجي للرّوح. أمّا الجّسدُ فهو تعبيرٌ عن الشخصيّة الزّمانيّةْ... ثمةُ ديمومةٍ متّصلةٍ من الشّعورِ تغدو بنا ساعيةً من حياةٍ إلى حياةْ. وما نكتسبُ في أيٍّ من هاتيكَ الحيواتِ يتّخذُ، في الحياةِ اللاحقةِ لها، هيئةَ ما قد يُميّزُنَا، آنذاكَ، من التّحوّراتِ الفيزيائيّةِ، الجّيناتِ والقُدراتِ الإستثنائيّةِ الكبيرةْ.
تجربتُنا في عهودٍ ماضيةٍ هي ما صاغنا على ما نحنُ عليهِ الآنْ. فكلُّ كائنٍ إنسانيٍّ هو مُستودعُ آلافٍ من سنينِ العيشِ بين أجناسٍ حيّةٍ مختلفةٍ وعديدةْ. وأيُّ صورةِ حياةٍ من حيواتِهِ تلكَ تُمثّلُ (بحسبِ حكمِ وقتها) التّعبيرَ الخارجيَّ عن محتوى طاقةِ الرّوحِ فيهِ. ذلكَ لأنَّ كلَّ شكلٍ، في كلِّ جنسٍ، قد ووئِمَ وتجسيدَ درجةِ تطوّرِ أسِّ رُوحِهِ الباطنةْ.
عليهِ، آنَ الحيازة على الوضعيّة الإنسانيّة، يشقُّ كلٌّ منّا طريقهُ، عبر القرون، نامياً ومتطوّراً في العقلِ والرّوحِ، في التّصوّرِ وقوى التأمّلِ، في مرونةِ الحكمِ، في القامةِ الرّوحيّةِ وفي المحتوى الإلهيْ.
ذاتُنا الدّاخليّةُ هي مُرَكّبٌ من جواهرٍ رُوحيّةٍ جذبناها إلى بواطنِ أنفسنا عهداً فعهداً. والحيثُ من سُلّمِ التّطوّرِ الذي يقفُ عندَهُ مخلوقٌ ما يعتمد على مدى تركيبيّةِ الطّاقاتِ الرّوحيّةِ لدي ذاكَ المخلُوقْ.
هكذا يُعبّرُ العقلُ والكينونةُ الإلهيّان عن ذواتهما في، وخلال، جِمَاعِ الخَلْقْ. فالأمرُ هو أمرُ "نهرٍ أُلُوهيٌّ" من الحياةِ المتطوّرَةْ.
كوكبُ الأرضِ قد أُعِدَّ ليُمثّلُ مسرحاً تدريبيّاً للأنفُسِ المُرتقيَةْ. ففيهِ نجدُ نحنُ أوضاعاً هي بمثابةِ حجرٍ شاحذٍ لـ"آلةِ" أرواحِنا إذ هي تُنمّي، مع كلّ خبرةٍ جديدةٍ لنا بها، ملَكَاتَنَا الرّوحيّةْ.
إلى الأرضِ- إذاً- نؤوبُ كرّةً، ثمّ كرّةً، كي نُعبّرَ عن وجهٍ أو آخرٍ من وجُوهِ ذاتِنا الباطنَةْ. فإذا ما توازَنَتْ جواهِرُنا الرّوحيّة واغتنينا داخليّاً غدا ممكناً لنا أن ننعتقَ، نهائيّاً، من أسرِ حياتنا فيها. فحين نستطيعُ أن نصونَ بين جوانحنا أرقَّ ذبذباتٍ صادرةٍ عن أحوالِ وجودٍ في المقاماتِ العُلَى لا نعُدْ بحاجةٍ إلى العودةِ للأرضِ ومستوياتِ وجودها الكثيفة.
نحنُ كائناتُ فضاءٍ جديدةٍ تتعلّمُ التّنفّسَ في مجالٍ أشَفْ. ولكي نفعلَ ذلكَ ينبغي علينا أن نصوغَ لأنفُسنا أزياءاً قادرةً على إلباسِ الرّوحِ شكلاً مواتياً لتنزّلِ الشّعاعاتِ العُلَىْ. عندما نُحظى بدرجةِ الإمتيازِ ونتخرّجُ من "مدرسةِ" الأرضِ، بعد أن نقهرَ قوّةَ جاذبيّتها الغلاّبةَ ونخلعُ عنّا بعيداً أحذيةَ غوصِنا الجّسديّةِ الشّادّةَ إيّانا، بكُلاّباتٍ، إلى قشرتِها، نكونُ قد ظفرنا بانطلاقتنا الأبديّةْ. حينذاكَ نغدُو أحراراً في أن نُغامِرَ، أبداً، في مجالِ ذبذباتٍ متماديةٍ دوماً في اللّطفِ وعمقِ الغورِ، في أبعادٍ رُوحيّةٍ قائمةٍ في آمادِ اللا نهائيّة- "ثمّ هم سوف لا يخرجُونَ من هُناكَ أَبَدَا".
الإنسانُ، في أسمى تجلّياتِهِ على الأرضِ، هو أعظمَ التّجسيداتِ كمالاً للأُلُوهيِّ الذي بالمُستطاعِ
تحقيقه على هذا الكوكب في الوقتِ الحاضِرْ.
إنّ رحلةَ الإنسانِ، نفساً وروحاً، غايتُها الاتّحادُ الكاملُ مع الإلهيِّ الذي وَهَبَهُ خَلْقَهُ. هذا يتأتّى حينما تنضمُّ، بثراءٍ، كلُّ جواهرِ الضّياءاتِ الإلهيّةِ إلى بعضِها البعضِ في توازُنٍ تامْ.
نحنُ آلهةٌ تتخلّقْ. وهكذا اللهُ المُتعالِيْ ذاتُهُ فهو، في كلّ يومٍ، له شأنْ. وذاكَ الشّانُ، في فضائنا الصّغيرِ من الكونِ، يتبدّى على هيئةِ صيرورةٍ إلهيّةٍ مُشتَمِلَةً إيّانا في خِضَمِّهَا.
حادثُ الموتِ، إن كانَ واقعاً على خليةٍ، نباتٍ، سمكةٍ أو حيوانٍ عالي الرّتبةِ، ما هو إلا شيءٌ كانفساحِ الغِمْدِ الفيزيائيِّ البَرَّانِيِّ عن السّيفِ، كانسلاخِ جلدِ الثّعبانِ عن الثُّعبانْ. ففيهِ تفقدُ الطّاقاتُ الفيزيائيّةُ زخَمَها، ومن ثمّ تجذبُ شُعاعاتَ الرّوحِ خارجاً عن الجّسَدْ- تتساقطُ الذّرّاتُ الفيزيائيّةُ بعيداً. وتبقى الرّوحُ مُصانةً في لُبِّ ذاتِها الجّوّانيِّ، تماماً مثلُ بٌرعمٍ يجذبُ، أثناء الشّتاءِ، قوى نمائهِ من مجالِ ازدهارها الخارجيِّ إلى "دخيلتِهِ" إلى حينَ إطلالةِ الرّبيعِ آنما يُطلقُهَا، مرّةً أخرى، مُتجدّدَةً النّضَارْ.
حينما يكونُ مُركّبُ طاقةِ الرّوحِ أوّليّاً فإنّهُ، طبيعيّاً، يجدُ تربةً أكثرَ مُنَاسَبَةً لوجودهِ في الأبعادِ الشّديدةِ القربِ من الأرضْ. إنّهُ يستوطنُ، مرّةً ثمَّ مرّةً أُخرى، جسَدَاً فيزيائيّاً إثرَ جسَدٍ فيزيائيٍّ آخرْ. فالموتُ- في مشهدهِ- ليس سوى نهايةِ عهدٍ، فصلٍ يُعبِّرُ فيهِ عن نفسهِ، على الأرضِ، في هيئةٍ فيزيائيّةٍ معيّنَةْ. ذلكَ حتّى يُرسّخ مكاسبهُ الكيانيّة هناك ومن ثمَّ يستجمُّ، طرفاً من الزّمانِ، في مجالي الإنعتاقِ أو الطَّلاقَةْ.
يظلُّ المركزُ الرّوحيُّ لكلِّ كيانٍ حيٍّ لجنسٍ طبيعيٍّ قريباً من الأرضْ. حتّى إذا ما شحنَ نفسَهُ بمُركّبِ طاقةٍ ذي قوّةٍ روحيّةٍ بمقدورها أن تشُبَّ بهِ إلى مجالاتٍ عُلَىً انطلقَ إلى إلى هناكْ. فما يُوثِقُ صلةَ الكائناتِ الطبيعيّةِ بالأرضِ ويجعلُ الحياةَ تنبثقُ فيها على هيئاتٍ جديدةٍ ترتادُ مجالها الفيزيائيّ هو مبدأُ التّعاطُفيّة- انجذابُ الشّبيهِ إلى الشَّبِيْهْ [* قد يحسُنُ بي، كمُترجِمٍ، أن أُدَاعِي، في هذا المقام، إلى تصوّرِ قارئي أمرَ وجُودِ صلةٍ ملموسةٍ بينَ ما تقُولُهُ المؤلّفةُ هنا والمبدأ العام الذي "يؤمنُ" العارفُونَ بالسّحرِ ومُمَارِسِيْهِ أنّ السّحرَ يعملُ وِفْقَهُ وهو مبدأ انسجامِ الآفاقِ جميعِها- روحيّةً كانتْ أم فيزيائيّةً- مع نظائرِها (أو توائمها، إن شئتْ) الكونيّة؛ ذاكَ المبدأ الذي كثيراً ما يُشارُ إليهِ، في كُتُبِ السّحرِ والعلومِ الرُّوحيّةِ على أنّهُ القاعدةُ الأنطولوجيّةُ القائلةُ بأنَّ "ماهو فوقْ، ما هُوَ تحتْ"- المترجم].
الإنسانُ غيرُ مُستثنىً من هذه القاعدةْ. فطالما نفسُهُ ورُوحُهُ كانتا فاقدتينَ لذاكَ الغِنَى في الجّواهِرِ الإلهيّةِ الذي هو- وحدَهُ- خليقٌ بقهرِ قوّةِ جاذبيّةِ الأرضِ فإنّ الرّوحَ فيهِ لا مناصَ لها من البقاءِ في مدى الأرضِ حيثُ تنسجُ ذاتَها، مرّةً فمرّةً، في جِسُومٍ أُخَرٍ حتّى أنَ ذهابِ زبدِهَا جُفاءَاً، انفِكَاكِ "صابُورةِ" قيدِها الأرضيِّ وتحوّلِها إلى هيدروجينَ من الرّوحِ يخفُّ، صَفِيّاً، في صعودِهِ إلى الآمادِ السّماويّةِ الماورائيّةْ.
هذا هو القانون الكامن خلف تناسخ الأرواحْ. فتناسخ الأرواح ليس ظاهرةً تحدُثُ، من حينٍ إلى حينٍ، للإنسانِ وحدهُ. إنّها العمليّةُ (السّيرورةُ) التي تنمو وتتطوّرُ في نطاقِها كلّ الحياةِ على كوكبِ الأرضْ. وما يُجنَى في حياةٍ واحدةٍ هُناكَ يُصانُ في الهيئةِ-الرّوحِ الإنسانيّةِ ويُعبّرُ عنهُ في الحياةِ القادمةْ.
يعيشُ الكيانُ الحيُّ زمانَهُ على الارضِ، يموتُ، يسترخي ويُنعشُ ذاتَهُ في المجالي الباطنةِ لحينٍ يتوافقُ قِصرُهُ أو طُولُهُ وحاجتُهُ، ثمّ ينغمرُ، بعدَ، في حياةٍ أخرى على الأرضِ يتعلّمُ فيها دروساً أعمقَ يصعُدُ، إثرَها، إلى درجةٍ أعلى من سُلَّمِ الوجُودْ.
دعونا نتخيّلُ حيواناً بُدائيّاً يحيا في الماء. هو يحيا ويموتُ، مرّةً ثمّ أخرى، جاذباً إلى ذاتِهِ، في كلّ حينٍ، مدّاً عظيماً مُتنامِيَاً من الطّاقاتِ الشَّعشاعةِ الفائضةِ على الكونِ في كلِّ مستوياتِهِ. باعثةُ الفاعليّةِ المُطلقةِ لديناميّةِ هذه المغناطيسيّةِ أو التّجاذُبيّةِ في حيّزِ الفعلِ هي وضعيَّةُ "الحاجةِ والرّغبَةْ". فأبسطُ المخلُوقاتِ، لكونِهِ قُدَّ من طاقاتٍ عقليّةٍ، يستعملُ في حياتِهِ، بدرجةٍ ما، قدرةَ العقلِ الثّاويَةِ في كلِّ ذرّةٍ من ذرّاتِهِ. ذلكَ لأنّ الحاجةَ إلى، والرّغبةَ في، الطّعامِ، والحاجةَ ألى، والرّغبةَ في، حريّة التنقّل ومرونته، سعياً وراء الطّعام والسّلامة، تُخلِّقانَ جذباً مغناطيسيّاً يسحبُ مدداً أبعدَ من الطَّاقاتِ الكونيّةِ إليهِ. وهكذا، خلال التجربة الحيّة، يُسوّي ذاكَ المخلوقُ نفسَهُ، شيئاً فشيئاً، في هيئةِ أشكالٍ دائمةِ المُضيِّ في تركيبيّتِها.
بعد حيَواتٍ عديدةٍ متَّخِذَةً أشكالاً سَمَكِيَّةً شتَّى قد يجدُ المخلُوقُ إيّاهُ نفسَهُ عائشاً على حافّةِ الماءْ. عندَ ذاكَ سيحتاجُ رئتينَ يتنفّسُ بهما في مدىً ألطفَ وسُوقَاً تَنْهَضُ بهِ عبرَ الرّملِ الحارِّ علّهُ يُصيبُ طعاماً أو ظِلاًّ. فهو يحتاجُ، حاجةً قاهرةً، إلى هاتيكَ الأشياء ويرغبُ فيها. والإشاراتُ الصّادرةُ عن ’جِهَازِهِ‘ الصّغيرِ تُومضُ خارجاً بإشعاعاتٍ ذاتِ صبغةٍ موافقةٍ لتلكَ الحاجةْ. والإنجذابُ المغناطيسيُّ المُتخلّقُ عن قوّةِ تلكَ الحاجةِ يجذبُ إليهِ، بِواسِطَةِ التّناغُمِ والإنسجامِ، طاقاتٍ شبيهةً بهِ. الوعي (الشّعور) يُشكّلُ صيغةَ حاجتِهِ، ومن ثمّ تنسربُ فيهِ الطّاقاتُ الشّبيهةُ بهِ.
وهكذا يُنْشَئُ المخلوقُ الصّغيرُ. هكذا- بالفعلِ- يُنْشِئُ المخلوقُ الصّغيرُ ذاتَهُ بجُهدِهِ الخاصْ. وبعدَ حيَوَاتٍ وميتاتٍ عديدةٍ تتطوّرُ خياشيمُهُ وزعانفُهُ إلى رئتين وسيقان فيغدو كائناً أميبيّاً ويصلُ إلى مشارِفِ أطرافِ الأراضي الغابيّةْ. عندها يبدأُ في تسلّقِ الأشجارِ بحثاً عن الطّعامِ فتّتخذُ حياتُهُ بُعدَاً معاشيّاً جديداً.
الطّاقاتُ التي يكتسبُها هذا الكائنُ (المخلوقُ) في كلِّ حياةٍ من حيَوَاتِهِ تصيرُ منطبعةً في لُبّهِ الرّوحيِّ كجزءٍ من ذاتِهِ الفرديّةْ. إنّها تربُو، حياةً إثرَ حياةٍ، مسنودةً، في ذلكَ، بقانُونِ التآلُفاتِ الرّوحيّةْ. وكما في الذّرّةِ تَلُمُّ هاتيكَ الطّاقاتُ "أيَادِيْهَا" وتُشيِّدُ، ضمنَ العمليّةِ المستمرّةِ المتمثّلَةِ في وجودها المتّصل، الكيانَ العضويَّ الخاصَّ بها. هذا قد يُشبّهُ بطَيَّةِ فلمٍ دائمةِ التّمدُّدِ ملفُوفَةً حول "البَكَرَةِ" المركزيّةِ للرّوحْ. كلُّ قسمٍ من ذاكَ الفلمِ يعرضُ علينا حياةً ما على الأرضْ. وكلُّ حياةٍ من أولئكَ الحَيَوَاتِ لها هيئةٌ مختلفةٌ، بيدَ أنّها تُضيفُ قُوّةً إلى رُوحِ الكائنِ المركزيّةْ.
الطّاقاتُ المكتسبةُ الجّديدةُ ترتقي بالكائنِ، قُدُماً، على سُلّمِ التّطَوُّرْ. إنّها تبرُزُ، على المستوى الفيزيائيِّ، في الجّيناتِ والكروموزوماتِ وصِيَغِ طاقةٍ أُخرى تتعيّنُ في كلِّ شكلٍ فيزيائيٍّ تتّخذُهُ. وما أن يغدو بيتُ-مخزنُ طاقاتها مُغتَنِيَاً، غورَاً وعُمقَاً، حتّى تتشكّلُ، ببُطءٍ، في هيئاتٍ أكثرَ تعقيداً:- الهيئات الحيّة لأجناسٍ عُلْيَا.
وهكذا قد يصيرُ كائننا الصّغيرُ ذاكَ، مرّاتٍ كثيرةً، حرذوناً (ضبّاً). ثم يتحوّلُ، من بعدٍ، خلال آلافِ السّنينِ، إلى هذا الحيوانِ أو ذاكَ من بينَ شتّى حيواناتِ الغابةْ. فرغباتُهُ هي، دوماً، ذاتُ ارتباطٍ بمصدرِ مُكتسباتِهِ الرّئيسْ. وذلكم هو الجّاذبُ المغناطيسيُّ الذي ما تزالُ طاقاتُ رُوحِهِ مغروزَةً في مجالِهِ. عليهِ فهو يحيا وينمو في "عُنصُرِ التُّرابِ"، على الأرضِ وفي أقانيمِ ذبذباتِها الفيزيائيّةِ- الأثيريّةِ-الرّوحيّةْ.
تدريجيّاً يتطوّرُ الكائنُ- إذاً- فيطوي درجات الحياةِ، درجةً فدرجةً، حتّى يُولجُ نفسهُ في دوائرِ أجناسِها العُليا فيصيرُ، ربّما لمرّاتٍ عديدةٍ، قرداً صغيراً من فصِيلٍ ما أو آخرٍ، ثمّ قرداً ضخماً. التّجربةُ غنيّةٌ ومتنوّعةٌ في حالاتٍ كهذه. فالحياةُ فيها تفرضُ على كائننا ذاكَ ضغوطاً مُعلّمَةً كثيرةْ. فهو ينبغي لهُ أن يجمعَ طعامَهُ، أن يشُبَّ مع غصنٍ إلى غُصنٍ، أن يتسلّقَ الشّجرَ سعياً وراءَ السّلامةِ، أن يتزاوجَ مع بعضِ نوعهِ حتّى يُنجبُ ويعتني بصغارِهِ. كما وأنّهُ يغدو- حينذاكَ- ذا جهاز عصبي عالي التنظيم وحسّاساً فيشعرُ بالألمِ، يحسُّ، بينَ جوانِحِهِ، انطلاقاتَ لهوٍ وانشراحٍ مُتواثِبَيْنَ، يأنسُ دفءَ عاطفتِهِ تجاهَ والديهِ، تجاهَ اليفِهِ وتجاهَ صغارِهِ. وذلكَ كلُّهُ ذو صلةٍ بردودِ أفعالٍ تنمُّ عن خصائصٍ سايكولوجيّةٍ عديدةٍ مُماثِلَةٍ لتلكَ الّتي نُلاحظها في حيوانَاتِنَا الأليفةِ- وفي أطفالِنَا.
قال عالمٌ حسن السيرة، أثناء محاضرةٍ ألقاها أمام الجّمعيّة المَلَكِيّة ذاتَ ماضٍ قريب:- "إن كان الإنسانُ، وما يزالُ، رئيس الاجناس على الأرضِ، فقرد الرّيسوس [فصيلٌ من القرود يعيشُ في جُزرِ الهند الشّرقيّة. لونُهُ بُنّيٌّ داكنْ- المترجم] سيكون نائبه إذ أنّه الثّاني، بعد الإنسان، في الذّكاءْ".
وفيما الزّمانُ يُطوىْ قد تغدو، ربّما خلال آلاف السّنينْ, الجّواهر الرّوحيّة لذاكَ المخلوقِ منسوجةً في لُبِّ حياتِهِ كقردٍ ضخمٍ، مما يُصيّرُهُ واعياً بذاتهِ فيتعلّمُ التّصوّرَ والقدرةَ على التَّدبّرِ، التّعقّلِ والتّنظيرِ، ولو أنَّ ذلكَ كلّهُ يتحقّقُ فيهِ (أو عندهُ) على نحوٍ أوّليٍّ... في عهدٍ قادمٍ قد تُعَادُ ولادةُ رُوحِهِ، ليسَ في جسمِ قردٍ وإنّما في جسدِ إنسانٍ. وهكذا تنمو نفسهُ وتتطوّرْ.
يحيا، من بعدِ ذلكَ، مِراراً عديدةً، كإنسانٍ بدائيٍّ فيتعلّمُ، شيئاً فشيئاً، صيغاً معقّدةً من السّلوكْ. الحياةُ هي المُعلّمُ العظيم، فخلالَ "ضروراتِ" وجُودِهِ الحُرِّ يتطوّرُ ذاكَ الإنسان الأوّل فيجذبُ إليهِ، دوماً، الإشعاعات الكونيّة ويتّخذها عنصراً بارئاً لنمُوّهِ. ربّما تتحكّمُ، آنذاكَ، ظروف بيئته وأعراف عيشه اليوميّ، لحدٍّ معيّنٍ، في ردودِ أفعالِهِ، لكنّه دائماً يظلّ حرّاً في اختيارِ طريقه الحياتِيْ. وهكذا يُبنِي لنفسِهِ شخصيّةً فريدةً ونفساً هما الإنعكاسين الحيّين لمكوّناتِ رُوحِهِ الباطنةْ. فكلّ كائنٍ في الوجودِ لهُ فرديّةٌ خاصّةٌ بهِ.
بتوالي الزّمانِ يغدو طفلُ الطبيعةِ هذا حاضراً في بلداننا المتمدينة، علماً بأنّ حضوره ذاكَ يتبدّى، في أوّلِ الأمرِ، على أنّهُ عيشٌ في مدارجِ روضةِ طفولةِ البشريّةْ. لكن ذلكَ، طبعاً، لا يُنفِي حيازتهُ للميكانيزمات المعقّدة والخصائص السايكولوجيّة للكائن الإنسانِيْ. فكإنسانٍ هو- في أحوالِهِ السّوِيّةِ- كائنٌ سريع التّعلّمْ.
الآنَ نحنُ قد فهمنا، بوضوحٍ أكثرٍ قليلاً، معنى الحِكمةِ الجّامعةِ التّي عُهِدَ بها إلينا:- "البساطةُ في ورقةِ عشبٍ هي مقاسُ جهلها":- البساطةُ في الطّاقاتِ الإلهيّةِ تُعطي هيئةً أوّليّة؛ التّركيبيّةُ والعمقُ يُخلّقان النّضجْ.
5
هنا قد نصمتُ للحظةٍ كي نُحاولُ أن نبتعثَ، في عيوننا العقليّة (الشّعوريّة)، صورةَ وضعيّةِ تلك الرّوح المُرَكّبَة التي هي اليُنبُوع الرّئيس، المركز، لكلّ كيانٍ حيٍّ.
اقترحتْ كُتُبِي الباكرةُ علينا أن نُحاولَ تخيّلَ المستويات الباطنة من إنسانٍ ما وكأنّها اسطوانةِ قراموفون. فرنّاتُ تلك الأسطوانةِ، لكونِها جُبِلَتْ من ذبذباتٍ مختلفةِ الأنواعِ، تُمثّلُ، كلٌّ بمفردها، حياةً أرضيّةً ما عاشها الفردُ خلال عمليّةِ تطوّرهِ الطّويلةْ. فتماماً كما تُمثّلُ أيُّ فقرةٍ من توليفةٍ موسيقيّةٍ برَنّةِ (نغمةِ) ذبذباتٍ تُقَيَّدُ على الأسطوانةِ، كذلكَ نحنُ قد نتدبّرُ هذه المقارنة في حالةِ إنسانٍ ما ونُجرِيْهَا عليهِ فنتصوّرُ حيوَاتَهُ، في هذه الدّنيا، خطوطاً، أو اخاديداً، محفورةً في روحهِ كما انطباع الرّنّات (النّغمات) في "مِعْدَنِ" الأسطوانةْ:- أيُّ خطٍّ، أو اخدُودٍ، محفور على ذاتهِ سيُمثّلُ، في هذه الحالة، حياةً من حيَوَاتِهِ، شخصيّةً من شخصيّاتِهِ. إنّهُ مُركّبُ طاقاتٍ منسوجةٍ في عمقِ كينونتهِ اللامرئيّة، لذا فهو سيحملهُ معهُ دائماً. هذا يعني أنّ الطّاقاتِ المجنيّةِ في كلّ حياةٍ من حيواتِ المرءِ تُولّفُ نفسها حولَ لُبِّ رُوحهِ المركزِيْ. ففي أيِّ حياةٍ يحياها الإنسانُ تنمو رُوحُهُ ويغدو أكثرَ غِنَىً.
على هذا النّحو يمكننا أن نتخيّلَ التّسامُقَ التّدريجيَّ للحياةِ الرّوحيّةِ الخاصّةِ بكائنٍ إنسانيٍّ ما، الشيء الذي يجعلهُ "البيتَ الحافظَ" لكلِّ فكرٍ وفعلٍ- لكلِّ طاقةٍ استُعمِلتْ في جِماعِ حيَواتِهِ الماضيةْ. فالطّاقاتُ متعدّدةُ المشاربِ، التي تمتزجُ الآنَ في باطنِ ذاتِهِ الرّوحيّةِ، تُمثّلُ آلافاً كثيرةً من السّنينِ واشكالاً إنسانيّةً عديدةْ. وما تلكَ الأشكالُ إلا "الشّخصيّات" التي كانتْ لهُ في الماضي، هاتيكَ المعاطف الخارجيّة للنّفس الخالدة التي ستَذُوبُ، بعد عهدٍ مناسبٍ، في الأجوازِ الماورائيّة للوجود فيغدو الإنسانُ-الفردُ، عندها، مقيماً في الخلُود. وذاكَ "الإنسانُ-الفردُ" هو عينُهُ "الأنا" أو "الأنتَ" الإنسانيّة المركزيّة.
ولأنّ الإنسانيّةَ، في منظورِ هذه الفلسفةِ، قد صِيغَتْ من المادّةِ الإلهيّةِ فقد تُعرَّفُ الفلسفةُ إيّاها بأنّها فلسفةٌ إنسانيّةٌ-إلهيّةٌ، فنحنُ، وفقَها، نُدركُ أنّ الرّجالَ والنّساءَ هم، معاً، كائنات إنسانيّة وإلهيّة تحيا في أكثرِ من بُعدٍ واحدٍ في ذاتِ الوقتْ. إنّهم كائناتٌ متعدّدةُ الأبعادْ. فهم يعيشون على الأرضِ في هيئةٍ جسديّةٍ، كما وهم، أيضاً، يعيشون في الرّوح، في أبعادِ الكينونةِ الرّوحيّةْ. هذا يُوحي بأنذهم، كلٌّ على حدة، سالكونَ لطريقِ تطوُّرٍ رُوحيٍّ مُفْضٍ، في غايتِهِ، إلى حالةٍ، أو وضعيّةٍ، يصيرُ، عندها، بمقدورهم قطع روابطهم مع كوكبِ الأرضِ وتحقيقَ حالِ وجودٍ رُوحيٍّ سَاذَجٍ ومُطلق الحُرّيّةْ. هذا يعتمدُ على ماهيّةِ "الحيث" الذي يُركّزونَ فيهِ انتباههم، أو شعورهمْ. ففي الوقتِ الحاضرِ، مثلاً، جثلُّ التّركيزِ الشّعوريِّ لغالبيّتِهِمْ ينبنِيْ، أو يكادُ ينبنِي، على مُعطياتِ الحواسِّ الفيزيائيّةْ. لذلكَ هم محدودو المجالي. غايةُ التّطوّرِ على كوكبِ الأرضِ هي، أوّلاً، استكمالُ هيئةٍ ناضجةٍ للكائنِ، جسدٍ "لطيفٍ وقَاطِعِ الملامحْ"، ثمّ بلوغُ وعيٍ عقليٍّ أعلى، وأخيراً تحقيقُ انسحابٍ من المستوياتِ الخارجيّةِ للوجودِ والقُطْنَىْ في بحبُوحةِ حريَّةِ وبهجةِ النّفسِ-الرّوحْ. فما الشّخصيّةُ- كما سبقَ ووكَّدْنَا- إلاّ الشّكلُ الزّمانيُّ (المُؤقّتُ) للرّوحِ الإنسانيّةِ، القوقعةُ البّرّانيّةُ التّي تتّخذُها مأوىً لها على كوكبِ الأرضِ، وفي بعضِ المجالِيْ الماورائيّةِ، فقط لحينٍ من الدّهرْ.
آنما نكُونُ في الجّسدِ فإنّنا، ككائناتٍ إنسانيّةٍ، قد نَخْبَرُ، أحياناً، وَمَضَاتٍ من الحِدْسِ الباطِنِ، لكنّ هاتيكَ المستوياتَ الباطنةَ منّا (أو من وجُودنا) ليس لنا قدرةٌ على أن نُبقِيْهَا مُصانَةً فينا لزمانٍ طويلْ. الرّجالُ والنّساءُ يُطوّرُونَ، تدريجيّاً، مَلَكَاتٍ جديدةً في دواخلهم، مُلْتَقِطَ ذبذباتٍ رُوحيٍّ يُعينُهُمْ على إقامةِ اتّصالٍ مع المجالي الكونيّةِ-الوجوديّةِ الأبعدَ غورَاً. ونقولُ هنا إنّ الخبرات الحدسيّة التي أشرنا إليها تُبقِيْنَا، ولو لحظيّاً، على تماسٍّ مع أقانيمِ الرّوحْ. نحنُ- كما أنبأنا بعضُ "العارفينَ" منذُ ماضٍ بعيدٍ- نتعلّمُ، تدريجيّاً، أنّ هُناكَ، في بواطننا، تُقيمُ الرُّوحُ، فمدخلُ الدّربِ إلى المجالي الرّوحيّةِ كائنٌ في أعماقِ الإنسانِ نفسِهِ. تلك الرُّوحُ- بآمادِها المتجاوزة- هي هدفنا الأقصى والإنسانُ، في حاضرِ مرحلتِهِ التّطوّريّة، ما صعدَ إلا درجاتٍ معدودةٍ في سُلّمِ السّعيِ نحوها. لكنَّ ذلكَ- في الحقِّ- ليس كلِّ حظّهِ من وجودِهِ في هذا الكونْ. فبِمُضيِّ الزّمانِ سيصُوغُ المنتمونَ إليهِ، فُرَادَىْ، لأنفسهم القُدرةَ على الوصْلِ، بحُرِّيَّةٍ، مع الأبعادِ الرّوحيّةِ الباطنةِ فيهِمْ، ومن ثَمَِّ يتعلّمونَ كيفَ يجعلُونَ من أنفُسِهِمْ واسِطاتٍ ذاتَ قيمةٍ في شأنِ انسجامِ نامُوسِ كوكبِ الأرضْ. غايةُ تلكَ القُدرةِ وذاكَ التَّعَلُّمِ هي سمِوّنا، ككائناتٍ إنسانيّةٍ، إلى مُنتَهَىً من المَجَالِيْ الرُّوحيّةِ البعيدةِ الغَورِ حيثُ الألمُ والكَبَدُ يُخَلَّفََانَ وراءَنا وما يبقَى لنا إلاّ الضُّوءُ والبهجةُ والمُغَامَرةُ الرُّوحيّةْ.
في الزَّمانِ الذي بين الإنسانَ وذلكَ العهد يستطيعُ الإنسانُ- رجلاً كانَ أم امرأةً- أن يُحاوِلَ ردمَ الفجوةِ بين تركيزِهِ على العالمِ الخارجيِّ ووعيِهِ (شعورِهِ) بالرُّوحْ. بهذه الوسيلةِ تستطيعُ الرُّوحُ أن تُنِيْرَ لهُ الطّريقْ.
بقدرِ اقترابِنَا من التّناغُمِ مع التّردّداتِ الموجيّةِ الطّالعةِ من مستوياتِ الوجودِ المتجاوزة لحيّزِ الأرضِ يغدُو أَعْظَمَ ذلكَ الإنسجامُ الذي سوف يُمكَّنُ لهُ- حينذاكَ- التّدَفُّقُ- الإنْثِيَالُ- خلالَنا إلهاميّاً.
عقلُ (شعُورُ) الكائنِ الإنسانيِّ المُرْتَقِيْ يُستطاعُ استعمالُهُ كعُدَّةِ راديو. فإن هو أدامَ نفسَهُ في تناغُمٍ عُلَوِيٍّ سيكونُ بُمستطاعِ الوحيِ الصّادرِ عن الآمَادِ العُلَىْ أن يُشَرَّبَ فيهِ. رسالةُ الإنسانِ هي أن يجعلَ من نفسِهِ قَنَاةً للإلهامِ الواردِ من المجالِ الرّوحِيْ. فبذَاكَ وحدِهِ يصيرُ بمقدورِهِ أن يكونَ ؟"وَاسِطَةَ" اللّهِ على الأَرْضْ.
الفصلُ الثّاني
المُعلّمُ الماورائيُّ يُواصِلُ شُرُوحاتَهُ:- كيفَ تتطوّرُ الحياةُ؟
خلال إحدى مقابلاتي مع "المُعلّمِ" وقَعَ في خاطري أنّ كلَّ ذلكَ الذي أهدانا إيّاهُ ينبغي ألاّ يخُصّنا وحدَنَا (أنا وزوجي) فسألتُهُ عمّا يرى في شأنِ تأليفي لكتابٍ يهبُ النّاسَ تَعْلِيْمَهُ.
بتوكيدٍ انفعاليٍّ قال:- "تلك فكرتِيْ!" ثم أضافَ:- "أنتِ قد بَلَغْتِ مرحلةً من التّطوّرِ حيثُ يبعثُ فِكْرُكِ اهتمامَ أُناسٍ آخرينْ. أنا أحمدُ اللهَ على أنَّ أولئكَ كُثُرٌ".
"هل للكِتابِ أن يأتِي على هيئةِ اعترافٍ مِنْكَ؟ سألتُهُ. أجابني بهدوءٍ:- "ما يزالُ الوقتُ باكراً على الفصلِ في ذلكْ". مضتْ، الآنَ، ثلاثونَ عاماً على تِلْكَ المُحادَثَةْ.
***
منذُ عهدٍ باكرٍ جدّاً في حياتي كوّنتُ، في نفسي، عادةَ ملاحظةِ من وما يعيش حولي من النّاس، الحيوانات والطّيورْ. كُنتُ، في فعلي ذاكَ، دائمةَ التّفكيرِ في الغرائزِ والإنفعالات التي كانت الينبوع الأساسي لنموّنا، لتطوّرنا:- مؤخّراً، عند ظهورِ "المُعلّمِ" سُكِبَتْ في ذاتي تفاصيلٌ مُعدَّدةٌ قُصِدَ بها أن تكونَ إجابةً على تساؤلي. كُنْتُ قد أندفعُ، في تلك الأيّام، باحثةً عن قلمٍ ومُدوَّنَةٍ حتّى أقيّدُ عليها استفهاماتي. وشيئاً فشيئاً كانت الرّدود على تلكَ الإستفهامات تتقاطرُ- تلقائيّاً- خلالي. تدريجيّاً ارتَسَمَتْ في شعوري صُورةٌ عن العوامل المُنشِئَةِ للكائنِ الإنسانيِّ المُفرَدِ فرأيتُ أنَّ كلَّ ما فيهِ هو من إبداعِ طاقاتِ عقلٍ خلاّقٍ ذي منبعٍ إلهيٍّ يُستجابُ بها لحاجاتِ ورغباتِ كلِّ نفسٍ حيّةْ.
نحنُ نُكوّنُ أنفُسنا أثناء مُضيّنا في سبيلِ الحياةْ.
تعلّمتُ أنَّ النَّفسَ، حينما تُغادر المملكة الحيوانيّة، رُبّما تُولدُ، مرّاتٍ أخرى عديدة، في قبيلةٍ إنسانيّةٍ بدائيّةْ.
ذاتُ الإنسانِ الفرديّةِ قد خَبِرَتْ حيواتٍ في أشكالٍ كثيرةٍ جدّاً. وبسبب أنّ تلك الخبرات التي صانتها في كيانها طبعتْ ميسَمَها، في شكلِ شُحناتِ طاقةٍ، على ذاتها الباطنة فإنّها تُعتبرُ مُشكّلَةٌ للأساسِ القاعديِّ لها كنفسٍ إنسانيّةْ. فالتّكوينُ النّفسيُّ لتلكَ الذّاتِ إنّما هو انعكاسٌ خارجيٌّ للجّواهرِ الإلهيّةِ الخاصّةِ المحفوظةِ في دخيلتِها. هاتيكَ الجَّواهرُ قد جُذِبَتْ إلى باطنِ الذّاتِ إيّاها بفعلِ سلوكها الماضويِّ، استجاباتها الشعوريّة، وردود أفعالها للتجارب التي عانتها في الحياةْ. وهنا تندرج قواعد كلَّ السّلوكِ الإنسانيِّ الغريزِيْ.
هذا يُظهِرُنَا على أنَّ الإنسانَ الفَردَ هو مُركَّبُ قُوىً تتآلفُ فيهِ وفقَ ماضيهِ العريق الذي اتّخذتْ فيه حياتُهُ أشكالاً طبيعيّةً عديدةْ. فشخصيّتُهُ هي انعكاسٌ لذاكَ الماضي العريق وما اشتملَ عليهِ آنُهُ السُّلاليُّ والعائليُّ الحاضرُ من خصائصٍ فيزيولوجيّةْ. وسايكولوجيّتُهُ، سلوكه الحاضر، مؤسّسٌ، رئيسيّاً، على ذكرياتِهِ العميقةِ البعيدةِ التي صارتْ، في الحاضرِ، غرسزيّةً وتحتَ-واعيةْ. مع ذلك، ينبثقُ، عن مُركّبِ الطّاقاتِ هذا، ما نُسمّيهِ سجيّتَهُ، مِزَاجَهُ أو طبعَهُ، شخصيّتَهُ وفرديَّتَهُ.
هذا الإنسانُ يحملُ في دخيلتِهِ الشّبكةَ المُركّبَةَ العليا للطّاقاتِ التي تُنشئُ غُددهُ، نوعَ الجّسدِ الخاصِّ بهِ، عظمه ونسيجه، نظامهُ العصبيَّ، مُخّهُ، ثم المستويات الدّاخليّة لكينونتهِ. كلُّ ذلكَ مُشتقٌّ من أشكالِ الحياةِ العديدةِ التّي ورثَها أو، بتعبيرٍ أدقَّ، جسَّدَ خلالها نفسَهُ الأصليَّةَ الباطنةْ. إن استرجعْنَا أجناس المخلوقات العدّة التي تزخَمُ بها الأرضُ سنرى كم هو مُعقّدٌ التاريخُ الماضي الذي تنطوي عليهِ الغياهبُ اللا شعوريّة لكلّ واحدٍ منّا. وسنرى، كذلكَ، مدى فداحة المهمّة التي على دارسِ النّفسِ أن يُنجِزَهَا حين يُحاولُ، عبرَ التّحليلِ، استنطاقَ لاواعيةَ "المريضِ" النّفسيِّ، أو حتّى تنويمه استرجاعيّاً، الوصول إلى جذرِ الخَلَلِ الشّعوريِّ (العقليِّ) الذي يُعانيهِ.
إنّ الدّراسات المدهشة التي يُجريها النّاس، في عهدنا الحاضر، على حيواتٍ اعتُبِرَتْ، في الماضي، ذا
كلاريس تَوْيْنِي
[ترجمة:- إبراهيم جعفر]
ورثاء إلى الأزليّة...
(دراسةٌ عن تناسخ الأرواح ذاتَ نماذجٍ إيضاحيّة)
[العنوان الأصلي:- Heirs To Eternity]
"فالجّسد إنّما يأخّذ هيئتَهُ من النّفسِ
والنّفسُ هيئةٌ والجّسدُ خِلقَةُ فِعلِها"
إدموند سبينسر
طُبِعَ في بريطانيا، للمرّةِ الأولى، في عام 6197 بِواسطةِ نيفيل اسبيرمان ليمتد (لندن).
صمّمت ديباجة الكتاب (الأصلي) فِيَونَا ماكقِريْقَورْ.
قِيْلَ عن هذا الكتاب:-
إنّ مفهومَ تناسُخ الأرواحِ ذو أهمّيّةٍ وشأنٍ. فهو- الآنَ- يبرُزُ، بقُوّةٍ مُتناميةٍ، في فكرِ الغربْ. وللعديدينَ من النّاسِ هو يهبُ مِفتاحاً من الأهميّةِ لفهمِ التّناقضاتِ المُحيرَةِ للحياةْ.
تمنحُنا كلاريس تَوْيْنِي في وُرثاء إلى الأزليّةِ مُسَاهَمَةً أصيلةً ورائعةً في أدبِ موضوعِها المُتنامِيْ. فالسيّدةُ تَوْيْنِي هي مُتصوّفةٌ طبيعيّةٌ ظلّتْ، لسنينٍ عديدةٍ، على وصلٍ مع كائنٍ سامٍ شاءتْ أن تُسمّيهِ "المُعَلِّمْ". وخلالَ ذاكَ الوصلِ تكوّنَ في ذاتِها، شيئاً فشيئاً، استشعاراً رُوحيّاً تيليباثيّاً تامَّ الوعيِ بذاتِهِ، جَلِيَّاً ويقينيّاً ككُلِّ ذلكَ الذي نَخْبَرُهُ في الحياةِ ’العاديّةِ‘ اليوميّةْ.
الذي فعلتْهُ السيّدة تَوينِي، في كِتابِها هذا، هو انتقاءُ عددٍ من الأشخاصِ يضُمُّونَ، فيما بينهم، دَانِيْ كَيْ، تشيسترتون، الجّنرال ديجُول، السّير ونستون تشرشل، روزاموند ليمان، تيلهارد دِي شَارْدِنْ وآخرينَ، ثمّ ربط حيَوَاتِهِمْ الحاضرةِ بالتّناسُخاتِ الشّتّى لحيَواتِهم الماضيةِ مُظْهِرَةً، بذلكَ، دونَ نِزاعٍ، كيفَ أنّ الحيَواتِ السّالفَةَ لأولئكَ قد أدّتْ دورها في حاضرهِم وأثّرَتْ على مجراه.
على سبيلِ المِثالِ، من هو دَانِي كَيْ؟ إنّه ليس شخصاً آخراً سوى هانس كِرستِيَنْ أندرسون. ولربّما كان الفلم الأعظم والأكثر شعبيّةً لذلكَ الممثّل المحبوب هو قصّة حياة هانس كِرِسْتِيَنْ! والأغرب من ذلكَ هو أنّ ملامحهُما مُتشابهَةٌ جدّاً.
وكما كتبتْ السيّدة تَوْيْنِي:- "تحقّقتُ من أنّ الإستشهادَ بسيرِ النّاسِ ذائعي الصّيتِ سيُجابهُ بكُلِّ أنواعِ الإحتجاجات- كما وسيَرْفَعُ الحَواجِبْ. لهذا السّببِ كتَمْتُ، بجُبنٍ، حيثيّاتَ البُحُوثِ التّي كُنتُ واسِطَةً لتوصيلِ مُحتوياتِها إلى النّاسِ، معاً وألبوماتَ لوحاتٍ وصُوَرٍ للإيضاحِ والمُقارنَةْ". الآنَ هي، على أيّ حالٍ، تشعُرُ بأنَّ الوقتَ المُناسِبَ لروايةِ القصّةِ قد حانْ.
إنَّ وُرثاءَ إلى الأزليّةِ هو، حقّاً، كتابٌ باعثٌ على التّأمّل.
الدّار النّاشرةْ.
المُحتَوَياتْ
1. مُفْتَتَحْ
2. الفصل الأوّل:- أصواتُ الحِكْمَة
3. الفصلُ الثّاني:- المُعلّمُ الماورائِيُّ يُواصلُ شرُوحاتَهُ:- كيف تتطوّرُ الحياة؟
4. الفصلُ الثّالث:- أمثلةٌ حيّةٌ.
5. الفصلُ الرّابع:- ذكرياتُ أطفالٍ عن حيَوَاتِهِمْ الماضيَةْ.
6. الفصلُ الخامس:- تيلهارد دي شَارْدِنْ.
7. الفصل السّادس:- "الفنَّانْ".
8. الفصل السّابعْ:- دَانِيْ كَيْ.
9. الفصل الثّامن:- الجّنرال ديجول.
10. الفصل التّاسع:- "ر".
11. الفصل العاشر:- السيّدة إيثيلْ اسمِثْ.
12. الفصل الحادي عشر:- روزاموند لِيمانْ.
13. الفصل الثّاني عشر:- ق. ك. تشيسترتون.
14. الفصل الثالث عشر:- السّير ونستون تشرشلْ.
15. خِتَامٌ بَصِيْرٌ...
لا تكُنْ مزهُوّاً، أيّها الموتُ،
رُغمَ أنَّ البعضَ سمّاكَ جبّاراً ومُفزِعَاً،
فأنتَ لستُ كذلكَ،
فأولئكَ الذينَ ظننتُ أنّكَ قد قهَرْتُهُمُوا ما ماتُوا
كذلكَ أنا، أيّها الموتُ المِسكينُ،
ليسَ لكَ من سبيلٍ إلى مِثْلِيْ!
جون دَنْ John Donne
مُفتَتَحْ
حكاية صُوفيّة
كُنتُ ماشِيَةٌ على الدّربِ فرأيتُ حَلَزَوْنَاً يسكُنُ جُحراً في الحائطْ. قُلْتُ:- "سلامٌ عليكَ أيُّها الحَلَزَون". كان الحَلَزَونُ يعرفُ الكلامَ فقالَ لِيْ:- "وعليكِ السّلامُ". قُلتُ لهُ:- "إنّني من بَنِي الإنسان". قال:- "وما ذاكَ؟" قُلتُ:- "حَسَنَاً، أنتُم لكُم عيُونٌ على جِذُوعِكُمْ. نحنُ، بنُو الإنسانِ، لنا جذوعٌ أيضاً، لكنّها على الطّرفِ الآخرِ من جسدِ أيٍّ منّا". "الطّرف الآخر؟!"، قالَ الحَلَزَون، "ما ذاكَ؟" قُلتُ:- "حَسَنَاً، جذُوعُنا، إن رأيتَهَا، لها أقدامٌ على أطرافِها". "أقدامٌ؟ ما الأقدامْ؟" قال الحلزون. قُلتُ:- "الأقدامُ هي أشياءٌ تنقُلُكَ في أنحاءِ الأرضِ بسُرعةٍ شديدةٍ ولمسافاتٍ بعيدةْ". "ذلكُم عجيبٌ جِدّاً!"، قال الحلزون، "هل هنالِكَ أيُّ شيءٍ لآخرٍ، عنكُمْ، غريبٌ؟" قُلتُ:- "نعمْ. نستطيعُ أن نأخُذَ ورقَةً ونَرْقُمُ عليها علامات، ثم نُسلّمُ تلكَ الورقةَ إلى إنسانٍ آخرٍ فيعرفُ ذاكَ الإنسانُ، بمُجرّدِ النّظَرِ إلى العلاماتِ المرقُومَةِ عليها، ما الذي كان يُفكّرُ فيهِ الإنسانُ الأوّلُ الرّاقِمُ لها".
- "أُهْ"، قال الحَلَزَون، "أرى أنّكِ إحدى "هؤُلاءْ"..."
- "ماذا؟" قُلتُ أنا.
- "حَسَنَاً"، قالَ الحَلَزَون، "إنّكِ واحدةٌ من أولئكَ الّذينَ يذهبُونَ بعيداً في تخيّلاتِهِمْ- إنّكِ كاذبَةٌ. أنتِ تُنبئِيْنَ عن أشياءٍ كثيرةٍ فتذهبُ بِكِ تهيُّآتُكِ بعيدَاً وتُحْكِيْنَ عمَّا ليسَ هو قابلٌ للتَّصدِيْقْ"
الفصلُ الأوّل
أصواتُ الحكمة
"ينبغي عليَّ أن أفهَمُ، عسانِي، من بعدِ ذلكَ، أؤمِنُ... الشّكُّ يقُودُنا إلى التّساؤلِ، وبالتّساؤُلِ نُدرِكُ الحقيقة". هكذا قال أبيلارد. أنا أتّفقُ مع أبيلاردْ. معهُ شككتُ. معهُ أُخِذْتُ للتّساؤُلِ (أو بالتَّساؤُلِ)... ومثلُهُ توصّلتُ إلى إدراكِ بعضِ وجهٍ من الحقيقةْ.
مع ذلكَ، إن اقتبسنا حديثاً عن "المُعَلِّمِ"* نراهُ يقول:- "ما هو حقيقةٌ للإنسانِ في مرحلةٍ ما من مراحلِ تطوّرهِ ليس حقيقةً لهُ في مرحلةٍ أخرى".
علينا- إذاً- أن نتبصّرَ بأنفُسنا ونعي بضَبَابِ الفِكرِ العُرفيِّ الذي يُحَوِّمُ ويُهوِّمُ حولنا عبر القرون فيحجِبُ عنّا وَسِيْعَ انتبَاهِنَا.
ما سأحاولُ أن أهبَهُ أنا هنا هو تفسيراتٌ قُدّمَتْ لي في إجابةٍ على تساؤُلِيْ. عليهِ سأصفُ ما حدثَ لي وكيفَ أنَّ ما أُعطِيْتُهُ غيَّرَ جِمَاعَ نظرتِي للحياةْ.
حكيتُ، في سيرتِي الذّاتيّةِ**، بالتّفصيلِ، قصّةَ مجيءِ "المُعلّم" من "الما وراء" فذكرتُ كيف أنّهُ، بعدَ تجاربٍ شعوريّةٍ صُوفيّةٍ بعينِها أدّتْ بي إلى مُمَارسةِ التّأمّلِ، وجدتُ أُذنَيَّ وعينيَّ بادئتينَ في التّفتّحْ. في "السّكِيْنَةِ" جاءنِي الهُدى فوجدتُ نفسي، تدريجيّاً، مُستقْبِلَةً تعليمَاً كانَ جديداً عليَّ. شاركتُ، في ذاكَ التّعليمِ، زوجي فناقشنا معاً الفلسفةَ التّي كانتْ تُسكَبُ خلاليْ. طبعاً تكاثرَتْ أسئلتِي فتنزّلَ علينا، بعدَ وهلةٍ ودونَ نداءٍ، "المُعلّمُ"، تنزُّلاً باراشوتيَّاً مُدهشاً، في عينِ حُجرةِ جِلُوسِنَا. جلسَ وتحاورَ معنا فأفسحَ، بذلكَ، مجالاً لزوجي سمحَ لهُ، أيضاً، أن يُوجِّهَ أسئلةً وأن يسمعَ ويُسجِّلَ، كذلكَ، كلَّ ما قِيْلَ.
أُبِيْنَ لي أنَّ هذا "التّجريبَ"، كما سمّاهُ "المُعلّمُ"، كان فقط إجراءاً مؤقّتَاً. "هُنالِكَ الكثيرُ جدّاً ممّا تودّينَ أن تُدرِكِيْ وهذه هي الطّريقةُ الوحيدةُ للمُجيءِ إليكِ:- خلال وسيطٍ فيزيائيٍّ"، قال "المُعَلِّمُ". ثمّ اسْتَدْرَكَ أنّهُ، بِمُضِيِّ الزّمنِ، سوفَ أجدُ إجاباتِ ما يُنازِعُنِيْ من أسئِلَةٍ في دخيلَةِ نفسِيْ:- "في السَّكِيْنَةِ ستجِدِيْنَ الحقيقةْ".
وهكذا انتهيْتُ، بالفعلِ، في السّاعةِ الموقُوتةِ وبعدَ سعيِ هُنَيْهَةٍ إثْرَ هُنَيْهَةٍ نحو التّناغُمِ مع المُستوياتِ الباطنةِ لكينونتِي، إلى اتِّساعٍ في البصيرةِ وإدراكٍ يقينيٍّ شاملْ. بِمُوجَزِ العبارةِ، انسكبَتْ في وَعْيِيْ شُعاعاتٌ من الرُّؤىْ كانتْ هي إجاباتِ تساؤُلِيَ القَلِقْ.
كثيرٌ من ذلك الذي وَمَضْتُ بهِ من معارفِ "المُعَلِّمِ" كَبَدْتُ في التّعبيرِ عنهُ في كُتُبِي الباكِرةْ. في هذا الكتابِ يتعيّنُ عليَّ أن أُحاوِلَ، خِتامَاً، أنْ أهَبَ قارئِي، بجلاءٍ، ما تعلّمتُهُ عن ديمومَةِ الحياةِ والشِّعُورِ المتّصِلَتَيْنَ*** اللّتينَ هما إرثنا جميعاً......... ذلكُم ما نُسمّيهِ "البعثَ" أو "تجَدُّدَ المِيلادْ".
* تُنبؤُنا المؤلّفةُ، كما سنرى من بين ثنايا هذا الكتاب، بأنّ لها "مُعلّمٌ"، أو "مُرشِدٌ رُوحيٌّ"، من عالمٍ آخرٍ "ما بَعْدِيٍّ" اتّصلَ بها، ليس رُوحيّاً فقط، بل بالتّجَسُّدِ والتَّهيُّئِ، وأنارَ بصيرتَها بالمحتوى الخارقِ لهذا الكتابْ... أنا، كما أحسُّ، ليس بـ"المؤَهَّلِ" الرّوحِ حتّى أُثبِتُ ذلكَ أو أُنفِيْهِ- المُترجِمْ.
** عهدُ الحقيقة (جورج ألان وأنون):- The Testament of Truth (Jeorge Allen & Unwin
*** في الأصلِ consciousness. تجنُّبَاً للترجمةِ الشائعةِ لهذه الكلمةِ، والتي تُقابِلُها بكلمةِ "وعي" في اللّغةِ العربيّةِ، شئتُ أنا هُنا أن أُترجِمُها إلى كلمةِ "شعور"، فإحساسي حدّثني أنَّ الكلمةَ الأخيرةَ هي الأنسبَ في مجالِ رؤيا "رُوحيّة" للكونِ والإنسانِ كالّتي يحتفلُ بها هذا الكتابْ- المُترجمْ].
2
الذين قرأوا كُتبي السابقة سيجدونَ موضوع "تناسخ الأرواح" قد عُولِجَ فيها كحجرِ الزّاويةِ، كذاتِ أساسِ التّطوّرِ النّافذِ خَلَلَ كلِّ "الطّبيعةِ"، نشوء المخلوقات وارتقاء الكائنات الإنسانيّة. وتُحَدِّثُ سيرتي الذّاتيّة عن كيفَ أنّهُ، ببدايةٍ متراخيةٍ تمثّلتْ، أوّلاً، في المُلاحظَةِ، الإستِقراءِ والإستنتاجِ، وأخيراً في "التّعليمِ" الذي وهبنا (أنا وزوجي) إيّاهُ "المُعلّمُ" من "البُعدِ الآخرِ"، ثُمَّ سَوْقِي إلى مرتبةِ قناعةٍ بذلكْ.
حتّى الآنَ، كما هو الشّانُ مع غالبيّتِنا، ظلّ مفهومُ البعثِ، أو تجدُّدِ الميلادِ، كامناً في هامشِ شعورنا أو مُتناثِرَاً حولنا في الرّيحِ مثل هباءِ أسديةِ النّباتْ. في كلّ حياتنا لهجَتْ ألسنةُ النّاسِ لاهيةً. فكم من مرّةٍ قيلَ فيها، بهزلٍ، كلامٌ مثل:- "قد كنتُ قطّاً في حياتي السابقة"؛ أو:- "لابدّ أنّكَ كُنتَ هِنري الثامن أو ميكيافيلّلي!" ذاكَ حديثٌ نُطِقَ كُلُّهُ بعبثٍ ومزْحٍ، لكنّهُ ما فَتِأ يُقالُ، كَرّةً وكرَّةً أخرى. فهنالكَ شيءٌ ما في الذّاكرةِ العميقةِ للجّنْسِ البشريِّ يجعلُ هذا المفهُومَ ينبثِقُ في الذّاتِ ويُوْهَبُ كتفسيرٍ لحادثٍ ما، لبعضِ غرابةِ أطوارٍ أو مَيزاتٍ شخصيّةٍ خاصّةْ. نحنُ، حينَ يُبَادِرُ خاطِرَنَا المفهومُ إيّاهُ، نضحكُ ونُلقِي بالفكرةِ جانباً. لكنّها تُعاوِدُنا، مرّةً أخرى، في مثقبلِ الزّمانْ.
لا أحدٌ يُحبّذُ المفهومَ المعنيَّ. "آهٍ، مرَّةٌ واحدةٌ تُكْفِيْ!" هكذا يستعجبُ فردٌ من النّاسِ، "فأنا لستُ بقادرٍ على كَبَدِ مُعاناةٍ ثانيةٍ لكلِّ ما عانيتُ في حياتي الحاليّةْ".
مع ذلكَ يظلُّ الإحتمالُ قائماً أنَّ كلَّ واحدٍ منّا قد مضى، بالفعلِ، في سبيلِ ذاتِ الكَبَدِ وذاتِ العيشِ مرّةً أخرى وأنّهُ ما يزالُ ماضياً، الآنَ، في نفسِ السّبيلْ.
في الحقيقةِ، إن استكشَفَ المرءُ تشعّباتَ ذلك المفهوم العريق، عراقة الدُّنيا، والذي اعتنقتْهُ الغاليّةُ العُظمى للنّوعِ الإنسانيِّ منذُ بدءِ التّاريخِ، لوَجَدَهُ، شيئاً فشيئاً، مُضْفِيَاً معنىً على ما كانَ لا معنىً لهُ، مُخْرِجَاً حكمةً وعدلاً ورحمةً من الفوضى، النّشُوزِ أو الشّذُوذِ، وضُوحاً من الهُلامِ ثُمَّ، أخيراً، فهمَاً من حيثُ لم يكُنْ، حتّى وقتذاكَ، شيئاً سوى بَلْبَلَةٍ تتلعثَمُ. فذلكَ المفهومُ- كما أراهُ- يهَبُ حياتَنا، في الكونِ الرّحيبِ، إيقاعاً مقبولاً لـ"ذاتِنا الدّاخليّةِ"، صِيغةً تجعلُ للعيشِ معنىً، تُقنِعُ العقلَ وتُغذِّيَ وتُعزِّيَ النّفْسَ.
*
أيُّ إنسانٍ متأمّلٍ يُبهتُ، بين الفينةِ والأخرى، بألغازِ الحياةِ، بتعدّدِ الأسئلةِ اللا مُجابةْ. من نحنُ؟ من أينَ أتينَا؟ لماذا النّاسُ مفترقُونَ واحدُهُم عن الآخرِ عندَ اعتبَارِ خصائِصِهِمْ الغريزيّة؟ لماذا يُولدُ إنسانٌ ما غنيّاً أو مَلَكِيَّ المنبَتِ في حينَ يُولَدُ إنسانٌ آخرٌ فقيراً؟ لماذا ينشأُ البعضُ في القِصُورِ والبعضُ الآخرُ في مُعسكراتِ لاجئينَ أو غِمَارِ قبائلٍ بدائيّة؟ لماذا ثمةُ أطفالٍ يُولدونَ
عمياناً أو مُقعَدِيْنَ، عباقرةً وعجائبَ زمانٍ أو مُختلّينَ عقليّاً؟ هل هذا هو العذابُ الإلهيُّ؟ أم هو الصّدفةُ والإتّفاقُ؟ أم هو مُحصّلةُ بُنيَانِ المرءِ الفيزيائيْ؟ لماذا يُعانِي من هُمْ، في الظَّاهِرِ، بريئُونَ مثلما يُعاني المُذنبُونْ؟ لماذا يبدُو أنَّ الخبيثَ يُمضِي، بينَ الأنامِ، مُعافىً وسالماً من الأذى فيما يموتُ الطّيّبُ موتَهُ؟ وهل الموتُ، في مُنتَهَى المَقَالِ، يُشكِّلُ عِقاباً؟ هل هو النّهايَةُ؟ وأنّى يكونُ هنالكَ "أبَاً" إلهيّاً ورحماناً يسمحُ لأمثالِ هذهِ الأشياءِ بالحدُوثْ؟...... لماذا يبدو أنّ بعضاً منّا "يعرفُونَ" أشياءاً عن الوجودِ بيقينٍ باطنيٍّ- هل نحنُ شاعرينَ بأننا، منذُ البدءِ، قد "عرفنا" تلكَ الأشياء بكيفيّةٍ ما؟
تلكَ جمهرةٌ من الأسئلةِ حيّرتْ ألبابنا. مع ذلكَ، تظلُّ إجابتُها الحاضرةُ التّي نتلقّاها من ذوي السّلطةِ، أو السّلطانِ، هي أنَّ "طُرُقَ اللهِ غيرُ مُمْكنٍ سبرِ غورِها".
الغالبيّةُ من النّاسِ قد نأتْ، الآنَ، بنفسِها عن الإعتِقادِ في الجّودِ الرّبّانِيِّ بسببِ جهلِها بقوانينِ العيشْ.
هنالكَ إجاباتٌ أكثرَ شمولاً، في الفهمِ، أكثرَ منطقيّةً، للأسئلةِ السّابقةِ حاضرةً، كما أرى، في تدبّرِ الإنسانِ لأمرِ "البعثِ" أو تجدُّدِ الميلادْ". فتلكَ الفرضيّةُ (فرضيّةُ البعثِ أو "تجُدّد الميلادْ")، إن نفذَتْ بصيرةُ المرءِ إليها بعمقٍ، جديرةٌ بأن تهبَنا تفسيراً ذا رُتبةٍ علميّةٍ ومعقولةٍ تُصيرُ، على ضُوئهِ، قوانينُ العيشِ مرئيّةً على أنّها مؤسَّسَةٌ على عواملٍ مُعِيْنَةٍ لنا على التّطوّرِ، عواملٍ ذاتِ مقاصدٍ وغاياتٍ، عواملٍ رؤوفةٍ بنا، مُحبّةٍ لنا ومانحةٍ إيّانا حرّيّةً في المقاماتِ العُلىْ. ذلكُم يُظهِرُنا على أنّنا، بدلاً عن أن نكونَ عاجزي الحيلةِ ومُرْتَهَنِيْنَ لمصيرِنا القيُّومِ، مسؤولونَ، شخصيّاً وعِيَانيّاً، عن طُمأنينِةِ كينوناتنا وعن الصّيغِ التي تتّخذُها حيَوَاتُنَا.
خلال الثلاثينَ سنةً الماضية، أو ما يُقارِبُهُنَّ، أُطْلِعْتُ، على هُدىً "ما ورائيٍّ" أوفاني بهِ "المُعلّمُ" البديعُ في استكناهِ الماضي، على كيفيّةِ البحثِ في تطوّرِ "الطبيعةِ" والإنسان من زاويَةٍ كانتْ، بالنّسبةِ لي، جديدةً كُلِّيَّاً.
أبانَ لي "المُعَلِّمُ" أنَّ الرُّوحَ ليستْ هباءاً ينثُرُهُ الخالقُ، صُدفَةً، في باطنِ كُلِّ جنينْ. فأيُّ رُوحٍ، كما علّمَنِي، لها تاريخٌ خاصٌّ بها فهي فهي غيرُ جديدةٍ وذاتُ حيَواتٍ عديدةٍ عاشتْها من قَبْلِ آناءَ سلُوكِهَا درب تقدّمها خلال أشكالٍ كثيرةٍ من "الوجُودِ الطَّبيعيِّ" ضمّتْهَا سيرُورةُ كينونةٍ شاعرةْ؛ إنّها قد شكذلتْ نفسها، عبرَ تجربةِ حَيَوَاتٍ شتّى، على هيئةِ الكينونةِ التي هي، الآنَ، عين ذاتِها.
قد تعلّمتُ شيئاً عن "الطّريقَةِ التي تُدارُ بها الشّؤونُ"، تعلّمتُ أنَّ في جِمَاعِ الحياةِ دفقةً (دفعةً) مُثابرةً صعوداً، بعيداً عن الأرضِ ونحو حالةٍ كينونيّةٍ أكثرَ تعقيداً؛ نحو شعورٍ، رُوحٍ أكثرَ. وهذا الإرتقاءُ ينطوي على انفِساحٍ في الإدراكِ، اتّساعٍ في الرّؤيةِ، وعلى تشرّبِ الكائنِ الإنسانيِّ بأبعادٍ أخرى من الكينونةْ. فالكائنُ الإنسانيُّ مُصوّرٌ نفسَهُ وِفْقَ إشعاعاتِ (انبثاقاتِ) الأُلُوهيِّ. وما الموتُ إلا "رَهَقٌ نفسانيٌّ"، إِنسلاخُ الجّسدِ المكدُودِ ونَسْجُ الرُّوحِ لجسَدٍ آخرٍ في مكانِهِ يُدثِّرُهَا على كوكبِ الأرضِ في زَمانٍ مُقبِلٍ.
هذا يبدو منطقيّاً بجلاءٍ. فهو أكبرُ بكثيرٍ، في منطقيّتِهِ، من أيِّ منطِقِيّةٍ مُمكنَةٍ لمفهومِ إلهٍ مُتقلّبِ الخاطرِ يُشكّلُ، عشوائيَاً أو كما يشاءُ، أرواحاً جديدةً كما تماثيلِ شمعِ المثّالِ ثم يدمجهُنَّ، على كيفِهِ، في مُحيطاتِ حيواتهِنَّ.
هكذا يبدو "تجدّد الميلاد" مقبولاً كتفسيرٍ لما هزمَ ألبابنا، حتى الآن، من مُحيراتِ الوجودِ بحيثُ أنَّ خاطرَ المرءِ الأوّلِ إزاءَهُ يُلزِمُ بالتّساؤل:- لماذا لم يُعرفُ هذا بصورةٍ جماعيّةٍ ويُدرس؟
إجابةُ هذا السؤال تأتي للخاطرِ، بالطّبعِ، في الحال:- في "الشّرقِ" كان الإعتقادُ في تناسخِ الأرواحِ دوماً هو القاعدةَ أو النّمُوذجْ.
كيف إذاً فاتَ ذلك الإعتقادُ على أهلِ العِلْمِ والثّقافةِ في الغربْ؟
إنّه لم يَفُتْ عليهُمْ. فالكثيرُ من اليونانيين القدماء قد استخدمُوا المفهوم (الإعتقاد) إيّاهُ كقاعدةٍ لفلسفتِهِمْ. كما وأنَّ بحوثَاً حديثة أظهرتنا، كذلكَ، على أنّهُ قد اعتُنِقَ دوماً في بُلدانٍ غربيّةٍ عديدةٍ، رُغمَ قسرِ الأرثوذوكسيّة لهُ على العيشِ "تحتيّاً" أو في الخَفَاءْ.
قبلَ مدّةٍ من الزّمانِ كنتُ أتحدّثُ مع يهوديٍّ إسرائيليٍّ عريقٍ، بطريرَكَ ذي سعةٍ في المعرفةِ أخبرني أنّهُ قبل ستّينَ، أو سبعينَ، عاماً خلتْ كان تناسخ الأرواح يُدرّسُ في كليّتِهِ الثّيواوجيّةْ. ذلكَ بناءاًعلى حجَرِ أساسِ فهمٍ للحياةِ زوّدتْ النّاسُ بهِ تعاليمُ الزَّوهار والكابلاّه اليهوديّتين [حركتين صُوفيّتين أو، على الأدقِّ، غُنُوصيّتينَ (عِرفانيّتينَ) يهوديّتين- المترجم]. "فقط مؤخّراً"، قال ذلك الرجل الموسوعة، "أودى نمُوُّ سُلطةِ العصرِ العِلْمِيِّ بشبابنا إلى البدءِ في نسيانِ ذلكَ "التّعليم" القديم، بل وإلى الإستِخْفَافِ بهِ".
كيف- إذاً- أُغْفِلَ "التّعليمُ" المعنيُّ في كتابِ العهدِ القديم؟
هُنا يبرُزُ للضّوءِ أنّ معظَمَ المتعّلمينَ تعليماً عالياً من بين الرّومان الكاثوليك، وهم اليعقُوبيّين، كثيراً ما ضمّنُوا ذاكَ المفهومَ عقيدَتَهُمْ (بالتّأكيدِ أولئكَ ما اعتبرُوهُ مُناسباً لعامّةِ النّاسْ). تُورِدُ دائرةِ المعلوماتِ (الإنسايكلوبيديا) الكاثولوكيّة أنَّ المفهومَ مدارَ الحديثِ قد قُهِرَ، في الحقيقةِ، في القرن السادسِ الميلاديِّ بفعلِ الدّسائسِ الماكرةِ للإمبراطور جستنيان وليس بأمرِ أيِّ سُلطةٍ كنسيّةٍ سماويّةْ... لنا عودةٌ لا حقةٌ لهذا الموضوع.
تُؤشّرُ حقيقةُ أنّ معتقدَ "تجدّد الميلاد" يُعاودُ- الآنَ- الظّهُورَ في العالمِ الغربيِّ ويُلاقِي قبُولاً واسعاً فيهِ إلى أنّ ذلكَ جُزءٌ من مِنهاجِ إرشادٍ (هُدىً) مُفاضٍ علينا، في هذا الزّمانِ، من قِبَلِ "قوىً إلهيّةْ". هذه القوى أفاضتْ علينا بذاكَ المِنهاجِ حتّى تُبصِّرُنَا بالعواملِ التي تحكمُ حياتنا وتُصحّحُ إساءاتٍ مُعيّنَةٍ في الفهمِ كامنةً في قلبِ بعضٍ من السايكولوجيا والفلسفة الحديثةْ.
في القرونِ الماضيةِ علّمتْنَا "الكنيسةُ" أن نُصلّي بإخلاصٍ للهِ القيّومِ كي يُعيدَ خَلْقَنَا ويُغيّرُنا، فنحنُ، عموماً، كنّا- حينذاكَ- مستوقِنِيْنَ من أنَّ اللّهَ [كما تتصوَّرُهُ الكنيسةُ- المترجم]، واللهَ وحدَهُ، هو صاحب المشيئةِ التي لا تُنازَعُ في شانِ مسؤوليّتِها عن أيِّ وجهٍ من وجوهِ كينونتِنا. هذا باتَ غير مُسلّمٍ بهِ في زماننا الحاضرْ. فالمُتفكّرُونَ أدركُوا أنّ هنالكَ الكثيرَ الذي ليس بِمُسْتَطَاعٍ جَعْلَهُ يتواءَمُ وهذه الفلسفةْ.
هل لإلهٍ و"أبٍ" مُحبٍّ أن يجعلَ أطفالاً يُولدُونَ عمياناً، مُقعَدِيْنَ أو مُلتاثِي العقلْ؟ هل لهُ أن يتسبّبَ في ولادةِ "أطفالِهِ" (عِيَالِهِ) في أوضاعِ فقرٍ ومرضٍ، وفي عائلاتٍ ليسَ بمقدُورِها أن تُعيلَهُمْ؟
تلكَ الأسئلةُ، التّي أرهقتْنَا في الماضي، تلقى إجاباتَها فقطْ عندَ الإعمالِ المُتَدَبِّرِ عليهَا لقوانينِ "الكارما" وتجدّد الميلادْ.
نحنُ أنفُسُنا نحّاتُو أرواحِنَا. فنحنُ نعلمُ أنَّ "الإنسانَ هو ما يُخاطِرُ الإنسانَ في قلبِهِ". ثمةُ حجّةٍ شائعةٍ تقولُ إنَّ تعاليمَ الإنجيلِ ليس فيها ما يُشِيْرُ إلى تجدّدِ الميلادْ... لكنَّ ذلكَ موجُودٌ هُناكَ إن نشدْنَاهُ. فكُلُّهُ واردٌ في النّصُوصِ المُقدّسَةْ. فقط نحنُ عاندْنَا في إساءةِ قراءتِهِ.
"ما مِنْ شيءٍ يغرسُهُ الإنسانُ إلا وهو يحصدُهُ أيضَاً". مع ذلكَ، يبدو ذاكَ "الحصادُ" وكأنّهُ كثيراً ما لا يتمُّ في حياةٍ واحدةْ. فكثيرٌ من خارِقَِي النّواميسِ الإلهيّةِ، تماماً كخارِقِي النّواميسِ البشريّةِ، يلُوحونَ أحياناً وكأنّهُم يتمكّنُونَ من النّفاذِ بعيداً عن أيّ حسابْ.
ما الذي عناهُ المسيح (عليهِ السّلامْ) حينما قال لتلاميذِهِ:- "من يعتقدنُي النّاسْ؟" وحينَ رُدَّ على إجابةِ تلاميذه له بأنّه، كما يقول البعض، "يوحنّا المعمدان"، "الياس"، أو جيرِيْميَاه، كما يقول آخرون، قائلاً إنَّ "الياسَ هو الذي، حقّاً، يجيء أولاً إلى العالم... لكنّني أقولُ لكُم إنّ الياسَ، بالفعلِ، حاضرٌ الآنَ بينكُمْ، وإن ما تبيّنتُمثوهُ؟"... ثم ما الذي أومأتُ إليه هذه الرواية الإنجيلية في إنبائنا أنّ أولئكَ التلاميذ "فهموا" أنّ المسيحَ (عليهِ السّلام) إنّما "تحدّثَ إليهم عن يوحنّا المعمدان..." وفي ختمها لما تروي بذكرِها أنّ المسيحَ (عليه السلام) تحدّث، مرةً اخرى، لتلاميذه عن يوحنّا المعمدان وقال لهم:- "إن اصغيتُمُوا إليَّ أشهدُ لكم بأنَّ هذا [’يوحنّا المعمدان‘- المترجم] هو الياس الذي أُنبئْتُمْ بقدومِهِ. ألا فليسمع هذا منّي كلُّ من لهُ أذنان تسمعانْ"؟
المسيح (عليه السلام) كان يروي هنا حديثاً عن أمرٍ لابدَّ أنّ عموم الناس، في عهده، قد صدّقُوا بهِ. ذلكَ هو أنّ الإنسانَ يُولدُ ولادةً أخرى في مستقبلِ أيّامهِ ويُسمّىْ إِسماً جديداً. فالياسُ (أو أليجا) قد عاد- وفقَ ما قالهُ- إلى العالم في شخص يوحنّا المعمدان كي يخدم "الحقيقة".
هنالكَ إشاراتٌ أخرى، في الإنجيلِ، إلى هذا المعتقد. وربّما كانتْ مُضمّنَةً فيهِ، أيضاً، غيرُها من الإشاراتِ العديدةِ إليهِ في عهودٍ خلتْ وتمّ، أخيراً، حذفها منهُ أو إخفاؤُها.
كُتِبَ في كِتابِ الوحيِ The Book of Revelations ما يلي:- "ذلكُم الذي يقهرُ مشيئتهُ الفرديّةَ (في سبيلِ مشيئةِ اللّهِ) سأجعلُ لهُ دُعامةً في معبدٍ إلهيٍّ، ثم ’سوف لا يخرُجُ من هُناكَ أبداً‘..."
في حكمة سليمان نجد، أيضاً، ما يأتي:- "كنتُ طفلاً طيّباً بطبيعتِهِ، والآنَ آلتْ إلى نصيبي رُوحٌ طيّبةٌ. كلاّ! الأوفقَ أنّي، لكونِي طيّباً، جئتُ في جسدٍ برئٍ من الدّنَسْ".
لمحةٌ إلى قلّةٍ من الإقتباساتِ عن كتاباتِ آباءِ الكنيسةِ الأوائلِ ستُكفِي للشّهادةِ على كيفَ أنّ مفهومَ "إعادة الميلاد" قد كان، في غابرِ العهودِ، منتشرَاً بين النّاسِ وغريزيّاً في أفئدتِهِمْ.
تحدّث جَسْتِنْ مارتر عن استيطانِ الرّوحِ لأكثرِ من جسدٍ واحدٍ، لكنّه قالَ إنّها حين تأخذُ شكلاً مُجسّدَاً للمرّةِ الثّانيةِ فإنّها لا تستطيعُ تذكّرَ حيواتِها السّابقَةْ.
وقال القدّيس قِريقَورِي، أسقف نِيسا:- "إنّهُ لمن الضرورةِ المطلقةِ للرّوحِ أن تكونَ معافاةً ومُطهَّرَةً. فإن لم يكن ذلك حادثٌ لها خلال الحياةِ على الأرضِ هذي فإنّهُ يجبُ أن يغدُو مُتَمَّمَاً فيها في حيواتٍ مستقبليّةْ".
وأقرَّ أورِيْقَنْ، الموصوف في الموسوعة العلميّة البريطانيّة بأنّه "أكثرَ آباءِ الكنيسةِ ذيُوعاً في الصّيتِ، باستثناءِ القدّيس أوغسطين ربّما"، بما يأتي:- "من المعقولِ للأرواحِ أن تُحلَّ في الأجسادِ وفقاً لخصالها وأفعالها السابقة. فأولئكَ الذينَ استعملوا أجسادهم في عملِ أقصى ما يُمكنُ من الخيرِ ينبغي أن يكونَ لهم الحقّ في أجسادٍ ممنوحةٍ مؤهّلاتٍ أعلى من تلكَ التي لدى أجسادِ الآخرينْ. إنّ الرّوحَ، التي هي في طبيعتِها لا ماديّة وخَفِيّة، لا توجد في أيّ مكانٍ مادّيٍّ دونَ أن تحُوزَ على جسدٍ مناسبٍ لطبيعةِ ذاكَ المكانْ. إستناداً على ذلكَ هي تخلعُ، في وقتٍ معلومٍ، عنها جسدها، الذي كان ضروريّاً لها من قبل لكنّه ما عاد موائماً لوضعيّتها المتغيّرة، وتُبدِّله بجسدٍ ثانٍ" (Contra Celsum).
لم يُهيّأ، إلا في زماننا هذا، لتلكَ المفاهيم الصعبة لحقيقةِ الفرقِ بينَ مادّةِ الأشياءِ الفيزيائيّةِ والجواهر الرّوحيّة أن تُتَرْجَمَ إلى صيغٍ أكثرَ عقلانيّةً وأسهلَ فهماً عبر استخدام مصطلحات العلوم عن الذّبذباتِ وطولِ الموجاتِ وتردُّداتِها. فالرّوحُ قد قُدّتْ من تردّداتِ طاقةٍ أعظمَ، في سُرعةِ انطلاقِها ولطافتها (رهافتها)، من تردّداتِ طاقةِ مادّةِ الأشياءِ الفيزيائيّةْ. ذلكَ لأنّ الظّاهرَ، مثل ثلج فوق بركة، هو انعكاس الباطن.
كتبَ القدّيس أوغسطين، أسقُف هِبُو، في Contra Academicos:- "إنّ رسالةَ إفلاطون، الأصفى والأسنى في كلّ الفلسفة، قد بدّدتْ، أخيراً، ظُلُمةَ الخطأ، والآنَ هي، أساساً، تشعُّ قُدُماً في إفلوطين:- إفلاطونيٌّ يُشبِهُ أستاذهُ شبهاً شديداً ربّما يميلُ بالمرءِ إلى الظّنِّ بأنّهما قد عاشا معاً أو أنّ إفلاطون، على الأرجح- ما دام هنالك فترة زمنية طويلة جداً بينهما- هو الذي بُعثَ، مرّةً أخرى، في شخصِ إفلوطينْ".
إفلاطون، طبعاً، قد دَرَّسَ تلاميذهُ معتقد "إعادة الميلاد"، كما وكتبَ عنهُ بِتَواتُرٍ. وكتبَ هيرونيموس، في Epistola Ad Demetriunem:- "معتقدُ هجرةِ الأرواحِ، باعتبارهِ حقيقة تقليديّة ما كانَ لها أن يُبَاحَ بِها، قد عُلِّمَ، خِفيَةً، مُنذُ أزمانٍ عريقةٍ، لأعدادٍ صغيرةٍ من النّاسْ".
ربّما نتساءلُ عمّا دعا الكنيسةُ المسيحيّةُ، لاحقاً، إلى إسقاطِ المعتقدِ المعنيِّ خارجَ تعاليمِها. ثمةُ ضوءٍ جديدٍ يُلقَى، على هذه المشكلةِ، في الأزمنةِ الاخيرةْ. ذلكَ ما يُمكنُ قراءة تفاصيله في مجلدين ضخمين عُنونَا التّناسخ:- منتخبات شرقيّة-غربيّة وصفّهُما جوزيف هيد وس.ل. كرانستون واحتوتْ على مئاتٍ من الاقتباساتِ حولَ هذا الموضوع من كتاباتٍ للمفّكرين العظام منذُ الأزمانِ الباكرةِ وحتّى الوقتِ الحاضرْ.
ساد، في الإعتقادِ العامِّ، أنَّ "البابا" هو أوّل من أعلنَ، في مؤتمر القسطنطينيّة الثاني في عام
553م، تحريم الإعتقاد في "الوجود القبليّ للأرواح". لكن التّمعّن عن كثبٍ في هذا الموضوع يكشف لنا أنّ ذاكَ التّحريمَ قد أعلنَهُ ليس "البابا" وإنّما الإمبراطور جستنيان وأساقفتهُ.
يظهرُ أنّ جستنيان، في اجتماعٍ فوق-العادة، قد فرض على أساقفته تحريم معتقدات معينة قال بها أوريقن. كان البابا، في ذلك الوقت، في القسطنطينيّة حيثُ عُقد الإجتماعُ إياه. لكنه رفض الحضور. بين ثنايا تفاصيل أوفى عن هذه المسألة أوردتها الموسوعة العلمية الكاثولوكية نجد الإقتباس التالي:- "يسهلُ على المرء أن يفهم كيف أنّ "توصية" ذاكَ الإجتماع فوق-العادي قد عُوملت، بالخطأ، في فترة متأخرة، على أنّها- أو كأنّها- "قرارٌ" أصدره مجلي الكنائس الفعلي".
يبدو واضحاً مما سبق أنّ العلماء الكاثولوكيين قد بدأوا ينفون الزّعم بأنّ الكنيسة الرومانيّة قد قامت بأيّ دورٍ في تحريم معتقدات أوريقن، موحينَ لنا، بذلكَ، بأنّها كانت، أثناء كلّ القرون الطويلة التي صدّقت فيها أنّها أدانتْ أوريقن، مُخطئةً في حقّ نفسِها. على كُلٍّ، هنالك نتيجة وخيمة واحدة لذلك الخطأ (أو تلك الغفلة) ظلّت، حتى الآن، باقيةً وهي، تحديداً، استبعاد معتقد الوجود السابق للأرواح، وضمنيّاً معتقد تناسخ الأرواحْ، من تعاليم الطائفة المسيحيّةْ.
خلال العصور المظلمة غُصِبَ المعتقد المعنيّ، عبر اضّطهاد معتنقِيْهِ، على العيشِ في الخفاءْ. فطائفتا "الكاثارس" و"الألبيجينسيس" في جنوب فرنسا، واللتين آمنتا بهذا المعتقد، قد أبادتهما، بمنتهى القسوة، محاكم التّفتيش، لكنّه استمرّ، في السّرِّ، باقياً كمضمونٍ مركزيٍّ في عقائدِ فِرَقٍ (مِلَلٍ) دينيّةٍ كثيرةٍ وفلسفاتْ، ومن ثمّ أزهرَ وسط مفكّري عصر النّهضةْ.
دعنا نقتبسُ حديثاً آخرَ من الموسوعة الكاثولوكيّة:- "إنّه [مُعتقد تناسخ الأرواح] كان ركناً عامّاً عند العديدِ من نُظُمٍ لفكرٍ فلسفيٍّ وإيمانٍ دينيٍّ مُستَقِلَّةً عن بعضِها البعضِ جغرافيّاً وتاريخيّاً معاً... هذه العالميّةُ يبدو أنّها تَسِمُهُ، كواحدٍ من تلك العقائد العفويّةِ، أو الغريزيّةِ، التي تستجيبُ بها طبيعةُ الإنسانِ لمشاكلِ الوجُودِ العميقةِ والمُلحّةْ... في وجهِ عقيدةٍ كتِلكَ هي، عند النظرةِ الأولى، بعيدة الغور، ومع ذلك هي، في ذاتِ الوقتِ، واسعةَ الإنتشارِ نُقادُ نحنُ إلى استِبْدَاهِ بعضِ أسبابٍ عامّةٍ كثيرةٍ تعاضدتْ معاً على استيلادِها في النّفُوسْ. قد نُشيرُ، في هذا السبيلِ، إلى أسبابٍ قليلةٍ من تِلكْ:-
1. القناعةُ العالميّةُ، بالفعلِ أو عمليّاً، بأنّ الرّوحَ هي كينونةٌ حقيقيّةٌ مُميّزةٌ عن الجّسدِ وأنّها تبقَى- مُستقلّةً عنهُ- بعد الموتْ.
2. على ارتباطٍ بهذا يبرزُ المطلبُ الأخلافيُّ المُلزِمُ بأن يكونَ هنالكَ- أو في هذا الوجودْ- قَصاصٌ مستقبليٌّ عادلٌ مُشتملٌ على جزاءاتٍ مُثيبَةٍ أو مُعاقِبَةٍ، تِبْعَاً للسّلوكِ الخيّرِ أو الشّرّيرِ للمرءِ في حياتِهِ الدُّنيويّةْ. معتقد هجرة الأرواح يقدّمُ مُسوّغاً مقبولاً، بدرجةٍ ما، لهاتين العقيدتين اللتين هما، بالفعلِ، فِطرتينْ.
3. المعتقد المعنيُّ يمدّنا بتفسيرٍ مُرضٍ لظاهرةِ الوِرَاثَةْ".
من الغريبِ أنّه ضمن "الأسباب العامّة الكبيرة" المذكورة أعلاه لم يضع الكاتب في الإعتبار مُجمل "التّعليم" الّذي، منذُ بدءِ التّاريخِ، مُنِحَ، بمُثابرَةٍ وعلى مدىً عالميٍّ، للإنسانِ من "قوىً عُليَا".
ومن بين الشواهد المعاصرة العديدة على ما نقول تندرج، بلا شك، تجربتي الخاصة التي أقنعتني بأنّ التّعليمَ الإلهيَّ دوماً ما يُساقُ للنّاسِ، حين تكونُ لهم آذانٌ تُصغِي، في صِيغٍ تُوافِقُ معتقد تناسخ الأرواحْ. فانا ما قرأتُ الثّيوصوفيّة وفلسفاتِ الشّرقِ، ومن ثمّ علمتُ بأنموذجيّةِ هذا المعتقد في الشّعورِ الإنسانيِّ منذُ عهودٍ خلَتْ، إلاّ بعد سنينِ طويلةٍ من كتابتي لكتابيَ الأوّل- ذلكَ الكتابُ الّذي "سُرِّبَ" خلالي من المجالِ "الما بعديِّ".
من بين الأقوال الكثيرة المتقابلة لبعض المفكّرين العظام عبر العصور كلّها، والتي جمعها س. ل. كرانستون وجوزيف هيد في تناسخِ الأرواح:- منتخبات شرقيّة- غربيّة (جوليان بريس، نيويورك 1619)، قد نقتطف ما يأتي:- "جاء في الزُّوهار اليهودي:- "كي تبلغ هذه الغاية فإنّها [الأرواح] يجب أن تُنمّي في ذواتِها جميعَ الكمالاتِ الّتِي غُرِسَتْ بذورها فيها. وإن ما استكملتْ الأرواحُ هذا الشّرط أثناءَ حياةٍ واحدةٍ فإنّها ينبغي أن تبدأ حياةً ثانيةًن ثالثةً... وهكذا حتّى تكتسبُ (أو تستوفِي) الحالَ الذي يُهيّؤُها للتّوحّدِ، مُجدّداً، مع الله"..."
وقالَ قَوْتَهْ:- "كم هو حَسَنٌ أنَّ على الأنسِ أن يمُوتُوا، وإن كانَ ذلكَ فقط كي يمسحُوا عنهُم انطباعاتَهُمْ ويعُودُوا [للحياةِ] صافينَ تماماً".
وقال هيُوم، الفيلسوفُ الإنكِليزيُّ، إنَّ "تناسُخَ الأرواحِ هو النّظامُ الوحيدُ الذي تستطيعُ الفلسفةُ الإصغاءَ إليهِ".
وفي عهدنا هذا كتب هنري فورد:- "العملُ هباءٌ إن لم نكن نحنُ قادرينَ على الإنتفاعِ بالخبرةِ التي جنيناها، في حياةٍ واحدةٍ، في الحياةِ (الحيواتِ) القادمة... العبقريّةُ خبرةٌ. يبدو أنّ البعضَ يظُنّها هبةَ أو موهبةً، لكنّها ثمرةُ خبرةٍ طويلةٍ في حيواتٍ عديدةْ. بعضُ الأرواحِ أعرَقُ (أقدَمُ) من الأخرى، لذا هي عارفةٌ أكثرْ".
وكتبَ غاندي:- "... الذي قُلتُهُ عن "تجدّد الميلادِ" سديدٌ. ومن عطفِ الطبيعةِ علينا أنّنا لا نتذكّرُ ميلاداتنا الماضية. فالحياةُ ستغدو عبئاً إن نحنُ حملنا ثِقَلَ ذكرياتٍ كتلكْ".
... أخيرَاً، علّنا نتّفقُ مع ف. و. مَيَارْسْ على أنّهُ "ليس من السّهلِ على المرءِ أن يتحقّقَ من صِدْقِ أيِّ نظريّةٍ عن "الخلقِ المُباشِرِ" لأرواحٍ هي على على مراحلٍ مفترِقَةٍ من التّقدّمِ كهاتيكَ التي تدخُلُ حيّزَ الأرضِ مُتخفّيَةً في هيئةِ الإنسانِ الفانْ. فالمرءُ يشعُرُ أنّه "ينبغي" لها أن تكونَ موصُولةً- فيما بين ذواتِها وغيرِها- باستمراريّةٍ ما؛ شكلٍ ما من أشكالِ الماضي الرّوحِيِّ".
بعبارةٍ أخرى، يتطلّبُ العقلُ تفسيراً للحياةِ يضعُ في اعتبارهِ أنّ "الحياةَ" بحاجةٍ إلى زمانٍ أطولَ من ثلاثةِ عشريناتٍ من السّنينِ وعشْرٍ كي "تُنجِبُ" لنا عباقرةً أمثال موتسارتْ أو مايكيلانجلو، آينشتايِنْ، قاليليُو، بيتهوفن أو شكسبير؛ رجالٌ سبيكةُ أرواحهِم أتمَّ صياغةً من أن تُشكَّلَ في عهدِ حياةٍ واحدةٍ قصيرةٍ، هنا على الأرضْ.
قد نضيفُ لذلكَ أنّهُ، في هذا العقد، قد عُرِفَ عن يونج، وهو أحد السايكولوجيين العظام، توصّلُهُ إلى إيمانٍ بمُعتقدِ تناسُخِ الأرواحْ. بدأ ذلكَ الإيمانُ يتجلّى بينَ سطُورِ كِتابِهِ الأخيرِ (ذكريّاتٌ، أحلامٌ وتأمّلاتْ)... ثم أنّ أولئكَ الذينَ كانوا على صلةٍ حميمةٍ معهُ عرفوا أنّهُ قد انتهى إلى موقفٍ شموليٍّ مُصدّقٍ بحقيقةِ "تجدّد الميلادْ".
3
سوف أحاول، في هذا الكتاب، أن أصف، في المقام الأول، تلك المناحي من عقيدة تجدد الميلاد التي جاءتني من "المعلّم الما ورائيّ" الذي هو، جليّاً، علاّمةٌ في قراءةِ ما سُمّيَ، في "الشّرقِ"، السّجِلاّتُ الأكاشيّةْ.Akashic Records ذلكَ لأنّني إن لم أتحدّثْ، بصراحةٍ، عمّا تمكّنْتُ من لمحهِ واستيعابِه من ذلكَ سأهدرُ الوقتَ والجّهدَ اللذينَ أُكْرِمْتُ بهُمَا، أو فِيْضَ بِهُمَا عليَّ، حينَ أُشْرِبْتُ بالتّعليمِ الذي عُلّمْتْ.
تذبذبتُ عندَ كتابةِ الفقرةِ الأخيرةْ... أنّى لي أن أصِفَ منبعَ ما واتاني دون أن أتراءَىْ مُتباهِيَةً؟ مع ذلكَ يجبُ عليَّ أن أُحاوِلَ بذلَ ما عُلِّمْتُ، عبرَ السّنينِ، للنّاسْ. وبما أنّ قصّة مُجِيء "المعلّمِ" إليَّ (وزوجي) قد رُوِيَتْ، بصراحةٍ، في كتابي الأخيرِ فإنّي مُلزَمةً بأن أكُونَ واضحةً بشأنها هنا أيضاً.
في مناسبةٍ باكرةٍ، حينما كان "المُعلّمُ" معنا يُجيبُ، بصبرٍ، على أسئلتِنَا (فيما يُقيّدُ زوجي إجاباتَهُ على الورقِ)، استجمعتُ شجاعتي وسألتُ "زائرنا" السّامي عن إمكانِ أن نُطْلَعَ على إسمٍ نعرِفُهُ بهِ.
- "هل هذا مُهِمٌّ؟" قال وهو يرفع حاجبيهِ قليلاً.
- "حسناً، إنّهُ مهمٌّ قليلاً"، قلتُ مُعانِدَةً.
- "قد كانتْ لنا كلّنا أسماء عديدةْ". أجابَ.
كان ذلك هو النحو الذي مهّد بهِ للحديثِ عن مسألةِ "تجدّد الميلادْ".
- "يلزمُ الرّوحَ أطولُ كثيراً جدّاً من عهدِ حياةٍ مُفرَدَةٍ على الأرضِ حتّى ترتقي بنفسها إلى كائنٍ لهُ قدراتُ فيلسوفٍ، موسيقيٍّ أو حكيمْ. بنو الإنسانِ يحيونَ مرّاتٍ عديدةٍ على كوكبِ الأرضِ، تتخلّلُها أحياناً فتراتٌ طويلةٌ من الرَّاحةِ والعُطلَةِ في عالمِ "الرّوحِ"، قبلَ أن يُوسّعُوا مُحتواهُمْ، طاقتَهُمْ أو وُسعَهُمْ، إلى مدىً كافٍ لهم لأن "يكتسُوا" بما قد ندعوه "أجنحة اللا عودة". إنّكَ لا تستطيعُ أن تصُبَّ ربعَ جالونٍ من اللّبنِ في جرّةٍ خُصّصَتْ لرطلٍ. فأحياناً يُمكنُ للمرءِ، في مرحلةٍ معيّنةٍ من تطوّرِهِ، أن يحُوزَ على ذكرى أو رؤيةِ الأدوارِ التي أدّاها في قرونٍ ماضيةٍ. تلكَ قد تُسمّى "استِرجاعاتْ"..."
- "وهل نحتفظُ، في حيواتنا، بذاتِ الملامح؟"
- "بلى، لكن باختلافٍ بسيطٍ. سببُ ذلكَ هو أننا نُنشئُ أنفسنا على هيئةِ فكرنا، عبر ردّ فعلنا على ظروفنا".
وعندما سألتُهُ عن الدور الذي تقوم به الوراثة في حياتنا (حيواتنا) قال مجيباً:- "هنالكَ حديثٌ جَلَلٌ عن كونِ الجّيناتِ من صميمِ تركيبةِ الإنسانْ. ويُقالُ فيهِ إنّها مسؤولةٌ عن طبيعةِ شخصيّتِهِ. هذا هو الحالُ لحدٍّ معيّنٍ، لكنّهُ من النَّادرِ، إن لم يكُنْ مُطلَقَاً، للمتدبّرينَ اعتبارَ إحلالات جينات معيّنة في الجّسد أثراً (مُسبَّبَاً) وليس سبباً". ثم وصفَ كيفَ أنّ الجّينات والكروموسوماتْ هي جُزئيّات طاقة خلقتها عاداتُ تفكيرِنا في حيواتنا الطّويلةِ الأعصُرْ. فالجّيناتُ، أو مُقابِلَهُنَّ في الرّوحِ، كما قالَ، "يُمارِسْنَ جاذبيّةً مغناطيسيّةً على نوعي الأبُوّةِ والأمومةِ اللذينَ يردنهُما".
- "وهل نُلاقي، على الأرضِ، من أحببناهم في حيواتٍ ماضيةٍ؟" سألتُ.
- "بلى. فحيثما ترينَ في الإنسانِ شيئاً أكثرَ من قليلٍ أو عامٍّ فإنّكما تكونا قد التقيتُما من قبل- كثيراً ما تكونُ صلتُكُما تلكَ قديمةً". أجابَ.
في أواخرِ الحديثِ وجّهتُ لهُ سؤالاً قد كان مُؤرّقُنِي:- "هل للتّنويميّةِ المغناطيسيّةِ الذّاتيّةِ شأنٌ بوضعيّةِ الوعيِ (الشّعورِ) المُصعّدِ هذِهِ؟"
- "بلى"، أجابني "المُعلّمُ"، "فتلكَ شكلٌ من أشكالِ التّنويم المغناطيسيِّ الذّاتيِّ أو، على الأرجحِ، "إلغاء" التّنويم المغناطيسيّ الذّاتيِّ. فأنتِ، كإنسانةٍ، منذُ وجودِكِ في الرِّحْمِ وما بعدهُ، في حالةِ حُلُمٍ. وإن هُيّئَ لكِ- من بعدِ ذلكَ- تصعيد الوعي (الشّعور) عندكِ إلى مرتبةِ الأنا، الرّوح، فإنّكِ تكونينَ، حينذاكَ، طالعةً خارجَ "اللا حقيقة" وداخلةً في الحقيقة". وفي موقفي هنا والآن أنا لستُ، على أيِّ نحوٍ، مُنفتِحَاً على إشعاعاتِ كلِّ مجالي "الحقيقةِ"، لكنَّ ما أرى أرى بكمالٍ هو في ذاتِ درجةِ ما بلغتُ أو حصّلتُ في ذاتي من التّصاعد (التّسامي) نحو تلكَ الغاية، و أيُّ مجالٍ من هاتيكَ يجدُ المرءُ نفسهُ متوافقاً (متناغماً)، في الحالِ أو في الآنِ، معهُ قد يُعتبرُ حدَّ طاقتِهِ الكماليّةِ الحاضرةْ. طبعاً ذاكَ ليسَ هو حدٌّ ثابتٌ لجِماعِ طاقتِهِ الكماليّةْ. فهو ممكنٌ له أن يرقَى بتلكَ عبر الصلاةِ والتّطوّرِ الشخصيِّ وفقَ ما رسمَهُ السيّد المسيح للنّاسِ من درُوبٍ".
ذلكم كان مجرى هاتيكَ المُقابلات:- أسئلةٌ منّا وأجوبةٌ منهُ تستغرَقُ، ليلةً إثرَ ليلةٍ، وقتاً أكثرَ من ساعتينِ في الجّلسةِ الواحدةْ. ثم أنّ هنالكَ شيءٌ وعدني بأنّه سوف يحدثُ وحَدَثَ. فمع صيرورة الزمان بتُّ قادرةً على الإصغاءِ، بجلاءٍ شديدٍ، لصوتِ " مُعلِّمِنَا" في طيِّ السّكينَةِ ممّا رسّخَ تواصلنا الكامل معهُ. وهكذا، بعد ما يُقارب العامينَ، ما عادَ، ثانيةً، يتنزَّلُ إلينا على المستوى الفيزيائيْ. وكما وضّحَ لي، هو قد استخدمَ طريقةَ المُجيءِ إلينا عبرَ آليّةٍ، أو وسيلةٍ، فيزيائيّةٍ حتّّى يهبني إيماناً وثقةً في إصغائيَ الخاصِّ وما يردُنِي، عبرَهُ، من حكمةٍ منهُ. ولكوني إبنةُ عصرنا الشّكّاكِ فقد لا يُقيّضُ لي أن أكُونَ، بطريقةٍ أو بأُخرى، قادرةً على تصديقِ وارداتِ سَمَاعِيَ الرُّوحيِّ دونَ مُبارَكَةِ ذاكَ التّجَسّدِ الرّائعِ- الّذي اتّخَذَ من زوجِي شاهدَاً عليهِ.
***
وفيما الزّمنُ ماضٍ برزَ إلى الضّوءِ ما كانَ، في مرآيَ، اكتشافٌ عظيم الأهمّيّةْ. ذلكم هو عثوري، قبل سنينٍ ذاهبةٍ قليلةٍ، على أثرٍ لعالمِ النّفسِ الأمريكيِّ الدّكتور إيان ستيفينسون. هذا الباحثُ ذو التّوجّه الشّديد العلميّة قد أمضى سنيناً عديدةً وهو يستقصي حالاتِ أكثرَ من ألفِ طفلٍ قادرينَ على تذكّرِ حيواتهم الماضية. في سبيله ذاكَ طافَ د. ستيفينسون جميع أرجاء العالم مُلتقيَاً عائلاتِ وأصدقاءَ وأقربَاءَ أطفالٍ يافعين- كبِرُوا، لا حقاً، وعاشوا حتّى الآن [6197]- قد شهد الذين من حولهم لهم على حديثهم عن حيواتٍ ماضيةٍ عاشوها. بأقصى حذرٍ وانتقاءٍ متمعّنٍ للدلائلِ كتب د. ستيفينسون، في البدءِ، مقالاً (أو استبياناً) أورد فيهِ أربعاً وثمانينَ حالةً من حالاتِ أولئك الأطفال المُنمازينْ. ثم نشرَ، لاحقاً، كتابهُ المُسمَّىْ عشرون حالة موحية بتناسخ الأرواح. وقد بلغني أنّه، الآنَ، يعدّ منتخباً جديداً للحالاتِ إيّاها.
لكَ أن تتصوّرَ- أيّها القارئ- نشوتي حين أُرْسِلَتْ إليَّ تلك الكتاباتُ من "أمريكا" وآنما اطّلعتُ، طيّها، على حالاتٍ عديدةٍ مُستكْنِهَةٍ، أو شارحةٍ، لآثارِ طَبَعتْهَا على الجّسدِ والذاكرةِ الحاضرةِ أحداثٌ ماضيةٌ تذكّرها أطفالٌ من بلدانٍ كثيرةٍ ومختلفةٍ في هذه الدّنيا كانوا قد بدأوا، فيما بين السنين الثانية والنّصف والخامسة من أعمارهم، في استرجاعِ (أو استدعاءِ) حيَواتِهم الماضيةِ بوضوحٍ وتفصيلٍ كبيرْ. وثّقَ د. ستيفينسون البُرْهانَ المُتاحَ على هذا بتدقيقٍ وحرصٍ عظيمينْ. عندَ بلوغ أولئك الأطفال سنّ الرّشدِ وما بعدها شعروا بأنّ ذكرياتهم عن حيَوَاتِهم الماضيةِ شارعةً في الأُفُولِ، لكننّ كثيراً منهم ما زالوا، حتى حينذاكَ، قادرينَ على استدعاءِ الملامحِ الأساسيّةِ لتلكَ الحيَوَاتْ.
تنطوي الكتاباتُ تلكَ، حسبَ وِجهةِ نظري الخاصّةِ، على أهمِّيّةٍ شديدةٍ، ففيها وَجَدْتُ حالاتٍ مُفصّلةً تشرحُ، بتوسّعٍ وانطلاقٍ، آثارَ أسبابٍ ماضيةٍ على أجسادِ وأنفُسِ شخصيّاتٍ حيّةٍ في الزّمنِ الحاضرْ. عطفَاً على ذلكَ حُمِّلَتْ الكتاباتُ إيّاها ما هو مُوشٍ بما عُلّمْتُهُ من "البُعدِ الما ورائيِّ" للوجود:- ملامحٌ من "كارما" ومن نفاذاتِ قوانينٍ روحيّةٍ كانت قد بدتْ لي، في الماضي، مستحيةً على أن تتعيّنْ.
في زمنٍ آتٍ، سيغدو، بلا شكِّ، تمعّنٌ دؤوبٌ، كتمعُّنِ د. ستيفينسون، في ذاكَ السّبيلِ مُعينَاً على إثباتِ مُعتقَدِ تعدّد الميلادِ في سِجِلِّ جِمَاعِ المؤثّراتِ العاديّةِ والأتوماتيكيّةِ على تطوّرِ السّلالةِ الإنسانيّةْ.
إنتقى لي "المُعلّمُ"، عبرَ السّنينِ، حالاتٍ كثيرةً للدراسةِ، أمثلةً ونماذجاً، لأناسٍ أحياءٍ وأحياناً مشهورين، مُبينَةً للمسائلِ التي كان يُجَلِّلُهَا لي. ثم وقفتُ، عندَ مؤلّفاتِ د. ستيفينسون، على حالةٍ إثرَ حالةٍ لأطفالٍ وصبيانٍ يافعِيْنَ مثَّلَتْ إيضاحاتَ جليَّةً لانعكاساتِ (تبادُلاتِ) العلّةِ والمعلولِ التي مُرِّنْتُ على توقُّعِ حدُوثِها في الحياةْ.
تلكَ الكتاباتُ وهبتْنِي الشّجاعةَ على أن أبُثَّ، على الورقِ، بعضاً مما بَسَطَ لي "المُعَلِّمُ" من طيّاتِ حالاتٍ بعينِها لتناسُخِ الأرواحِ، فالعهُودُ، قطعاً، ستتغيّرُ و"الغيرُ أُورثوذوكسيٍّ" اليَومَ سيصيرُ "أورثوذوكسيَّ" المُستقبَلْ.
4
علينا، الآنَ، أن نبدأَ الحكايةَ من أوَّلِهَا.
في هاتيكَ الأيّامِ الباكرةِ قال لي "المُعلّمُ":- "أنا أمنحُكِ الرّؤيا وانتِ تصُوغِيْنَ رؤيايَ في هيئةِ كلماتٍ". لكنّهُ كثيراً ما جاءتْ الكلماتُ، العباراتُ الجّليّةُ، منهُ أيضاً. كنَّ يقعْنَ، في خاطِرِي، وقعَ نردٍ على صفحةِ شمعٍ دافئٍ:- مُطلقَاً في طيِّ السّكيْنَةِ.
"البساطةُ الماثلةُ في صَفَقَةِ عُشبٍ هي مقياسُ جهلِها". كم هو ذا موضوعٌ للتأمّلْ! ففي ثناياهُ تكمُنُ االفلسفةُ جميعُهَا.
كُلُّ الحِكْمَةِ مُتنزِّلَةٌ من "المورِدِ الأسمَى". فهي، في الإنسانِ الفردِ، مُركّبٌ روحيٌّ من الطّاقاتِ الخلاّقةِ التي تبذُلُها "الأُلُوهيّةُ" في الكونِ فتنجذبُ لهُ في حيَواتِهِ العديدةْ. فكما تفيضُ الشّمسُ بإشعاعاتها المنسربة عن كليّةِ الطّاقاتِ الثّاويةِ فيها، على الكونِ الخارجيِّ، كذلكَ تفيضُ "الأُلُوهيّةُ" بشُعاعاتِ الرّوحِ الإلهيِّ التي تخلقُ الحياةَ كلّها. نحنُ نُنشئُ، في أنفُسِنَا، قنواتٍ أو مَجَالٍ لقبُولِ هاتيكَ الطَّاقاتِ الإلهيّةْ.
الخِليَةُ المُفرَدةُ إلهيّةٌ في جوهرِها، بسببِ الشّرارةِ الإلهيّةِ التي تُحييها. فثمةُ شُحنةِ طاقاتٍ أوّليّةٍ (بُدائيّةٍ) تهبُها خاصيّةُ حياتِها الأصليّةْ. إنّها تنمو مثلُ كُرَةِ ثلجٍ فوقَ حقولِ ثلجِ الطّبيعةِ فتَسْتَجْمَعُ مزيداً من الطّاقاتِ الإلهيّةِ في باطنِها، تستوعبُها في ذاتِها لملايينِ السّنينِ وتُنشِّرُ نفسَها، خلال ذاكَ النِّمُوِّ وذاكَ التّطُوُّرِ، في هيئاتٍ هيَ دوماً أكثرَ تعقيداً أو تركيبيّةً.
إذاً لُبُّ كلِّ شيءٍ ينتسبُ إلى جوهَرِ الرّوحِ، فهو منبثقٌ عن الألوهيّةْ.
الرّوحُ التي هي في الخِليةِ بسيطةٌ، غيرُ معقّدةٍ. فهي، في طورِهاَ ذاكَ، لمّا تزَلْ غيرَ عريقةٍ في الزّمانِ لتجذبُ إلى نفسِها كثيراً من القراميدِ البانيةِ لرُوحٍ صرفٍ:- تلكم الشّحناتُ الطّاقيَّةُ الشّاعَّةُ من "الرُّوحِ الإلهيِّ".
إنّ صَفَقَةَ العُشبِ تظلُّ- ما دامتْ محضَ صَفَقَةِ عُشْبٍ- بسيطَةً. فرُغمِ حملِها، في ثناياها، لشحناتِ طاقةٍ إلهيّةٍ أكبرَ بكثيرٍ في مدى تعقيدِها وشدّتِهَا، من مُجرّدِ نُثارَةِ حياةٍ إلا أنّها، مُقارنَةً بغيرِها من كائناتٍ حيّةٍ، تظلُّ شيئاً بُدائيّاً وأوّليّاً. ذلكَ لأنَّ درجةَ البساطةِ في هيئتِها ومُكوّناتِها هي- كما أسلفتُ- مقياسُ جهلِهَا (أي افتِقارِها- حتّى ذاكَ الآنَ من آنَاتِ مَرَاقِيْهَا- إلى قوى الحِكمةْ).
إنطلاقاً مما سبق قد نصوغُ، في الخيالِ، مراقي سلَّم الحياةِ، معالمَ سبيلِ الطّبيعةِ فنُدَرِّجُهَا، في مرائينَا، صُعُدَاً من اللّبِّ (المركزِ) الأبسطِ للطّاقةِ الرّوحيّةِ على كوكبِ الأرضِ والمركُوزِ في المادّةِ إلى أشكالِ حياةِ الطّبيعةِ المتناميةِ أبداً في تركيبيّتِهَا. ثم انعطافاً أعلى، من هُناكَ، على الإنسانْ. ثم نقولُ، إغناءاً لذلكَ، إنّ أيَّ لُبٍّ، أو عَصَبٍ، رُوحيٍّ موجودٌ في الكونِ، أو في الحياةِ، يُواتِرُ نمُوّهُ هُناكَ عبرَ استيفائِهِ الدّائمِ في ذاتِهِ لمزيدٍ من طاقاتِ الرُّوحِ المُكوّنَةِ للحياةِ، الوعيِ والشّعُورْ.
قد قِيلَ إنَّ "اللهَ ينامُ في المملكةِ المعدنيّةِ، يحلُمُ في النّباتَاتِ، يستيقظُ في المملكةِ الحيوانيّةِ، ويصيرُ واعياً في الكائنِ الإنسانيِّ". ذلكُم لأنّ مُكوناتَ الحياةِ والوعيِ مورُوثَةٌ في هيئةٍ حُثاليَّةٍ في كلِّ ذرّةٍ، فالذّرّةُ ما هي إلاّ غِطاءٌ برَّانِيٌّ لقوىً روحيّةٍ جُوّانيّةْ.
البساطةُ تعني الجّهل.
التّركيبيّةُ تُنشئُ الإنسانْ.
لا نهائيّةٌ من تركيبيّةِ الطّاقاتِ الإلهيّةِ الخلاّقَةِ تُبدِعُ الحكيمَ، القِدّيسَ، الكائنَ الإنسانيَّ المُتحرّرْ.
الموتُ، كما ندري، ليس هو مُنتَهَى رحلةِ النّفسْ. فنحنُ، في اعتقادي، قد تجاوزنا، في ترقّينَا الشِّعُورِيِّ أوالرُّوحيِّ، درجةَ السّعيِ المُثابرِ للبُرهانِ على خلُودِ النَّفْسِ، على تواصُليّةِ الوعيِ والشّعورِ في أبعادٍ أَرَقَّ من الكينونةْ. هُنالكَ يدخُلُ الفردُ مرحلَةً، طويلةً كانتْ أم قصيرةً في حُكمِ حاجةِ نفسِهِ إليها، مُفعَمَةً بحالٍ من الإهتمامِ والإنتعاشِ الرّوحيِّ، بحالٍ من "الرّحيلِ دونَ كوابحٍ" في المجالي الما ورائيّة. مع ذلك ليس ذاكَ هو الوطنُ الدّائمُ للنّفسِ السّاعيةْ. حقّاً إنّ القليلينَ، في هذا العصرِ، قد يكونوا من الجثرأةِ بحيثُ يدّعُونَ، كما هُمْ في حالتِهم الحاضرة، مستوىً، نسيجاً من الإمتيازِ الرّوحيِّ يؤهّلُهُمْ لمقامٍ أزليٍّ في المجالِي السّماويّةِ الفردوسيّةْ.
"الدّنيا مدرسةٌ لتنميةِ وتطويرِ الرّوحْ. ونحنُ، رُغمَ بلُوغنا، في سعينا الوجُوديِّ، مرتبةَ الإنسانِ، لا نستطيعُ، بعدَ، أن نفترضَ لأنفُسِنَا جدارةً بالحياةِ في اتّحادٍ أبديٍّ مع الأُلُوهيِّ. ثم أنّنا، كما نحنُ في حالتنا الحاضرة، قد لا نستشرِفُ، أصلاً، تشوّفَاً، في ذواتِنا الآنيّةِ، إلى مثلِ ذلكَ الغتّحادْ. فنحنُ- حقيقةً- لا نزالُ مُستوجِبِيْنَ مُكابدةً في سبيلِ تلكَ الدّرجةِ من الإمتِيازْ. بالتأكيد سيجد الكثيرون منا أنفسهم معرّضينَ، بسهولةٍ، للإعتلالِ إن هم عاشوا في الأجوازِ الملائكيّةِ، في فرادِيسِ البَرَكاتْ. فالإندغامُ الأبديُّ في "الكُلّيّةِ الإلوهيّةِ"يستلزمُ منّا انسجاماً في اندياحِنا الشّعوريِّ وصفاءاً في قًوانا الروحيّةْ [يحضرُني، في هذا المقام، بيتُ شعرِ أبي الطيّب المتنبّي القائل:- ومن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ/ يذُقْ به مُرّاً الماءَ الزّلالا. ذلكَ لكأنّي بالكاتبةِ تحدّثنا هنا عن "سقمنا" الرّوحيّ العصريّ الحاجبِ لنا عن "هيئةِ الإنتباهِ الشّعوريّ الجديرةِ بأن تفتحنا على تلكَ الأجوازِ وتلكَ الفراديس- ففمُنا- إن التففنا، حسب المقام الحاضر لكتابتنا هذه، على معاني المتنبّي الشّعريّة الحقيقيّة- يكونُ، روحيّاً، متعوّداً، في هذه الحالةِ، على المرارةِ إلى حدِّ نسيانِ "الحلاوةِ الأصليّةِ لمذاقِ فردوسنا الرّوحيّ القديمِ الذي رسمتْ صورتَهُ، في لا شعورنا الكلِّيِّ العريقِ، جميع الأديان البشريّة الجّليلة، سماويّةً كانتْ أم "غيرَ" سماويّة- المترجم].
ما الذي يمكنُ فعلُهُ بشأن ذلك؟
حسناً، قد عُلّمْنَا أنّ فترةً دراسيّةً أرضيّةً (دنيويّةً) أخرى سوف تُعيننا في سبيلنا. فهي- حسب ما يرى ذلك التعليم- ستُروّضُ أنفسنا وأرواحنا على التّناغِمِ مع رحابِ الكمالْ. ذلكَ لأنّها تُوفي حاجتنا التي لا غنىً لنا عنها، إن أردنا أن نصونَ للأزليّةِ بُعدَ الكينونةِ الرّوحيّةِ، إلى انفساحٍ في الرّؤيا وسعةٍ في الرّوحْ:- تلكما الخاصّتان المميّزتان لكلِّ من له نورُ وجدانٍ (وعيٍ) عارفٌ بالرّوحْ.
ربما نكون الآن، بالفعلِ، متقدّمينَ، تقدّماً مُعتبرَاً، في سبيلِنا إلى هذه الذبذبة الرّوحيّة العاليةِ؛ هذا الغورِ الكينونيّ البعيدْ. مع ذلكَ فإنّ كثيراً منّا هم من السّالكينَ المتأخّرين، سيّما وأنّهم ما يزالوا محتاجينَ إلى عددٍ من الفتراتِ في مدرسةِ الخبرةِ (التّجربةِ) الأرضيّةِ قبلَ أن يفُوزُوا بالإمتيازِ الرّوحيِّ الموسومِ بهش سبيلُ كسبِهِمْ هذا.
هكذا- إذاً- ترجعُ الرّوحُ، مجدّدَاً، إلى الأرضِ بجسدٍ يافعٍ، بشخصيّةٍ جديدةٍ تتّخذُها رداءاً لنفسها وروحها. ثم، عبر خبرتها الدُّنيويّةِ، تُدرّبُ ذاتَهَا على أن تكونَ مُستأهِلَةً للحريّةِ المكينةِ في المستوياتِ العميقةِ من الكينونةِ الما ورائيّةْ.
نحنُ نحتاجُ إلى أن نحوزَ على الغبطةِ في مجالي الفردوس الأزليّة.
هل نحنُ، بعدَ، انتهينا إلى مقامِ الجّدارةِ بحالٍ كتِلْكَ؟
يقيناً، نحنُ نشعُرُ بأنّنا- حاليّاً- عندَ مقامٍ هو دونَ ذلكَ.
ما أرواحُنا المتلاشيةُ الأجرام، في مشهدِ مصهرِ الأرواحِ الجّليلِ الذي هو جِماعُ الواحدِ المُهيمِنِ، إلا لهبُ شمعةٍ. وكونُ الحالِ كذلكَ فيهِ إنباءٌ لنا بأنَّ النّوعَ الإنسانيَّ، في مُجْمَلِهِ، ما راوحَ بعيداً جدّاً في صعودِهِ إلى أعلى سُلّمِ التّطوّرِ الكينونيِّ السّامقْ. فنحنُ- بنُو البشرِ- ما نزالُ أقزاماً في حضرةِ القوى الدّيناميّةِ الّتي تَتَوَهّجُ في الوجُودِ طالعةً من قًدرةِ الواحدِ المُهيمِنِ الخالقَةْ.
إذاً يبدو وجوبُ قيامِ مدارجٍ وجوديّةٍ شتّى تتدخّلُ بينَ الأشكالِ العديدةِ للحياةِ ومساراتِ نموّها المستطاعة أمراً محتملاً. فتلكَ المدارجُ- كما ألمحَ سابقُ ما قُلنا- تُوَسَّعُ وتُتَمَّمُ هاتيكَ الأشكالُ فتُوائمُها، ما وجدتْ إلى ذلكَ سبيلاً، مع حالِ وجودٍ تَصَوُّرُهُ مُتجاوزٌ جدّاً لطاقاتِ خيالِنَا.
مجالي الطبيعة، في مختلف أنحاء الأرضِ هذي، هي مُنْشِئَةً المدارجَ إيّاها. فسُلّمُ الكينونةِ يمتدّ من كيميائيّاتِ الأرضِ الفيزيائية، صُعُدَاً عبر جميع وضعيّات الطبيعة النباتية، المخلوقات المائية، الحيوانات، إلى الإنسان- ثم إلى اقانيمٍ ماورائيةٍ قُدّتْ من مادّةٍ دقيقةٍ بديعةٍ ليس لحواسّنا، في حالتها الحاضرة القاصرة، أن تُنبئَنَا عنها. طبعاً هذا لا يعني أنّ تلك الأقانيم غير موجودةْ. فهنالكَ أدلّةٌ كثيرةٌ تُظهِرُنَا على ذاكَ الوجودْ.
كلٌّ نفسٍ إنسانيّةٍ، كما عُلّمْنَا، تطوَّرَتْ خلال مدارجِ الطبيعةِ المختلفةِ حيثُ، شيئاً فشيئاً، نمّتْ محتوى طاقتِها الرّوحيّةِ حياةً إثرَ حياةْ. ذلكم وهب تلك الانفسَ- وما يزالُ يهبهُنَّ- مزيداً من "مادّةِ" الشّعورِ، إدراكاً واعياً أكثرَ غوراً وعُمقاً.
ثمةُ قوّةٍ مغناطيسيّةٍ هنا تجذُبُ إليها، عبر عمليّة تناغمها مع الوجودِ الفسيح، انثيالاً دائماً من الطّاقاتِ الرّوحيّةِ- هاتيكَ إشعاعاتٌ من المنبعِ الإلهيِّ الخلاّقْ. إنّها تفيضُ، بتواتُرٍ، خلال الكون جميعه مُشتملَةً فيها على جواهرِ الحياةِ، العقلِ، الوعيِ، والرُّوح.
تلك الجّواهرُ تصوغُ أرواحنا. فالرّوحُ، أيضاً، تنمو. ذلكَ عبرَ انسرابِ إشعاعاتِ الكينونةِ الأُلُوهيّةِ إليها في حالِ تمثّلها العينيِّ كفردٍ، كـ"أنا".
نحنُ- إذاً- مخلوقون، في جوهرنا، من مادّةٍ (خامةٍ) أزليّةٍ وإلهيّةْ. والرّوحُ المنداحةُ في أيٍّ منّا غيرُ قابلةٍ للفناءْ. وفي آنِ الموتِ فقط تنخلعُ عنّا هيئتُنا الفيزيائيّةْ. ثمَّ تَستنفرُ الرُّوحُ إليها، من بعدِ ذلكَ، كلَّ الطَّاقاتِ التي اكتسبتها خلال خبراتِها في الماضي- تلك الأنماط من الطاقات المعبّر عنها بِوَاسِطَةِ النَّفس، الغطاء الخارجي للرّوح. أمّا الجّسدُ فهو تعبيرٌ عن الشخصيّة الزّمانيّةْ... ثمةُ ديمومةٍ متّصلةٍ من الشّعورِ تغدو بنا ساعيةً من حياةٍ إلى حياةْ. وما نكتسبُ في أيٍّ من هاتيكَ الحيواتِ يتّخذُ، في الحياةِ اللاحقةِ لها، هيئةَ ما قد يُميّزُنَا، آنذاكَ، من التّحوّراتِ الفيزيائيّةِ، الجّيناتِ والقُدراتِ الإستثنائيّةِ الكبيرةْ.
تجربتُنا في عهودٍ ماضيةٍ هي ما صاغنا على ما نحنُ عليهِ الآنْ. فكلُّ كائنٍ إنسانيٍّ هو مُستودعُ آلافٍ من سنينِ العيشِ بين أجناسٍ حيّةٍ مختلفةٍ وعديدةْ. وأيُّ صورةِ حياةٍ من حيواتِهِ تلكَ تُمثّلُ (بحسبِ حكمِ وقتها) التّعبيرَ الخارجيَّ عن محتوى طاقةِ الرّوحِ فيهِ. ذلكَ لأنَّ كلَّ شكلٍ، في كلِّ جنسٍ، قد ووئِمَ وتجسيدَ درجةِ تطوّرِ أسِّ رُوحِهِ الباطنةْ.
عليهِ، آنَ الحيازة على الوضعيّة الإنسانيّة، يشقُّ كلٌّ منّا طريقهُ، عبر القرون، نامياً ومتطوّراً في العقلِ والرّوحِ، في التّصوّرِ وقوى التأمّلِ، في مرونةِ الحكمِ، في القامةِ الرّوحيّةِ وفي المحتوى الإلهيْ.
ذاتُنا الدّاخليّةُ هي مُرَكّبٌ من جواهرٍ رُوحيّةٍ جذبناها إلى بواطنِ أنفسنا عهداً فعهداً. والحيثُ من سُلّمِ التّطوّرِ الذي يقفُ عندَهُ مخلوقٌ ما يعتمد على مدى تركيبيّةِ الطّاقاتِ الرّوحيّةِ لدي ذاكَ المخلُوقْ.
هكذا يُعبّرُ العقلُ والكينونةُ الإلهيّان عن ذواتهما في، وخلال، جِمَاعِ الخَلْقْ. فالأمرُ هو أمرُ "نهرٍ أُلُوهيٌّ" من الحياةِ المتطوّرَةْ.
كوكبُ الأرضِ قد أُعِدَّ ليُمثّلُ مسرحاً تدريبيّاً للأنفُسِ المُرتقيَةْ. ففيهِ نجدُ نحنُ أوضاعاً هي بمثابةِ حجرٍ شاحذٍ لـ"آلةِ" أرواحِنا إذ هي تُنمّي، مع كلّ خبرةٍ جديدةٍ لنا بها، ملَكَاتَنَا الرّوحيّةْ.
إلى الأرضِ- إذاً- نؤوبُ كرّةً، ثمّ كرّةً، كي نُعبّرَ عن وجهٍ أو آخرٍ من وجُوهِ ذاتِنا الباطنَةْ. فإذا ما توازَنَتْ جواهِرُنا الرّوحيّة واغتنينا داخليّاً غدا ممكناً لنا أن ننعتقَ، نهائيّاً، من أسرِ حياتنا فيها. فحين نستطيعُ أن نصونَ بين جوانحنا أرقَّ ذبذباتٍ صادرةٍ عن أحوالِ وجودٍ في المقاماتِ العُلَى لا نعُدْ بحاجةٍ إلى العودةِ للأرضِ ومستوياتِ وجودها الكثيفة.
نحنُ كائناتُ فضاءٍ جديدةٍ تتعلّمُ التّنفّسَ في مجالٍ أشَفْ. ولكي نفعلَ ذلكَ ينبغي علينا أن نصوغَ لأنفُسنا أزياءاً قادرةً على إلباسِ الرّوحِ شكلاً مواتياً لتنزّلِ الشّعاعاتِ العُلَىْ. عندما نُحظى بدرجةِ الإمتيازِ ونتخرّجُ من "مدرسةِ" الأرضِ، بعد أن نقهرَ قوّةَ جاذبيّتها الغلاّبةَ ونخلعُ عنّا بعيداً أحذيةَ غوصِنا الجّسديّةِ الشّادّةَ إيّانا، بكُلاّباتٍ، إلى قشرتِها، نكونُ قد ظفرنا بانطلاقتنا الأبديّةْ. حينذاكَ نغدُو أحراراً في أن نُغامِرَ، أبداً، في مجالِ ذبذباتٍ متماديةٍ دوماً في اللّطفِ وعمقِ الغورِ، في أبعادٍ رُوحيّةٍ قائمةٍ في آمادِ اللا نهائيّة- "ثمّ هم سوف لا يخرجُونَ من هُناكَ أَبَدَا".
الإنسانُ، في أسمى تجلّياتِهِ على الأرضِ، هو أعظمَ التّجسيداتِ كمالاً للأُلُوهيِّ الذي بالمُستطاعِ
تحقيقه على هذا الكوكب في الوقتِ الحاضِرْ.
إنّ رحلةَ الإنسانِ، نفساً وروحاً، غايتُها الاتّحادُ الكاملُ مع الإلهيِّ الذي وَهَبَهُ خَلْقَهُ. هذا يتأتّى حينما تنضمُّ، بثراءٍ، كلُّ جواهرِ الضّياءاتِ الإلهيّةِ إلى بعضِها البعضِ في توازُنٍ تامْ.
نحنُ آلهةٌ تتخلّقْ. وهكذا اللهُ المُتعالِيْ ذاتُهُ فهو، في كلّ يومٍ، له شأنْ. وذاكَ الشّانُ، في فضائنا الصّغيرِ من الكونِ، يتبدّى على هيئةِ صيرورةٍ إلهيّةٍ مُشتَمِلَةً إيّانا في خِضَمِّهَا.
حادثُ الموتِ، إن كانَ واقعاً على خليةٍ، نباتٍ، سمكةٍ أو حيوانٍ عالي الرّتبةِ، ما هو إلا شيءٌ كانفساحِ الغِمْدِ الفيزيائيِّ البَرَّانِيِّ عن السّيفِ، كانسلاخِ جلدِ الثّعبانِ عن الثُّعبانْ. ففيهِ تفقدُ الطّاقاتُ الفيزيائيّةُ زخَمَها، ومن ثمّ تجذبُ شُعاعاتَ الرّوحِ خارجاً عن الجّسَدْ- تتساقطُ الذّرّاتُ الفيزيائيّةُ بعيداً. وتبقى الرّوحُ مُصانةً في لُبِّ ذاتِها الجّوّانيِّ، تماماً مثلُ بٌرعمٍ يجذبُ، أثناء الشّتاءِ، قوى نمائهِ من مجالِ ازدهارها الخارجيِّ إلى "دخيلتِهِ" إلى حينَ إطلالةِ الرّبيعِ آنما يُطلقُهَا، مرّةً أخرى، مُتجدّدَةً النّضَارْ.
حينما يكونُ مُركّبُ طاقةِ الرّوحِ أوّليّاً فإنّهُ، طبيعيّاً، يجدُ تربةً أكثرَ مُنَاسَبَةً لوجودهِ في الأبعادِ الشّديدةِ القربِ من الأرضْ. إنّهُ يستوطنُ، مرّةً ثمَّ مرّةً أُخرى، جسَدَاً فيزيائيّاً إثرَ جسَدٍ فيزيائيٍّ آخرْ. فالموتُ- في مشهدهِ- ليس سوى نهايةِ عهدٍ، فصلٍ يُعبِّرُ فيهِ عن نفسهِ، على الأرضِ، في هيئةٍ فيزيائيّةٍ معيّنَةْ. ذلكَ حتّى يُرسّخ مكاسبهُ الكيانيّة هناك ومن ثمَّ يستجمُّ، طرفاً من الزّمانِ، في مجالي الإنعتاقِ أو الطَّلاقَةْ.
يظلُّ المركزُ الرّوحيُّ لكلِّ كيانٍ حيٍّ لجنسٍ طبيعيٍّ قريباً من الأرضْ. حتّى إذا ما شحنَ نفسَهُ بمُركّبِ طاقةٍ ذي قوّةٍ روحيّةٍ بمقدورها أن تشُبَّ بهِ إلى مجالاتٍ عُلَىً انطلقَ إلى إلى هناكْ. فما يُوثِقُ صلةَ الكائناتِ الطبيعيّةِ بالأرضِ ويجعلُ الحياةَ تنبثقُ فيها على هيئاتٍ جديدةٍ ترتادُ مجالها الفيزيائيّ هو مبدأُ التّعاطُفيّة- انجذابُ الشّبيهِ إلى الشَّبِيْهْ [* قد يحسُنُ بي، كمُترجِمٍ، أن أُدَاعِي، في هذا المقام، إلى تصوّرِ قارئي أمرَ وجُودِ صلةٍ ملموسةٍ بينَ ما تقُولُهُ المؤلّفةُ هنا والمبدأ العام الذي "يؤمنُ" العارفُونَ بالسّحرِ ومُمَارِسِيْهِ أنّ السّحرَ يعملُ وِفْقَهُ وهو مبدأ انسجامِ الآفاقِ جميعِها- روحيّةً كانتْ أم فيزيائيّةً- مع نظائرِها (أو توائمها، إن شئتْ) الكونيّة؛ ذاكَ المبدأ الذي كثيراً ما يُشارُ إليهِ، في كُتُبِ السّحرِ والعلومِ الرُّوحيّةِ على أنّهُ القاعدةُ الأنطولوجيّةُ القائلةُ بأنَّ "ماهو فوقْ، ما هُوَ تحتْ"- المترجم].
الإنسانُ غيرُ مُستثنىً من هذه القاعدةْ. فطالما نفسُهُ ورُوحُهُ كانتا فاقدتينَ لذاكَ الغِنَى في الجّواهِرِ الإلهيّةِ الذي هو- وحدَهُ- خليقٌ بقهرِ قوّةِ جاذبيّةِ الأرضِ فإنّ الرّوحَ فيهِ لا مناصَ لها من البقاءِ في مدى الأرضِ حيثُ تنسجُ ذاتَها، مرّةً فمرّةً، في جِسُومٍ أُخَرٍ حتّى أنَ ذهابِ زبدِهَا جُفاءَاً، انفِكَاكِ "صابُورةِ" قيدِها الأرضيِّ وتحوّلِها إلى هيدروجينَ من الرّوحِ يخفُّ، صَفِيّاً، في صعودِهِ إلى الآمادِ السّماويّةِ الماورائيّةْ.
هذا هو القانون الكامن خلف تناسخ الأرواحْ. فتناسخ الأرواح ليس ظاهرةً تحدُثُ، من حينٍ إلى حينٍ، للإنسانِ وحدهُ. إنّها العمليّةُ (السّيرورةُ) التي تنمو وتتطوّرُ في نطاقِها كلّ الحياةِ على كوكبِ الأرضْ. وما يُجنَى في حياةٍ واحدةٍ هُناكَ يُصانُ في الهيئةِ-الرّوحِ الإنسانيّةِ ويُعبّرُ عنهُ في الحياةِ القادمةْ.
يعيشُ الكيانُ الحيُّ زمانَهُ على الارضِ، يموتُ، يسترخي ويُنعشُ ذاتَهُ في المجالي الباطنةِ لحينٍ يتوافقُ قِصرُهُ أو طُولُهُ وحاجتُهُ، ثمّ ينغمرُ، بعدَ، في حياةٍ أخرى على الأرضِ يتعلّمُ فيها دروساً أعمقَ يصعُدُ، إثرَها، إلى درجةٍ أعلى من سُلَّمِ الوجُودْ.
دعونا نتخيّلُ حيواناً بُدائيّاً يحيا في الماء. هو يحيا ويموتُ، مرّةً ثمّ أخرى، جاذباً إلى ذاتِهِ، في كلّ حينٍ، مدّاً عظيماً مُتنامِيَاً من الطّاقاتِ الشَّعشاعةِ الفائضةِ على الكونِ في كلِّ مستوياتِهِ. باعثةُ الفاعليّةِ المُطلقةِ لديناميّةِ هذه المغناطيسيّةِ أو التّجاذُبيّةِ في حيّزِ الفعلِ هي وضعيَّةُ "الحاجةِ والرّغبَةْ". فأبسطُ المخلُوقاتِ، لكونِهِ قُدَّ من طاقاتٍ عقليّةٍ، يستعملُ في حياتِهِ، بدرجةٍ ما، قدرةَ العقلِ الثّاويَةِ في كلِّ ذرّةٍ من ذرّاتِهِ. ذلكَ لأنّ الحاجةَ إلى، والرّغبةَ في، الطّعامِ، والحاجةَ ألى، والرّغبةَ في، حريّة التنقّل ومرونته، سعياً وراء الطّعام والسّلامة، تُخلِّقانَ جذباً مغناطيسيّاً يسحبُ مدداً أبعدَ من الطَّاقاتِ الكونيّةِ إليهِ. وهكذا، خلال التجربة الحيّة، يُسوّي ذاكَ المخلوقُ نفسَهُ، شيئاً فشيئاً، في هيئةِ أشكالٍ دائمةِ المُضيِّ في تركيبيّتِها.
بعد حيَواتٍ عديدةٍ متَّخِذَةً أشكالاً سَمَكِيَّةً شتَّى قد يجدُ المخلُوقُ إيّاهُ نفسَهُ عائشاً على حافّةِ الماءْ. عندَ ذاكَ سيحتاجُ رئتينَ يتنفّسُ بهما في مدىً ألطفَ وسُوقَاً تَنْهَضُ بهِ عبرَ الرّملِ الحارِّ علّهُ يُصيبُ طعاماً أو ظِلاًّ. فهو يحتاجُ، حاجةً قاهرةً، إلى هاتيكَ الأشياء ويرغبُ فيها. والإشاراتُ الصّادرةُ عن ’جِهَازِهِ‘ الصّغيرِ تُومضُ خارجاً بإشعاعاتٍ ذاتِ صبغةٍ موافقةٍ لتلكَ الحاجةْ. والإنجذابُ المغناطيسيُّ المُتخلّقُ عن قوّةِ تلكَ الحاجةِ يجذبُ إليهِ، بِواسِطَةِ التّناغُمِ والإنسجامِ، طاقاتٍ شبيهةً بهِ. الوعي (الشّعور) يُشكّلُ صيغةَ حاجتِهِ، ومن ثمّ تنسربُ فيهِ الطّاقاتُ الشّبيهةُ بهِ.
وهكذا يُنْشَئُ المخلوقُ الصّغيرُ. هكذا- بالفعلِ- يُنْشِئُ المخلوقُ الصّغيرُ ذاتَهُ بجُهدِهِ الخاصْ. وبعدَ حيَوَاتٍ وميتاتٍ عديدةٍ تتطوّرُ خياشيمُهُ وزعانفُهُ إلى رئتين وسيقان فيغدو كائناً أميبيّاً ويصلُ إلى مشارِفِ أطرافِ الأراضي الغابيّةْ. عندها يبدأُ في تسلّقِ الأشجارِ بحثاً عن الطّعامِ فتّتخذُ حياتُهُ بُعدَاً معاشيّاً جديداً.
الطّاقاتُ التي يكتسبُها هذا الكائنُ (المخلوقُ) في كلِّ حياةٍ من حيَوَاتِهِ تصيرُ منطبعةً في لُبّهِ الرّوحيِّ كجزءٍ من ذاتِهِ الفرديّةْ. إنّها تربُو، حياةً إثرَ حياةٍ، مسنودةً، في ذلكَ، بقانُونِ التآلُفاتِ الرّوحيّةْ. وكما في الذّرّةِ تَلُمُّ هاتيكَ الطّاقاتُ "أيَادِيْهَا" وتُشيِّدُ، ضمنَ العمليّةِ المستمرّةِ المتمثّلَةِ في وجودها المتّصل، الكيانَ العضويَّ الخاصَّ بها. هذا قد يُشبّهُ بطَيَّةِ فلمٍ دائمةِ التّمدُّدِ ملفُوفَةً حول "البَكَرَةِ" المركزيّةِ للرّوحْ. كلُّ قسمٍ من ذاكَ الفلمِ يعرضُ علينا حياةً ما على الأرضْ. وكلُّ حياةٍ من أولئكَ الحَيَوَاتِ لها هيئةٌ مختلفةٌ، بيدَ أنّها تُضيفُ قُوّةً إلى رُوحِ الكائنِ المركزيّةْ.
الطّاقاتُ المكتسبةُ الجّديدةُ ترتقي بالكائنِ، قُدُماً، على سُلّمِ التّطَوُّرْ. إنّها تبرُزُ، على المستوى الفيزيائيِّ، في الجّيناتِ والكروموزوماتِ وصِيَغِ طاقةٍ أُخرى تتعيّنُ في كلِّ شكلٍ فيزيائيٍّ تتّخذُهُ. وما أن يغدو بيتُ-مخزنُ طاقاتها مُغتَنِيَاً، غورَاً وعُمقَاً، حتّى تتشكّلُ، ببُطءٍ، في هيئاتٍ أكثرَ تعقيداً:- الهيئات الحيّة لأجناسٍ عُلْيَا.
وهكذا قد يصيرُ كائننا الصّغيرُ ذاكَ، مرّاتٍ كثيرةً، حرذوناً (ضبّاً). ثم يتحوّلُ، من بعدٍ، خلال آلافِ السّنينِ، إلى هذا الحيوانِ أو ذاكَ من بينَ شتّى حيواناتِ الغابةْ. فرغباتُهُ هي، دوماً، ذاتُ ارتباطٍ بمصدرِ مُكتسباتِهِ الرّئيسْ. وذلكم هو الجّاذبُ المغناطيسيُّ الذي ما تزالُ طاقاتُ رُوحِهِ مغروزَةً في مجالِهِ. عليهِ فهو يحيا وينمو في "عُنصُرِ التُّرابِ"، على الأرضِ وفي أقانيمِ ذبذباتِها الفيزيائيّةِ- الأثيريّةِ-الرّوحيّةْ.
تدريجيّاً يتطوّرُ الكائنُ- إذاً- فيطوي درجات الحياةِ، درجةً فدرجةً، حتّى يُولجُ نفسهُ في دوائرِ أجناسِها العُليا فيصيرُ، ربّما لمرّاتٍ عديدةٍ، قرداً صغيراً من فصِيلٍ ما أو آخرٍ، ثمّ قرداً ضخماً. التّجربةُ غنيّةٌ ومتنوّعةٌ في حالاتٍ كهذه. فالحياةُ فيها تفرضُ على كائننا ذاكَ ضغوطاً مُعلّمَةً كثيرةْ. فهو ينبغي لهُ أن يجمعَ طعامَهُ، أن يشُبَّ مع غصنٍ إلى غُصنٍ، أن يتسلّقَ الشّجرَ سعياً وراءَ السّلامةِ، أن يتزاوجَ مع بعضِ نوعهِ حتّى يُنجبُ ويعتني بصغارِهِ. كما وأنّهُ يغدو- حينذاكَ- ذا جهاز عصبي عالي التنظيم وحسّاساً فيشعرُ بالألمِ، يحسُّ، بينَ جوانِحِهِ، انطلاقاتَ لهوٍ وانشراحٍ مُتواثِبَيْنَ، يأنسُ دفءَ عاطفتِهِ تجاهَ والديهِ، تجاهَ اليفِهِ وتجاهَ صغارِهِ. وذلكَ كلُّهُ ذو صلةٍ بردودِ أفعالٍ تنمُّ عن خصائصٍ سايكولوجيّةٍ عديدةٍ مُماثِلَةٍ لتلكَ الّتي نُلاحظها في حيوانَاتِنَا الأليفةِ- وفي أطفالِنَا.
قال عالمٌ حسن السيرة، أثناء محاضرةٍ ألقاها أمام الجّمعيّة المَلَكِيّة ذاتَ ماضٍ قريب:- "إن كان الإنسانُ، وما يزالُ، رئيس الاجناس على الأرضِ، فقرد الرّيسوس [فصيلٌ من القرود يعيشُ في جُزرِ الهند الشّرقيّة. لونُهُ بُنّيٌّ داكنْ- المترجم] سيكون نائبه إذ أنّه الثّاني، بعد الإنسان، في الذّكاءْ".
وفيما الزّمانُ يُطوىْ قد تغدو، ربّما خلال آلاف السّنينْ, الجّواهر الرّوحيّة لذاكَ المخلوقِ منسوجةً في لُبِّ حياتِهِ كقردٍ ضخمٍ، مما يُصيّرُهُ واعياً بذاتهِ فيتعلّمُ التّصوّرَ والقدرةَ على التَّدبّرِ، التّعقّلِ والتّنظيرِ، ولو أنَّ ذلكَ كلّهُ يتحقّقُ فيهِ (أو عندهُ) على نحوٍ أوّليٍّ... في عهدٍ قادمٍ قد تُعَادُ ولادةُ رُوحِهِ، ليسَ في جسمِ قردٍ وإنّما في جسدِ إنسانٍ. وهكذا تنمو نفسهُ وتتطوّرْ.
يحيا، من بعدِ ذلكَ، مِراراً عديدةً، كإنسانٍ بدائيٍّ فيتعلّمُ، شيئاً فشيئاً، صيغاً معقّدةً من السّلوكْ. الحياةُ هي المُعلّمُ العظيم، فخلالَ "ضروراتِ" وجُودِهِ الحُرِّ يتطوّرُ ذاكَ الإنسان الأوّل فيجذبُ إليهِ، دوماً، الإشعاعات الكونيّة ويتّخذها عنصراً بارئاً لنمُوّهِ. ربّما تتحكّمُ، آنذاكَ، ظروف بيئته وأعراف عيشه اليوميّ، لحدٍّ معيّنٍ، في ردودِ أفعالِهِ، لكنّه دائماً يظلّ حرّاً في اختيارِ طريقه الحياتِيْ. وهكذا يُبنِي لنفسِهِ شخصيّةً فريدةً ونفساً هما الإنعكاسين الحيّين لمكوّناتِ رُوحِهِ الباطنةْ. فكلّ كائنٍ في الوجودِ لهُ فرديّةٌ خاصّةٌ بهِ.
بتوالي الزّمانِ يغدو طفلُ الطبيعةِ هذا حاضراً في بلداننا المتمدينة، علماً بأنّ حضوره ذاكَ يتبدّى، في أوّلِ الأمرِ، على أنّهُ عيشٌ في مدارجِ روضةِ طفولةِ البشريّةْ. لكن ذلكَ، طبعاً، لا يُنفِي حيازتهُ للميكانيزمات المعقّدة والخصائص السايكولوجيّة للكائن الإنسانِيْ. فكإنسانٍ هو- في أحوالِهِ السّوِيّةِ- كائنٌ سريع التّعلّمْ.
الآنَ نحنُ قد فهمنا، بوضوحٍ أكثرٍ قليلاً، معنى الحِكمةِ الجّامعةِ التّي عُهِدَ بها إلينا:- "البساطةُ في ورقةِ عشبٍ هي مقاسُ جهلها":- البساطةُ في الطّاقاتِ الإلهيّةِ تُعطي هيئةً أوّليّة؛ التّركيبيّةُ والعمقُ يُخلّقان النّضجْ.
5
هنا قد نصمتُ للحظةٍ كي نُحاولُ أن نبتعثَ، في عيوننا العقليّة (الشّعوريّة)، صورةَ وضعيّةِ تلك الرّوح المُرَكّبَة التي هي اليُنبُوع الرّئيس، المركز، لكلّ كيانٍ حيٍّ.
اقترحتْ كُتُبِي الباكرةُ علينا أن نُحاولَ تخيّلَ المستويات الباطنة من إنسانٍ ما وكأنّها اسطوانةِ قراموفون. فرنّاتُ تلك الأسطوانةِ، لكونِها جُبِلَتْ من ذبذباتٍ مختلفةِ الأنواعِ، تُمثّلُ، كلٌّ بمفردها، حياةً أرضيّةً ما عاشها الفردُ خلال عمليّةِ تطوّرهِ الطّويلةْ. فتماماً كما تُمثّلُ أيُّ فقرةٍ من توليفةٍ موسيقيّةٍ برَنّةِ (نغمةِ) ذبذباتٍ تُقَيَّدُ على الأسطوانةِ، كذلكَ نحنُ قد نتدبّرُ هذه المقارنة في حالةِ إنسانٍ ما ونُجرِيْهَا عليهِ فنتصوّرُ حيوَاتَهُ، في هذه الدّنيا، خطوطاً، أو اخاديداً، محفورةً في روحهِ كما انطباع الرّنّات (النّغمات) في "مِعْدَنِ" الأسطوانةْ:- أيُّ خطٍّ، أو اخدُودٍ، محفور على ذاتهِ سيُمثّلُ، في هذه الحالة، حياةً من حيَوَاتِهِ، شخصيّةً من شخصيّاتِهِ. إنّهُ مُركّبُ طاقاتٍ منسوجةٍ في عمقِ كينونتهِ اللامرئيّة، لذا فهو سيحملهُ معهُ دائماً. هذا يعني أنّ الطّاقاتِ المجنيّةِ في كلّ حياةٍ من حيواتِ المرءِ تُولّفُ نفسها حولَ لُبِّ رُوحهِ المركزِيْ. ففي أيِّ حياةٍ يحياها الإنسانُ تنمو رُوحُهُ ويغدو أكثرَ غِنَىً.
على هذا النّحو يمكننا أن نتخيّلَ التّسامُقَ التّدريجيَّ للحياةِ الرّوحيّةِ الخاصّةِ بكائنٍ إنسانيٍّ ما، الشيء الذي يجعلهُ "البيتَ الحافظَ" لكلِّ فكرٍ وفعلٍ- لكلِّ طاقةٍ استُعمِلتْ في جِماعِ حيَواتِهِ الماضيةْ. فالطّاقاتُ متعدّدةُ المشاربِ، التي تمتزجُ الآنَ في باطنِ ذاتِهِ الرّوحيّةِ، تُمثّلُ آلافاً كثيرةً من السّنينِ واشكالاً إنسانيّةً عديدةْ. وما تلكَ الأشكالُ إلا "الشّخصيّات" التي كانتْ لهُ في الماضي، هاتيكَ المعاطف الخارجيّة للنّفس الخالدة التي ستَذُوبُ، بعد عهدٍ مناسبٍ، في الأجوازِ الماورائيّة للوجود فيغدو الإنسانُ-الفردُ، عندها، مقيماً في الخلُود. وذاكَ "الإنسانُ-الفردُ" هو عينُهُ "الأنا" أو "الأنتَ" الإنسانيّة المركزيّة.
ولأنّ الإنسانيّةَ، في منظورِ هذه الفلسفةِ، قد صِيغَتْ من المادّةِ الإلهيّةِ فقد تُعرَّفُ الفلسفةُ إيّاها بأنّها فلسفةٌ إنسانيّةٌ-إلهيّةٌ، فنحنُ، وفقَها، نُدركُ أنّ الرّجالَ والنّساءَ هم، معاً، كائنات إنسانيّة وإلهيّة تحيا في أكثرِ من بُعدٍ واحدٍ في ذاتِ الوقتْ. إنّهم كائناتٌ متعدّدةُ الأبعادْ. فهم يعيشون على الأرضِ في هيئةٍ جسديّةٍ، كما وهم، أيضاً، يعيشون في الرّوح، في أبعادِ الكينونةِ الرّوحيّةْ. هذا يُوحي بأنذهم، كلٌّ على حدة، سالكونَ لطريقِ تطوُّرٍ رُوحيٍّ مُفْضٍ، في غايتِهِ، إلى حالةٍ، أو وضعيّةٍ، يصيرُ، عندها، بمقدورهم قطع روابطهم مع كوكبِ الأرضِ وتحقيقَ حالِ وجودٍ رُوحيٍّ سَاذَجٍ ومُطلق الحُرّيّةْ. هذا يعتمدُ على ماهيّةِ "الحيث" الذي يُركّزونَ فيهِ انتباههم، أو شعورهمْ. ففي الوقتِ الحاضرِ، مثلاً، جثلُّ التّركيزِ الشّعوريِّ لغالبيّتِهِمْ ينبنِيْ، أو يكادُ ينبنِي، على مُعطياتِ الحواسِّ الفيزيائيّةْ. لذلكَ هم محدودو المجالي. غايةُ التّطوّرِ على كوكبِ الأرضِ هي، أوّلاً، استكمالُ هيئةٍ ناضجةٍ للكائنِ، جسدٍ "لطيفٍ وقَاطِعِ الملامحْ"، ثمّ بلوغُ وعيٍ عقليٍّ أعلى، وأخيراً تحقيقُ انسحابٍ من المستوياتِ الخارجيّةِ للوجودِ والقُطْنَىْ في بحبُوحةِ حريَّةِ وبهجةِ النّفسِ-الرّوحْ. فما الشّخصيّةُ- كما سبقَ ووكَّدْنَا- إلاّ الشّكلُ الزّمانيُّ (المُؤقّتُ) للرّوحِ الإنسانيّةِ، القوقعةُ البّرّانيّةُ التّي تتّخذُها مأوىً لها على كوكبِ الأرضِ، وفي بعضِ المجالِيْ الماورائيّةِ، فقط لحينٍ من الدّهرْ.
آنما نكُونُ في الجّسدِ فإنّنا، ككائناتٍ إنسانيّةٍ، قد نَخْبَرُ، أحياناً، وَمَضَاتٍ من الحِدْسِ الباطِنِ، لكنّ هاتيكَ المستوياتَ الباطنةَ منّا (أو من وجُودنا) ليس لنا قدرةٌ على أن نُبقِيْهَا مُصانَةً فينا لزمانٍ طويلْ. الرّجالُ والنّساءُ يُطوّرُونَ، تدريجيّاً، مَلَكَاتٍ جديدةً في دواخلهم، مُلْتَقِطَ ذبذباتٍ رُوحيٍّ يُعينُهُمْ على إقامةِ اتّصالٍ مع المجالي الكونيّةِ-الوجوديّةِ الأبعدَ غورَاً. ونقولُ هنا إنّ الخبرات الحدسيّة التي أشرنا إليها تُبقِيْنَا، ولو لحظيّاً، على تماسٍّ مع أقانيمِ الرّوحْ. نحنُ- كما أنبأنا بعضُ "العارفينَ" منذُ ماضٍ بعيدٍ- نتعلّمُ، تدريجيّاً، أنّ هُناكَ، في بواطننا، تُقيمُ الرُّوحُ، فمدخلُ الدّربِ إلى المجالي الرّوحيّةِ كائنٌ في أعماقِ الإنسانِ نفسِهِ. تلك الرُّوحُ- بآمادِها المتجاوزة- هي هدفنا الأقصى والإنسانُ، في حاضرِ مرحلتِهِ التّطوّريّة، ما صعدَ إلا درجاتٍ معدودةٍ في سُلّمِ السّعيِ نحوها. لكنَّ ذلكَ- في الحقِّ- ليس كلِّ حظّهِ من وجودِهِ في هذا الكونْ. فبِمُضيِّ الزّمانِ سيصُوغُ المنتمونَ إليهِ، فُرَادَىْ، لأنفسهم القُدرةَ على الوصْلِ، بحُرِّيَّةٍ، مع الأبعادِ الرّوحيّةِ الباطنةِ فيهِمْ، ومن ثَمَِّ يتعلّمونَ كيفَ يجعلُونَ من أنفُسِهِمْ واسِطاتٍ ذاتَ قيمةٍ في شأنِ انسجامِ نامُوسِ كوكبِ الأرضْ. غايةُ تلكَ القُدرةِ وذاكَ التَّعَلُّمِ هي سمِوّنا، ككائناتٍ إنسانيّةٍ، إلى مُنتَهَىً من المَجَالِيْ الرُّوحيّةِ البعيدةِ الغَورِ حيثُ الألمُ والكَبَدُ يُخَلَّفََانَ وراءَنا وما يبقَى لنا إلاّ الضُّوءُ والبهجةُ والمُغَامَرةُ الرُّوحيّةْ.
في الزَّمانِ الذي بين الإنسانَ وذلكَ العهد يستطيعُ الإنسانُ- رجلاً كانَ أم امرأةً- أن يُحاوِلَ ردمَ الفجوةِ بين تركيزِهِ على العالمِ الخارجيِّ ووعيِهِ (شعورِهِ) بالرُّوحْ. بهذه الوسيلةِ تستطيعُ الرُّوحُ أن تُنِيْرَ لهُ الطّريقْ.
بقدرِ اقترابِنَا من التّناغُمِ مع التّردّداتِ الموجيّةِ الطّالعةِ من مستوياتِ الوجودِ المتجاوزة لحيّزِ الأرضِ يغدُو أَعْظَمَ ذلكَ الإنسجامُ الذي سوف يُمكَّنُ لهُ- حينذاكَ- التّدَفُّقُ- الإنْثِيَالُ- خلالَنا إلهاميّاً.
عقلُ (شعُورُ) الكائنِ الإنسانيِّ المُرْتَقِيْ يُستطاعُ استعمالُهُ كعُدَّةِ راديو. فإن هو أدامَ نفسَهُ في تناغُمٍ عُلَوِيٍّ سيكونُ بُمستطاعِ الوحيِ الصّادرِ عن الآمَادِ العُلَىْ أن يُشَرَّبَ فيهِ. رسالةُ الإنسانِ هي أن يجعلَ من نفسِهِ قَنَاةً للإلهامِ الواردِ من المجالِ الرّوحِيْ. فبذَاكَ وحدِهِ يصيرُ بمقدورِهِ أن يكونَ ؟"وَاسِطَةَ" اللّهِ على الأَرْضْ.
الفصلُ الثّاني
المُعلّمُ الماورائيُّ يُواصِلُ شُرُوحاتَهُ:- كيفَ تتطوّرُ الحياةُ؟
خلال إحدى مقابلاتي مع "المُعلّمِ" وقَعَ في خاطري أنّ كلَّ ذلكَ الذي أهدانا إيّاهُ ينبغي ألاّ يخُصّنا وحدَنَا (أنا وزوجي) فسألتُهُ عمّا يرى في شأنِ تأليفي لكتابٍ يهبُ النّاسَ تَعْلِيْمَهُ.
بتوكيدٍ انفعاليٍّ قال:- "تلك فكرتِيْ!" ثم أضافَ:- "أنتِ قد بَلَغْتِ مرحلةً من التّطوّرِ حيثُ يبعثُ فِكْرُكِ اهتمامَ أُناسٍ آخرينْ. أنا أحمدُ اللهَ على أنَّ أولئكَ كُثُرٌ".
"هل للكِتابِ أن يأتِي على هيئةِ اعترافٍ مِنْكَ؟ سألتُهُ. أجابني بهدوءٍ:- "ما يزالُ الوقتُ باكراً على الفصلِ في ذلكْ". مضتْ، الآنَ، ثلاثونَ عاماً على تِلْكَ المُحادَثَةْ.
***
منذُ عهدٍ باكرٍ جدّاً في حياتي كوّنتُ، في نفسي، عادةَ ملاحظةِ من وما يعيش حولي من النّاس، الحيوانات والطّيورْ. كُنتُ، في فعلي ذاكَ، دائمةَ التّفكيرِ في الغرائزِ والإنفعالات التي كانت الينبوع الأساسي لنموّنا، لتطوّرنا:- مؤخّراً، عند ظهورِ "المُعلّمِ" سُكِبَتْ في ذاتي تفاصيلٌ مُعدَّدةٌ قُصِدَ بها أن تكونَ إجابةً على تساؤلي. كُنْتُ قد أندفعُ، في تلك الأيّام، باحثةً عن قلمٍ ومُدوَّنَةٍ حتّى أقيّدُ عليها استفهاماتي. وشيئاً فشيئاً كانت الرّدود على تلكَ الإستفهامات تتقاطرُ- تلقائيّاً- خلالي. تدريجيّاً ارتَسَمَتْ في شعوري صُورةٌ عن العوامل المُنشِئَةِ للكائنِ الإنسانيِّ المُفرَدِ فرأيتُ أنَّ كلَّ ما فيهِ هو من إبداعِ طاقاتِ عقلٍ خلاّقٍ ذي منبعٍ إلهيٍّ يُستجابُ بها لحاجاتِ ورغباتِ كلِّ نفسٍ حيّةْ.
نحنُ نُكوّنُ أنفُسنا أثناء مُضيّنا في سبيلِ الحياةْ.
تعلّمتُ أنَّ النَّفسَ، حينما تُغادر المملكة الحيوانيّة، رُبّما تُولدُ، مرّاتٍ أخرى عديدة، في قبيلةٍ إنسانيّةٍ بدائيّةْ.
ذاتُ الإنسانِ الفرديّةِ قد خَبِرَتْ حيواتٍ في أشكالٍ كثيرةٍ جدّاً. وبسبب أنّ تلك الخبرات التي صانتها في كيانها طبعتْ ميسَمَها، في شكلِ شُحناتِ طاقةٍ، على ذاتها الباطنة فإنّها تُعتبرُ مُشكّلَةٌ للأساسِ القاعديِّ لها كنفسٍ إنسانيّةْ. فالتّكوينُ النّفسيُّ لتلكَ الذّاتِ إنّما هو انعكاسٌ خارجيٌّ للجّواهرِ الإلهيّةِ الخاصّةِ المحفوظةِ في دخيلتِها. هاتيكَ الجَّواهرُ قد جُذِبَتْ إلى باطنِ الذّاتِ إيّاها بفعلِ سلوكها الماضويِّ، استجاباتها الشعوريّة، وردود أفعالها للتجارب التي عانتها في الحياةْ. وهنا تندرج قواعد كلَّ السّلوكِ الإنسانيِّ الغريزِيْ.
هذا يُظهِرُنَا على أنَّ الإنسانَ الفَردَ هو مُركَّبُ قُوىً تتآلفُ فيهِ وفقَ ماضيهِ العريق الذي اتّخذتْ فيه حياتُهُ أشكالاً طبيعيّةً عديدةْ. فشخصيّتُهُ هي انعكاسٌ لذاكَ الماضي العريق وما اشتملَ عليهِ آنُهُ السُّلاليُّ والعائليُّ الحاضرُ من خصائصٍ فيزيولوجيّةْ. وسايكولوجيّتُهُ، سلوكه الحاضر، مؤسّسٌ، رئيسيّاً، على ذكرياتِهِ العميقةِ البعيدةِ التي صارتْ، في الحاضرِ، غرسزيّةً وتحتَ-واعيةْ. مع ذلك، ينبثقُ، عن مُركّبِ الطّاقاتِ هذا، ما نُسمّيهِ سجيّتَهُ، مِزَاجَهُ أو طبعَهُ، شخصيّتَهُ وفرديَّتَهُ.
هذا الإنسانُ يحملُ في دخيلتِهِ الشّبكةَ المُركّبَةَ العليا للطّاقاتِ التي تُنشئُ غُددهُ، نوعَ الجّسدِ الخاصِّ بهِ، عظمه ونسيجه، نظامهُ العصبيَّ، مُخّهُ، ثم المستويات الدّاخليّة لكينونتهِ. كلُّ ذلكَ مُشتقٌّ من أشكالِ الحياةِ العديدةِ التّي ورثَها أو، بتعبيرٍ أدقَّ، جسَّدَ خلالها نفسَهُ الأصليَّةَ الباطنةْ. إن استرجعْنَا أجناس المخلوقات العدّة التي تزخَمُ بها الأرضُ سنرى كم هو مُعقّدٌ التاريخُ الماضي الذي تنطوي عليهِ الغياهبُ اللا شعوريّة لكلّ واحدٍ منّا. وسنرى، كذلكَ، مدى فداحة المهمّة التي على دارسِ النّفسِ أن يُنجِزَهَا حين يُحاولُ، عبرَ التّحليلِ، استنطاقَ لاواعيةَ "المريضِ" النّفسيِّ، أو حتّى تنويمه استرجاعيّاً، الوصول إلى جذرِ الخَلَلِ الشّعوريِّ (العقليِّ) الذي يُعانيهِ.
إنّ الدّراسات المدهشة التي يُجريها النّاس، في عهدنا الحاضر، على حيواتٍ اعتُبِرَتْ، في الماضي، ذا
آخر تعديل بواسطة إبراهيم جعفر في الثلاثاء ديسمبر 04, 2007 2:41 pm، تم التعديل 4 مرات في المجمل.
- إبراهيم جعفر
- مشاركات: 1948
- اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am
ت قدر عال منٍ الذكاءَ قد تُساعدُنا على التّأكّدِ من حقيقةِ المشابهةِ القائمةِ بين كلّ المخلوقاتِ الأرضيّةْ، بما في ذلكَ الإنسانْ. من شواهدِ تلكَ المُشابهةِ أنَّ حيوانَاتَ مثل الدّلافين، الدّرافين، الحيتان السوداء ذوات الأسنان، الأسود، القرود، الخيول، الكلاب، وحتّى الطّيور لُوحِظَ امتلاكها نظاماً عصبيّاً كنظامنا، قدرةً على التعلّمِ، على الشّعورِ بالبهجةِ، القلقِ، العاطفةِ الوفيّةِ أو الوِداد، روحاً مرحةً وخصائصَ أخرى عُدّتْ، حتى آنَ تلك الدّراساتْ، مُميِّزَةٌ للكائناتِ الإنسانيّةِ وحدها... جَلِيٌّ أنّنا نحملُ في أنفسنا، على نحوٍ أكثرَ اكتمالاً في تطوُّرِهِ، المَلَكاتِ التّي سبقَ ظهورُها في أكثرِ الحيواناتِ أوّليّةً (بُدائيّةً) في الهيئةْ.
آنما أتدبّرُ هذا أنكمشُ عندَ التفكيرِ في ما نحنُ- الكائناتُ الإنسانيّةُ- فاعِلِيْهِ بحيَواتِنَا، بأسلافِنَا. نحنُ، حاضراً، المخلوقاتُ التي كنّاها وقد طُوّعَتْ، سُوِّيَتْ أو وُوزِنَتْ، ثمّ بُدِّلَتْ إلى نوعٍ أعلى من الحيوان (رُغمَ أنّهُ ربّما لا يزالُ، في درجتِهِ الصّاعدةِ على السُّلّمِ المرتقي نحو الكمال، عند منتصف الطّريقْ). لكِنَّا، مع أو رُغمَ ذلكَ، قادرينَ، في المُنتَهَى، على استشرافِ آمادٍ أرفعَ من الإدراكِ الرّوحيِّ وتشريبها فينا.
في أثناءِ حياتنا نحنُ نستجمع، في أنفسنا، الصّفات الألوهيّةْ. وطاقاتُ هاتيكَ هي ما يصوغُ هيئاتنا الخارجيّة، كما ومَلَكَاتنا الداخليّة وميولنا الفطريّةْ. نحنُ مثّالُو أنفُسِنَا.
خُذْ القِطْ، مثلاً.
ما الذي أعطاهُ، تساءلتُ، ذينَكْ الأذنينْ ذاتَي الحوافِّ الشوكيّةِ، ذينكْ العينين الحادّتَي التّركيز، تلك القدرة على الرؤيةِ في الظّلامِ، تلكَ الوثبة الصّاعقةْ؟....... هل "الإلهُ" هو الذي، كما اتُّفِقَ وعلى هواه، مثَّلَهُ هكذا؟
لا، أتت الإجابةُ، إنّهُ قد "جَعَلَ نفسَهُ" هكذا مستعملاً، في ذلكَ، على صورةٍ خلاّقةٍ، الجّواهرَ النَّموذجيّةَ العُليا التي تفيضُ على الكونِ فإذْ هو يتطوّرُ، عبرَ آلافِ السّنينِ، يَستدعِيْ إليهِ، بمغناطيسيّةٍ جاذبةٍ، هاتيكَ الأحياز من الطّاقةِ الواردةِ إليهِ من "العالمِ الماورائيِّ الخَفِيِّ" والتي هو، وفقاً لضروراتِ عيشِهِ، قد احتاج منها إلى "مُهدّداتٍ" [تحدّياتٍ- المترجم] في سبيلِ بقائهِ. فلكي يُحافظُ- ذاكَ القطُّ- على حياتِهِ ينبغي عليهِ أن يستمسِكَ بيقظةٍ قُصوى، بوعيٍ حادٍّ ببيئتِهِ، وبقُدرةٍ صاعقةٍ على الوثبِ سعياً وراءَ طعامٍ أو نجاةٍ من هجومْ.
نحنُ نقولُ إنّ الأذنينَ قد "جُعِلَتَا" له لتُعْطَيَانَهُ هذه اليقظة أو ذاكَ الإنتِباهْ.
القطُّ هو الذي "أنشأَ عينيهِ الخاصّتينْ". ثمّ أنّهُ، عبر العصور، هو الذي صاغَ ذاتَهُ في كلّ تفصيلٍ، مُستعملاً، في ذلكَ، قوى إبداعِهِ الخاصّةِ، الرُّوح الحيّة المُفكّرة القائمة في دخيلَتِهِ. هذا صحيحٌ في حقِّ جِمَاعِ المخلُوقاتْ.
عبرَ الدِّهُورِ استخدمَ أفرادُ كلِّ جنسٍ حيٍّ، بصورةٍ خلاّقةٍ، قدرتهم على أن يُوطّنُوا في سرائرِ أنفُسِهِم، من بين الطّاقاتِ الإلهيّةِ الخلاّقةِ، تلكَ القُوى، الأشكالَ والمَلَكَاتِ التي هي ضروريّة للمحافظةِ على بقائهم أحياءاً.
قد نقُولُ:- "إنَّ اللهَ قد وهبنا القُدرةَ على تكوينِ أنفُسِنَا [هذا يُذكِّرُنِي بالآيةِ القُرآنيّةِ الكريمةْ:- "أعطَىْ كلَّ شيءٍ خَلْقَهُ، ثمّ هدى"- المترجم]. هذا يتبدّى على أنّهُ المبدأ الأساسيُّ للخَلْقْ. فنحنُ- تِبعَاً لهُ- نستدعي (أو نجذبُ) إلى أنفُسِنَا النّماذجَ الملائكيّةَ العُليا للجّوهرِ الأصليِّ حتّى نُزِيْدُ دَفْقَ الحياةِ الذي فينَا.
2
شخصيّةُ الإنسانِ، إذاً، هي مُركّبٌ من كلّ ما كانهُ في ماضيهِ الطّويل. "نحنُ" جِمَاعُ تاريخِنا العريق الطّويلْ. وهذا يُوضّحُ الفرقَ بيننا، أنا وأنتَ، قبيلةٍ وقبيلةٍ أخرى، عِرقٍ وعِرقٍ آخرٍ. ماضينا "مصبُوغٌ" في "صُوفِ" ذواتِنَا. إنّه المنبعُ الرئيس لأفعالنا الحاضرة. إنّهُ ملفوفٌ حول سويداءِ رُوحنا كاسطُوانَةِ فلمٍ حاكيةٍ لكلِّ ما كُنّاهُ.
أنا قد توصّلتُ إلى رؤيةِ أنَّ أحدَ العواملِ الأساسيّةِ في تطوّرِ جميعِ المخلوقاتِ الحيّةِ هو عُنصُرُ الحبِّ المُرَوْحَنِ، المُشَفَّفْ. في الحيواناتِ قد نشهدُ ذاكَ العُنصُر في عنايةِ الكائنِ الغريزيّةِ بيَافِعِيْهِ، في وهبِهِ حياةً مُفْعَمَةً بالعاطفةِ (بالشّعورِ) لأليفِهِ وما وَلَدْ. وفي الكائنِ الإنسانيِّ قد نشهدُهُ في العاطفةِ العميقةِ التي يكنّها رجُلٌ وامرأةٌ بعينهما تجاه أحدهما الآخر، في الحبِّ المُضحِّي بالذّاتِ الذي هو من خَلْقِ الأرواحِ السّاميَة، أو في مدارِجِ الحبّ المُتعالِي لله. الحبُّ يشتغلُ على مستوىً شفّافْ، وإنّنا إنّما على مدارجِ ماضٍ من شعورالتٍ نفسيّةٍ ورُوحيّةٍ بُدائيّةٍ تَصْعُدُ، تدريجيّاً، سُلّمَ الحياةْ. الحبُّ، في أصفى أشكالِهِ وأكثَرَها تجرّدَاً من "الأنا"، يرتحلُ بالإنسانِ إلى مراقِيَ الرُّوحِ العُلَىْ.
لقد أُطلِعْتُ على كيفَ أنَّ الحبَّ يفتحُ المراكزَ الرّوحيّةَ في الرّجالِ والنّساءِ، مما يجعلُهُم يتناغمونَ والذّبذباتُ الرّوحيّةُ الأسمىْ للحبِّ الإلهيِّ فتنسربُ هاتيكَ إلى بواطنِهِمْ. الشّبيهُ يُناغِمُ ذاتَهُ والشّبيهْ. عليهِ فالحُبُّ، في أكملِ هيئاتِهِ، هو دعوةٌ للنّفسِ للإنسجامِ مع المجالي الرّوحيّة الرَّفيعةْ.
إنّ قانون العِلّة والمعلول (المؤثّر والأثر) هو أحد العوامل الحيويّة التي تُحفّزُ النموَّ والتّطوّرَ في كلٍّ منّا. في الشّرقِ يُعرَفُ هذا القانون بقانون "الكَارْمَا". إنّه قانون "الفضل واللاّ فضل" الذي تمّ وصفُهُ في الأناجيلِ المسيحيّة:- "إنّكَ تحصدُ ما أنتَ غارسُهُ". معظم الدّيانات الأخرى تُعلِّمُ مُتّبعيها نفس التّعليم، في عباراتٍ شديدة التّماثُل مع هذهِ. مُوازي مبدأ "الفعل وردّ الفعل" هذا يُمكنُ أن يُستبَانَ في قوانينِ العالمِ الفيزيائيْ. فالطّاقةُ، في ذاكَ العالم، لابدَّ لها أن تستوي على حالةِ توازُنٍ أو تُناثِرُ نفسَهَا هباءاً. عليهِ فإنَّ أيَّ فعلٍ هناكَ لهُ ردّ فعلٍ يظلُّ قائمَاً حتّى ينتهي إلى التّوازُنِ بين الطّرفينِ في وضعيّةٍ مُتعادلةِ الإستواءْ.
قوانينُ الرّوح تشتغلُ على ذاتِ المبدأ. فشحنةُ طاقةِ الفِكرِ المُركّبةِ، آنَ إطلاقها من "بُندقيّةِ" الشّعورِ، تفعلُ فِعلَ الزّانةْ. فأيُّ شُحنةِ طاقةٍ أُطلِقَتْ من مُرْسِلٍ ما تُجْذَبُ، لشبهها بطاقاتِهِ، مِغناطيسيّاً على دربِ العودةِ إليهِ.
هذا هو السّببُ في معاناةِ ومسرّاتِ الإنسانْ. فأيُّ فكرةٍ (خاطرةٍ) ضاغنةٍ أو حاقدةٍ يتهيّؤُها فكرُ (خاطرُ) إنسانٍ ما هيَ، على ضُوءِ كونِ الفِكْرِ هو طاقة الكون الخلاّقة، مسارٌ صاعدٌ قِوامُهُ نوعٌ من الطَّاقةِ المُتلَبِّكَةِ الباديةِ، لمن هم قادرونَ على أن يَنفَذُوا برؤيتِهِمْ إلى المستوياتِ الباطنةِ، كرُصاصةٍ منفلتةٍ بسرعةٍ عظيمةْ. هذا المساءُ سيبلُغُ، بالفعلِ، هدفَهُ إن رُكِّزَتْ، بقُوّةٍ، طاقتُهُ الدَّافعةُ، ومن ثمَّ سيُوقعُ الأذى بالمُستهدَفِ إن لم يكُنْ ذاكَ الأخيرُ داريَاً بفنِّ الوِقايةِ الذّاتيّةْ.
برهنَ الغاطسونَ في أعماقِ المياهِ انطباقَ ما نقولُ على الحيواناتْ. فهم قد وجدوا أنّهم إن لم يستمسِكُوا، في خواطرهم، بأيِّ شعورِ خوفٍ أو عدائيّةٍ حينما تمرُّ أسماكُ القِرْشِ بقُربِهِمْ فلا أذىً سيلحقَهُمْ. فسمكُ القِرشِ قد طوّرَ في نفسِهِ- عبرَ الخوفِ والحاجةِ إلى الحمايةْ- مَلَكاتٍ حسّاسةً بوُسعِهَا التقاطِ رجعِ صدى الخوفِ والعدائيّةِ في نفوسِ اعدائِهِ وبالتّالي الشّروع، حالاً، في مهاجمتهمْ.
هذا يشهدُ على أنّ تحرّرنا من أيّ شعورٍ بالخوفِ ومن أيِّ مقاصدِ اغتيالٍ سيكفُّ عنّا شراسةَ آكلِ الإنسان، ذاك الفاتكُ، فيبتعدُ عنّا. ليس كافياً، في هذه الحالةِ، ألاّ نُبْدِيْ نيّةً للقتلِ، إذ ينبغي علينا الإمتناع حتّى عن مجرّد "الشّعورِ" بها. وكما أنّ سَمَكَ القِرْشِ سيُحسُّ أيَّ رجعِ صدىً من الخوفِ الإنسانيِّ (أو الحيوانيِّ) عبرَ جهاز استقباله الحسّاس، كذلكَ تحسُّ ذاتَ الشيءِ مخلوقاتُ الغابةْ. من يعيشون في الأدغالِ أو البراري لهم- بتأهيلٍِ من قرابتهم من أسلافهم الحيوانيّين- معرفةٌ أعمقَ بهاتيكَ الأشياء منّا نحنُ الذين طمسنا فينا مَلَكَاتَنَا الغريزيّة بسببِ إهمالنا استعمالها. فنحنُ- الحضريّون- قد شذّبنا ذهنيّتنا (واعيتنا)، لكنّنا فقدنا- بالكاد- جهاز استشعارنا الغريزيْ.
بِواسطةِ شُغلِ "الكارما" يُسفِرُ الأذى، بالفِكرِ أو بسلاحٍ مادّيٍّ، الذي ألحقَهُ فاعلٌ ما بمخلوقٍ رفيقٍ لهُ في الكونِ، عن خللٍ معيّنٍ في "نسجِ" طاقتِهِ الدَّاخليّ الخاصْ. هذا الخللُ ينبغي لهُ أن يُعدَّلَ ذاتَ حينٍ، وإلاّ فالإنسان الذي مسّهُ سينحدرُ أسفلاً في مُدرّجِ التّطَوّرْ. ثمّ سيُخلّفُ هذا اللا توازن فيهِ ضعفاً في طاقاتِ نفسِهِ الباطنةِ يجعلهُ هدفاً شديد السّهولة لمنالِ "جُرْحٍ" شبيهٍ بذلكَ الذي أنالَهُ رفيقَهُ في الخليقةْ. عاجلاً، أو آجلاً، هو سيتلقّى لطمةً، فيزيائيّةً أو سايكولوجيّةً، تنزلُ عليهِ بطريقةٍ هي، على نحوٍ ما، ذاتُ الطّريقةِ التي أنزلَ بها أذاهُ على شريكهِ في الوجودْ. وهذا وحدُهُ سيُعدّلُ مُركّبَ طاقتِهِ. فتماماً كما أنَّ ضربَةَ الحدّادِ على إزميلِهِ تُطرِّقُ الحديدَ المُحَمَّى، كذلكَ فقط الألم يستطيعُ "تَرْوِيْقَ" ما "اخْتَلَّ" في النَّفسِ والرُّوحْ... تلكَ هي رحمةُ، حكمةُ وعدلُ السّبيلِ الإلهِيْ. فحمأ المعاناة يُعدّلُ "الإختلالَ" في طاقاتِ مُسِييْءِ السّلوكِ، وإلا أصبحنا مجرّدَ دُمَىً إن كان الأمرُ خلافَ ذلكَ.
إنّ إشعاعَ رُوحنا لهو وقايةٌ مُعادلةٌ، في قوّتها، للقوّة المغناطيسيّةِ التي أطلقتْهُ. فالبطلُ الذي يمرُّ، غيرَ مخدُوشٍ، عبرَ غِمارِ المعركةِ، يكونُ قد حقّقَ لنفسِهِ حمايةً طبيعيّةً خلالَ عينِ الإنثِيَالِ الخارجيِّ لقوّةِ إشعاعِهِ الرّوحيِّ الخاصّةْ- أو "هالتِهِ". فتلكَ هي تِرْسٌ مُحيطٌ بهِ سوفَ يُبقِيْهِ سالماً في كلِّ ظرفٍ أو حالْ. ذلكَ لأنّها تصرفُ بعيداً عنهُ نِبالَ وسهامَ سوءِ النّصيبِ، أو هيَ، كما جاءَ في المزامير:- "ألفٌ [من هاتيكَ النّبالِ والسّهامِ] ستسقُطُ بجانبِهِ، وعشرةُ آلافٍ ناحية يده اليُمنى، لكنّها سوفَ لا تَقْرَبُهُ".
الإنسانُ الذي هو، دوماً، قد جرحَ الآخرينَ، في خاطرِهِ أو في فِعلِهِ العنيفِ، قد أوهَنَ حصنَ وقايتِهِ الخاص لمدىً يتيحُ للهجومِ ضدّهُ أن يجدَ لهُ شروخاً في دِرعِهِ. إنّه يغدو جريحاً- في الجّسّدِ أو في النّفسِ- مثلما قد جرح آخرين- في الجّسَدِ أو في النّفْسْ؛ إنّه يصيرُ مَنَالاً للحادثَاتِ، أو هو يُؤْذَىْ بالكلماتِ، أو بالخاطرِ، كما آذىْ آخرينْ. هذا ليس قانوناً للعقوباتِ، لكنّه قانونٌ علميٌّ للفعلِ وردِّ الفِعلِ، قانونٌ للتّوازُنْ. وهو أيضاً القانون الذي، عبرَ المعاناةِ، يُورِدُ الإنسانَ مواردَ الكمالْ. فبِهِ غِلظةُ الأخطاءِ (التّشوُّهاتِ) في تكوينِ الإنسانِ تُخَفَّفُ وتُلَطَّفُ حتّى يُبَدَّلُ جِمَاعُهُ إلى رُوحٍ مَحْضْ.
3
الذي يخطرُ للشّعُورِ، للرّوحِ يُصيرُهُ الجّسَدْ. فإن أُنفِذَ سهمٌ، في أيّامٍ ماضيةٍ، في عضوٍ حيويٍّ من جسدِ إنسانٍ ما وسبّب له ذلك ألماً عظيماً فإن طاقته الرّوحيّة تُصيرُ منطبعةً، بعمقٍ، بوعيِ ذاكَ الألمْ. قد يكونُ ما حدثَ أنَّ عُضواً من جسدِ الإنسانِ إيّاهُ قد اختُرِقَ بسنِّ السّهمِ وأنّهُ ما كان قادراً على تخليص نفسه من "أثَرِ" ذاكَ الإختراقْ (حتّى وإن شُفِيَ منهُ في ظاهرِ جسدهِ). هذا "الأثرُ"، مع توالي الزّمانِ، قد يُودي بهِ إلى الموتْ. وهو، كذلكَ، قد يبقى، في البُعدِ التّالي لوجودهِ، فيهِ على هيئةِ صيغةٍ قَهْرِيَّةٍ موسومةٍ في طاقته الشعوريّة (العقليّة) أو في "ذاكرةِ" سُوءِ النّصيبِ الذي أدركهُ.
قد شُرِحَ لي أنّ المَوَاهِنَ الفيزيائيّةَ والتّشوّهات التّكوينيّة، تماماً كالعُصاباتِ النّفسيّةِ، كثيراً يكونُ لها أصلٌ في المغامراتِ الفاشلةِ لحَيَواتٍ ماضيةْ. فالمخاوفُ الباطنةُ والإضطّراباتُ النفسيّةُ اللا مُفسّرة- حسب هذه الرؤية- لها، في عديدٍ من الأحوالِ، جذورٌ في متاعبِ الماضي البعيدِ- الماضي السّابقِ، سبقَاً بعيداً، لفترةِ ما قبل ميلاد الإنسان الفردْ.
يبدو أنّه حيثُ ثُبّتَ الحادثُ، باستمساكٍ صلبٍ، أو بإحساسٍ من الأسى العميق، في العقلِ والذّاكرة، يُقيمُ الجّرحُ، فيزيائيّاً كان أم عاطفيّاً، في داخلِ صيغةِ طاقةِ النّفسِ الباطنةِ ويغدو قديراً على مُناثرةِ آثاره السيّئة (المَرَضِيّة) في التّناسُجِ الحياتيِّ التّالي لها.
إن صارَ هذا مُنطبعاً، بقوّةٍ، في طاقاتِ الرّوحِ فمن المُقدّرِ أنّ الإنسانَ الذي منهُ سوف تثولدُ، ثانيةً، في وقتٍ لاحقٍ لها، بذاكرةٍ تحتِ-واعيةٍ عن الألمِ "مُشفَّرَةً" في العضو المُصابْ. سيكونُ هنالكَ "مغصٌ روحيٌّ" في الجّواهرِ "يُفقِرُ" ذاكَ الجّزءَ من الجّسدِ، أومستوىً روحيّاً ما من الإنسانِ الفردِ، ويُسبّبُ وهناً بادياً. مع مُضيِّ الزّمانِ قد يبدأ الفرد المعنيُّ في الشعورِ بأنَّ وهنَهُ ذاكَ يتدهورُ إلى تشوّهٍ في العضوِ العليلِ أو إلى أيِّ خللٍ آخرْ. كثيراً ما لا يظهر الوهنُ إيّاهُ في الفرد-الطّفلْ. ذلكَ لأنّ كليّةَ الرّوحِ لم تتغلغل، بعد، في جسده النّاميْ. لكنّه حينما يبلغُ سنَّ الرّشدِ ويسكُنُ كاملُ مُركّبِ طاقةِ الرّوحِ في جسدهِ يبدأ الوهن- الذي اعتراهُ في حياةٍ سابقةٍ- في الظّهورِ عليهِ في هيئةِ مرضٍ مُكسّحٍ. فذاكرتُهُ العميقةُ قد حملتْ صيغة الصّدمة أو المقاساة التي قاساها في قرنٍ باكرْ. والفيضُ الحرُّ للقوّةِ الحيويّةِ الذي ينسابُ في الجّسدِ الحاضرِ ويُعيشُهُ يغدو- بدلاً عن أن يُنقّيهِ، كما ينبغي لهُ، من كلِّ علّةٍ سابقةٍ- "ممسوساً" فيظهرُ- إذاً- الخللُ في الجّسدِ الحاضِرْ.
إذا تمكّنتْ الرّوحُ من أن تنفُضَ عنها كلَّ فِكرٍ عن مغامراتِها السابقة الفاشلة بدلاً عن أن تستمسكَ بهِ- رُبّما غلاًّ وانتقاميَّةً- فإنَّ الآثارَ اللاحقةَ لتلكَ المغامراتِ سوفَ تُقَلَّلُ كثيراً عند عودتها إلى التَّغرّبِ على كوكبِ الأرضْ. وهنا تكمُنُ الإجابةُ على جانبٍ من التّساؤلاتِ حول بعضِ النَّازِلات، الغامضة والظّالمة ظاهريّاً، التي تحلُّ بنا في هذه الحياةْ.
هذا ليس هو "الله المرسلُ للبلايا كي يمتحننا"، لكنّها الآثار المرتجعة عن أسبابٍ بعينِها. فإيقاعُ الأثرِ والمؤثّرِ (العلّة والمعلول) يشتغلُ في قلبِ هاتيكَ الطّاقاتِ النّفسيّةِ والرّوحيّةِ كرياضيّاتٍ عُليا ليس لنا- إلا استثنائيّاً- أن نَفُكَّ ألغازها.
يبدو أنّه حيثُ كانتْ الإصابةُ المُتلقَّاةُ لحظيّةً وحادّةً، أو مُنِيَ بها مُتلقِّيها في معركةٍ، فإنّهُ لا إضعافٌ للطّاقاتِ الباطنةِ سيبقى بعدها طويلاً. فالرّوحُ، حينها، تكونُ قد توقّعتْ حدثاً كهذا، ومن ثم استقبلتْهُ بلا ضغينةٍ ومن بابِ كونِهِ جزءَاً من المُنْتَابِ اليوميِّ لها.
لكن، في حالةِ كونِ الإنسانِ ضحيّةً لعدُوٍّ ما، وحيثُ وحيث الصدمة والمرارة صارتا منطبعتين عميقاً وقارّتين في مُركّبِ طاقتِهِ الرّوحيّةِ حتّى بعد موتِهِ، كثيراً ما يتبدّى جُرحُهُ ذاكَ، في حياتِهِ القادمةِ، على أنّهُ وهنٌ. وذلكَ يُضحِي، تدريجيّاً وعلى مدى الزّمانِ، أقلَّ ارتساماً فيهِ.
وحيثُما تكونُ الذّاتُ نفسها قد ألحقَتْ أذىً، في حياةٍ سابقةٍ، بعدوٍّ ما، فقذيفةُ "زانةِ الكارما" ترتدُّ، في حاضرها، إليها. فالإنسانُ الذي يُهاجمُ، عمداً، شخصاً لآخرَ فَيَجْرَحُهُ، أو حتّى يقتُلُهُ، يُسبّبُ في ذاتِ نفسِهِ خللاً في الطّاقاتِ الحيويّةِ المُشكّلَةِ لنفسه الباطنة. ذلكَ لأنّ داء فعل العنف يرتدُّ أَثَرُهُ على الفّاعلِ ويُشَنِّجُ شحناتِ طاقتِهِ الخاصّة ممّا يُودي به إلى التشوّه الخَلْقِيِّ أو الإعاقةِ الجسديّةِ في حياته القادمة. والعامل الكامن وراء ذلك- كما أسلفنا- هو أنّ الفعلَ إيّاهُ يُصيرُ منطبعاً بعمقٍ في مَنشَطِهِ العقليِّ (الشّعوريِّ) الخاصْ.
واعياتُنا هي صانعةُ أنفسنا وأجسادنا. والأذى الذي قد نُوقعُهُ بشخصٍ (أو كائنٍ) آخرٍ سوانا يصيرُ أذىً لنا في المستقبلْ. هذه القاعدة قد علَّمْنِيْهَا "المعلّمُ الرّوحيْ". الآنَ أستطيعُ، أخيراً، تقديم أمثلة على ما تبلُغُ، تقريباً، مرتبةَ البراهين.
لقد أعطاني عالمُ النّفسِ السّريريُّ الأمريكيُّ د. إيان ستيفينسون إذناً كريماً باقتباسِ حالاتٍ منتخبةٍ معيّنةٍ من بحوثِهِ عظيمة القيمة حول ما يزيد عن ألفِ حالةٍ لأطفالٍ يتذكّرونَ حيَوَاتهم الماضيةْ.
نحنُ- في "الغربِ"- قد نُغرى بأن نفترضَ أنّ هاتيكَ الخبرات تاتي فقط لأولئك الذين يعيشون في "الشّرق" حيث الناس لهم إلفة ومعتقد إعادة الميلاد. لكن د. ستيفينسون، في بحوثه االشموليّة وفي رحلاته حول الكرة الأرضيّة كلّها، وجد حالات كثيرة كتلكَ في أجزاءٍ أخرى من العالمْ. وقد كان من المُشوّقِ لي أن أجدَ، في غايةِ الأمرِ، من بين سجلاتِ بحوثه المتوخّية حرصاً بائناً في تقصّياتِها، حالاتٍ اشتملتْ على وصفٍ دقيقٍ للفعاليّاتِ المُعيّنةِ للقواعد التي تحكم إعادة الميلاد كما قد وُصِفَتْ لي، من قِبَلِ "المُعلّمِ الرُّوحيِّ"، عبر السّنينْ.
إحتوى ما علّمنِي إيّاه "المعلّم" على إيضاحاتٍ مُفصّلةٍ لكثيرٍ من وجوهِ قوانين العيشِ التي ما كان في الإمكانِ، حتّى حينذاكَ، إثبات حقيقتها. في البدءِ قد وجدتُ ذلكَ مُدهشاً جدّاً. ثمّ هُيّئَ لي، فيما بعد، أن أتلقّى، من "المُعَلّمِ الرّوحيِّ"، نماذجاً مُثْبِتَةً لما خصّني به من تعليم. كانتْ تلك النّماذج معنيّة بأناسٍ عرفتهم شخصيّاً، تماماً كما هي معنيّةً، أيضاً، بأشخاصٍ مشاهيرٍ بعينهم ظهروا على صفحاتِ التّاريخْ.
في بحوثِ د. ستيفينسون- كما أسلفتُ- قد التقيتُ، أخيراً، بحالاتٍ، مُقدَّمَةٍ على نحوٍ علميٍّ خالصٍ، تُوضّحُ الفعاليّاتِ الكامنةَ وراء مسيراتِ طاقاتِ الحياةِ كما أبانَها لي مُعلّمِي الرّوحيْ.
لم يزعمْ د. ستيفينسون أنّ بحوثَهُ تلكَ تُقدّمُ بُرهاناً مُطلقاً على حقيقةِ ما دَرَسَتْهُ. فالعنوانُ الحذرُ لكتابه هو عشرون حالة موحية بتناسخ الأرواح. لكن، استناداً على تجربتي الطّويلةِ مع الإرشادِ الرّوحيِّ الذي وُهِبَ لي مجّاناً، يخطُرُ لي أنّهُ ليس اتّفاقاً فحسب كون الحالات التي طرحها فيه تتوافق كليّاً وعديدٍ من العناصرِ المُوضِّحة، عبر حالاتِ أشخاصٍ ما يزالُوا أحياء، كيف أنّ قوانينَ العيشِ تلكَ تشتغلُ في مجالنا الوجوديْ.
أوّلاً، قد وجدتُ، في ذاك الكتاب الآتي من "أمريكا"، حالتين موحيتين، إيحاءاً بالغاً، بأنّ هنالكَ فعاليّةً مُثابِرَةً لطاقاتٍ عقليّةٍ (شعوريّةٍ) باطنةٍ تحكمُ عالمنا. طبعاً، الأديانُ قد دأبتْ على تعليمنا، منذُ فجرِ التّاريخِ، أنَّ "الله هو عقلٌ كُلّيٌّ"، وأنَّ "اللهَ خلاّقٌ، عليه فالوعي (العقل) أيضاً خلاّقْ"، وأنَّ "ما هو صفة الجّليل [العقل الإلهي] هو، كذلك، صفة الوضيع [العقل الإنسانيْ]. وهذا يُنبؤُنا أنَّ الإنسانَ الفرد يستخدم القوى الخلاقة المتواضعة الكائنة في عقلهِ (وعيهِ) الخاصِّ بذاتِ الطريقةِ التي يستخدم بها اللهُ الخالقُ الكُلّيُّ الجّبروت قُدراتَهُ الخلاقَةَ المطلقة.
لهذ السبب يحسنُ بنا أن نتعلّمَ الطريقة التي تجري بها الأشياء في هذا الوجود. فعلى ضوءِ ذلك التّعليم سنرى كيف أنَّ عقلنا الخاص يستطيع أن يكونَ إمّا سلاحاً فاتكاً أو قوّةً خلاّقةْ.
*
الحالةُ الأولى التي أرغبُ في إيرادها هنا قد شُهِدَتْ في مجتمع قبيلة التِّلِنْقْلِتْسْ بألاسكا. وهي تُظهرُ كيفَ أنَّ خدوشاً طفيفةً قد "أُنفِذَتْ" إلى حياةٍ تاليةٍ لإنسانٍ ماتَ فجأةً صريعاً بالرّصاصْ. في البدءِ اقتبس د. ستيفينسون عن شخصٍ في القبيلةِ المذكورةِ قولَهُ:- "إنْ ماتَ شخصٌ ذو قطع أو نُدبة في جسده وبُعِثَ، ثانيةً، وليداً فإنَّ ذاتَ الوسمِ الذي مات بهِ قد يُرى فيهِ كوليدْ". "فهُنالكَ"، كما استطردَ شارحاً، "اعتقادٌ تِلِنْقْلِسْتِيٌّ في تناسخ الأرواح، بيدَ أنّهُ ليس في تمامِ هيئة المعتقدات الموازية له في الهندوسيّة والبوذيّةْ... على كلٍّ، هو يشتملُ على مفهوم "الكارما"، مع خلافٍ لهُ في توقُّعِ العودةِ العاجلةِ للرّوحِ إلى هذه الدّنيا وتلبُّسِهَا هيئةً أفضلَ مما سبقْ". معمِّرُو هذه القبيلة يتذمّرُونَ اليومَ من حقيقةِ أنَّ مجيءَ الإرساليّاتِ إلى ألاسكا والتّعليم الحديث يتسبّبان، اللآنَ وتدريجيّاً، في نسيان الأجيال الجديدة، أو الشّابّةْ، لـ"التّعليم" القديم الخاص بتناسخ الأرواح. لكن هذان، في حالةِ الأطفالِ اليافعين، لا يستطيعان، بالطّبعِ، إحداثَ أيِّ اختِلافٍ في رسوخِ القناعةِ بالتّعليمِ السّالفْ. أفاد د. ستيفينسون بأنّه، في خلال الفترة القصيرة التي أمضاها في ذلكَ البلد، قد أجرى تقصّيَاً حول ثلاث وأربعين حالة من حالاتِ حيَواتٍ سابقةٍ ’مُتَذَكَّرةٍ‘ تخصُّ أشخاصاً ولدوا بين عامي 1518 و3619. "نستطيعُ أن نكونَ واثقينَ"، قال د. ستيفينسون، "من أنَّ "مجمُوعَ" ما هنالكَ من حالاتٍ جاريةٍ على هذا السّبيلِ ينبغي لهُ أن يكونَ أكبرَ على نحوٍ معتبَرٍ- أو حتّى فائق الإعتبار- من كلّ ما تمّ تسجيله منهُ".
الحالةُ التّاليةُ هي حالة جيمي سفينسون. إنّها تُمَظْهِرُ "الإنفاذ" الذي أشرنا إليهِ كما استبانَ في مهاراتٍ ووجداناتٍ، تماماً كما في ذكرياتٍ، جميعها ذات صلةٍ بأماكنٍ وأشياءٍ (موضوعاتٍ) عرفتها الرّوح في حياتها السالفةْ.
وُلدَ جيمي في الثاني والعشرين من نوفمبر 2519 في بلدة سِتكا بألاسكا. وحينما بلغ الثانية من عمرِهِ (وهي السّن التي عادةً ما يتأتّى فيها لذكرياتِ الأطفالِ عن حيواتٍ مَواضٍ لهم أن تتواتَرَ منبعثةً في ذواتهم) بدأ يتحدّثُ عن حياةٍ سالفةٍ لهُ. زعمَ، في ذلك الحديث، أنّهُ قد كانَ أخاً لأمّهِ، وأنّه عاشَ في قريةِ كُلُكْوَانْ الكائنة على مبعدةِ مائةِ ميل من سِتْكَا.
"أدلى جيمي بعددٍ من الإفاداتِ حول شؤونٍ العلم بها مُتاحٌ لخالِهِ، لكنّهُ، على الأرجحِ، ليس لهُ، فيما بدا، من سبيلٍ عاديٍّ لمعرفتِها. كان كثيراً ما قد يسأل، خاصّةً في آنِ غضبِهِ، أن يُساقَ إلى قريةِ كُلُكْوَانْ كي يقيم مع جدّته لأمّهِ. تحدّثَ جيمي، على مدى سنتين أو ثلاث من طفولتهِ، لآلهِ في كُلُكْوَانْ، حديثاً مُعتبَرَاً عن حياته السابقةْ. ثمّ تلاشتْ، من بعدِ ذلكَ، إحالتُهُ النّاسَ إليها".
بدأ د. ستيفينسون- الذي اقتبسنا عنهُ الحديث السابق- تحرّياتَهُ عن قضيّةِ الصّبيِّ جيمي في عام
6119 كان جيمي، حينذاكَ، في الثامنةِ من عمرهِ.
كان خال جيمي يُدعى جون سِسْكَو. برَعَ، ذاكَ الخالُ، في القنصِ وصيدِ السّمك، كما وكان مدمناً للكحول. في أوانِ موتهِ كان عمره خمسة وعشرين عاماً، وكان في عطلةٍ عن عملِهِ بالجّيشْ. "ذاتَ يومٍ"، والحديثُ لدكتور ستيفينسون، "ذهبَ- جون سِسكو- في نُزهةٍ على مركبٍ صغيرٍ مع امرأتينْ... مضتْ ساعاتٌ على بدءِ تلك النُّزهةِ وُجِدَ بعدها المِركبُ قائماً على الشاطئ وسدّادةُ تجويفهِ مفقودة... عثر الباحثون على جسدي الإمرأتين الميتتين مُلقيين في مكانٍ قريبْ. لكنّهم ما استعادوا أبداً جسد جون سِسكو". تيّاراتُ مياهِ ذلك الجّزء من ألاسكا كانتْ جموحةَ الجّريانِ، وأيُّ مدٍّ منحسرٍ إليها كان بإمكانِهِ، حينذاكَ، الإرتحالَ بأيِّ جسدٍ طافٍ فوقَهُ سريعاً وبعيداً. هذا صيّرَ القتلَ سهلاً في هاتيكَ الانحاءِ وشيئاً كثيراً ما يُشتَبَهُ فِيهِ.
أسرَّ هانس، شقيق جون سسكو، لدكتور ستيفينسون بقناعتِهِ أنّ عاشقاً غيوراً قد اغتالَ جون:- "قد سمعَ هانس بأنّ حادثَ القتل قد شُوهد، لكن كُتِمَ أمرُهُ خوفاً القصاص"... "حزنتْ شقيقة جون سسكو، مِلِّلِيْ، التي كنّتْ لهُ وُدّاً عظيماً، لموتهِ وحدَّتْ عليهِ حداداً عظيماً. ثم أرادتْ أن تُسمّي مولودها التّالي، الذي وضعتْهُ بعد عامين من الواقعة، باسم "جون"، لكنّها أُثْنِيَتْ عن ذلكَ فجعلتْ "جون" اسماً ثانياً للولدْ. عليهش صار اسمُهُ جيمي سفينسونْ. [وذلكَ هو مركّب اسماهُ الأوّل والأخير]"... "كان لجيمي أربع علامات مُدوّرة على بطنِهِ تفحّصتَهُنَّ أنا [د. ستيفينسون] في عام 1196. أقرّتْ أمُّهُ بأنَّ هاتيكَ العلائمُ كُنَّ عليهِ مُنذُ ميلادهِ. في عام 1619 كان قُطْرُهُنَّ حوالي بوصةً وكنَّ واضحاتِ التّميّزِ عن الجّلدِ المُحيطِ بهُنَّ... كُنَّ يُشبِهْنَ، شبهاً قريباً، الآثار الباقية من جِراحِ رُصاصةٍ نفذتْ في الجّسدِ وعُولِجَتْ".
تبعتْ هذا السّرد عن د. ستيفينسون قائمةُ إفاداتٍ من جيمي مشفوعةً بتعليقاتِ شهودٍ مُثْبِتَةٍ لصحّتها.
أطلعَ جيمي أولئكَ الشّهود القُرباء على تفاضيلٍِ معيّنةٍ عن الحياةِ في كُلُكْوَانْ. من بينَ هاتيكَ، على سبيلِ المثالِ، صفاتُ وعاداتُ كلبِ عائلةٍ مُعَيّنٍ وتفاصيلٌ عن المنزلِ الذي عاشَ فيهِ جون سسكو في كُلُكْوَانْ:- "قد قال إنّ اسمهُ هو "جون" وليس "جيمي"، وإنّهُ قد أُصيبَ، في حياتِهِ السابقةِ، برُصاصةٍ قتلتْهُ".... "تحدّثَ عن كُلُكْوان كثيراً وقال، أحياناً عديدةً، إنّهُ راغبٌ في الذّهابِ إلى هناكَ وزيارة جدّته، أم جون سسكو"... "قدَّمَ أوصافاً دقيقةً لبحيرةٍ قريبةٍ من كُلُكْوَانْ"... "قال إنّه اعتادَ على شُرْبِ الخمر. وقال، كذلكَ، لخالهِ (حينما كان في السّادسةِ من عمرِهِ):- "أنا لستُ ابنُ اختِكَ، أنا أخوك"..."
عندما أُخذَ الصّبيُّ (في سنّه السادسة والنّصف)، بالفعلِ، إلى كُلُكْوَانْ أظهرَ ألفةً مع القرية والمنطقة المحيطة بها. ثم تضرّع، بإلحاحٍ، إلى آلِهِ أن يسمحوا له بصيد السّمك مع قريبٍ يسكنُ بالجّوارْ... ذلك الرّجل كان صديقاً مُقرّباً ور فيقَ صيدٍ لجون سسكو والرجل الوحيد من العائلة الوارد لجيمي (باعتبارِ أنّه كان جون سسكو) احتمال التّعرّف عليهِ حينذاك.... "باختصار، بدا جيمي ليس فقط بمقابة شخصٍ يعرفُ أشياءاً عن جون سسكو، بل تصرّفَ وكأنّهُ وجون سسكو كانا شخصاً واحداً".
عرَضَ د. ستيفينسون، في ثنايا حكايتِهِ هذه، تفاصيل وتعليقات وافية عن حالة جيمي وقال إنّ عائلتَهُ كانتْ، في الغالب، غيرَ متحمّسةٍ للإسرارِ لهُ بهاتيكْ. ثمّ أنّهُ (د. ستيفينسون) ما حاول قطّ الزّعم، تأسيساً على تلكَ الحالةِ، بأنَّ فيها بُرهاناً على تناسُخِ الأرواحِ، بل دوماً تركها تتحدّثُ عن نفسها بنفسِها.
بجانبِ حالةِ جيمي عرض د. ستيفينسون علينا حالاتٍ واضحةً عديدةً أُخرَىْ لأطفالٍ ألسكيّينْ [من "ألاسكا"] صغارٍ جدّاً استعادُوا (على هيئةِ "فِلاشْ باكْ") ذكرياتٍ عن حَيَواتٍ سابقةٍ قالُوا إنّهُمْ عاشُوها، الشّيءُ الذي قد يُشجّعُ القارئَ على التّوسُّعِ في قراءةِ كتب د. ستيفينسون الخاصّة بهذا الموضوع (أنظُرْ، أيضاً، إلى مقدّمة د. ستيفينسون للكتاب الموسوم جولةُ زمنٍ ثانية، لإدوارد رِيال، الصادر عن دار نشر نيفيل اسبيرمان -1975 الكاتبة).
الفصل الثالث
أَمْثِلةٌ حيَّةٌ
1
خلال السّنوات الأولى من تتلمذي المتحمّس على يدِ "المُعَلّم" اطَّلَعْتُ على أوجهٍ عديدةٍ من فعاليّاتِ قوانين إعادة الميلاد. وما أدهشني بما فيه الكفاية، رغم أنه ما كان مفاجئاً لي، هو أنَّ الحالات العديدة التي تَقَصَّاها د. ستيفينسون كثيراً جدّاً ما أوقعتْ في خاطري ملامحاً وطيدةً من قوانين العلّة والمعلول التي تحكم الحياة وتطوّرها كما علّمني إيّاها "المُعلِّم".
التّساؤُلُ الأوّلُ الذي يبرز، بإيحاءٍ من هذا الأمرِ، في عقولِ النّاسِ هو:- "هلا نحنُ غيرُ رائينَ لمن نحبُّ من النّاسِ حينما نتجاوزُ، صُعُدَاً، الحياةَ في هذه الدّنيا؟"
إجابةُ هذا التساؤل هي أنّ علائق الحبِّ لا تنفصم عُراها أبداً. لماذا؟
لأنّ من بين قوانين الكون هنالك قانونٌ يُسمّى قانون "الإنجذاب المغناطيسيْ". فجذبةُ الحُبِّ والقرابةِ الرّوحيّةِ القويّةُ نافذةٌ في أسِّ كلِّ الحياةْ.
في هذا المعنى قالتْ حكمةُ "المُعلّم" الجّامعة:- "عينُ ذرّاتِ الكُرسيِّ الذي تجلسينَ عليهِ تُطيعُ قانون الحبْ". فالإنجذابُ المِغناطيسيُّ للكائناتِ إلى بعضها البعضِ هو عنصرٌ مُلتحمٌ بدخيلةِ الذّرّة- أصغر وحدة كائنة في الطبيعة- ومتخلّلٌ جِماعَ مَسامِ الكونْ.
الحبُّ هو جبرٌ مغناطيسيٌّ يتنامى، في دِقّتِهِ وتركيبيّتِهِ، صُعُدَاً على سُلُّمِ التّطوّرْ. وفعاليّتُهُ بُدائيّةٌ في الذّرّةِ، لكنّها أساسيّةٌ للخلقْ. فهو العاملُ الذي يجعلُ الذّرّةَ تتآلفُ في الذّرّةُ فتتشكّلُ، هكذا، العناصرْ. هو يتنامى، في تركيبيّتِهِ، خلال كلّ الطبيعةْ:- في الحيواناتِ وفي الإنسانِ الأوّلِ "البُدائيِّ" هو عاملٌ تضامُنِيٌّ؛ في الإنسانِ الأنيسِ "المتحضّرِ" هو عاملٌ فوقَ طبيعيٍّ، عاملٌ نافذٌ في حَيَوَاتِنَا.
يجذبُ ذاكَ الجَّبرُ المغناطيسيُّ" الشّبيهَ إلى الشّبيهِ، والحبُّ إلى الحبِّ، في كلّ أبعادِ آمادِ الكينونةْ. إنّهُ وصلٌ لا ينقطعْ. إنّهُ فعلُ الأُلُوهيِّ الذي هو في السّريرةْ.
في الحالةِ التي اقتبسنا بعضاً من أوصافِها في الفصل الثاني نرى، على نحوٍ بسيطٍ، علاقةَ الحبِّ وهي في شُغلِها وسط قومٍ بساطتهم جليّةْ. فالمرأةُ الواردُ عنها الحديثُ هناكَ قد أحبّتْ أخاها جون سسكو وأقامتْ عليهِ، عندَ موتِهِ، حداداً عظيماً. ذلكَ الحُبُّ جذبَ تلكَ الرّوحَ في سبيلِ العودةِ إليها فأصبحَ ذلك الأخ، في حياته التالية، ابنها. وفي حالةٍ أخرى جرتْ بينَ ذاتِ القومِ وفي ذاتِ القبيلةِ "جَعَل" ويليام جورج سِنْيَور، من فرطِ حبّهِ لابنهِ وزوجة ابنهِ، نفسَهُ "يُولَدُ"، من جديدٍ، كابنٍ لهما.
تُظهِرُنَا تعاليمُ تناسخ الأرواح، أو إعادة الميلاد، على أنّ هنالكَ تنوّعاً كبيراً في طولِ مدّةِ ما قد يعنُّ لنا أن ندعوهُ "استجماماً في المروجِ الإليزيّةْ".
إن تدبّرنا حال الحيوانات من هذا المنظور فإنّها تبدو لنا عائدةً، من فورها تقريباً، إلى الحيّزِ الذي فارقَتْهُ بموتِهَا "الإصطِلاحيِّ":- الأرضْ. ذلكَ، بحسبِ ما علّمني إيّاه "المعلّم"، لا استثناءَ لهم منهُ إلا في حالاتٍ خاصّةٍ مُفعَمَةٍ بعلاقةِ حبٍّ وتوادُدٍ ما بينَ، علي سبيلِ المثالِ، رجلٌ وكلبُهُ حيثُ قد يُسمحُ للرّجُلِ الواصلِ حديثاً إلى حيّزِ كينونتِهِ الجّديدِ بصحبةِ المخلوقِ الذي يُحبُّ، إلى حينٍ. طبعاً هو لا ينبغي عليهِ، وقتَذَاكَ، أن يَدَعَ الرُّوحَ اليَافعةَ تلكَ (رُوح الكلب) مُقيّدةً بهِ فهي فهي يتعيّن عليها، فيما الزَّمانُ ماضٍ في سيرورتِهِ، أن تُؤهّلَ ذاتَها، في فترةِ تدريبٍ أخرى على كوكبِ الأرضِ، عساها، من بعدِ ذلكَ، تصعُدُ إلى درجةٍ أسمى في الرّوحْ. فالحيوانُ الأليفُ، نظراً لتعوّدهِ الاتّصالَ العاطفيَّ (الشعوريَّ) بالإنسانِ، ينمازُ بنفسهِ عن نَفْسِ القَطِيْعِ ويجيءُ إلى حينٍ يُشارُكُ فيه الإنسانَ وَضَاءَةَ عنايته المُحبَّةِ لهُ فيستقيمُ، بذلكَ، على دربِ تطوّرٍ رُوحيٍّ جديدْ (هذا، على كلٍّ، لا يعني أنّ ذاكَ الحيوان الأليف ما كانتْ لهُ قطُّ "فرديّةٌ" من قبلِ- حتّى حينَ هو نفسٌ لا انفصامَ لها عن "نفسِ القطيعْ").
أيضاً العودةُ إلى كوكبِ الأرضِ جدُّ سريعةٍ عند القبائل البدائيّة من الناس، وغالب الحالات التي تقصّاها د. ستيفينسون تُنبئُ عن هذا.
خلال بحوثِهِ في بلادٍ عديدةٍ في هذا العالمِ وجد د. ستيفينسون أنَّ متوسّطَ فترة الإنعاش (الإتّكاءة) التي يُتَمَتّع بها في المجالي "الماورائيّة" يفترقُ افتراقاً هائلاً أُسُّهُ هو حاجاتُ، كما ورغائبُ، الرّوحْ. إن تحدّثنا بعموميّةٍ شديدةٍ فإننا سنقولُ إنّ الأمرَ هنا يتبدّى على أنّهُ قائمٌ على اضّطِرادٍ في فترةِ السّماحِ للرّوحِ بالمكوثِ في المجالي السّماويّةِ مُتوازٍ مع مقدارِ تطوُّرِهَا.
في أوساطِ الأراوحِ الراقية هنالكَ تنوّعٌ وُمنبِئٌ عن وُسعِ وعيِ الرّوحِ الفرديِّ ومدى فهمهِ للعوامل التي تحكم وسائل نمائهِ، أوجه استفادته من وقتِهِ في البُعدِ الماورائيِّ وقدرته على النّمُوِّ الرُّوحيِّ، في الحياةِ الآخرةِ، بِوساطةِ المعروفِ الذي يُسديهِ لإخوتِهِ في الكينونةْ. وينطوي المعروفُ الأخروِيُّ إيّاهُ حتّى على رغبةِ الرّوحِ الفرديّةِ في، أو استطاعتِهَا على، الإنتفاعِ لنفسِها، وللآخرين، من جميلٍ خاصٍّ ما أسرّتْ نفسَها وأسرّتْ، كذلكَ، الآخرينَ بهِ.
رُبّما سيبقى المرءُ في مجالي الحريّةِ الرّوحيّةِ الرّحيبةِ قاصداً متابعةَ دراساتٍ، أو بحوثٍ بعينِها، هناكْ. هذا من ناحيةٍ. ومن الناحيةِ الأخرى هنالكَ بعضُ الأرواحِ الذّكيّةِ العاليةِ السِّمُوِّ تكونُ لها رغبةٌ شديدةٌ في موالاةِ قيامها برسالاتها التي كانت مهتمّةً بأدائها آنَ وجودها على كوكبِ الأرضْ. وذلكَ (كما قال لي بعضٌ من الأُنْسِ حين حياةُ الجّسَدِ فيهم كانتْ مُشرِفَةً على ختامِها) يُصَيِّرُ هاتيكَ الأرواحِ "غيرَ طائقةً انتظارَ زمانِ أوبتِها إلى كوكبِ الأرضْ".
في حالاتٍ أُخَرٍ، حيثُ عُرَىْ الحبِّ شديدةٌ، ينتظرُ الإنسانُ (الرّوحُ) الذي مضى في سبيلِهِ أولئكَ الذينَ يُحبّهُمْ أن يدرِكُوهُ في أقانيمِ الضّوءْ. لهذا نحنُ نرى أنَّ هنالكَ عواملٌ كثيرةٌ جدّاً تُخلِّقُ رحابةً وتنوّعاً عظيمَىْ المدى حينَ يتعلّقُ الأمرُ بمسألةِ أوبةِ الأرواحِ إلى كوكبِ الأرضْ.
أولئكَ الذينَ قهرُوا، في أنفُسِهِمْ، قوّة الجّاذبيّةِ لكوكبِ الأرضِ، من قد انطلقتْ أرواحُهُمْ كُلِّيَّةً نحو المجالي السّماويّةِ، قد يتجاوزنَ شروطَ الحياةِ على الأرضِ ويحُوزُوْنَ، إلى الأَبَدِ، على المَقَامَاتِ العُلَىْ. ذلكُم هو المُرادُ وغايةُ كَدْحِ الجَّميعْ.
2
يجبُ علينا ألا ننسى أنّه ما تزالُ هنالكَ قبائلٌ تحيا فوق كوكب الأرض على هيئةٍ ليست بأقلَّ بدائيّةً من تلك التي عاشَ عليها ساكنو الكهوفِ في العصرِ الحجرِيْ. فأهلُ الغابةِ الأفريقيّةِ لا يصنعونَ أدواتٍ أوجِرارا، ومنازلُهم ما هي إلا حُفَرٌ على الرّملِ مُغطّاةٌ بفروعِ الأشجارِ اتِّقاءَاً لشمسِ الظَّهيرةْ. إنهم يمشون على الأرضِ عُراةً تماماً. مع ذلكَ- ولنا أن نضعَ هذا بين قوسينْ- يبدو أنّ لهم إيمانٌ دينيٌّ يُنبئُ، جُزئيّاً، عن حقيقةِ أنَّ كلَّ النّاسِ على كوكبِ الأرضِ قد هدتهم "الألوهةُ"، منذُ البدءِ، إلى معرفةٍ بها ودربٍ يسوقُ إليها يتناسبان ودرجةُ تطوّرُهِم الرّوحيْ. ثم إنّ أولئك القوم البدائيين غالباً ما يكونوا أعمقَ منّا كثيراً في شعورهم بحضورِ القوى النّفسانيّة (الرّوحيّة) للطبيعة وفي إدراكهم لديمومةِ الحياةِ بعد الموتْ. إنّهم، لهذا، يؤدّونَ طقوساً مُوسّعةً يتشفّعونَ بها لدى من يدعُونَهُمْ "الآلهةَ الدّنيا":- القوى العُنصريّة الكونيّةْ. الحضريّونَ من النّاسِ ما كانوا، بأيّةِ حالٍ، حكماء بالقدر الذي يسمح لهم بمواءمةِ أنفسهم شعوريّاً حتّى ينسجموا مع هذه القوى التّحتيّةْ. فجِبِلَّتُهُمْ العاطفيّةُ مختلفةٌ وليس لها- إن شاءتْ ألا "يشُوبَ" غيرُها ذاتَهَا- أن "تَفْسَدَ" بتلكَ الطّاقاتِ الأوغل في "البُدائيّةْ".
قد يتعجّبُ المرءُ من كونِ أنّ أناساً على مِثلِ تلكَ الدّرجةِ من البدائيّةِ ما يزالُوا باقينَ على كوكبِ الأرضْ. لكنّنا، إن تفكّرنا في هذا الأمرِ، سنجد بالأرضِ، أيضاً، حيوانات، طيور، أسماك لا يزالُ جُلّها مُقيَّدَاً بطائفتِهِ. كلُّ الحياةِ، بمختلفِ كياناتِها العضويّةِ وأنواعِها، تُشكّلُ عتبةً في سُلّمِ درجاتِ ومستويات الحياة المتطوّرة حيثُ أيٌّ من هاتيكَ تندغمُ في ثنايا توليفةٍ نغميّةٍ نشوئيّةٍ متنامية التّعقيدْ. فأيُّ مخلوقٍ إنّما هو مُشاركٌ، من موقعِ كينونتِهِ كجزءٍ من شعبتِهِ الطبيعيّةِ الخاصّةِ، في بناءِ درجاتٍ في سُلّمِ النّشُوءْ. وحينَ تمّ تكوُّنُ سُلّمِ الأنواعِ غدا مُعدّاً ومؤهّلاً لأن تستخدمهُ أيُّ رُوحٍ عنصريّةٍ جديدةٍ قادمةٍ عندَ قاعدةِ مستوياتِهِ لغاياتِها، ومن ثم ترقى، رُويداً رُويداً، على دربها نحو أن تصيرَ إنساناً.
الإنسانُ، حينما يُبيدُ جميع أنواع المخلوقات الأرضيّة، إنّما يحرمُ الحياةَ من أشكالِ وجودٍ معيّنةٍ ضروريّةٍ لسيرِها على مدارجِ النّماءِ والتّجربةْ. إنّه ينزعُ، من سُلّمِ سيرورةِ الحياةِ، درجةً قيّمةً. إنّهُ، إن استمرَّ كما هو في الحاضر، لخليقٌ بأن يجعلَ أوجُهاً بعينها من حيوات الكائنات الحيّة مجمّدةً عندَ مستوىً سافلٍ فيفصلُ، بذلكَ، أقدام كياناتٍ تتهيّأ للمجيءِ إلى الأرضِ عن مهادها على الأرضْ.
نحنُ قطعاً لنا مسؤوليّة أخلاقيّة- ماضية وحاضرة ومستقبليّة- نحو هاتيكَ الكائناتْ. فنحنُ أربابُها وينبغي علينا أن نُقِيْمَ سلوكنا معها على أساسِ كوننا كذلكْ. كلُّ مخلوقٍ يسعى في آفاقِ كوكبِ الأرضِ هو في طريقِهِ نحو اتِّخاذِ الهيئةِ الإنسانيّةِ في قرونٍ سوف تأتي. وطريقة تعاملنا الحاليّة مع تلك المخلوقات قد تٌعينُها على ذلكَ أو تعوق دربها إليهِ. وفي حالاتٍ قصوى قد تُشوّهُ الطّريقةُ إيّاها حتّى توازن جواهرها الداخليّة فتُزيغُ وتُحرّفُ مسارات دفقاتِ الطّاقةِ التي نسجتها حكمة الطّبيعة فيها وتُعلِّمُها الخوفَ والوحشيّةَ المحفوزينَ بحاجتِها للصّراعِ من أجلِ البقاءْ.
هذا المُفترقُ من حديثنا قد يدعونا لأن نقتبس، عن د. ستيفينسون، حالةً أخرى غير التي أوردنا. تلكَ حالةٌ تُظهِرُنا على الأثرِ الكارْمِيِّ لفعلٍ شرّيرٍ ارتكبتْهُ رُوحٌ ما على تناسخها الحيويِّ القادمْ. إنّها حالة وِيجَارَاتْنِيْ.
في يناير 1947 وُلدَ للسيّدِ هـ. أ. تِيلارَاكْتِنِيْ ابنٌ سمّاهُ وِيجَارَاتْنِيْ. كان لهذا الصبيِّ، منذ ميلاده، تشوّهاً جليّاً في أيمنِ صدرهِ وذراعِهِ. ثم أنّ أباهُ لاحظ مشابهات أكيدة بينهُ وعمّهُ، فهو، مثلاً، داكن البشرة (بينما الأطفال الآخرون من عائلته فاتحُوها)، كما وهو، كذلكَ، ماثلَ عمّهُ راتران هامِي في عددٍ من ملامحِ وجهِهِ. قال الأبُ لزوجتِهِ:- "هذا هو أخي قد عادَ إلينا". لكنَّ الزَّوجةَ، فيما يبدو، لم تُعِرْ ملاحظتْهُ هذه اهتماماً كبيراً. عندما بلغ ويجاراتْنِي ما بين الثانية والثانية والنّصف من عمرِهِ بدأ يُحوِّمُ ويُهوّمُ حولَ منزلِ آلهِ وحيداً في سبيلهِ ويُحادثُ نفسَهُ. جذبَ سلوكُهُ هذا انتباهَ أمّهِ التي أصغتْ إلى حديثِهِ. إلتقطتْ أذناها عنهُ قولَهُ إنّ ذراعَهُ تشوّهتْ بسببِ اغتيالهِ لزوجتِهِ في حياته السابقةْ. ذكر الطّفلُ، في حديثهِ، عدداً من التّفاصيلِ المرتبطةِ بالجّريمةِ ما كانتْ أمّهُ، حينذاكَ، قد سمعت منها (أو عنها) شيئاً. سألتْ زوجها عن مدى صحّةِ إفاداتِ الطّفلِ فأكّدَ لها دقّةَ ما كان يقولهُ إِبْنُهُ. فأخاهُ الأصغرُ (راتران هامي)- كما أقرَّ- قد أُعدمَ، بالفعلِ، في عام 1929 بتُهمةِ اغتيالِهِ لزوجتِهِ.
كانتْ الأمُّ قد سمعتْ أنَّ قرويّينَ في أُقالكَالْتَوْتَسْ (وهي قرية العائلة مدار الحكاية) قالوا إنّ ويجاراتني قد ماثلَ راتران هامي. لكنّها ما سمعتْ منهم أيَّ شيءٍ حول الجريمة التي ارتكبها راتران هامي. فهي قد علمتْ بها، لأوّلَ مرّةٍ، من أقوالِ إبنها الصّغيرْ.
"حاول أب ويجاراتني أن يُثنيهِ عن الحديثِ عن حياتِهِ السّابقةْ. لكنّهُ أصرَّ على فعلِ ذلكَ واستغرقَ كثيراً في أحاديثٍ ذاتيّةٍ أدارَهَا، أحياناً، مع نفسِهِ في العُزلَةِ، وأحياناً مع آخرينَ سألوهُ عمّا أصابَ ذراعهُ. لهؤلاءِ عادةً ما روى، بتفصيلٍ حيٍّ وواسعٍ، وقائعَ جريمةِ عمّهِ راتران هامي، طريقة اعتقالهِ وتنفيذ حكم الإعدام فيهِ". هذا بعضُ ما عرّفنا به د. ستيفينسون في تلافيف حكايته المُفصّلة عن ويجاراتني.
عندما بلغ ويجاراتني ما بين الرابعة والخامسة من عمره استرعتْ إفاداتُهُ انتباه الأستاذ الموقّر أناندا مَيْتْرِيَا، بروفسور الفلسفة البُوذِيّة في جامعة كولومبو، فأجرى تحقيقاً معهُ. وضعَ البروفسور، من بعد ذلكَ، ما توفّرَ عليهِ من معلوماتٍ تحتَ تصرّفِ د. ستيفينسون. "حينما بلغَ الصّبيُّ سنّه الخامسة والنّصف توقّفَ عن الحديثِ التّلقائيِّ عن حياتِهِ السّابقة، لكنّهُ استمرَّ في الحديثِ عنها حينَ سُئِل".
لقد أظهرتْ تقصّياتُ د. ستيفينسون عن محاكمةِ راتران هامي مُفارقاتٍ جليَّةً بينَ ما قالهُ ويجاراتْنِي عنها والشّهود الذين أَمِلُوا في الدّفاعِ عنهُ. فأولئكَ (وراتران هامي) قد أقرّوا بأنّ زوجةَ راتران لاقتْ حتفَهَا في مشاجرةٍ ما كانتْ كانتْ وراءها نيّةُ قتلْ. أمّا الطّفلُ الصّغيرُ فأعلنَ أنّهُ قد اغتالَ زوجتَهُ (في حياتِهِ السّابقةْ) لأنّها عَصَتْهُ وأبَتْ أن تعُودَ معهُ إلى البيتْ. ثمَّ أمّنَ على اعتقادهِ، حينذاكَ، بأنّهُ كانَ مُحقّاً في ما فعلْ. قال الطّفلُ، كذلكَ، إنّهُ، في حياتِهِ السّالفةِ، كانَ ذا "طبعٍ لا يُطاقْ". ثمّض استدركَ ذلكَ مُلاحِظَاً أنّهُ، في حياتِهِ الحاضرةِ، قد أصبحَ طبعُهُ "أكثرَ وداعَةً".
أولئكَ الحائزونَ، من بينَ النّاسِ، على كتابِ د. ستيفينسون الهامِّ يُمكنُهُمْ أن يطَّلِعُوا على تفاصيلٍ أكثرَ عن هذه الحالةْ. فما اقتبسنا عن ذلك الكتابِ هنا كافٍ لإِظهار فعاليَّاتِ قوانينِ الكارما والمُعاوَضَةْ (’كما تُدينُ تُدَانْ). لقد تلاشتْ ذكريات ويجاراتْنِي عن حياتِهِ السّالفةِ من مُخَيِّلَتِهِ (واعيته) بمرورِ الزّمانِ، لكنّهُ أقرَّ لنا بمعرفتِهِ "أنَّ تشَوُّهَ يدهِ، ذِراعِهِ وصدرِهِ كانَ "عقوبةً عادلةً"..." لمسلكهِ الشّرّيرْ.
لم يَدْعُ ما سَلَّكَنِيْ عليهِ "المُعلِّمُ" ذاكَ التشوُّهَ "عِقُوبَةً"، بل شَهِدَ على أنّهُ معلُولٌ طبيعيٌّ للتّعامُلِ الجَّاهِلِ مع قوانينِ الطّبيعةْ.
الفصلُ الرّابع
ذكرياتُ أطفالٍ عن حيَوَاتِهِمْ الماضيةْ
1
الكائنات الحيّة على الأرض تَخَلِّقُ بداخلها ما قد نسمّيه قنواتاً لاستقبال القوى الكونية. فالمراكز الروحية في الكون تستقبل هاتيك القوى وتبثّها في الآفاق.
تلك المراكز الروحية تزيد، في مجالنا الأرضيّ، عدداً وقدرةً، مع نموّ الحياةِ العضويّةِ من أبسطِ أشكالها إلى أسماها: الهيئة الإنسانيّة. ثم تشتد، من بعد ذلك، انتشاراً وطاقةً إذ هي صاعدةٌ من الإنسانِ الأوّلِ (’البدائيّ‘) إلى الإنسانِ الأعلى. مراكز معيّنة من هاتيكَ لها مُقابلاتها في الهيئة الفيزيائية، في غدد الجسدِ الفيزيائيِّ.
هذه المراكز الروحية هي منافذ لاستقبال طاقات كونية مُفردةٍ وذاتِ موجاتٍ متفاوتةِ المدى ومنسابةٍ خلال الكون: القُوى الشّعشعانيّة للألوهيّة. كلما يتطور الإنسان تتفتّح مراكزه الروحية مثل زهرةٍ تستشرفُ الشمس. ثم هو يستطيع، تدريجياً، أن يُطوّع له مجالٍ عليا من الطاقاتِ اللطيفةِ المُتاحة. ذلكم هو عاملٌ مشاركٌ في نموّ الإنسان، تطوّره ونُضجهِ الرّوحيّ.
قد يستطيع المرء تشبيه ما نحن واصفوه هنا بقوةِ حصانٍ في عربةٍ ذاتِ مُحرّك... فالتّفتّحُ الأكبرُ للمراكزِ الرّوحيّةِ يُخلّفُ "قوّةَ حصانٍ" روحيّةٍ أكبر في الإنسان. العبقريُّ هو شخصٌ له "قُوّةُ حصانٍ" روحيّةٍ مشهودةٌ، قدرةٌ أعظمَ على "استقبالِ" [أو، بالأحرى، "قبول"- المترجم] مزايا روحيّة شتّى وعميقة في نفسهِ وعلى احتواءِ واستعمالِ الطّاقاتِ الإلهيّةِ الكونيّةْ. وانمياز روحه النّوعيّ هو الذي يشرط قيمةَ الأعمال التي يُبدُعُها.
في الإنسانِ الأوّلِ (البدائيّ) تكون المراكز الرّوحيّة، عادةً، مثل براعم منغلقة. فهو مقيّدٌ بشاكلةِ القوى الرّوحيّة المتاحة لهُ. هذه الحقيقةُ تُلقي ضُوءاً على سلوكِ وحساسيّاتِ مختلفِ مجاميعِ النّاسْ.
حينما تكونُ مراكزُ الرّوحِ منفتحةٍ كليّاً يغدو الإنسانُ في تناغُمٍ تامٍّ مع المستوياتِ العُليا للقوى الإلهيّةْ. لهذا لا تصدر عنه إلا أعمالٌ جماليّةٌ لطيفةٌ وبرٌّ ودودٌ بالأشياءِ وبالأحياءْ. فالملكاتُ العليا للكائناتِ الإنسانيّةِ مثل التوادد، التّراحم، التّضحية بالذات والإنسجام الصّوفيّ ممكنةُ التّجسّدِ فقط حين الإنفتاحُ الحرُّ، القُبُوليُّ، لمراكزِ الرّوحِ على الشّعاعات السماويّة. وفي مركزِ كوكبِ الأرضِ كلُّ روحٍ إنّما هي في سبيلِ تعلّمها كيفيّةَ تفتيحِ هاتيك المراكز الرّوحيّة. ذاك يحدثُ للرّوحِ تلقائيّاً في آنِ ترقّيها الحثيثْ. فعندئذ فقط يتيسّرُ للرّوحِ أن تصيرَ محلاً مثاليّاً لتنزّلِ الأرواحِ الذّكيّةِ العُلَىْ.
مهما يكن مقام الإنسان الإجتماعي والثّقافي فإنه ينطوي، في دخيلتهِ، على جواهر روحيّة إلهيّة. لا يعني هذا القول إنّ كلّ النّاسِ لهم ذات المقدار من "مِعدنِ" تلكَ الجّواهرِ في أَسِرَّتِهِمْ. فالزمان الذي قضوه وهم في وضعيّتهم البشريّة والهيئة التي هم بها تعاملوا مع أنفسهم في حيواتهم الماضية يتناسبان، في صغرِ أو كبرِ الدّرجة، مع القوى الروحيّة التي هم مشحونون بها. كلّ واحدٍ منّا قد بدأ رحلته التّطوّريّة الطّويلة في زمانٍ مختلفٍ، وبعضنا قد أحسنَ، أكثرَ من آخرين، استخدام الفسحة الزّمنيّة التي استغرقتها. فالصفات الإلهيّة، تماماً كشعاعاتِ الشّمسِ، متاحةٌ للكائناتِ، لكن الذي يُخبّئُ نفسه في ظُلُماتِ خزانةٍ يغدو، إذ يخرُجُ من هُناكَ، واهناً مُصفرَّاً وسطَ مخلوقاتِ كوكبِ الأرضْ.
بعضُ النّاسِ- سواءاً كانوا جديدين على مسرح الإنسانيّة أو مّمن أُصطِلَحَ على تسميتِهم "أرواحاً قديمةْ"- قد غرسوا، في ذواتهم، طبعاً عميقَ الجّذبِ لجُرعاتِ الطّاقاتِ الإبداعيّةِ السّيّالةِ في الكونِ فنمّوا، بهذا، في باطنِ الرّوحِ ثروةً من الملكاتِ الخالقةِ للشّخصيّةِ الحيويّةِ والرّوحِ القويّةْ. أمثالُ أولئكَ النّاسِ يصعدون، سريعاً، على سُلّمِ التّطوّرْ. فالفردًُ منهم يتّخذُ لهُ حياةً في قبيلةٍ أو أمّةٍ إثرَ أخرى فيتعلّمُ كلَّ ما تستطيعُ الخبرةُ المعاشيّةُ وسطَ أولئكَ القومِ أن تُعلّمَهُ ويُسهمُ، بدورهِ، في حياتِهم بما لهُ من قُوىً (مَلَكات) ذاتيّة. تلك القوى (المَلَكات) قد لا تكون، بعد، ذات خاصيّة روحيّة. فهو فهو ينبغي له أن يرتقي بما حازهُ من طاقاتٍ إلى مدىْ ذبذبةٍ أعلى، شفافيّةٍ وتوازنٍ أكبر، قبل أن تغدو قدرته الكينونية ونضجه التقويميّ (الحُكميّ) تامّي النّفعِ لأولئكَ الذين يحيا بينهم.
الإنسانُ الذي لهُ قوّة عظيمة قد يستخدمها إما للشّرِّ أو للخيرِ، في سبيلِ دوافعٍ أنانيّةٍ مُصاغةٍ من الزّهوِ الشّخصيِّ والقوميِّ وشهوة القوّة، أو في سبيلِ سماحٍ وحكمةٍ. فإن ورّطَ نفسَهُ، أو رفاقه في الإنسانيّة، في حروبٍ غازيةٍ فإنّهُ سيحصدُ ما غرسَهُ. فبقدرِ مدِّ شهوةِ القوّةِ الأنانيّةِ الذي أطلقهُ في العالم بقدرِ ما ستعظم سقطته. فقط بفعلِ تجاريبٍ تر اجيديّةٍ كهذهِ ستلطفُ الصّفاتُ الشّديدةُ الكثافة في طبيعتهِ وتُسخّرُ لاستعمالٍ أكثرَ نفعاً. في المراحلِ الباكرةِ لمسيرتِهِ كإنسانٍ يحيا على كوكبِ الأرضِ يستطيعُ فردٌ قويُّ الشّخصيّةِ كهذا أن يُسبّبَ دماراً عظيماً لنفسهِ ولقومهِ. إنّه سيُصبحُ، على نحوٍ طبيعيٍّ، مُحتفىً به أو سيّئ الصّيت. ذلكَ وفقاً للقوى المغناطيسيّة لشخصيّتهِ. إنّه سيكونُ قائداً يتبعه الكثيرون. لكنّه، خلال المعاناة التي أنزلها بأمّتِهِ وبنفسهِ، سيتعلّمُ الطريقة الأكثر حكمةً لاستخدامِ مَلَكَاتِهِ.
الحكمةُ الجّامعةُ المعبّرةُ عن هذا هي:- "ذلكَ الذي لهجَتْ به تُصيرُهُ الرّوح"- الجّسدُ كذلكْ. قد يعبقُ حولَ إنسانٍ ما شميمُ قداسةٍ، أو تحوطُهُ قوّةُ شرٍّ. ذلكَ وفقاً لمستوى ونوعيّة فكره وأفعاله. فالفيضُ المنبعثُ من هالةِ المرءِ يتعلّقُ بشخصيّتهِ فيُنشئُ حول كيانه حقل اهتزازاتٍ من طاقاتٍ ذاتِ طابعٍ مُمَيّزٍ تجذبُ إليهِ شحناتِ طاقةٍ تنسربُ إلى مجاليهِ الخفيّةِ أو أحداثاً مُتَّفِقَةً وما لهجَتْ بهِ خواطِرُهُ. ذلكم هو فعل قوانين"الكارما"، قوانين الجدارة واللاجدارة. كما وهو، كذلك، السبب في معظم حسن التوفيق أو سوئه الذي، في هذه الدنيا، يُلاقينا جميعاً.
ولأنّ المجانسات بين الناس والكائنات، خيّرةً كانتْ أم شرّيرةً، ذات طبيعة مغناطيسية فإنها تسبب مرض الجسد وتشوهاته واضطراب العقل. إنها تُصيّر الشخص من نُسميه "شخصاً غيرَ محظوظ" وتجذب إليه حادثات عنيفة أو كارثية الطبيعة. فانغماسنا في الغمّ، الكآبةِ، في حبٍّ أنانيٍّ للذات وفي أحاسيسِ غلٍّ، احتقارٍ، حسدٍ أو كراهيّةٍ، عنفٍ أو طمعٍ يُنشئُ مجالاً في الطاقات الإهتزازية (التي تصدر عن الرّوحِ للعالم) يجذب إلينا ظروفاً مشابهةً لأحوالنا. تلك القيمة ستكون نصيبنا.
الإنشراحُ، المرحُ، الرّجاءُ، التفاؤليّةُ، الخواطرُ النيّرةُ، اللا أنانيّةُ، دفءُ الحبِّ، السعي في خدمة الناس ووضاءةُ حسنِ النّيّةِ تجذبُ إلى الرّوحِ كلَّ شيءٍ طيّبٍ. هنا، كذلك، تجد مغناطيسيّةُ المُجانسَةِ (المُشاكَلَةِ) طريقها فيَشُدُّ عطرُ العذوبةِ والحياةِ الخيّرَةِ الذي يُهوّمُ حولَ تلكَ الرّوحِ إليها الحظَّ الرّوحيَّ الجّميلَ والسّعادة. الحياةُ، في عُرفِ روحٍ كهذهِ، كثيراً ما تتهيّأُ وكأنّها مسارٌ "مرصوفٌ بالذّهبِ" فيكتسبُ صاحبُها صفةَ ذي "الحظّ السّعيد". حقّاً إنّ كلماتٍ مثل "حظٍّ" و "فُرصةٍ" لن يكونَ لها أيُّ معنىً حين اعتبارها على ضوءِ قوانين الجّدارة واللا جدارة [قوانين الكارما أو "المُعاوضة"- المترجم]. فالأحداثُ التي تندرجُ تحتَ هاتيكَ المُسمّيات (حظ، فرصة، وما إليها) هي أحداثٌ "مُكتسبة".
هذا لا يعني القول إن الأفعال القبيحة تُلاقي عقابها من إلهٍ ناقمْ. فالمعاوضةُ هي فاعليّةُ القانونِ الكونيّ حيثُ "ما يخطُرُ على قلبِ الإنسانِ هو حقيقته". عليه فهو (أي الإنسان) مثّالُ حياتِهِ الخاصّةْ. إنّه "يُوطّنُ" في نفسهِ موجةً ذاتَ مدىً معيّنٍ، نغمةٍ مدوزَنَةٍ على لحنٍ يستدعي إليها الإهتزازات (الذّبذبات) النّغميّة الشّبيهةْ.
ذلكم هو سبب كلّ ما يلاقي المرءُ في دربِ معاشِهِ. إنّه علّةُ ميلادهِ- مثلاً- في عائلةٍ، قبيلةٍ أو أمّةٍ بذاتها. فعاداتُ فكرهِ وفعلِهِ عبر القرونِ الغابرةِ تكون- آ ن يُعادُ ميلادهُ هناك- قد صاغتْ، في دخيلتِهِ، محتوى طاقةٍ، أو محتوىً روحي، منسجم على مستوىً معيّنْ. هنا يكمنُ لبُّ المغناطيسيّة الجّوانيّة التي تُنشئُ فيهِ قنواتِ قبولٍ ذاتِ صفاتٍ معياريّةٍ خاصّة. خلال تلك القنوات تنساق إلى المرء الحادثات الخيّرة والشّريرة.
التناقض الظاهري هنا هو أن هاتيك الحادثات، حتّى ولو كانت حادثاتٌ خارجُها يبدو شرّاً، تُثمرُ، في النّهايةِ، خيراً، فالشّرُّ في الرّوحِ يغدو مُحَوَّرَاً ومُصفَّىً بفعلِ ذاتِ المعاناةَِ التي جلبتها الرّوح إلى نفسها كعاقبةٍ لفعلِهِ.
أحياناً يلتبسُ على الناس الأمر إذ يرون، في هذه الدنيا، ظلماً بئناً يُجنِى، وفق حكمِهِ، فاعلُ الشرِّ مغانماً من فعله القبيح حيثُ، على سبيلِ المثالِ، يُجازى الطّمعُ بالغِنى والخُبثُ، أو المكرِ، بثمراتِ الجريمةِ التي كان هو دافعها.
ما ذلك إلا رأياً سطحيّاً. فنحنُ تعوزُنا القدرةُ على الرؤيةِ الغائرةِ بما يُكفِي في الزّمانِ أو العميقةِ إلى حدٍّ يؤهّلنا لفهم عواقب ليس فقط أفعال سوانا، بل أفعالنا ذاتنا... الإلتواءاتُ في طبيعةِ طاقةِ الرّوحِ إنّما هي، في ما تُحدثُهُ من ردودِ أفعالٍ، تتبع القوانين التي ذكرنا. فالسّلوك الخبيث الذي قد يجلب إلى إنسانٍ ما ثروة في هذه الحياة سيُفضي بهِ، قطعاً، إلى مرارةِ العيشِ، في المستقبل. فالمعاوضة ستفعل فعلها إما في حياته الحاضرة أو في حياته القادمة، ولسوف يُنهبُ كما نهبَ إنساناً آخرَ، ليس بالضرورةِ من ثروتِهِ الدّنيويّة، بل من شيءٍ يَمَسُّ قلبهُ مسّاً أكثرَ قُرباً. فهو سيفقد شيئاً عزيزاً على نفسه:- شرفه أو حسن ظنّ النّاسِ بهِ.
نستطيعُ كلّنا أن نستدعي- هنا- إلى الذهنِ رجالاً إنبثقوا على مسرحِ التاريخِ وهم يُجرجرونَ خراباً في أذيالهم: خراباً لأنفسهم ولأمّتهم، على السّواءْ. لكنّه، وفق التّدبير الرائع لقوانين الطبيعة، قد يُعاود ذاكَ الإنسانُ الذي كان وبالاً عظيماً على أمّتِهِ، في مُقبلِ الأيّامِ، الظّهورَ في هيئةٍ مباركة. فقوّته الشخصيّة العظيمة وأدواره التي أدّاها، في السابق، على مسرحِ الحياةِ وجشّمَتْهُ- في ردّ فعلٍ مُعاوضٍ- صعاباً ومغامراتٍ كثيرةً تكونُ، حينذاكَ، قد هدتهُ، شيئاً فشيئاً، إلى حسٍّ حقيقيٍّ بمعنى القِيم. فبتوالي القرون وبحيازته على فُرصٍ أكبرٍ لتعلّمِ دروسِ الحياةِ التي ينبغي على الجّميعِ تجويدها (ثم، بسببٍ من قوّةِ شخصيّته المُصيِّرَةِ إيّاهُ متعلّماً ذا بأسٍ وعاطفةٍ) سوف يغدو هذا الإنسان، في الختام، في موقعِ قيادةٍ حيثُ يُتاحُ لخبراتِهِ الغنيّةِ في الماضي أن تُحشَدَ، حاضرَاً، في سبيلِ قِوامتِهِ النّاضجةِ على أحكامِهِ.
حالُ وقوعِ أزمةٍ قوميّةٍ قد يُستدعى هذا الرّجل إلى قيادةِ شعبِهِ عبرَ تجاريبٍ عسيرةْ. فإن قادهُم، حينذاكَ، بحكمةٍ وبمُشاركةٍ، لهم ولأجلهم، في معاناتهم فإنه يكونُ قد أوفى دينَهُ "الكارميَّ" على الإنسانيّةْ.
المرحلةُ التي تعقُبُ هذا، في معاشِ ذاك الإنسان، أو من شاكلَهُ، ستتجاوزُ ما كانَ في نفسِهِ من نوازعِ الطّموحِ الأنانيِّ والطّمعِ في الكسبِ الشّخصيْ. فالرّوحُ فيهِ تكونُ، آنذاكَ، قد لطُفَتْ وعَذُبَتْ وتهيّأ لها سبيلاً واعداً بدخُولِها، مستقبلاً، مدىً من الرّوحنَةِ هو وحدَهُ المانح إيّاها حرّيّةَ العبُورِ الأبديِّ إلى المجالي العُلَىْ.
وهكذا نحنُ نرى أنّ أمتحاناتَ وعذاباتَ حيواتٍ بعينِها على كوكبِ الأرضِ تشتارُ للرّوحِ المُممتحنَةِ والمُعذّبَةِ ظَفْرَهَا في المّستقبلْ.
2
كلُّ خاطرةٍ وفعلٍ، كلُّ تجربةٍ في الطّبيعةِ تتّخذُ لها من سطحِ كوكبِ الأرضِ مكاناً لعيشها هي مندغمةٌ في ما تُسمّى "السّجلاتِ الأكاشِيّة"*[* هذا المفهومُ الدّينيُّ-الفلسفيُّ الموجودُ في الأديانِ الشّرقيّةِ عموماً هو، في تقديريَ الشّخصيِّ، مُقابلٌ دينيٌّ لمفهومِ "اللّوحِ المحفُوظِ" في الدّينِ الإسلامِيْ- المترجم]. تلكَ هي سدُولٌ من الطّاقةِ الأثيريّةِ أو شكلٌ من "الكُهرباءِ السّاكنةِ" المُهوّمةِ حول الكوكب. إنّها إشعاعُ حياةِ رُوحِ الكوكب. إنّها هالتُهُ. منسوجةٌ هي من طاقاتِ الفِكرِ المبذولةِ للإفاقِ من كلِّ الكائناتِ الحيّةِ على الأرضْ. فهي انعكاسُ حياةِ ذلك الكائن الكونِيّ:- "الإنسانُ الكوكبيُّ-الأرضيُّ".
من هو سيّدٌ في فنّ استقصاءِ الآمادِ الأبعدِ يستطيعُ أن "يرى ويقرأ" هاتيك السّجلات التي نُسِجَ، في لُبِّ لفيفِ ذبذباتِها، كلُّ ذلك الذي يحدثُ حوالَيْ هذه الأرضْ. نعم، إنّهُ لفِي إمكانِ الإنسانِ البصيرِ أن يقرأ، وأن يتعرَّفَ على، جميع أنماط طاقةِ كلِّ ذلكَ الذي مضى وانقضى. وبما أنَّ ذاكَ النّسيجُ المُوَشَّى قد جُبِلَ من أحداثٍ سالفةٍ في تاريخِ هذه الدنيا فإنّه يحتوي، في هيئةِ شحناتِ طاقةٍ، على أشكالِ الطّاقةِ التي أفاضتْ بها إلى الآفاقِ كلُّ روحٍ في حيواتِها العديدةِ على كوكبِ الأرضْ. تلكُم (إن شئنا الإستئناسَ بتمثيلٍ ماضويٍّ حميم) هي اسطُوانةُ الجِّراموفون التي تنطوي، في ثناياها، على السيمفونيّةِ العظيمةِ لحياةِ كوكبِ الأرضِ منذُ أن وُجِدَتْ الدّنيا. فهي تعزفُ نغمَ زهوِ وزَخَمِ الموكبِ المعاشيِّ الإنسانيِّ، نغمَ تاريخِ جنسنا البشريِّ وتاريخِ اللّوغوس الكوكَبِيِّ، فواحدُهُما جُزءٌ من الآخرْ. إنّ "المُعَلِّمَ" لقَدِيرٌ على تركيزِ فكرهِ على أيِّ بُرهةٍ في التّاريخِ يرغبُ في استكناهِها. وهو، في تركيزِهِ الفكريِّ هذا، يُشبِهُ إنساناً "يُثبّتُ" إبرةَ الجِّراموفون على ثُلمةٍ (شريحةٍ) بذاتِها من إحدى الأُسطُواناتِ حتّى تنبثِقُ عنها صادحةً تقاسيمُ موسيقى معيّنةٍ، موسيقى مُفعَمَةً بالحياة.
العقلُ النّافذُ يُركّزُ رؤيتَهُ، عبرَ الأفكارِ (التي هي ذبذباتُ طاقة)، على تفصيلٍ ما من وقائعِ السّجِلاتِ الأكاشيّةِ فيُومضُ، في الحالِ، هناكَ قُبالَةَ بَصَرِهِ، شكلُ الإنسانِ أو رسمُ المشهدِ الذي يستكنهُهُ. في ضُوءٍ رائقٍ ولونٍ تشعُّ- إذاً- الأشكالُ والرِّسُومُ، إزاءَ عينِ ذاكَ العقلِ، في هيئةِ صُورٍ حيّةْ.
تلك التجربةُ يبدو الشَّاهدُ فيها وكأنّهُ حاضرٌ في ذلكَ الآنِ من الزّمانْ. وإذ تتطوّرُ لديهِ هذه "المَلَكَةُ"- كما سمّاها "المُعلّم"- يُوغلُ الشّاهدُ في الحضورِ هناكَ فيبدو وكأنّه يراقبُ، بالفعلِ، مشهداً من مشاهد التاريخ- ليس من موقعِ المراقبِ المنفصلْ، لكن كجزءٍ حميمٍ من المشهدْ. والأزياء التي يكون، حينذاك، مُرتدِيها لا تتراءى لهُ عتيقةً أو عجيبةً، بل فقط مثلما يرتدي المرءُ من لباسٍ في الفترةِ المعنيّةْ.
يبدو لي- إذاً- أنّهُ لابدَّ لتلكَ السّجِلاتِ الأكاشيّةِ، ما دامتْ مُصاغةً من أثيرٍ خلاقٍ وقابلةٍ لأن تُدرَكَ بواسطةِ بعضِ النّاس، من أن تغدو، في زمنٍ مقبلٍ ما، قابلةً- مبدئيّاً- لأن يُطلع عليها الجّميعْ. فالأمرُ معها، في غايتِهِ، هو أمرُ قوّةِ تركيزٍ واستطاعةٍ على الغوصِ في الأبعادِ الباطنةِ للكينونةْ.
في القرونِ المُقبلةِ قد يكونُ في مُكنَةِ الأرواحِ المتطوّرةِ أن تنظُرَ في غابرِ الزّمانِ (أو، على الأقلِّ، في زمانِ حيواتِها الماضية)، مما يُهيّئُ لها قدرةً على تقييمِ موقفِ مسيرتِها على دربِ التطوّرِ وفهماً لأخطائها السالفةِ التي أودتْ بها إلى أتراحِ وأفراحِ حياتِها الحاضرةْ. إنّها، في فِعلِها ذاكَ، سوف تستبينُ جذورَ مثالبِها الشخصيّة الحاليّة. في الواقع، قد يأتي زمانٌ تكونُ فيهِ براعةُ العلماءِ مستطيعةً إختراعَ نوعٍ من جهازِ التّلفزيونِ الرّوحيِّ لهُ قدرة على "الإمساكِ" بحادثاتٍ ماضيةٍ و"نثْرِهَا" (عرضِها) على شاشتِهِ. ذلكَ ليسَ بمُستبْعَدٍ كثيراً طالما أنَّ هاتيكَ الحادثاتِ- أصلاً- ليستْ إلا مُكثّفاتُ طاقةٍ مُحوِّمَةٍ، أو عالقةٍ، في الأثيرْ.
بهذا الفهمِ لا تبدو قدرةُ نفرٍ من أساتذةِ ذاكَ الفنِّ- هنا وفي الما بعد- على قراءةِ تواريخِ الحيواتِ الماضيةِ لأولئكَ الذين يودُّونَهُمْ من النّاسِ شيئاً خارجاً عن حدودِ المِصداقيّةْ. ثم إنّ ما تحتوي عليهِ مثلُ تلكَ القراءةِ من دراسةٍ لجَيَشَانَاتِ مشاعرِ وانتصاراتِ أُناسٍ ما يزالُوا، إلى الآنِ، أحياءِاً بيننا في هيئةِ أجسادٍ جديدةٍ ليس لهُ إلاّ أن يكونَ أكثرَ الأشياءِ إضاءةً لمساراتِ حيواتِهم. فمَلامِحُهُم الماضويَّةُ تلكَ وردودُ أفعالِهم السّالفة تجاه ظروفهم هي، في الحقِّ، ذاتُ سببِ قُدراتهم الحاضرةِ وميولهم الفطريّة الحاليّة أو، فلنقُلْ، هي ذاتُ سببِ ميلادِ مواهبهم، ملَكَاتِهِم وقُواهم الحاضرةْ.
ليس ثمةُ طريقةٍ أخرى أكثرَ نفعاً من هذه في طبعِ عقلِ الإنسانِ بالحاجةِ لِتعلُّمِ درسٍ قيِّمٍ عن نفسِهِ، في حياتِهِ الحاضرة وميولهم الفطريَّة الحاليَّة أو، فلنقُلْ، هي ذاتُ سببِ ميلادِ مواهبهم، مَلَكَاتِهِمْ وقُواهم الحاضرةْ.
ليس ثمةُ طريقةٍ أخرى أكثرَ نفعاً من هذه في طبعِ عقلِ الإنسانِ بالحاجةِ لتعلّمِ درسٍ قَيِّمٍ عن نفسِهِ، في حياتِهِ الحاضرة، ما دامتْ هُنالِكَ فُرصةٌ لذلكْ.
في الواقعِ إنّ من يصيرُ "رائياً"- بالمعنى الذي أوردنا- يشهدُ، بجلاءٍ نافذٍ، كيف أنَّ كلَّ كلمةٍ، فكرةٍ (خاطرةٍ) وفعلٍ تصوغُ عينَ مستقبلِ الفردِ الإنسانيِّ فشأنُهُ، حينذاكَ، يكونُ كشأنِ ناسجٍ لسُلّمِ حبالٍ، لأرجُوحةِ حِبالٍ ستعبُرُ بهِ، في النِّهايةِ، فوقَ المحيطاتِ الجّائشةِ لهذهِ الحياةِ، إلى برِّ أمانِ اليابسةْ. لا أحدٌ ممّنْ مرُّوا منَّا بظروفٍ مُشابِهَةٍ لظروفِ هذا الرّائي-النّاسج قد يُغَامِرُ- إذاً- بلحظةِ غفلةٍ أخرى في نَسْجِهِ.
3
بحسب تجربة د. ستيفينسون فإنّ متوسّط العمر الذي تبدأ فيه ذكرياتُ الحياةِ الماضيةِ في البروزِ في مقدّمةِ واعيةِ طفلٍ ما يمتدُّ بين سنتين ونصف وخمسة سنين. وفي عددٍ من الحالاتِ تبدأ هاتيكَ الذّكريات في التّلاشي عند بلوغ الطّفلِ إيّاه حوالي السادسة من عمرهِ فما فوق. رُغمَ ذلكَ فإنّ سجِلاتَهُ قد احتوتْ على حالاتِ أطفالٍ في العاشرةش من أعمارهم، وأكبرَ من ذلكَ، كانوا، حينما أجرى لقاءاته معهم، محتفظينَ بذكرياتٍ عن حياتهم السابقة على كوكب الأرض. وشاهدنا على ذلك أنّه، بين آلافِ الحالاتِ التي تقصّاها د. ستيفينسون، وجُدتْ الذكريات تلك باقيةٌ في واعياتِ صبيانٍ وبناتٍ بلغوا حتّى ما بينَ السادسة عشر والثامنة عشر من أعمارهم.
ينبغي ألا تغيبُ عن مرآنا حقيقةُ أنَّ الحياةَ فيضٌ مُتّصلٌ من ديمومةٍ شعوريّة. فقط فيها يختلفُ، أو يفترقُ، "البُعدُ" الذي يشتغلُ عليهِ الشِّعورُ، إذ أنّ ذاكَ البُعدِ هو "ناقلُ" النّفسِ من مدى تركيزٍ رُوحيٍّ إلى مدى تركيزٍ أثيريٍّ، فمادّيٍّ. ثم هو، أيضاً، المُعيدُ لها، مرّةً أخرى، على دربِ الرُّجْعَىْ إلى هناكْ.
قد يكونُ من الأوفقِ لنا هنا أن نورد المزيدَ من الحالاتِ التي عرضها علينا د. ستيفينسون. ذلكَ حتّى نستبينُ إشارةً تدلّنا على المسالكِ الماضويّةِ التي يتَّخذُ بها ما يتبدّى، عادةً، في الرّوحِ، من أهليّاتٍ سبيلاً إلى الرّوحِ في آنِ أوبتِها إلى العالمِ المادّيِّ (الدّنيا). هذا شيءٌ ليس بالغريبِ أو المفاجئ. فالرّوحُ هي جِماعُ التذركيبِ الخاصِّ بها الذي حازتْ عليهِ، تدريجيّاً، خلال حيواتها المتلاحقة. وعاداتُ الرّوحِ الفكريّةُ والشّعوريّةُ- كما أسلفنا- هي التي "نسجتْ" الرّوحَ على منوالها. إذاً فمن المتوقّعِ للرّوحِ أن تنطوي، عند ظهورها اللاحق على وجهِ الأرضِ، على ميولٍ فطريّةٍ موروثةْ.
أنا قد توصّلتُ إلى عاملٍ آخرٍ له علاقة بما سبق ستُوضّحهُ الحالة التي سأتحدّثُ عنها بعدَ قليل.
لأننا صرنا إلى ما نحنُ عليهِ الآنَ بسببِ عاداتنا العريقة في التفكير والشعور فإننا خليقون بأن نُعدَّ الصّائغينَ لأجسادنا ومظاهرنا الخارجية، تماماً كما وخواص عقولنا وشخصياتنا. ربّما نستدعي هنا القاعدة القاضية بأنّنا نولدُ لوالدين وفي عائلة أو عرق ذوي انسجامٍ واضحٍ جداً مع مُركّباتِ طاقاتِنا الخاصّة ممّا لا يُبقِيْ لنا شيئاً نرثُهُ من والدينا سوى الصفات والعوامل الفيزيائيّة. فنحنُ، مُسبقاً ووفقاً للمماثلةِ الظاهرةِ بين شُحناتِ طاقاتنا وطاقاتهم، نُشبهُهُمْ. أمّا ملكاتُنا العميقةُ فتنتمي إلينا وحدنا.
هذا يُظهِرُنا على أنّهُ ليسَ من المُدهشِ أن نجدَ أنفُسَنَا، حياةً إثرَ حياةٍ، نعودُ إلى أجسادٍ موائمةٍ لنا ومُعبّرةٍ عن مُكوّناتنا، مُطوّرينَ، بذلكَ، إطاراً فيزيائيّاً وملامحاً هي، عادةً، مُشابهةً لملامحِ آخرِ هيئةٍ اتّخذتها أرواحنا على ظهرِ البسيطةْ.
دوماً تحتوي الهيئاتُ الجديدةُ لأرواحنا (أجسادنا الحاضرة) على شحناتِ طاقةٍ هي ألبابُ كينوناتها الباطنة وصائناتُ وجودها. وبما أنّ سُلّمَ التّطوّرِ الطبيعيِّ ليس مفاجئاً وحادّاً في اختلافاتِ هيئتِهِ ووُسعِهِ الشّعوريِّ، بل هو تدريجيّاً وطفيفَ التَّغيّرِ فإنّ الرّوحَ الآيبةَ تكونُ لها ملامحٌ شبيهةٌ بملامحها وخطوطِ وجهها التي كانت لها في آخرِ تجسّدٍ على الأرضِ وإن اختلفَتْ سُلالاتُها البشريّةْ.
يردُ على خاطري، في هذا السبيلِ، شيءٌ عن رجلٍ إنجليزيٍّ عرفتُهُ. فذلك الرّجلُ قد شعرَ، رُغمَ أنَّ كلّض سابقيهِ من أهلِهِ كانوا انجليزاً، بقرابةٍ شديدةٍ للصّينيّين الأقحاح (أو من لا يقطنون إلا في الضّواحي الصّينيّة في المُدنِ الكبرى). ثم إنّهُ، من بعدِ هذا، وجد إتقان تعلّم اللغة الصينيّة شيئاً سهلاً جداً بالنسبةِ إليهِ. من الواضحِ أنّ ذاكَ الرّجلَ قد كان صينيّاً منذُ قرنٍ مضى أو ما قاربَ ذلكْ.
الحالةُ الثانيةُ التي تقصّاها د. ستيفينسون تُظهِرُنَا ليس فحسب على كيفَ أنّ تفاصيلَ كثيرةً من حياةٍ ماضيةٍ قد استُدعِيَتْ للإندغامِ في حياةٍ جديدةٍ لروحِ ما، بل- أغربَ وأبعدَ من ذلكَ- على كيفَ أنَّ الرُّوحَ العائدةَ تلكَ قد احتفظتْ بذاتِ ملامحِ ملامحِ جسدها السابقِ وبدتْ، على نحوٍ ملحوظٍ، شبيهةً بالإنسانِ الذي كانتْهُ من قبل (هذا الأمرُ قد عُلّقَ عليهِ أيضاً في حالةِ وِيجاراتنِي- أنظر الفصل الثالث). تلك هي حالة ماريا أوليفيرو.
وُلِدَتْ ماريا أوليفيرُوا في عام 1890 لأبٍ ميسورِ الحالِ كان يملُكُ مزرعة حيواناتٍ في البرازيلْ. "كانتْ سِنْهَا، إذا استخدمنا الإسم الذي كثيراً ما عُرِفَتْ بهِ، تحبُّ الحياةَ الريفيّةَ في أرضِ أبيها التي ترعرعتْ على ثُراها. مع ذلكَ يبدو أنّها قد عانتْ من الوحدة في موطنها المعزول نوعاً ما. كانتْ سِنْهَا كثيراً ما تزورُ قرية دون فيليسيانو وتستأنسُ هناكَ بصداقةِ إدَا لورنس، زوجة ف. ف. لورينس، معلّم مدرسة تلك الضّاحية. وقعتْ سِنْهَا في الحبِّ مرّتين مع رجلين لم يرضَ عنهما أبوها. أحدُ هذين الرجلين انتحر. وفي الحالةِ الثانيةِ من هاتينَ الحالتين المُحبِطتين وقعتْ سِنْهَا صريعةً لحالةٍ من الكآبةِ فأهملتْ نفسها وخرجتْ في الجوّ الباردِ الرّطبِ دونَ دِثارٍ كافٍ مما سبّب لها عدوى مرضيّة حادّة في رئتيها وحنجرتها. قد عانتْ، خصوصاً، من وجعِ حلقٍ. شُخِّصَ المرضُ على أنّهُ درنٌ رئويْ. وبعدَ شهورٍ قليلةٍ من إصابتِها بهِ تُوفّيَتْ. عندَ فراشِ موتِها أسرّتْ لإدا لورنس بأنّها كانتْ قد أ رادتْ الموتَ فعمدتْ إلى أن تُصيبَ نفسها بالعدوى. ثم وعدتْ، من بعدِ ذلكَ، صديقتها الحميمة بأنها ستعود إلى الدنيا، مرةً أخرى، في شخصِ إبنتِها. وبخلافِ ذلكَ تنبّأتْ سِنْهَا لصديقتِها ببضعةِ أشياءٍ فقالتْ لها:- "حينَ يُعادُ ميلادي وأبلُغُ من العمرِ سنّاً يسمحُ لي بالكلامِ عن سرِّ إعادةِ ميلادي في جسدِ الفتاةِ الصغيرةِ التي سوف تكون إبنتك سوف أقصّ عليكِ أشياءَ عديدة حدثتْ في حياتي الحاضرة ولسوف تتعرّفينَ، في ما سأقول، على الحقيقة"..."
ماتتْ سِنْهَا- كما تُخبرُنا روايةُ د. ستيفينسون السالفة- في أكتوبر 1917 وفي اليومِ التّالي لذلكَ الذي أدلتْ فيهِ لصديقتِها بهذا التّصريحِ الفريد. كان عمرُها، عندَ الوفاةِ، ثمانيةَ وعشرينَ عاماً.
"بعدَ عشرةِ أشهُرٍ من ذلكَ وُلدتْ إدا لورينس طفلةً سمّتها مارتا. حينما بلغتْ مارتا السنتين والنّصف من عمرها بدأتْ تتحدّثُ عن أحداثٍ في حياةِ سِنْهَا. ذكرتْ ملاحظتها الاولى عن هذا الموضوع لأختها الكبرى لُولا فقالتْ:- "لُولا، إحْمِلِيْنِيْ على ظهرِكْ". ردّت أختها، التي لم تكنْ (شأنُها في ذلكَ شأنُ كلِّ أطفالِ عائلةِ لورينس وجيرانهم) تعلمُ شيئاً عن وعدِ الفتاةِ الراحلةِ بالعودةِ، عليها فقالتْ:- "تستطيعين أن تمشي بصورةٍ مرضيّةْ. لا أحتاج إلى أن أحملك". على هذا ردّتْ مارتا بقولها:- "حينما كنتُ كبيرةً وأنتِ كُنتِ صغيرةً درجتُ كثيراً على حملِكْ". "متى كنتِ كبيرة؟" سألتها لُولا ضاحكةً. أجابتْ الطّفلةُ الصغيرة:- "في ذلك الوقت لم أعشْ هنا. فلقد عشتُ بعيداً عن هذا المكان وحيثُ كانتْ هنالكَ أبقارٌ وثيرانٌ كثيرةٌ وبُرتقالٌ وفيرْ. هنالكَ أيضاً كانتْ تُوجد حيواناتٌ شبيهةٌ بالماعز، لكنّها لم تكنْ ماعزاً (عَنِيَتْ بأولئكَ "الخُرفان"، لكنّها ما كانتْ تعرفُ تلكَ الكلمة)"...... "وعندما أخبرت الأمُّ طفلتها بأنّها ما عاشتْ مُطلقَاً حيثُ ذكرتْ أنّها قد عاشتْ أجابتَها الطّفلة:- "بلى، لكنّني، في هاتيكَ الأيّامِ، كان لي والدين آخرين"..."... "ثمّ سألتها إحدى إخواتها مازحةً عمّا إذا كانَ لديها، آنذاكَ، خادمةٌ زنجيّةٌ صغيرةٌ كما هم لديهم الآن. أجابتْها مارتا:- "لا. فخادمتُنا الزّنجيّةُ كانَتْ، في ذلكَ الأوان، كبيرةً، وكذلكَ كان الطّبّاخُ، لكن كان لدينا صبيٌّ زنجيٌّ صغيرٌ نسيَ، ذاتَ يومٍ، أن يجلبَ الماءَ فضربَهُ أبي". عندَ سماعِ ذلكَ قال أبُ مارتا إنّه لم يضرب صبيّاً زنجيّاً مطلقاً في حياتِهِ. ردّتْ عليهِ مارتا بقولِها:- "إنَّ من ضربَهُ هو أبي الآخر. ولقد صاح الصبيُّ الزّنجيُّ، حينذاكَ، مُتشكّيَاً إليَّ:- ساعِدِيْنِيْ يا سِنْهَا زِنْدَا!"
ثم سأل الأب مارتا إن كان ذلك الصّبيُّ قد جلبَ الماءَ من النّهرِ (مثلما كانت عائلتهم تفعل آنذاك). أجابت الطفلة الصغيرة أنّ الماءَ، في ذلك المكان، كانَ يُسْتَجلبُ من بئرٍ لأنّه ليس من ثمةِ نهرٍ هناك. ولقد كان ما ذكرتْهُ صحيحاً. سألها الأب، من بعدِ ذلك:- "من هي "سِنْهَا"، أو "سِنْهَا زِنْدَا" هذه؟" أجابتْهُ مارتا:- "تلكَ هي أنا. بيدَ أنّني كنتُ أُدْعَىْ أيضاً بإسمين آخرين أحدهما هو ماريا والآخرُ لا أستطيعُ تذكّرَهُ الآن".
إستخلصَ السيّدُ لورينس- كما جاء في روايةِ د. ستيفينسون- معلومات عديدة ملأتْ قائمةً بمائةٍ وعشرينَ تفصيلاً عن حياةِ مارتا السّالفة في "هيئةِ" سِنْهَا تطوّعتْ مارتا بإبلاغِها إيّاه. ثم تحدّث د. ستيفينسون حول ذلكَ الأمر مع مارتا في عام 2619. قالتْ، حينذاكَ، أنّ الكثيرَ مما علمتْهُ عن ذاكَ الموضوع قد تلاشى الآنَ عن واعيتِها، لكنّها ما فتئتْ متذكِّرةً، بوضوحٍ عظيمٍ، مشهدها حينما كانتْ (في شخصِ سِنْهَا) على فراشِ الموتْ. فهي- كما قالتْ- كثيراً ما شعرتْ، أثناءَ حياتِها كطفلةٍ صغيرةٍ إسمها مارتا، بذاتِ ألمِ الحُنجرةِ الذي أودى، في النّهايةِ، بحياةِ سِنْهَا، لكنّ ذلكَ كلّهُ بَهُتَ في ذاكرتِها مع تقدّمها في السّنْ.
علّقَ بعضُ المراقبين الذين عرفوا سِنْهَا ومارتا معاً على الشّبهِ الشّديدِ لخطّي يديهما. كما وأنّ هنالكَ أيضاً ملاحظاتٌ أوردها بعضُ أولئكَ حول المُماثلاتِ، في المظهرِ الفيزيائيِّ، بين الإمرأتين. فحينما بلغتْ مارتا التّاسعة عشرةَ من عمرها لمحَتْهَا إمرأةٌ زِنجيَّةٌ عجوزٌ وتعجّبَتْ من شَبَهِها الشّديدِ بِسِنْهَا. كانت تلك الزّنجيّةُ سَرِيَّةً وخادمةً سابقةً لأبِ سِنْهَا.
ما كان إيرادِي لهذهِ الحالةِ هُنا إلاّ لأنّها تُبدِيْ لنا كيفَ أنَّ الرُّوحَ الآيبَةَ (في صورةِ جسدٍ جديدٍ) كثيراً ما تكونُ واضحةَ الشّبهِ، في هيئتِها الفيزيائيّة (في وجهِهَا وخِلافِهِ)، لما كانتْ عليهِ قبلاً وهي في هيئةِ جسَدِهَا السّابِقْ.
آنما أتدبّرُ هذا أنكمشُ عندَ التفكيرِ في ما نحنُ- الكائناتُ الإنسانيّةُ- فاعِلِيْهِ بحيَواتِنَا، بأسلافِنَا. نحنُ، حاضراً، المخلوقاتُ التي كنّاها وقد طُوّعَتْ، سُوِّيَتْ أو وُوزِنَتْ، ثمّ بُدِّلَتْ إلى نوعٍ أعلى من الحيوان (رُغمَ أنّهُ ربّما لا يزالُ، في درجتِهِ الصّاعدةِ على السُّلّمِ المرتقي نحو الكمال، عند منتصف الطّريقْ). لكِنَّا، مع أو رُغمَ ذلكَ، قادرينَ، في المُنتَهَى، على استشرافِ آمادٍ أرفعَ من الإدراكِ الرّوحيِّ وتشريبها فينا.
في أثناءِ حياتنا نحنُ نستجمع، في أنفسنا، الصّفات الألوهيّةْ. وطاقاتُ هاتيكَ هي ما يصوغُ هيئاتنا الخارجيّة، كما ومَلَكَاتنا الداخليّة وميولنا الفطريّةْ. نحنُ مثّالُو أنفُسِنَا.
خُذْ القِطْ، مثلاً.
ما الذي أعطاهُ، تساءلتُ، ذينَكْ الأذنينْ ذاتَي الحوافِّ الشوكيّةِ، ذينكْ العينين الحادّتَي التّركيز، تلك القدرة على الرؤيةِ في الظّلامِ، تلكَ الوثبة الصّاعقةْ؟....... هل "الإلهُ" هو الذي، كما اتُّفِقَ وعلى هواه، مثَّلَهُ هكذا؟
لا، أتت الإجابةُ، إنّهُ قد "جَعَلَ نفسَهُ" هكذا مستعملاً، في ذلكَ، على صورةٍ خلاّقةٍ، الجّواهرَ النَّموذجيّةَ العُليا التي تفيضُ على الكونِ فإذْ هو يتطوّرُ، عبرَ آلافِ السّنينِ، يَستدعِيْ إليهِ، بمغناطيسيّةٍ جاذبةٍ، هاتيكَ الأحياز من الطّاقةِ الواردةِ إليهِ من "العالمِ الماورائيِّ الخَفِيِّ" والتي هو، وفقاً لضروراتِ عيشِهِ، قد احتاج منها إلى "مُهدّداتٍ" [تحدّياتٍ- المترجم] في سبيلِ بقائهِ. فلكي يُحافظُ- ذاكَ القطُّ- على حياتِهِ ينبغي عليهِ أن يستمسِكَ بيقظةٍ قُصوى، بوعيٍ حادٍّ ببيئتِهِ، وبقُدرةٍ صاعقةٍ على الوثبِ سعياً وراءَ طعامٍ أو نجاةٍ من هجومْ.
نحنُ نقولُ إنّ الأذنينَ قد "جُعِلَتَا" له لتُعْطَيَانَهُ هذه اليقظة أو ذاكَ الإنتِباهْ.
القطُّ هو الذي "أنشأَ عينيهِ الخاصّتينْ". ثمّ أنّهُ، عبر العصور، هو الذي صاغَ ذاتَهُ في كلّ تفصيلٍ، مُستعملاً، في ذلكَ، قوى إبداعِهِ الخاصّةِ، الرُّوح الحيّة المُفكّرة القائمة في دخيلَتِهِ. هذا صحيحٌ في حقِّ جِمَاعِ المخلُوقاتْ.
عبرَ الدِّهُورِ استخدمَ أفرادُ كلِّ جنسٍ حيٍّ، بصورةٍ خلاّقةٍ، قدرتهم على أن يُوطّنُوا في سرائرِ أنفُسِهِم، من بين الطّاقاتِ الإلهيّةِ الخلاّقةِ، تلكَ القُوى، الأشكالَ والمَلَكَاتِ التي هي ضروريّة للمحافظةِ على بقائهم أحياءاً.
قد نقُولُ:- "إنَّ اللهَ قد وهبنا القُدرةَ على تكوينِ أنفُسِنَا [هذا يُذكِّرُنِي بالآيةِ القُرآنيّةِ الكريمةْ:- "أعطَىْ كلَّ شيءٍ خَلْقَهُ، ثمّ هدى"- المترجم]. هذا يتبدّى على أنّهُ المبدأ الأساسيُّ للخَلْقْ. فنحنُ- تِبعَاً لهُ- نستدعي (أو نجذبُ) إلى أنفُسِنَا النّماذجَ الملائكيّةَ العُليا للجّوهرِ الأصليِّ حتّى نُزِيْدُ دَفْقَ الحياةِ الذي فينَا.
2
شخصيّةُ الإنسانِ، إذاً، هي مُركّبٌ من كلّ ما كانهُ في ماضيهِ الطّويل. "نحنُ" جِمَاعُ تاريخِنا العريق الطّويلْ. وهذا يُوضّحُ الفرقَ بيننا، أنا وأنتَ، قبيلةٍ وقبيلةٍ أخرى، عِرقٍ وعِرقٍ آخرٍ. ماضينا "مصبُوغٌ" في "صُوفِ" ذواتِنَا. إنّه المنبعُ الرئيس لأفعالنا الحاضرة. إنّهُ ملفوفٌ حول سويداءِ رُوحنا كاسطُوانَةِ فلمٍ حاكيةٍ لكلِّ ما كُنّاهُ.
أنا قد توصّلتُ إلى رؤيةِ أنَّ أحدَ العواملِ الأساسيّةِ في تطوّرِ جميعِ المخلوقاتِ الحيّةِ هو عُنصُرُ الحبِّ المُرَوْحَنِ، المُشَفَّفْ. في الحيواناتِ قد نشهدُ ذاكَ العُنصُر في عنايةِ الكائنِ الغريزيّةِ بيَافِعِيْهِ، في وهبِهِ حياةً مُفْعَمَةً بالعاطفةِ (بالشّعورِ) لأليفِهِ وما وَلَدْ. وفي الكائنِ الإنسانيِّ قد نشهدُهُ في العاطفةِ العميقةِ التي يكنّها رجُلٌ وامرأةٌ بعينهما تجاه أحدهما الآخر، في الحبِّ المُضحِّي بالذّاتِ الذي هو من خَلْقِ الأرواحِ السّاميَة، أو في مدارِجِ الحبّ المُتعالِي لله. الحبُّ يشتغلُ على مستوىً شفّافْ، وإنّنا إنّما على مدارجِ ماضٍ من شعورالتٍ نفسيّةٍ ورُوحيّةٍ بُدائيّةٍ تَصْعُدُ، تدريجيّاً، سُلّمَ الحياةْ. الحبُّ، في أصفى أشكالِهِ وأكثَرَها تجرّدَاً من "الأنا"، يرتحلُ بالإنسانِ إلى مراقِيَ الرُّوحِ العُلَىْ.
لقد أُطلِعْتُ على كيفَ أنَّ الحبَّ يفتحُ المراكزَ الرّوحيّةَ في الرّجالِ والنّساءِ، مما يجعلُهُم يتناغمونَ والذّبذباتُ الرّوحيّةُ الأسمىْ للحبِّ الإلهيِّ فتنسربُ هاتيكَ إلى بواطنِهِمْ. الشّبيهُ يُناغِمُ ذاتَهُ والشّبيهْ. عليهِ فالحُبُّ، في أكملِ هيئاتِهِ، هو دعوةٌ للنّفسِ للإنسجامِ مع المجالي الرّوحيّة الرَّفيعةْ.
إنّ قانون العِلّة والمعلول (المؤثّر والأثر) هو أحد العوامل الحيويّة التي تُحفّزُ النموَّ والتّطوّرَ في كلٍّ منّا. في الشّرقِ يُعرَفُ هذا القانون بقانون "الكَارْمَا". إنّه قانون "الفضل واللاّ فضل" الذي تمّ وصفُهُ في الأناجيلِ المسيحيّة:- "إنّكَ تحصدُ ما أنتَ غارسُهُ". معظم الدّيانات الأخرى تُعلِّمُ مُتّبعيها نفس التّعليم، في عباراتٍ شديدة التّماثُل مع هذهِ. مُوازي مبدأ "الفعل وردّ الفعل" هذا يُمكنُ أن يُستبَانَ في قوانينِ العالمِ الفيزيائيْ. فالطّاقةُ، في ذاكَ العالم، لابدَّ لها أن تستوي على حالةِ توازُنٍ أو تُناثِرُ نفسَهَا هباءاً. عليهِ فإنَّ أيَّ فعلٍ هناكَ لهُ ردّ فعلٍ يظلُّ قائمَاً حتّى ينتهي إلى التّوازُنِ بين الطّرفينِ في وضعيّةٍ مُتعادلةِ الإستواءْ.
قوانينُ الرّوح تشتغلُ على ذاتِ المبدأ. فشحنةُ طاقةِ الفِكرِ المُركّبةِ، آنَ إطلاقها من "بُندقيّةِ" الشّعورِ، تفعلُ فِعلَ الزّانةْ. فأيُّ شُحنةِ طاقةٍ أُطلِقَتْ من مُرْسِلٍ ما تُجْذَبُ، لشبهها بطاقاتِهِ، مِغناطيسيّاً على دربِ العودةِ إليهِ.
هذا هو السّببُ في معاناةِ ومسرّاتِ الإنسانْ. فأيُّ فكرةٍ (خاطرةٍ) ضاغنةٍ أو حاقدةٍ يتهيّؤُها فكرُ (خاطرُ) إنسانٍ ما هيَ، على ضُوءِ كونِ الفِكْرِ هو طاقة الكون الخلاّقة، مسارٌ صاعدٌ قِوامُهُ نوعٌ من الطَّاقةِ المُتلَبِّكَةِ الباديةِ، لمن هم قادرونَ على أن يَنفَذُوا برؤيتِهِمْ إلى المستوياتِ الباطنةِ، كرُصاصةٍ منفلتةٍ بسرعةٍ عظيمةْ. هذا المساءُ سيبلُغُ، بالفعلِ، هدفَهُ إن رُكِّزَتْ، بقُوّةٍ، طاقتُهُ الدَّافعةُ، ومن ثمَّ سيُوقعُ الأذى بالمُستهدَفِ إن لم يكُنْ ذاكَ الأخيرُ داريَاً بفنِّ الوِقايةِ الذّاتيّةْ.
برهنَ الغاطسونَ في أعماقِ المياهِ انطباقَ ما نقولُ على الحيواناتْ. فهم قد وجدوا أنّهم إن لم يستمسِكُوا، في خواطرهم، بأيِّ شعورِ خوفٍ أو عدائيّةٍ حينما تمرُّ أسماكُ القِرْشِ بقُربِهِمْ فلا أذىً سيلحقَهُمْ. فسمكُ القِرشِ قد طوّرَ في نفسِهِ- عبرَ الخوفِ والحاجةِ إلى الحمايةْ- مَلَكاتٍ حسّاسةً بوُسعِهَا التقاطِ رجعِ صدى الخوفِ والعدائيّةِ في نفوسِ اعدائِهِ وبالتّالي الشّروع، حالاً، في مهاجمتهمْ.
هذا يشهدُ على أنّ تحرّرنا من أيّ شعورٍ بالخوفِ ومن أيِّ مقاصدِ اغتيالٍ سيكفُّ عنّا شراسةَ آكلِ الإنسان، ذاك الفاتكُ، فيبتعدُ عنّا. ليس كافياً، في هذه الحالةِ، ألاّ نُبْدِيْ نيّةً للقتلِ، إذ ينبغي علينا الإمتناع حتّى عن مجرّد "الشّعورِ" بها. وكما أنّ سَمَكَ القِرْشِ سيُحسُّ أيَّ رجعِ صدىً من الخوفِ الإنسانيِّ (أو الحيوانيِّ) عبرَ جهاز استقباله الحسّاس، كذلكَ تحسُّ ذاتَ الشيءِ مخلوقاتُ الغابةْ. من يعيشون في الأدغالِ أو البراري لهم- بتأهيلٍِ من قرابتهم من أسلافهم الحيوانيّين- معرفةٌ أعمقَ بهاتيكَ الأشياء منّا نحنُ الذين طمسنا فينا مَلَكَاتَنَا الغريزيّة بسببِ إهمالنا استعمالها. فنحنُ- الحضريّون- قد شذّبنا ذهنيّتنا (واعيتنا)، لكنّنا فقدنا- بالكاد- جهاز استشعارنا الغريزيْ.
بِواسطةِ شُغلِ "الكارما" يُسفِرُ الأذى، بالفِكرِ أو بسلاحٍ مادّيٍّ، الذي ألحقَهُ فاعلٌ ما بمخلوقٍ رفيقٍ لهُ في الكونِ، عن خللٍ معيّنٍ في "نسجِ" طاقتِهِ الدَّاخليّ الخاصْ. هذا الخللُ ينبغي لهُ أن يُعدَّلَ ذاتَ حينٍ، وإلاّ فالإنسان الذي مسّهُ سينحدرُ أسفلاً في مُدرّجِ التّطَوّرْ. ثمّ سيُخلّفُ هذا اللا توازن فيهِ ضعفاً في طاقاتِ نفسِهِ الباطنةِ يجعلهُ هدفاً شديد السّهولة لمنالِ "جُرْحٍ" شبيهٍ بذلكَ الذي أنالَهُ رفيقَهُ في الخليقةْ. عاجلاً، أو آجلاً، هو سيتلقّى لطمةً، فيزيائيّةً أو سايكولوجيّةً، تنزلُ عليهِ بطريقةٍ هي، على نحوٍ ما، ذاتُ الطّريقةِ التي أنزلَ بها أذاهُ على شريكهِ في الوجودْ. وهذا وحدُهُ سيُعدّلُ مُركّبَ طاقتِهِ. فتماماً كما أنَّ ضربَةَ الحدّادِ على إزميلِهِ تُطرِّقُ الحديدَ المُحَمَّى، كذلكَ فقط الألم يستطيعُ "تَرْوِيْقَ" ما "اخْتَلَّ" في النَّفسِ والرُّوحْ... تلكَ هي رحمةُ، حكمةُ وعدلُ السّبيلِ الإلهِيْ. فحمأ المعاناة يُعدّلُ "الإختلالَ" في طاقاتِ مُسِييْءِ السّلوكِ، وإلا أصبحنا مجرّدَ دُمَىً إن كان الأمرُ خلافَ ذلكَ.
إنّ إشعاعَ رُوحنا لهو وقايةٌ مُعادلةٌ، في قوّتها، للقوّة المغناطيسيّةِ التي أطلقتْهُ. فالبطلُ الذي يمرُّ، غيرَ مخدُوشٍ، عبرَ غِمارِ المعركةِ، يكونُ قد حقّقَ لنفسِهِ حمايةً طبيعيّةً خلالَ عينِ الإنثِيَالِ الخارجيِّ لقوّةِ إشعاعِهِ الرّوحيِّ الخاصّةْ- أو "هالتِهِ". فتلكَ هي تِرْسٌ مُحيطٌ بهِ سوفَ يُبقِيْهِ سالماً في كلِّ ظرفٍ أو حالْ. ذلكَ لأنّها تصرفُ بعيداً عنهُ نِبالَ وسهامَ سوءِ النّصيبِ، أو هيَ، كما جاءَ في المزامير:- "ألفٌ [من هاتيكَ النّبالِ والسّهامِ] ستسقُطُ بجانبِهِ، وعشرةُ آلافٍ ناحية يده اليُمنى، لكنّها سوفَ لا تَقْرَبُهُ".
الإنسانُ الذي هو، دوماً، قد جرحَ الآخرينَ، في خاطرِهِ أو في فِعلِهِ العنيفِ، قد أوهَنَ حصنَ وقايتِهِ الخاص لمدىً يتيحُ للهجومِ ضدّهُ أن يجدَ لهُ شروخاً في دِرعِهِ. إنّه يغدو جريحاً- في الجّسّدِ أو في النّفسِ- مثلما قد جرح آخرين- في الجّسَدِ أو في النّفْسْ؛ إنّه يصيرُ مَنَالاً للحادثَاتِ، أو هو يُؤْذَىْ بالكلماتِ، أو بالخاطرِ، كما آذىْ آخرينْ. هذا ليس قانوناً للعقوباتِ، لكنّه قانونٌ علميٌّ للفعلِ وردِّ الفِعلِ، قانونٌ للتّوازُنْ. وهو أيضاً القانون الذي، عبرَ المعاناةِ، يُورِدُ الإنسانَ مواردَ الكمالْ. فبِهِ غِلظةُ الأخطاءِ (التّشوُّهاتِ) في تكوينِ الإنسانِ تُخَفَّفُ وتُلَطَّفُ حتّى يُبَدَّلُ جِمَاعُهُ إلى رُوحٍ مَحْضْ.
3
الذي يخطرُ للشّعُورِ، للرّوحِ يُصيرُهُ الجّسَدْ. فإن أُنفِذَ سهمٌ، في أيّامٍ ماضيةٍ، في عضوٍ حيويٍّ من جسدِ إنسانٍ ما وسبّب له ذلك ألماً عظيماً فإن طاقته الرّوحيّة تُصيرُ منطبعةً، بعمقٍ، بوعيِ ذاكَ الألمْ. قد يكونُ ما حدثَ أنَّ عُضواً من جسدِ الإنسانِ إيّاهُ قد اختُرِقَ بسنِّ السّهمِ وأنّهُ ما كان قادراً على تخليص نفسه من "أثَرِ" ذاكَ الإختراقْ (حتّى وإن شُفِيَ منهُ في ظاهرِ جسدهِ). هذا "الأثرُ"، مع توالي الزّمانِ، قد يُودي بهِ إلى الموتْ. وهو، كذلكَ، قد يبقى، في البُعدِ التّالي لوجودهِ، فيهِ على هيئةِ صيغةٍ قَهْرِيَّةٍ موسومةٍ في طاقته الشعوريّة (العقليّة) أو في "ذاكرةِ" سُوءِ النّصيبِ الذي أدركهُ.
قد شُرِحَ لي أنّ المَوَاهِنَ الفيزيائيّةَ والتّشوّهات التّكوينيّة، تماماً كالعُصاباتِ النّفسيّةِ، كثيراً يكونُ لها أصلٌ في المغامراتِ الفاشلةِ لحَيَواتٍ ماضيةْ. فالمخاوفُ الباطنةُ والإضطّراباتُ النفسيّةُ اللا مُفسّرة- حسب هذه الرؤية- لها، في عديدٍ من الأحوالِ، جذورٌ في متاعبِ الماضي البعيدِ- الماضي السّابقِ، سبقَاً بعيداً، لفترةِ ما قبل ميلاد الإنسان الفردْ.
يبدو أنّه حيثُ ثُبّتَ الحادثُ، باستمساكٍ صلبٍ، أو بإحساسٍ من الأسى العميق، في العقلِ والذّاكرة، يُقيمُ الجّرحُ، فيزيائيّاً كان أم عاطفيّاً، في داخلِ صيغةِ طاقةِ النّفسِ الباطنةِ ويغدو قديراً على مُناثرةِ آثاره السيّئة (المَرَضِيّة) في التّناسُجِ الحياتيِّ التّالي لها.
إن صارَ هذا مُنطبعاً، بقوّةٍ، في طاقاتِ الرّوحِ فمن المُقدّرِ أنّ الإنسانَ الذي منهُ سوف تثولدُ، ثانيةً، في وقتٍ لاحقٍ لها، بذاكرةٍ تحتِ-واعيةٍ عن الألمِ "مُشفَّرَةً" في العضو المُصابْ. سيكونُ هنالكَ "مغصٌ روحيٌّ" في الجّواهرِ "يُفقِرُ" ذاكَ الجّزءَ من الجّسدِ، أومستوىً روحيّاً ما من الإنسانِ الفردِ، ويُسبّبُ وهناً بادياً. مع مُضيِّ الزّمانِ قد يبدأ الفرد المعنيُّ في الشعورِ بأنَّ وهنَهُ ذاكَ يتدهورُ إلى تشوّهٍ في العضوِ العليلِ أو إلى أيِّ خللٍ آخرْ. كثيراً ما لا يظهر الوهنُ إيّاهُ في الفرد-الطّفلْ. ذلكَ لأنّ كليّةَ الرّوحِ لم تتغلغل، بعد، في جسده النّاميْ. لكنّه حينما يبلغُ سنَّ الرّشدِ ويسكُنُ كاملُ مُركّبِ طاقةِ الرّوحِ في جسدهِ يبدأ الوهن- الذي اعتراهُ في حياةٍ سابقةٍ- في الظّهورِ عليهِ في هيئةِ مرضٍ مُكسّحٍ. فذاكرتُهُ العميقةُ قد حملتْ صيغة الصّدمة أو المقاساة التي قاساها في قرنٍ باكرْ. والفيضُ الحرُّ للقوّةِ الحيويّةِ الذي ينسابُ في الجّسدِ الحاضرِ ويُعيشُهُ يغدو- بدلاً عن أن يُنقّيهِ، كما ينبغي لهُ، من كلِّ علّةٍ سابقةٍ- "ممسوساً" فيظهرُ- إذاً- الخللُ في الجّسدِ الحاضِرْ.
إذا تمكّنتْ الرّوحُ من أن تنفُضَ عنها كلَّ فِكرٍ عن مغامراتِها السابقة الفاشلة بدلاً عن أن تستمسكَ بهِ- رُبّما غلاًّ وانتقاميَّةً- فإنَّ الآثارَ اللاحقةَ لتلكَ المغامراتِ سوفَ تُقَلَّلُ كثيراً عند عودتها إلى التَّغرّبِ على كوكبِ الأرضْ. وهنا تكمُنُ الإجابةُ على جانبٍ من التّساؤلاتِ حول بعضِ النَّازِلات، الغامضة والظّالمة ظاهريّاً، التي تحلُّ بنا في هذه الحياةْ.
هذا ليس هو "الله المرسلُ للبلايا كي يمتحننا"، لكنّها الآثار المرتجعة عن أسبابٍ بعينِها. فإيقاعُ الأثرِ والمؤثّرِ (العلّة والمعلول) يشتغلُ في قلبِ هاتيكَ الطّاقاتِ النّفسيّةِ والرّوحيّةِ كرياضيّاتٍ عُليا ليس لنا- إلا استثنائيّاً- أن نَفُكَّ ألغازها.
يبدو أنّه حيثُ كانتْ الإصابةُ المُتلقَّاةُ لحظيّةً وحادّةً، أو مُنِيَ بها مُتلقِّيها في معركةٍ، فإنّهُ لا إضعافٌ للطّاقاتِ الباطنةِ سيبقى بعدها طويلاً. فالرّوحُ، حينها، تكونُ قد توقّعتْ حدثاً كهذا، ومن ثم استقبلتْهُ بلا ضغينةٍ ومن بابِ كونِهِ جزءَاً من المُنْتَابِ اليوميِّ لها.
لكن، في حالةِ كونِ الإنسانِ ضحيّةً لعدُوٍّ ما، وحيثُ وحيث الصدمة والمرارة صارتا منطبعتين عميقاً وقارّتين في مُركّبِ طاقتِهِ الرّوحيّةِ حتّى بعد موتِهِ، كثيراً ما يتبدّى جُرحُهُ ذاكَ، في حياتِهِ القادمةِ، على أنّهُ وهنٌ. وذلكَ يُضحِي، تدريجيّاً وعلى مدى الزّمانِ، أقلَّ ارتساماً فيهِ.
وحيثُما تكونُ الذّاتُ نفسها قد ألحقَتْ أذىً، في حياةٍ سابقةٍ، بعدوٍّ ما، فقذيفةُ "زانةِ الكارما" ترتدُّ، في حاضرها، إليها. فالإنسانُ الذي يُهاجمُ، عمداً، شخصاً لآخرَ فَيَجْرَحُهُ، أو حتّى يقتُلُهُ، يُسبّبُ في ذاتِ نفسِهِ خللاً في الطّاقاتِ الحيويّةِ المُشكّلَةِ لنفسه الباطنة. ذلكَ لأنّ داء فعل العنف يرتدُّ أَثَرُهُ على الفّاعلِ ويُشَنِّجُ شحناتِ طاقتِهِ الخاصّة ممّا يُودي به إلى التشوّه الخَلْقِيِّ أو الإعاقةِ الجسديّةِ في حياته القادمة. والعامل الكامن وراء ذلك- كما أسلفنا- هو أنّ الفعلَ إيّاهُ يُصيرُ منطبعاً بعمقٍ في مَنشَطِهِ العقليِّ (الشّعوريِّ) الخاصْ.
واعياتُنا هي صانعةُ أنفسنا وأجسادنا. والأذى الذي قد نُوقعُهُ بشخصٍ (أو كائنٍ) آخرٍ سوانا يصيرُ أذىً لنا في المستقبلْ. هذه القاعدة قد علَّمْنِيْهَا "المعلّمُ الرّوحيْ". الآنَ أستطيعُ، أخيراً، تقديم أمثلة على ما تبلُغُ، تقريباً، مرتبةَ البراهين.
لقد أعطاني عالمُ النّفسِ السّريريُّ الأمريكيُّ د. إيان ستيفينسون إذناً كريماً باقتباسِ حالاتٍ منتخبةٍ معيّنةٍ من بحوثِهِ عظيمة القيمة حول ما يزيد عن ألفِ حالةٍ لأطفالٍ يتذكّرونَ حيَوَاتهم الماضيةْ.
نحنُ- في "الغربِ"- قد نُغرى بأن نفترضَ أنّ هاتيكَ الخبرات تاتي فقط لأولئك الذين يعيشون في "الشّرق" حيث الناس لهم إلفة ومعتقد إعادة الميلاد. لكن د. ستيفينسون، في بحوثه االشموليّة وفي رحلاته حول الكرة الأرضيّة كلّها، وجد حالات كثيرة كتلكَ في أجزاءٍ أخرى من العالمْ. وقد كان من المُشوّقِ لي أن أجدَ، في غايةِ الأمرِ، من بين سجلاتِ بحوثه المتوخّية حرصاً بائناً في تقصّياتِها، حالاتٍ اشتملتْ على وصفٍ دقيقٍ للفعاليّاتِ المُعيّنةِ للقواعد التي تحكم إعادة الميلاد كما قد وُصِفَتْ لي، من قِبَلِ "المُعلّمِ الرُّوحيِّ"، عبر السّنينْ.
إحتوى ما علّمنِي إيّاه "المعلّم" على إيضاحاتٍ مُفصّلةٍ لكثيرٍ من وجوهِ قوانين العيشِ التي ما كان في الإمكانِ، حتّى حينذاكَ، إثبات حقيقتها. في البدءِ قد وجدتُ ذلكَ مُدهشاً جدّاً. ثمّ هُيّئَ لي، فيما بعد، أن أتلقّى، من "المُعَلّمِ الرّوحيِّ"، نماذجاً مُثْبِتَةً لما خصّني به من تعليم. كانتْ تلك النّماذج معنيّة بأناسٍ عرفتهم شخصيّاً، تماماً كما هي معنيّةً، أيضاً، بأشخاصٍ مشاهيرٍ بعينهم ظهروا على صفحاتِ التّاريخْ.
في بحوثِ د. ستيفينسون- كما أسلفتُ- قد التقيتُ، أخيراً، بحالاتٍ، مُقدَّمَةٍ على نحوٍ علميٍّ خالصٍ، تُوضّحُ الفعاليّاتِ الكامنةَ وراء مسيراتِ طاقاتِ الحياةِ كما أبانَها لي مُعلّمِي الرّوحيْ.
لم يزعمْ د. ستيفينسون أنّ بحوثَهُ تلكَ تُقدّمُ بُرهاناً مُطلقاً على حقيقةِ ما دَرَسَتْهُ. فالعنوانُ الحذرُ لكتابه هو عشرون حالة موحية بتناسخ الأرواح. لكن، استناداً على تجربتي الطّويلةِ مع الإرشادِ الرّوحيِّ الذي وُهِبَ لي مجّاناً، يخطُرُ لي أنّهُ ليس اتّفاقاً فحسب كون الحالات التي طرحها فيه تتوافق كليّاً وعديدٍ من العناصرِ المُوضِّحة، عبر حالاتِ أشخاصٍ ما يزالُوا أحياء، كيف أنّ قوانينَ العيشِ تلكَ تشتغلُ في مجالنا الوجوديْ.
أوّلاً، قد وجدتُ، في ذاك الكتاب الآتي من "أمريكا"، حالتين موحيتين، إيحاءاً بالغاً، بأنّ هنالكَ فعاليّةً مُثابِرَةً لطاقاتٍ عقليّةٍ (شعوريّةٍ) باطنةٍ تحكمُ عالمنا. طبعاً، الأديانُ قد دأبتْ على تعليمنا، منذُ فجرِ التّاريخِ، أنَّ "الله هو عقلٌ كُلّيٌّ"، وأنَّ "اللهَ خلاّقٌ، عليه فالوعي (العقل) أيضاً خلاّقْ"، وأنَّ "ما هو صفة الجّليل [العقل الإلهي] هو، كذلك، صفة الوضيع [العقل الإنسانيْ]. وهذا يُنبؤُنا أنَّ الإنسانَ الفرد يستخدم القوى الخلاقة المتواضعة الكائنة في عقلهِ (وعيهِ) الخاصِّ بذاتِ الطريقةِ التي يستخدم بها اللهُ الخالقُ الكُلّيُّ الجّبروت قُدراتَهُ الخلاقَةَ المطلقة.
لهذ السبب يحسنُ بنا أن نتعلّمَ الطريقة التي تجري بها الأشياء في هذا الوجود. فعلى ضوءِ ذلك التّعليم سنرى كيف أنَّ عقلنا الخاص يستطيع أن يكونَ إمّا سلاحاً فاتكاً أو قوّةً خلاّقةْ.
*
الحالةُ الأولى التي أرغبُ في إيرادها هنا قد شُهِدَتْ في مجتمع قبيلة التِّلِنْقْلِتْسْ بألاسكا. وهي تُظهرُ كيفَ أنَّ خدوشاً طفيفةً قد "أُنفِذَتْ" إلى حياةٍ تاليةٍ لإنسانٍ ماتَ فجأةً صريعاً بالرّصاصْ. في البدءِ اقتبس د. ستيفينسون عن شخصٍ في القبيلةِ المذكورةِ قولَهُ:- "إنْ ماتَ شخصٌ ذو قطع أو نُدبة في جسده وبُعِثَ، ثانيةً، وليداً فإنَّ ذاتَ الوسمِ الذي مات بهِ قد يُرى فيهِ كوليدْ". "فهُنالكَ"، كما استطردَ شارحاً، "اعتقادٌ تِلِنْقْلِسْتِيٌّ في تناسخ الأرواح، بيدَ أنّهُ ليس في تمامِ هيئة المعتقدات الموازية له في الهندوسيّة والبوذيّةْ... على كلٍّ، هو يشتملُ على مفهوم "الكارما"، مع خلافٍ لهُ في توقُّعِ العودةِ العاجلةِ للرّوحِ إلى هذه الدّنيا وتلبُّسِهَا هيئةً أفضلَ مما سبقْ". معمِّرُو هذه القبيلة يتذمّرُونَ اليومَ من حقيقةِ أنَّ مجيءَ الإرساليّاتِ إلى ألاسكا والتّعليم الحديث يتسبّبان، اللآنَ وتدريجيّاً، في نسيان الأجيال الجديدة، أو الشّابّةْ، لـ"التّعليم" القديم الخاص بتناسخ الأرواح. لكن هذان، في حالةِ الأطفالِ اليافعين، لا يستطيعان، بالطّبعِ، إحداثَ أيِّ اختِلافٍ في رسوخِ القناعةِ بالتّعليمِ السّالفْ. أفاد د. ستيفينسون بأنّه، في خلال الفترة القصيرة التي أمضاها في ذلكَ البلد، قد أجرى تقصّيَاً حول ثلاث وأربعين حالة من حالاتِ حيَواتٍ سابقةٍ ’مُتَذَكَّرةٍ‘ تخصُّ أشخاصاً ولدوا بين عامي 1518 و3619. "نستطيعُ أن نكونَ واثقينَ"، قال د. ستيفينسون، "من أنَّ "مجمُوعَ" ما هنالكَ من حالاتٍ جاريةٍ على هذا السّبيلِ ينبغي لهُ أن يكونَ أكبرَ على نحوٍ معتبَرٍ- أو حتّى فائق الإعتبار- من كلّ ما تمّ تسجيله منهُ".
الحالةُ التّاليةُ هي حالة جيمي سفينسون. إنّها تُمَظْهِرُ "الإنفاذ" الذي أشرنا إليهِ كما استبانَ في مهاراتٍ ووجداناتٍ، تماماً كما في ذكرياتٍ، جميعها ذات صلةٍ بأماكنٍ وأشياءٍ (موضوعاتٍ) عرفتها الرّوح في حياتها السالفةْ.
وُلدَ جيمي في الثاني والعشرين من نوفمبر 2519 في بلدة سِتكا بألاسكا. وحينما بلغ الثانية من عمرِهِ (وهي السّن التي عادةً ما يتأتّى فيها لذكرياتِ الأطفالِ عن حيواتٍ مَواضٍ لهم أن تتواتَرَ منبعثةً في ذواتهم) بدأ يتحدّثُ عن حياةٍ سالفةٍ لهُ. زعمَ، في ذلك الحديث، أنّهُ قد كانَ أخاً لأمّهِ، وأنّه عاشَ في قريةِ كُلُكْوَانْ الكائنة على مبعدةِ مائةِ ميل من سِتْكَا.
"أدلى جيمي بعددٍ من الإفاداتِ حول شؤونٍ العلم بها مُتاحٌ لخالِهِ، لكنّهُ، على الأرجحِ، ليس لهُ، فيما بدا، من سبيلٍ عاديٍّ لمعرفتِها. كان كثيراً ما قد يسأل، خاصّةً في آنِ غضبِهِ، أن يُساقَ إلى قريةِ كُلُكْوَانْ كي يقيم مع جدّته لأمّهِ. تحدّثَ جيمي، على مدى سنتين أو ثلاث من طفولتهِ، لآلهِ في كُلُكْوَانْ، حديثاً مُعتبَرَاً عن حياته السابقةْ. ثمّ تلاشتْ، من بعدِ ذلكَ، إحالتُهُ النّاسَ إليها".
بدأ د. ستيفينسون- الذي اقتبسنا عنهُ الحديث السابق- تحرّياتَهُ عن قضيّةِ الصّبيِّ جيمي في عام
6119 كان جيمي، حينذاكَ، في الثامنةِ من عمرهِ.
كان خال جيمي يُدعى جون سِسْكَو. برَعَ، ذاكَ الخالُ، في القنصِ وصيدِ السّمك، كما وكان مدمناً للكحول. في أوانِ موتهِ كان عمره خمسة وعشرين عاماً، وكان في عطلةٍ عن عملِهِ بالجّيشْ. "ذاتَ يومٍ"، والحديثُ لدكتور ستيفينسون، "ذهبَ- جون سِسكو- في نُزهةٍ على مركبٍ صغيرٍ مع امرأتينْ... مضتْ ساعاتٌ على بدءِ تلك النُّزهةِ وُجِدَ بعدها المِركبُ قائماً على الشاطئ وسدّادةُ تجويفهِ مفقودة... عثر الباحثون على جسدي الإمرأتين الميتتين مُلقيين في مكانٍ قريبْ. لكنّهم ما استعادوا أبداً جسد جون سِسكو". تيّاراتُ مياهِ ذلك الجّزء من ألاسكا كانتْ جموحةَ الجّريانِ، وأيُّ مدٍّ منحسرٍ إليها كان بإمكانِهِ، حينذاكَ، الإرتحالَ بأيِّ جسدٍ طافٍ فوقَهُ سريعاً وبعيداً. هذا صيّرَ القتلَ سهلاً في هاتيكَ الانحاءِ وشيئاً كثيراً ما يُشتَبَهُ فِيهِ.
أسرَّ هانس، شقيق جون سسكو، لدكتور ستيفينسون بقناعتِهِ أنّ عاشقاً غيوراً قد اغتالَ جون:- "قد سمعَ هانس بأنّ حادثَ القتل قد شُوهد، لكن كُتِمَ أمرُهُ خوفاً القصاص"... "حزنتْ شقيقة جون سسكو، مِلِّلِيْ، التي كنّتْ لهُ وُدّاً عظيماً، لموتهِ وحدَّتْ عليهِ حداداً عظيماً. ثم أرادتْ أن تُسمّي مولودها التّالي، الذي وضعتْهُ بعد عامين من الواقعة، باسم "جون"، لكنّها أُثْنِيَتْ عن ذلكَ فجعلتْ "جون" اسماً ثانياً للولدْ. عليهش صار اسمُهُ جيمي سفينسونْ. [وذلكَ هو مركّب اسماهُ الأوّل والأخير]"... "كان لجيمي أربع علامات مُدوّرة على بطنِهِ تفحّصتَهُنَّ أنا [د. ستيفينسون] في عام 1196. أقرّتْ أمُّهُ بأنَّ هاتيكَ العلائمُ كُنَّ عليهِ مُنذُ ميلادهِ. في عام 1619 كان قُطْرُهُنَّ حوالي بوصةً وكنَّ واضحاتِ التّميّزِ عن الجّلدِ المُحيطِ بهُنَّ... كُنَّ يُشبِهْنَ، شبهاً قريباً، الآثار الباقية من جِراحِ رُصاصةٍ نفذتْ في الجّسدِ وعُولِجَتْ".
تبعتْ هذا السّرد عن د. ستيفينسون قائمةُ إفاداتٍ من جيمي مشفوعةً بتعليقاتِ شهودٍ مُثْبِتَةٍ لصحّتها.
أطلعَ جيمي أولئكَ الشّهود القُرباء على تفاضيلٍِ معيّنةٍ عن الحياةِ في كُلُكْوَانْ. من بينَ هاتيكَ، على سبيلِ المثالِ، صفاتُ وعاداتُ كلبِ عائلةٍ مُعَيّنٍ وتفاصيلٌ عن المنزلِ الذي عاشَ فيهِ جون سسكو في كُلُكْوَانْ:- "قد قال إنّ اسمهُ هو "جون" وليس "جيمي"، وإنّهُ قد أُصيبَ، في حياتِهِ السابقةِ، برُصاصةٍ قتلتْهُ".... "تحدّثَ عن كُلُكْوان كثيراً وقال، أحياناً عديدةً، إنّهُ راغبٌ في الذّهابِ إلى هناكَ وزيارة جدّته، أم جون سسكو"... "قدَّمَ أوصافاً دقيقةً لبحيرةٍ قريبةٍ من كُلُكْوَانْ"... "قال إنّه اعتادَ على شُرْبِ الخمر. وقال، كذلكَ، لخالهِ (حينما كان في السّادسةِ من عمرِهِ):- "أنا لستُ ابنُ اختِكَ، أنا أخوك"..."
عندما أُخذَ الصّبيُّ (في سنّه السادسة والنّصف)، بالفعلِ، إلى كُلُكْوَانْ أظهرَ ألفةً مع القرية والمنطقة المحيطة بها. ثم تضرّع، بإلحاحٍ، إلى آلِهِ أن يسمحوا له بصيد السّمك مع قريبٍ يسكنُ بالجّوارْ... ذلك الرّجل كان صديقاً مُقرّباً ور فيقَ صيدٍ لجون سسكو والرجل الوحيد من العائلة الوارد لجيمي (باعتبارِ أنّه كان جون سسكو) احتمال التّعرّف عليهِ حينذاك.... "باختصار، بدا جيمي ليس فقط بمقابة شخصٍ يعرفُ أشياءاً عن جون سسكو، بل تصرّفَ وكأنّهُ وجون سسكو كانا شخصاً واحداً".
عرَضَ د. ستيفينسون، في ثنايا حكايتِهِ هذه، تفاصيل وتعليقات وافية عن حالة جيمي وقال إنّ عائلتَهُ كانتْ، في الغالب، غيرَ متحمّسةٍ للإسرارِ لهُ بهاتيكْ. ثمّ أنّهُ (د. ستيفينسون) ما حاول قطّ الزّعم، تأسيساً على تلكَ الحالةِ، بأنَّ فيها بُرهاناً على تناسُخِ الأرواحِ، بل دوماً تركها تتحدّثُ عن نفسها بنفسِها.
بجانبِ حالةِ جيمي عرض د. ستيفينسون علينا حالاتٍ واضحةً عديدةً أُخرَىْ لأطفالٍ ألسكيّينْ [من "ألاسكا"] صغارٍ جدّاً استعادُوا (على هيئةِ "فِلاشْ باكْ") ذكرياتٍ عن حَيَواتٍ سابقةٍ قالُوا إنّهُمْ عاشُوها، الشّيءُ الذي قد يُشجّعُ القارئَ على التّوسُّعِ في قراءةِ كتب د. ستيفينسون الخاصّة بهذا الموضوع (أنظُرْ، أيضاً، إلى مقدّمة د. ستيفينسون للكتاب الموسوم جولةُ زمنٍ ثانية، لإدوارد رِيال، الصادر عن دار نشر نيفيل اسبيرمان -1975 الكاتبة).
الفصل الثالث
أَمْثِلةٌ حيَّةٌ
1
خلال السّنوات الأولى من تتلمذي المتحمّس على يدِ "المُعَلّم" اطَّلَعْتُ على أوجهٍ عديدةٍ من فعاليّاتِ قوانين إعادة الميلاد. وما أدهشني بما فيه الكفاية، رغم أنه ما كان مفاجئاً لي، هو أنَّ الحالات العديدة التي تَقَصَّاها د. ستيفينسون كثيراً جدّاً ما أوقعتْ في خاطري ملامحاً وطيدةً من قوانين العلّة والمعلول التي تحكم الحياة وتطوّرها كما علّمني إيّاها "المُعلِّم".
التّساؤُلُ الأوّلُ الذي يبرز، بإيحاءٍ من هذا الأمرِ، في عقولِ النّاسِ هو:- "هلا نحنُ غيرُ رائينَ لمن نحبُّ من النّاسِ حينما نتجاوزُ، صُعُدَاً، الحياةَ في هذه الدّنيا؟"
إجابةُ هذا التساؤل هي أنّ علائق الحبِّ لا تنفصم عُراها أبداً. لماذا؟
لأنّ من بين قوانين الكون هنالك قانونٌ يُسمّى قانون "الإنجذاب المغناطيسيْ". فجذبةُ الحُبِّ والقرابةِ الرّوحيّةِ القويّةُ نافذةٌ في أسِّ كلِّ الحياةْ.
في هذا المعنى قالتْ حكمةُ "المُعلّم" الجّامعة:- "عينُ ذرّاتِ الكُرسيِّ الذي تجلسينَ عليهِ تُطيعُ قانون الحبْ". فالإنجذابُ المِغناطيسيُّ للكائناتِ إلى بعضها البعضِ هو عنصرٌ مُلتحمٌ بدخيلةِ الذّرّة- أصغر وحدة كائنة في الطبيعة- ومتخلّلٌ جِماعَ مَسامِ الكونْ.
الحبُّ هو جبرٌ مغناطيسيٌّ يتنامى، في دِقّتِهِ وتركيبيّتِهِ، صُعُدَاً على سُلُّمِ التّطوّرْ. وفعاليّتُهُ بُدائيّةٌ في الذّرّةِ، لكنّها أساسيّةٌ للخلقْ. فهو العاملُ الذي يجعلُ الذّرّةَ تتآلفُ في الذّرّةُ فتتشكّلُ، هكذا، العناصرْ. هو يتنامى، في تركيبيّتِهِ، خلال كلّ الطبيعةْ:- في الحيواناتِ وفي الإنسانِ الأوّلِ "البُدائيِّ" هو عاملٌ تضامُنِيٌّ؛ في الإنسانِ الأنيسِ "المتحضّرِ" هو عاملٌ فوقَ طبيعيٍّ، عاملٌ نافذٌ في حَيَوَاتِنَا.
يجذبُ ذاكَ الجَّبرُ المغناطيسيُّ" الشّبيهَ إلى الشّبيهِ، والحبُّ إلى الحبِّ، في كلّ أبعادِ آمادِ الكينونةْ. إنّهُ وصلٌ لا ينقطعْ. إنّهُ فعلُ الأُلُوهيِّ الذي هو في السّريرةْ.
في الحالةِ التي اقتبسنا بعضاً من أوصافِها في الفصل الثاني نرى، على نحوٍ بسيطٍ، علاقةَ الحبِّ وهي في شُغلِها وسط قومٍ بساطتهم جليّةْ. فالمرأةُ الواردُ عنها الحديثُ هناكَ قد أحبّتْ أخاها جون سسكو وأقامتْ عليهِ، عندَ موتِهِ، حداداً عظيماً. ذلكَ الحُبُّ جذبَ تلكَ الرّوحَ في سبيلِ العودةِ إليها فأصبحَ ذلك الأخ، في حياته التالية، ابنها. وفي حالةٍ أخرى جرتْ بينَ ذاتِ القومِ وفي ذاتِ القبيلةِ "جَعَل" ويليام جورج سِنْيَور، من فرطِ حبّهِ لابنهِ وزوجة ابنهِ، نفسَهُ "يُولَدُ"، من جديدٍ، كابنٍ لهما.
تُظهِرُنَا تعاليمُ تناسخ الأرواح، أو إعادة الميلاد، على أنّ هنالكَ تنوّعاً كبيراً في طولِ مدّةِ ما قد يعنُّ لنا أن ندعوهُ "استجماماً في المروجِ الإليزيّةْ".
إن تدبّرنا حال الحيوانات من هذا المنظور فإنّها تبدو لنا عائدةً، من فورها تقريباً، إلى الحيّزِ الذي فارقَتْهُ بموتِهَا "الإصطِلاحيِّ":- الأرضْ. ذلكَ، بحسبِ ما علّمني إيّاه "المعلّم"، لا استثناءَ لهم منهُ إلا في حالاتٍ خاصّةٍ مُفعَمَةٍ بعلاقةِ حبٍّ وتوادُدٍ ما بينَ، علي سبيلِ المثالِ، رجلٌ وكلبُهُ حيثُ قد يُسمحُ للرّجُلِ الواصلِ حديثاً إلى حيّزِ كينونتِهِ الجّديدِ بصحبةِ المخلوقِ الذي يُحبُّ، إلى حينٍ. طبعاً هو لا ينبغي عليهِ، وقتَذَاكَ، أن يَدَعَ الرُّوحَ اليَافعةَ تلكَ (رُوح الكلب) مُقيّدةً بهِ فهي فهي يتعيّن عليها، فيما الزَّمانُ ماضٍ في سيرورتِهِ، أن تُؤهّلَ ذاتَها، في فترةِ تدريبٍ أخرى على كوكبِ الأرضِ، عساها، من بعدِ ذلكَ، تصعُدُ إلى درجةٍ أسمى في الرّوحْ. فالحيوانُ الأليفُ، نظراً لتعوّدهِ الاتّصالَ العاطفيَّ (الشعوريَّ) بالإنسانِ، ينمازُ بنفسهِ عن نَفْسِ القَطِيْعِ ويجيءُ إلى حينٍ يُشارُكُ فيه الإنسانَ وَضَاءَةَ عنايته المُحبَّةِ لهُ فيستقيمُ، بذلكَ، على دربِ تطوّرٍ رُوحيٍّ جديدْ (هذا، على كلٍّ، لا يعني أنّ ذاكَ الحيوان الأليف ما كانتْ لهُ قطُّ "فرديّةٌ" من قبلِ- حتّى حينَ هو نفسٌ لا انفصامَ لها عن "نفسِ القطيعْ").
أيضاً العودةُ إلى كوكبِ الأرضِ جدُّ سريعةٍ عند القبائل البدائيّة من الناس، وغالب الحالات التي تقصّاها د. ستيفينسون تُنبئُ عن هذا.
خلال بحوثِهِ في بلادٍ عديدةٍ في هذا العالمِ وجد د. ستيفينسون أنَّ متوسّطَ فترة الإنعاش (الإتّكاءة) التي يُتَمَتّع بها في المجالي "الماورائيّة" يفترقُ افتراقاً هائلاً أُسُّهُ هو حاجاتُ، كما ورغائبُ، الرّوحْ. إن تحدّثنا بعموميّةٍ شديدةٍ فإننا سنقولُ إنّ الأمرَ هنا يتبدّى على أنّهُ قائمٌ على اضّطِرادٍ في فترةِ السّماحِ للرّوحِ بالمكوثِ في المجالي السّماويّةِ مُتوازٍ مع مقدارِ تطوُّرِهَا.
في أوساطِ الأراوحِ الراقية هنالكَ تنوّعٌ وُمنبِئٌ عن وُسعِ وعيِ الرّوحِ الفرديِّ ومدى فهمهِ للعوامل التي تحكم وسائل نمائهِ، أوجه استفادته من وقتِهِ في البُعدِ الماورائيِّ وقدرته على النّمُوِّ الرُّوحيِّ، في الحياةِ الآخرةِ، بِوساطةِ المعروفِ الذي يُسديهِ لإخوتِهِ في الكينونةْ. وينطوي المعروفُ الأخروِيُّ إيّاهُ حتّى على رغبةِ الرّوحِ الفرديّةِ في، أو استطاعتِهَا على، الإنتفاعِ لنفسِها، وللآخرين، من جميلٍ خاصٍّ ما أسرّتْ نفسَها وأسرّتْ، كذلكَ، الآخرينَ بهِ.
رُبّما سيبقى المرءُ في مجالي الحريّةِ الرّوحيّةِ الرّحيبةِ قاصداً متابعةَ دراساتٍ، أو بحوثٍ بعينِها، هناكْ. هذا من ناحيةٍ. ومن الناحيةِ الأخرى هنالكَ بعضُ الأرواحِ الذّكيّةِ العاليةِ السِّمُوِّ تكونُ لها رغبةٌ شديدةٌ في موالاةِ قيامها برسالاتها التي كانت مهتمّةً بأدائها آنَ وجودها على كوكبِ الأرضْ. وذلكَ (كما قال لي بعضٌ من الأُنْسِ حين حياةُ الجّسَدِ فيهم كانتْ مُشرِفَةً على ختامِها) يُصَيِّرُ هاتيكَ الأرواحِ "غيرَ طائقةً انتظارَ زمانِ أوبتِها إلى كوكبِ الأرضْ".
في حالاتٍ أُخَرٍ، حيثُ عُرَىْ الحبِّ شديدةٌ، ينتظرُ الإنسانُ (الرّوحُ) الذي مضى في سبيلِهِ أولئكَ الذينَ يُحبّهُمْ أن يدرِكُوهُ في أقانيمِ الضّوءْ. لهذا نحنُ نرى أنَّ هنالكَ عواملٌ كثيرةٌ جدّاً تُخلِّقُ رحابةً وتنوّعاً عظيمَىْ المدى حينَ يتعلّقُ الأمرُ بمسألةِ أوبةِ الأرواحِ إلى كوكبِ الأرضْ.
أولئكَ الذينَ قهرُوا، في أنفُسِهِمْ، قوّة الجّاذبيّةِ لكوكبِ الأرضِ، من قد انطلقتْ أرواحُهُمْ كُلِّيَّةً نحو المجالي السّماويّةِ، قد يتجاوزنَ شروطَ الحياةِ على الأرضِ ويحُوزُوْنَ، إلى الأَبَدِ، على المَقَامَاتِ العُلَىْ. ذلكُم هو المُرادُ وغايةُ كَدْحِ الجَّميعْ.
2
يجبُ علينا ألا ننسى أنّه ما تزالُ هنالكَ قبائلٌ تحيا فوق كوكب الأرض على هيئةٍ ليست بأقلَّ بدائيّةً من تلك التي عاشَ عليها ساكنو الكهوفِ في العصرِ الحجرِيْ. فأهلُ الغابةِ الأفريقيّةِ لا يصنعونَ أدواتٍ أوجِرارا، ومنازلُهم ما هي إلا حُفَرٌ على الرّملِ مُغطّاةٌ بفروعِ الأشجارِ اتِّقاءَاً لشمسِ الظَّهيرةْ. إنهم يمشون على الأرضِ عُراةً تماماً. مع ذلكَ- ولنا أن نضعَ هذا بين قوسينْ- يبدو أنّ لهم إيمانٌ دينيٌّ يُنبئُ، جُزئيّاً، عن حقيقةِ أنَّ كلَّ النّاسِ على كوكبِ الأرضِ قد هدتهم "الألوهةُ"، منذُ البدءِ، إلى معرفةٍ بها ودربٍ يسوقُ إليها يتناسبان ودرجةُ تطوّرُهِم الرّوحيْ. ثم إنّ أولئك القوم البدائيين غالباً ما يكونوا أعمقَ منّا كثيراً في شعورهم بحضورِ القوى النّفسانيّة (الرّوحيّة) للطبيعة وفي إدراكهم لديمومةِ الحياةِ بعد الموتْ. إنّهم، لهذا، يؤدّونَ طقوساً مُوسّعةً يتشفّعونَ بها لدى من يدعُونَهُمْ "الآلهةَ الدّنيا":- القوى العُنصريّة الكونيّةْ. الحضريّونَ من النّاسِ ما كانوا، بأيّةِ حالٍ، حكماء بالقدر الذي يسمح لهم بمواءمةِ أنفسهم شعوريّاً حتّى ينسجموا مع هذه القوى التّحتيّةْ. فجِبِلَّتُهُمْ العاطفيّةُ مختلفةٌ وليس لها- إن شاءتْ ألا "يشُوبَ" غيرُها ذاتَهَا- أن "تَفْسَدَ" بتلكَ الطّاقاتِ الأوغل في "البُدائيّةْ".
قد يتعجّبُ المرءُ من كونِ أنّ أناساً على مِثلِ تلكَ الدّرجةِ من البدائيّةِ ما يزالُوا باقينَ على كوكبِ الأرضْ. لكنّنا، إن تفكّرنا في هذا الأمرِ، سنجد بالأرضِ، أيضاً، حيوانات، طيور، أسماك لا يزالُ جُلّها مُقيَّدَاً بطائفتِهِ. كلُّ الحياةِ، بمختلفِ كياناتِها العضويّةِ وأنواعِها، تُشكّلُ عتبةً في سُلّمِ درجاتِ ومستويات الحياة المتطوّرة حيثُ أيٌّ من هاتيكَ تندغمُ في ثنايا توليفةٍ نغميّةٍ نشوئيّةٍ متنامية التّعقيدْ. فأيُّ مخلوقٍ إنّما هو مُشاركٌ، من موقعِ كينونتِهِ كجزءٍ من شعبتِهِ الطبيعيّةِ الخاصّةِ، في بناءِ درجاتٍ في سُلّمِ النّشُوءْ. وحينَ تمّ تكوُّنُ سُلّمِ الأنواعِ غدا مُعدّاً ومؤهّلاً لأن تستخدمهُ أيُّ رُوحٍ عنصريّةٍ جديدةٍ قادمةٍ عندَ قاعدةِ مستوياتِهِ لغاياتِها، ومن ثم ترقى، رُويداً رُويداً، على دربها نحو أن تصيرَ إنساناً.
الإنسانُ، حينما يُبيدُ جميع أنواع المخلوقات الأرضيّة، إنّما يحرمُ الحياةَ من أشكالِ وجودٍ معيّنةٍ ضروريّةٍ لسيرِها على مدارجِ النّماءِ والتّجربةْ. إنّه ينزعُ، من سُلّمِ سيرورةِ الحياةِ، درجةً قيّمةً. إنّهُ، إن استمرَّ كما هو في الحاضر، لخليقٌ بأن يجعلَ أوجُهاً بعينها من حيوات الكائنات الحيّة مجمّدةً عندَ مستوىً سافلٍ فيفصلُ، بذلكَ، أقدام كياناتٍ تتهيّأ للمجيءِ إلى الأرضِ عن مهادها على الأرضْ.
نحنُ قطعاً لنا مسؤوليّة أخلاقيّة- ماضية وحاضرة ومستقبليّة- نحو هاتيكَ الكائناتْ. فنحنُ أربابُها وينبغي علينا أن نُقِيْمَ سلوكنا معها على أساسِ كوننا كذلكْ. كلُّ مخلوقٍ يسعى في آفاقِ كوكبِ الأرضِ هو في طريقِهِ نحو اتِّخاذِ الهيئةِ الإنسانيّةِ في قرونٍ سوف تأتي. وطريقة تعاملنا الحاليّة مع تلك المخلوقات قد تٌعينُها على ذلكَ أو تعوق دربها إليهِ. وفي حالاتٍ قصوى قد تُشوّهُ الطّريقةُ إيّاها حتّى توازن جواهرها الداخليّة فتُزيغُ وتُحرّفُ مسارات دفقاتِ الطّاقةِ التي نسجتها حكمة الطّبيعة فيها وتُعلِّمُها الخوفَ والوحشيّةَ المحفوزينَ بحاجتِها للصّراعِ من أجلِ البقاءْ.
هذا المُفترقُ من حديثنا قد يدعونا لأن نقتبس، عن د. ستيفينسون، حالةً أخرى غير التي أوردنا. تلكَ حالةٌ تُظهِرُنا على الأثرِ الكارْمِيِّ لفعلٍ شرّيرٍ ارتكبتْهُ رُوحٌ ما على تناسخها الحيويِّ القادمْ. إنّها حالة وِيجَارَاتْنِيْ.
في يناير 1947 وُلدَ للسيّدِ هـ. أ. تِيلارَاكْتِنِيْ ابنٌ سمّاهُ وِيجَارَاتْنِيْ. كان لهذا الصبيِّ، منذ ميلاده، تشوّهاً جليّاً في أيمنِ صدرهِ وذراعِهِ. ثم أنّ أباهُ لاحظ مشابهات أكيدة بينهُ وعمّهُ، فهو، مثلاً، داكن البشرة (بينما الأطفال الآخرون من عائلته فاتحُوها)، كما وهو، كذلكَ، ماثلَ عمّهُ راتران هامِي في عددٍ من ملامحِ وجهِهِ. قال الأبُ لزوجتِهِ:- "هذا هو أخي قد عادَ إلينا". لكنَّ الزَّوجةَ، فيما يبدو، لم تُعِرْ ملاحظتْهُ هذه اهتماماً كبيراً. عندما بلغ ويجاراتْنِي ما بين الثانية والثانية والنّصف من عمرِهِ بدأ يُحوِّمُ ويُهوّمُ حولَ منزلِ آلهِ وحيداً في سبيلهِ ويُحادثُ نفسَهُ. جذبَ سلوكُهُ هذا انتباهَ أمّهِ التي أصغتْ إلى حديثِهِ. إلتقطتْ أذناها عنهُ قولَهُ إنّ ذراعَهُ تشوّهتْ بسببِ اغتيالهِ لزوجتِهِ في حياته السابقةْ. ذكر الطّفلُ، في حديثهِ، عدداً من التّفاصيلِ المرتبطةِ بالجّريمةِ ما كانتْ أمّهُ، حينذاكَ، قد سمعت منها (أو عنها) شيئاً. سألتْ زوجها عن مدى صحّةِ إفاداتِ الطّفلِ فأكّدَ لها دقّةَ ما كان يقولهُ إِبْنُهُ. فأخاهُ الأصغرُ (راتران هامي)- كما أقرَّ- قد أُعدمَ، بالفعلِ، في عام 1929 بتُهمةِ اغتيالِهِ لزوجتِهِ.
كانتْ الأمُّ قد سمعتْ أنَّ قرويّينَ في أُقالكَالْتَوْتَسْ (وهي قرية العائلة مدار الحكاية) قالوا إنّ ويجاراتني قد ماثلَ راتران هامي. لكنّها ما سمعتْ منهم أيَّ شيءٍ حول الجريمة التي ارتكبها راتران هامي. فهي قد علمتْ بها، لأوّلَ مرّةٍ، من أقوالِ إبنها الصّغيرْ.
"حاول أب ويجاراتني أن يُثنيهِ عن الحديثِ عن حياتِهِ السّابقةْ. لكنّهُ أصرَّ على فعلِ ذلكَ واستغرقَ كثيراً في أحاديثٍ ذاتيّةٍ أدارَهَا، أحياناً، مع نفسِهِ في العُزلَةِ، وأحياناً مع آخرينَ سألوهُ عمّا أصابَ ذراعهُ. لهؤلاءِ عادةً ما روى، بتفصيلٍ حيٍّ وواسعٍ، وقائعَ جريمةِ عمّهِ راتران هامي، طريقة اعتقالهِ وتنفيذ حكم الإعدام فيهِ". هذا بعضُ ما عرّفنا به د. ستيفينسون في تلافيف حكايته المُفصّلة عن ويجاراتني.
عندما بلغ ويجاراتني ما بين الرابعة والخامسة من عمره استرعتْ إفاداتُهُ انتباه الأستاذ الموقّر أناندا مَيْتْرِيَا، بروفسور الفلسفة البُوذِيّة في جامعة كولومبو، فأجرى تحقيقاً معهُ. وضعَ البروفسور، من بعد ذلكَ، ما توفّرَ عليهِ من معلوماتٍ تحتَ تصرّفِ د. ستيفينسون. "حينما بلغَ الصّبيُّ سنّه الخامسة والنّصف توقّفَ عن الحديثِ التّلقائيِّ عن حياتِهِ السّابقة، لكنّهُ استمرَّ في الحديثِ عنها حينَ سُئِل".
لقد أظهرتْ تقصّياتُ د. ستيفينسون عن محاكمةِ راتران هامي مُفارقاتٍ جليَّةً بينَ ما قالهُ ويجاراتْنِي عنها والشّهود الذين أَمِلُوا في الدّفاعِ عنهُ. فأولئكَ (وراتران هامي) قد أقرّوا بأنّ زوجةَ راتران لاقتْ حتفَهَا في مشاجرةٍ ما كانتْ كانتْ وراءها نيّةُ قتلْ. أمّا الطّفلُ الصّغيرُ فأعلنَ أنّهُ قد اغتالَ زوجتَهُ (في حياتِهِ السّابقةْ) لأنّها عَصَتْهُ وأبَتْ أن تعُودَ معهُ إلى البيتْ. ثمَّ أمّنَ على اعتقادهِ، حينذاكَ، بأنّهُ كانَ مُحقّاً في ما فعلْ. قال الطّفلُ، كذلكَ، إنّهُ، في حياتِهِ السّالفةِ، كانَ ذا "طبعٍ لا يُطاقْ". ثمّض استدركَ ذلكَ مُلاحِظَاً أنّهُ، في حياتِهِ الحاضرةِ، قد أصبحَ طبعُهُ "أكثرَ وداعَةً".
أولئكَ الحائزونَ، من بينَ النّاسِ، على كتابِ د. ستيفينسون الهامِّ يُمكنُهُمْ أن يطَّلِعُوا على تفاصيلٍ أكثرَ عن هذه الحالةْ. فما اقتبسنا عن ذلك الكتابِ هنا كافٍ لإِظهار فعاليَّاتِ قوانينِ الكارما والمُعاوَضَةْ (’كما تُدينُ تُدَانْ). لقد تلاشتْ ذكريات ويجاراتْنِي عن حياتِهِ السّالفةِ من مُخَيِّلَتِهِ (واعيته) بمرورِ الزّمانِ، لكنّهُ أقرَّ لنا بمعرفتِهِ "أنَّ تشَوُّهَ يدهِ، ذِراعِهِ وصدرِهِ كانَ "عقوبةً عادلةً"..." لمسلكهِ الشّرّيرْ.
لم يَدْعُ ما سَلَّكَنِيْ عليهِ "المُعلِّمُ" ذاكَ التشوُّهَ "عِقُوبَةً"، بل شَهِدَ على أنّهُ معلُولٌ طبيعيٌّ للتّعامُلِ الجَّاهِلِ مع قوانينِ الطّبيعةْ.
الفصلُ الرّابع
ذكرياتُ أطفالٍ عن حيَوَاتِهِمْ الماضيةْ
1
الكائنات الحيّة على الأرض تَخَلِّقُ بداخلها ما قد نسمّيه قنواتاً لاستقبال القوى الكونية. فالمراكز الروحية في الكون تستقبل هاتيك القوى وتبثّها في الآفاق.
تلك المراكز الروحية تزيد، في مجالنا الأرضيّ، عدداً وقدرةً، مع نموّ الحياةِ العضويّةِ من أبسطِ أشكالها إلى أسماها: الهيئة الإنسانيّة. ثم تشتد، من بعد ذلك، انتشاراً وطاقةً إذ هي صاعدةٌ من الإنسانِ الأوّلِ (’البدائيّ‘) إلى الإنسانِ الأعلى. مراكز معيّنة من هاتيكَ لها مُقابلاتها في الهيئة الفيزيائية، في غدد الجسدِ الفيزيائيِّ.
هذه المراكز الروحية هي منافذ لاستقبال طاقات كونية مُفردةٍ وذاتِ موجاتٍ متفاوتةِ المدى ومنسابةٍ خلال الكون: القُوى الشّعشعانيّة للألوهيّة. كلما يتطور الإنسان تتفتّح مراكزه الروحية مثل زهرةٍ تستشرفُ الشمس. ثم هو يستطيع، تدريجياً، أن يُطوّع له مجالٍ عليا من الطاقاتِ اللطيفةِ المُتاحة. ذلكم هو عاملٌ مشاركٌ في نموّ الإنسان، تطوّره ونُضجهِ الرّوحيّ.
قد يستطيع المرء تشبيه ما نحن واصفوه هنا بقوةِ حصانٍ في عربةٍ ذاتِ مُحرّك... فالتّفتّحُ الأكبرُ للمراكزِ الرّوحيّةِ يُخلّفُ "قوّةَ حصانٍ" روحيّةٍ أكبر في الإنسان. العبقريُّ هو شخصٌ له "قُوّةُ حصانٍ" روحيّةٍ مشهودةٌ، قدرةٌ أعظمَ على "استقبالِ" [أو، بالأحرى، "قبول"- المترجم] مزايا روحيّة شتّى وعميقة في نفسهِ وعلى احتواءِ واستعمالِ الطّاقاتِ الإلهيّةِ الكونيّةْ. وانمياز روحه النّوعيّ هو الذي يشرط قيمةَ الأعمال التي يُبدُعُها.
في الإنسانِ الأوّلِ (البدائيّ) تكون المراكز الرّوحيّة، عادةً، مثل براعم منغلقة. فهو مقيّدٌ بشاكلةِ القوى الرّوحيّة المتاحة لهُ. هذه الحقيقةُ تُلقي ضُوءاً على سلوكِ وحساسيّاتِ مختلفِ مجاميعِ النّاسْ.
حينما تكونُ مراكزُ الرّوحِ منفتحةٍ كليّاً يغدو الإنسانُ في تناغُمٍ تامٍّ مع المستوياتِ العُليا للقوى الإلهيّةْ. لهذا لا تصدر عنه إلا أعمالٌ جماليّةٌ لطيفةٌ وبرٌّ ودودٌ بالأشياءِ وبالأحياءْ. فالملكاتُ العليا للكائناتِ الإنسانيّةِ مثل التوادد، التّراحم، التّضحية بالذات والإنسجام الصّوفيّ ممكنةُ التّجسّدِ فقط حين الإنفتاحُ الحرُّ، القُبُوليُّ، لمراكزِ الرّوحِ على الشّعاعات السماويّة. وفي مركزِ كوكبِ الأرضِ كلُّ روحٍ إنّما هي في سبيلِ تعلّمها كيفيّةَ تفتيحِ هاتيك المراكز الرّوحيّة. ذاك يحدثُ للرّوحِ تلقائيّاً في آنِ ترقّيها الحثيثْ. فعندئذ فقط يتيسّرُ للرّوحِ أن تصيرَ محلاً مثاليّاً لتنزّلِ الأرواحِ الذّكيّةِ العُلَىْ.
مهما يكن مقام الإنسان الإجتماعي والثّقافي فإنه ينطوي، في دخيلتهِ، على جواهر روحيّة إلهيّة. لا يعني هذا القول إنّ كلّ النّاسِ لهم ذات المقدار من "مِعدنِ" تلكَ الجّواهرِ في أَسِرَّتِهِمْ. فالزمان الذي قضوه وهم في وضعيّتهم البشريّة والهيئة التي هم بها تعاملوا مع أنفسهم في حيواتهم الماضية يتناسبان، في صغرِ أو كبرِ الدّرجة، مع القوى الروحيّة التي هم مشحونون بها. كلّ واحدٍ منّا قد بدأ رحلته التّطوّريّة الطّويلة في زمانٍ مختلفٍ، وبعضنا قد أحسنَ، أكثرَ من آخرين، استخدام الفسحة الزّمنيّة التي استغرقتها. فالصفات الإلهيّة، تماماً كشعاعاتِ الشّمسِ، متاحةٌ للكائناتِ، لكن الذي يُخبّئُ نفسه في ظُلُماتِ خزانةٍ يغدو، إذ يخرُجُ من هُناكَ، واهناً مُصفرَّاً وسطَ مخلوقاتِ كوكبِ الأرضْ.
بعضُ النّاسِ- سواءاً كانوا جديدين على مسرح الإنسانيّة أو مّمن أُصطِلَحَ على تسميتِهم "أرواحاً قديمةْ"- قد غرسوا، في ذواتهم، طبعاً عميقَ الجّذبِ لجُرعاتِ الطّاقاتِ الإبداعيّةِ السّيّالةِ في الكونِ فنمّوا، بهذا، في باطنِ الرّوحِ ثروةً من الملكاتِ الخالقةِ للشّخصيّةِ الحيويّةِ والرّوحِ القويّةْ. أمثالُ أولئكَ النّاسِ يصعدون، سريعاً، على سُلّمِ التّطوّرْ. فالفردًُ منهم يتّخذُ لهُ حياةً في قبيلةٍ أو أمّةٍ إثرَ أخرى فيتعلّمُ كلَّ ما تستطيعُ الخبرةُ المعاشيّةُ وسطَ أولئكَ القومِ أن تُعلّمَهُ ويُسهمُ، بدورهِ، في حياتِهم بما لهُ من قُوىً (مَلَكات) ذاتيّة. تلك القوى (المَلَكات) قد لا تكون، بعد، ذات خاصيّة روحيّة. فهو فهو ينبغي له أن يرتقي بما حازهُ من طاقاتٍ إلى مدىْ ذبذبةٍ أعلى، شفافيّةٍ وتوازنٍ أكبر، قبل أن تغدو قدرته الكينونية ونضجه التقويميّ (الحُكميّ) تامّي النّفعِ لأولئكَ الذين يحيا بينهم.
الإنسانُ الذي لهُ قوّة عظيمة قد يستخدمها إما للشّرِّ أو للخيرِ، في سبيلِ دوافعٍ أنانيّةٍ مُصاغةٍ من الزّهوِ الشّخصيِّ والقوميِّ وشهوة القوّة، أو في سبيلِ سماحٍ وحكمةٍ. فإن ورّطَ نفسَهُ، أو رفاقه في الإنسانيّة، في حروبٍ غازيةٍ فإنّهُ سيحصدُ ما غرسَهُ. فبقدرِ مدِّ شهوةِ القوّةِ الأنانيّةِ الذي أطلقهُ في العالم بقدرِ ما ستعظم سقطته. فقط بفعلِ تجاريبٍ تر اجيديّةٍ كهذهِ ستلطفُ الصّفاتُ الشّديدةُ الكثافة في طبيعتهِ وتُسخّرُ لاستعمالٍ أكثرَ نفعاً. في المراحلِ الباكرةِ لمسيرتِهِ كإنسانٍ يحيا على كوكبِ الأرضِ يستطيعُ فردٌ قويُّ الشّخصيّةِ كهذا أن يُسبّبَ دماراً عظيماً لنفسهِ ولقومهِ. إنّه سيُصبحُ، على نحوٍ طبيعيٍّ، مُحتفىً به أو سيّئ الصّيت. ذلكَ وفقاً للقوى المغناطيسيّة لشخصيّتهِ. إنّه سيكونُ قائداً يتبعه الكثيرون. لكنّه، خلال المعاناة التي أنزلها بأمّتِهِ وبنفسهِ، سيتعلّمُ الطريقة الأكثر حكمةً لاستخدامِ مَلَكَاتِهِ.
الحكمةُ الجّامعةُ المعبّرةُ عن هذا هي:- "ذلكَ الذي لهجَتْ به تُصيرُهُ الرّوح"- الجّسدُ كذلكْ. قد يعبقُ حولَ إنسانٍ ما شميمُ قداسةٍ، أو تحوطُهُ قوّةُ شرٍّ. ذلكَ وفقاً لمستوى ونوعيّة فكره وأفعاله. فالفيضُ المنبعثُ من هالةِ المرءِ يتعلّقُ بشخصيّتهِ فيُنشئُ حول كيانه حقل اهتزازاتٍ من طاقاتٍ ذاتِ طابعٍ مُمَيّزٍ تجذبُ إليهِ شحناتِ طاقةٍ تنسربُ إلى مجاليهِ الخفيّةِ أو أحداثاً مُتَّفِقَةً وما لهجَتْ بهِ خواطِرُهُ. ذلكم هو فعل قوانين"الكارما"، قوانين الجدارة واللاجدارة. كما وهو، كذلك، السبب في معظم حسن التوفيق أو سوئه الذي، في هذه الدنيا، يُلاقينا جميعاً.
ولأنّ المجانسات بين الناس والكائنات، خيّرةً كانتْ أم شرّيرةً، ذات طبيعة مغناطيسية فإنها تسبب مرض الجسد وتشوهاته واضطراب العقل. إنها تُصيّر الشخص من نُسميه "شخصاً غيرَ محظوظ" وتجذب إليه حادثات عنيفة أو كارثية الطبيعة. فانغماسنا في الغمّ، الكآبةِ، في حبٍّ أنانيٍّ للذات وفي أحاسيسِ غلٍّ، احتقارٍ، حسدٍ أو كراهيّةٍ، عنفٍ أو طمعٍ يُنشئُ مجالاً في الطاقات الإهتزازية (التي تصدر عن الرّوحِ للعالم) يجذب إلينا ظروفاً مشابهةً لأحوالنا. تلك القيمة ستكون نصيبنا.
الإنشراحُ، المرحُ، الرّجاءُ، التفاؤليّةُ، الخواطرُ النيّرةُ، اللا أنانيّةُ، دفءُ الحبِّ، السعي في خدمة الناس ووضاءةُ حسنِ النّيّةِ تجذبُ إلى الرّوحِ كلَّ شيءٍ طيّبٍ. هنا، كذلك، تجد مغناطيسيّةُ المُجانسَةِ (المُشاكَلَةِ) طريقها فيَشُدُّ عطرُ العذوبةِ والحياةِ الخيّرَةِ الذي يُهوّمُ حولَ تلكَ الرّوحِ إليها الحظَّ الرّوحيَّ الجّميلَ والسّعادة. الحياةُ، في عُرفِ روحٍ كهذهِ، كثيراً ما تتهيّأُ وكأنّها مسارٌ "مرصوفٌ بالذّهبِ" فيكتسبُ صاحبُها صفةَ ذي "الحظّ السّعيد". حقّاً إنّ كلماتٍ مثل "حظٍّ" و "فُرصةٍ" لن يكونَ لها أيُّ معنىً حين اعتبارها على ضوءِ قوانين الجّدارة واللا جدارة [قوانين الكارما أو "المُعاوضة"- المترجم]. فالأحداثُ التي تندرجُ تحتَ هاتيكَ المُسمّيات (حظ، فرصة، وما إليها) هي أحداثٌ "مُكتسبة".
هذا لا يعني القول إن الأفعال القبيحة تُلاقي عقابها من إلهٍ ناقمْ. فالمعاوضةُ هي فاعليّةُ القانونِ الكونيّ حيثُ "ما يخطُرُ على قلبِ الإنسانِ هو حقيقته". عليه فهو (أي الإنسان) مثّالُ حياتِهِ الخاصّةْ. إنّه "يُوطّنُ" في نفسهِ موجةً ذاتَ مدىً معيّنٍ، نغمةٍ مدوزَنَةٍ على لحنٍ يستدعي إليها الإهتزازات (الذّبذبات) النّغميّة الشّبيهةْ.
ذلكم هو سبب كلّ ما يلاقي المرءُ في دربِ معاشِهِ. إنّه علّةُ ميلادهِ- مثلاً- في عائلةٍ، قبيلةٍ أو أمّةٍ بذاتها. فعاداتُ فكرهِ وفعلِهِ عبر القرونِ الغابرةِ تكون- آ ن يُعادُ ميلادهُ هناك- قد صاغتْ، في دخيلتِهِ، محتوى طاقةٍ، أو محتوىً روحي، منسجم على مستوىً معيّنْ. هنا يكمنُ لبُّ المغناطيسيّة الجّوانيّة التي تُنشئُ فيهِ قنواتِ قبولٍ ذاتِ صفاتٍ معياريّةٍ خاصّة. خلال تلك القنوات تنساق إلى المرء الحادثات الخيّرة والشّريرة.
التناقض الظاهري هنا هو أن هاتيك الحادثات، حتّى ولو كانت حادثاتٌ خارجُها يبدو شرّاً، تُثمرُ، في النّهايةِ، خيراً، فالشّرُّ في الرّوحِ يغدو مُحَوَّرَاً ومُصفَّىً بفعلِ ذاتِ المعاناةَِ التي جلبتها الرّوح إلى نفسها كعاقبةٍ لفعلِهِ.
أحياناً يلتبسُ على الناس الأمر إذ يرون، في هذه الدنيا، ظلماً بئناً يُجنِى، وفق حكمِهِ، فاعلُ الشرِّ مغانماً من فعله القبيح حيثُ، على سبيلِ المثالِ، يُجازى الطّمعُ بالغِنى والخُبثُ، أو المكرِ، بثمراتِ الجريمةِ التي كان هو دافعها.
ما ذلك إلا رأياً سطحيّاً. فنحنُ تعوزُنا القدرةُ على الرؤيةِ الغائرةِ بما يُكفِي في الزّمانِ أو العميقةِ إلى حدٍّ يؤهّلنا لفهم عواقب ليس فقط أفعال سوانا، بل أفعالنا ذاتنا... الإلتواءاتُ في طبيعةِ طاقةِ الرّوحِ إنّما هي، في ما تُحدثُهُ من ردودِ أفعالٍ، تتبع القوانين التي ذكرنا. فالسّلوك الخبيث الذي قد يجلب إلى إنسانٍ ما ثروة في هذه الحياة سيُفضي بهِ، قطعاً، إلى مرارةِ العيشِ، في المستقبل. فالمعاوضة ستفعل فعلها إما في حياته الحاضرة أو في حياته القادمة، ولسوف يُنهبُ كما نهبَ إنساناً آخرَ، ليس بالضرورةِ من ثروتِهِ الدّنيويّة، بل من شيءٍ يَمَسُّ قلبهُ مسّاً أكثرَ قُرباً. فهو سيفقد شيئاً عزيزاً على نفسه:- شرفه أو حسن ظنّ النّاسِ بهِ.
نستطيعُ كلّنا أن نستدعي- هنا- إلى الذهنِ رجالاً إنبثقوا على مسرحِ التاريخِ وهم يُجرجرونَ خراباً في أذيالهم: خراباً لأنفسهم ولأمّتهم، على السّواءْ. لكنّه، وفق التّدبير الرائع لقوانين الطبيعة، قد يُعاود ذاكَ الإنسانُ الذي كان وبالاً عظيماً على أمّتِهِ، في مُقبلِ الأيّامِ، الظّهورَ في هيئةٍ مباركة. فقوّته الشخصيّة العظيمة وأدواره التي أدّاها، في السابق، على مسرحِ الحياةِ وجشّمَتْهُ- في ردّ فعلٍ مُعاوضٍ- صعاباً ومغامراتٍ كثيرةً تكونُ، حينذاكَ، قد هدتهُ، شيئاً فشيئاً، إلى حسٍّ حقيقيٍّ بمعنى القِيم. فبتوالي القرون وبحيازته على فُرصٍ أكبرٍ لتعلّمِ دروسِ الحياةِ التي ينبغي على الجّميعِ تجويدها (ثم، بسببٍ من قوّةِ شخصيّته المُصيِّرَةِ إيّاهُ متعلّماً ذا بأسٍ وعاطفةٍ) سوف يغدو هذا الإنسان، في الختام، في موقعِ قيادةٍ حيثُ يُتاحُ لخبراتِهِ الغنيّةِ في الماضي أن تُحشَدَ، حاضرَاً، في سبيلِ قِوامتِهِ النّاضجةِ على أحكامِهِ.
حالُ وقوعِ أزمةٍ قوميّةٍ قد يُستدعى هذا الرّجل إلى قيادةِ شعبِهِ عبرَ تجاريبٍ عسيرةْ. فإن قادهُم، حينذاكَ، بحكمةٍ وبمُشاركةٍ، لهم ولأجلهم، في معاناتهم فإنه يكونُ قد أوفى دينَهُ "الكارميَّ" على الإنسانيّةْ.
المرحلةُ التي تعقُبُ هذا، في معاشِ ذاك الإنسان، أو من شاكلَهُ، ستتجاوزُ ما كانَ في نفسِهِ من نوازعِ الطّموحِ الأنانيِّ والطّمعِ في الكسبِ الشّخصيْ. فالرّوحُ فيهِ تكونُ، آنذاكَ، قد لطُفَتْ وعَذُبَتْ وتهيّأ لها سبيلاً واعداً بدخُولِها، مستقبلاً، مدىً من الرّوحنَةِ هو وحدَهُ المانح إيّاها حرّيّةَ العبُورِ الأبديِّ إلى المجالي العُلَىْ.
وهكذا نحنُ نرى أنّ أمتحاناتَ وعذاباتَ حيواتٍ بعينِها على كوكبِ الأرضِ تشتارُ للرّوحِ المُممتحنَةِ والمُعذّبَةِ ظَفْرَهَا في المّستقبلْ.
2
كلُّ خاطرةٍ وفعلٍ، كلُّ تجربةٍ في الطّبيعةِ تتّخذُ لها من سطحِ كوكبِ الأرضِ مكاناً لعيشها هي مندغمةٌ في ما تُسمّى "السّجلاتِ الأكاشِيّة"*[* هذا المفهومُ الدّينيُّ-الفلسفيُّ الموجودُ في الأديانِ الشّرقيّةِ عموماً هو، في تقديريَ الشّخصيِّ، مُقابلٌ دينيٌّ لمفهومِ "اللّوحِ المحفُوظِ" في الدّينِ الإسلامِيْ- المترجم]. تلكَ هي سدُولٌ من الطّاقةِ الأثيريّةِ أو شكلٌ من "الكُهرباءِ السّاكنةِ" المُهوّمةِ حول الكوكب. إنّها إشعاعُ حياةِ رُوحِ الكوكب. إنّها هالتُهُ. منسوجةٌ هي من طاقاتِ الفِكرِ المبذولةِ للإفاقِ من كلِّ الكائناتِ الحيّةِ على الأرضْ. فهي انعكاسُ حياةِ ذلك الكائن الكونِيّ:- "الإنسانُ الكوكبيُّ-الأرضيُّ".
من هو سيّدٌ في فنّ استقصاءِ الآمادِ الأبعدِ يستطيعُ أن "يرى ويقرأ" هاتيك السّجلات التي نُسِجَ، في لُبِّ لفيفِ ذبذباتِها، كلُّ ذلك الذي يحدثُ حوالَيْ هذه الأرضْ. نعم، إنّهُ لفِي إمكانِ الإنسانِ البصيرِ أن يقرأ، وأن يتعرَّفَ على، جميع أنماط طاقةِ كلِّ ذلكَ الذي مضى وانقضى. وبما أنَّ ذاكَ النّسيجُ المُوَشَّى قد جُبِلَ من أحداثٍ سالفةٍ في تاريخِ هذه الدنيا فإنّه يحتوي، في هيئةِ شحناتِ طاقةٍ، على أشكالِ الطّاقةِ التي أفاضتْ بها إلى الآفاقِ كلُّ روحٍ في حيواتِها العديدةِ على كوكبِ الأرضْ. تلكُم (إن شئنا الإستئناسَ بتمثيلٍ ماضويٍّ حميم) هي اسطُوانةُ الجِّراموفون التي تنطوي، في ثناياها، على السيمفونيّةِ العظيمةِ لحياةِ كوكبِ الأرضِ منذُ أن وُجِدَتْ الدّنيا. فهي تعزفُ نغمَ زهوِ وزَخَمِ الموكبِ المعاشيِّ الإنسانيِّ، نغمَ تاريخِ جنسنا البشريِّ وتاريخِ اللّوغوس الكوكَبِيِّ، فواحدُهُما جُزءٌ من الآخرْ. إنّ "المُعَلِّمَ" لقَدِيرٌ على تركيزِ فكرهِ على أيِّ بُرهةٍ في التّاريخِ يرغبُ في استكناهِها. وهو، في تركيزِهِ الفكريِّ هذا، يُشبِهُ إنساناً "يُثبّتُ" إبرةَ الجِّراموفون على ثُلمةٍ (شريحةٍ) بذاتِها من إحدى الأُسطُواناتِ حتّى تنبثِقُ عنها صادحةً تقاسيمُ موسيقى معيّنةٍ، موسيقى مُفعَمَةً بالحياة.
العقلُ النّافذُ يُركّزُ رؤيتَهُ، عبرَ الأفكارِ (التي هي ذبذباتُ طاقة)، على تفصيلٍ ما من وقائعِ السّجِلاتِ الأكاشيّةِ فيُومضُ، في الحالِ، هناكَ قُبالَةَ بَصَرِهِ، شكلُ الإنسانِ أو رسمُ المشهدِ الذي يستكنهُهُ. في ضُوءٍ رائقٍ ولونٍ تشعُّ- إذاً- الأشكالُ والرِّسُومُ، إزاءَ عينِ ذاكَ العقلِ، في هيئةِ صُورٍ حيّةْ.
تلك التجربةُ يبدو الشَّاهدُ فيها وكأنّهُ حاضرٌ في ذلكَ الآنِ من الزّمانْ. وإذ تتطوّرُ لديهِ هذه "المَلَكَةُ"- كما سمّاها "المُعلّم"- يُوغلُ الشّاهدُ في الحضورِ هناكَ فيبدو وكأنّه يراقبُ، بالفعلِ، مشهداً من مشاهد التاريخ- ليس من موقعِ المراقبِ المنفصلْ، لكن كجزءٍ حميمٍ من المشهدْ. والأزياء التي يكون، حينذاك، مُرتدِيها لا تتراءى لهُ عتيقةً أو عجيبةً، بل فقط مثلما يرتدي المرءُ من لباسٍ في الفترةِ المعنيّةْ.
يبدو لي- إذاً- أنّهُ لابدَّ لتلكَ السّجِلاتِ الأكاشيّةِ، ما دامتْ مُصاغةً من أثيرٍ خلاقٍ وقابلةٍ لأن تُدرَكَ بواسطةِ بعضِ النّاس، من أن تغدو، في زمنٍ مقبلٍ ما، قابلةً- مبدئيّاً- لأن يُطلع عليها الجّميعْ. فالأمرُ معها، في غايتِهِ، هو أمرُ قوّةِ تركيزٍ واستطاعةٍ على الغوصِ في الأبعادِ الباطنةِ للكينونةْ.
في القرونِ المُقبلةِ قد يكونُ في مُكنَةِ الأرواحِ المتطوّرةِ أن تنظُرَ في غابرِ الزّمانِ (أو، على الأقلِّ، في زمانِ حيواتِها الماضية)، مما يُهيّئُ لها قدرةً على تقييمِ موقفِ مسيرتِها على دربِ التطوّرِ وفهماً لأخطائها السالفةِ التي أودتْ بها إلى أتراحِ وأفراحِ حياتِها الحاضرةْ. إنّها، في فِعلِها ذاكَ، سوف تستبينُ جذورَ مثالبِها الشخصيّة الحاليّة. في الواقع، قد يأتي زمانٌ تكونُ فيهِ براعةُ العلماءِ مستطيعةً إختراعَ نوعٍ من جهازِ التّلفزيونِ الرّوحيِّ لهُ قدرة على "الإمساكِ" بحادثاتٍ ماضيةٍ و"نثْرِهَا" (عرضِها) على شاشتِهِ. ذلكَ ليسَ بمُستبْعَدٍ كثيراً طالما أنَّ هاتيكَ الحادثاتِ- أصلاً- ليستْ إلا مُكثّفاتُ طاقةٍ مُحوِّمَةٍ، أو عالقةٍ، في الأثيرْ.
بهذا الفهمِ لا تبدو قدرةُ نفرٍ من أساتذةِ ذاكَ الفنِّ- هنا وفي الما بعد- على قراءةِ تواريخِ الحيواتِ الماضيةِ لأولئكَ الذين يودُّونَهُمْ من النّاسِ شيئاً خارجاً عن حدودِ المِصداقيّةْ. ثم إنّ ما تحتوي عليهِ مثلُ تلكَ القراءةِ من دراسةٍ لجَيَشَانَاتِ مشاعرِ وانتصاراتِ أُناسٍ ما يزالُوا، إلى الآنِ، أحياءِاً بيننا في هيئةِ أجسادٍ جديدةٍ ليس لهُ إلاّ أن يكونَ أكثرَ الأشياءِ إضاءةً لمساراتِ حيواتِهم. فمَلامِحُهُم الماضويَّةُ تلكَ وردودُ أفعالِهم السّالفة تجاه ظروفهم هي، في الحقِّ، ذاتُ سببِ قُدراتهم الحاضرةِ وميولهم الفطريّة الحاليّة أو، فلنقُلْ، هي ذاتُ سببِ ميلادِ مواهبهم، ملَكَاتِهِم وقُواهم الحاضرةْ.
ليس ثمةُ طريقةٍ أخرى أكثرَ نفعاً من هذه في طبعِ عقلِ الإنسانِ بالحاجةِ لِتعلُّمِ درسٍ قيِّمٍ عن نفسِهِ، في حياتِهِ الحاضرة وميولهم الفطريَّة الحاليَّة أو، فلنقُلْ، هي ذاتُ سببِ ميلادِ مواهبهم، مَلَكَاتِهِمْ وقُواهم الحاضرةْ.
ليس ثمةُ طريقةٍ أخرى أكثرَ نفعاً من هذه في طبعِ عقلِ الإنسانِ بالحاجةِ لتعلّمِ درسٍ قَيِّمٍ عن نفسِهِ، في حياتِهِ الحاضرة، ما دامتْ هُنالِكَ فُرصةٌ لذلكْ.
في الواقعِ إنّ من يصيرُ "رائياً"- بالمعنى الذي أوردنا- يشهدُ، بجلاءٍ نافذٍ، كيف أنَّ كلَّ كلمةٍ، فكرةٍ (خاطرةٍ) وفعلٍ تصوغُ عينَ مستقبلِ الفردِ الإنسانيِّ فشأنُهُ، حينذاكَ، يكونُ كشأنِ ناسجٍ لسُلّمِ حبالٍ، لأرجُوحةِ حِبالٍ ستعبُرُ بهِ، في النِّهايةِ، فوقَ المحيطاتِ الجّائشةِ لهذهِ الحياةِ، إلى برِّ أمانِ اليابسةْ. لا أحدٌ ممّنْ مرُّوا منَّا بظروفٍ مُشابِهَةٍ لظروفِ هذا الرّائي-النّاسج قد يُغَامِرُ- إذاً- بلحظةِ غفلةٍ أخرى في نَسْجِهِ.
3
بحسب تجربة د. ستيفينسون فإنّ متوسّط العمر الذي تبدأ فيه ذكرياتُ الحياةِ الماضيةِ في البروزِ في مقدّمةِ واعيةِ طفلٍ ما يمتدُّ بين سنتين ونصف وخمسة سنين. وفي عددٍ من الحالاتِ تبدأ هاتيكَ الذّكريات في التّلاشي عند بلوغ الطّفلِ إيّاه حوالي السادسة من عمرهِ فما فوق. رُغمَ ذلكَ فإنّ سجِلاتَهُ قد احتوتْ على حالاتِ أطفالٍ في العاشرةش من أعمارهم، وأكبرَ من ذلكَ، كانوا، حينما أجرى لقاءاته معهم، محتفظينَ بذكرياتٍ عن حياتهم السابقة على كوكب الأرض. وشاهدنا على ذلك أنّه، بين آلافِ الحالاتِ التي تقصّاها د. ستيفينسون، وجُدتْ الذكريات تلك باقيةٌ في واعياتِ صبيانٍ وبناتٍ بلغوا حتّى ما بينَ السادسة عشر والثامنة عشر من أعمارهم.
ينبغي ألا تغيبُ عن مرآنا حقيقةُ أنَّ الحياةَ فيضٌ مُتّصلٌ من ديمومةٍ شعوريّة. فقط فيها يختلفُ، أو يفترقُ، "البُعدُ" الذي يشتغلُ عليهِ الشِّعورُ، إذ أنّ ذاكَ البُعدِ هو "ناقلُ" النّفسِ من مدى تركيزٍ رُوحيٍّ إلى مدى تركيزٍ أثيريٍّ، فمادّيٍّ. ثم هو، أيضاً، المُعيدُ لها، مرّةً أخرى، على دربِ الرُّجْعَىْ إلى هناكْ.
قد يكونُ من الأوفقِ لنا هنا أن نورد المزيدَ من الحالاتِ التي عرضها علينا د. ستيفينسون. ذلكَ حتّى نستبينُ إشارةً تدلّنا على المسالكِ الماضويّةِ التي يتَّخذُ بها ما يتبدّى، عادةً، في الرّوحِ، من أهليّاتٍ سبيلاً إلى الرّوحِ في آنِ أوبتِها إلى العالمِ المادّيِّ (الدّنيا). هذا شيءٌ ليس بالغريبِ أو المفاجئ. فالرّوحُ هي جِماعُ التذركيبِ الخاصِّ بها الذي حازتْ عليهِ، تدريجيّاً، خلال حيواتها المتلاحقة. وعاداتُ الرّوحِ الفكريّةُ والشّعوريّةُ- كما أسلفنا- هي التي "نسجتْ" الرّوحَ على منوالها. إذاً فمن المتوقّعِ للرّوحِ أن تنطوي، عند ظهورها اللاحق على وجهِ الأرضِ، على ميولٍ فطريّةٍ موروثةْ.
أنا قد توصّلتُ إلى عاملٍ آخرٍ له علاقة بما سبق ستُوضّحهُ الحالة التي سأتحدّثُ عنها بعدَ قليل.
لأننا صرنا إلى ما نحنُ عليهِ الآنَ بسببِ عاداتنا العريقة في التفكير والشعور فإننا خليقون بأن نُعدَّ الصّائغينَ لأجسادنا ومظاهرنا الخارجية، تماماً كما وخواص عقولنا وشخصياتنا. ربّما نستدعي هنا القاعدة القاضية بأنّنا نولدُ لوالدين وفي عائلة أو عرق ذوي انسجامٍ واضحٍ جداً مع مُركّباتِ طاقاتِنا الخاصّة ممّا لا يُبقِيْ لنا شيئاً نرثُهُ من والدينا سوى الصفات والعوامل الفيزيائيّة. فنحنُ، مُسبقاً ووفقاً للمماثلةِ الظاهرةِ بين شُحناتِ طاقاتنا وطاقاتهم، نُشبهُهُمْ. أمّا ملكاتُنا العميقةُ فتنتمي إلينا وحدنا.
هذا يُظهِرُنا على أنّهُ ليسَ من المُدهشِ أن نجدَ أنفُسَنَا، حياةً إثرَ حياةٍ، نعودُ إلى أجسادٍ موائمةٍ لنا ومُعبّرةٍ عن مُكوّناتنا، مُطوّرينَ، بذلكَ، إطاراً فيزيائيّاً وملامحاً هي، عادةً، مُشابهةً لملامحِ آخرِ هيئةٍ اتّخذتها أرواحنا على ظهرِ البسيطةْ.
دوماً تحتوي الهيئاتُ الجديدةُ لأرواحنا (أجسادنا الحاضرة) على شحناتِ طاقةٍ هي ألبابُ كينوناتها الباطنة وصائناتُ وجودها. وبما أنّ سُلّمَ التّطوّرِ الطبيعيِّ ليس مفاجئاً وحادّاً في اختلافاتِ هيئتِهِ ووُسعِهِ الشّعوريِّ، بل هو تدريجيّاً وطفيفَ التَّغيّرِ فإنّ الرّوحَ الآيبةَ تكونُ لها ملامحٌ شبيهةٌ بملامحها وخطوطِ وجهها التي كانت لها في آخرِ تجسّدٍ على الأرضِ وإن اختلفَتْ سُلالاتُها البشريّةْ.
يردُ على خاطري، في هذا السبيلِ، شيءٌ عن رجلٍ إنجليزيٍّ عرفتُهُ. فذلك الرّجلُ قد شعرَ، رُغمَ أنَّ كلّض سابقيهِ من أهلِهِ كانوا انجليزاً، بقرابةٍ شديدةٍ للصّينيّين الأقحاح (أو من لا يقطنون إلا في الضّواحي الصّينيّة في المُدنِ الكبرى). ثم إنّهُ، من بعدِ هذا، وجد إتقان تعلّم اللغة الصينيّة شيئاً سهلاً جداً بالنسبةِ إليهِ. من الواضحِ أنّ ذاكَ الرّجلَ قد كان صينيّاً منذُ قرنٍ مضى أو ما قاربَ ذلكْ.
الحالةُ الثانيةُ التي تقصّاها د. ستيفينسون تُظهِرُنَا ليس فحسب على كيفَ أنّ تفاصيلَ كثيرةً من حياةٍ ماضيةٍ قد استُدعِيَتْ للإندغامِ في حياةٍ جديدةٍ لروحِ ما، بل- أغربَ وأبعدَ من ذلكَ- على كيفَ أنَّ الرُّوحَ العائدةَ تلكَ قد احتفظتْ بذاتِ ملامحِ ملامحِ جسدها السابقِ وبدتْ، على نحوٍ ملحوظٍ، شبيهةً بالإنسانِ الذي كانتْهُ من قبل (هذا الأمرُ قد عُلّقَ عليهِ أيضاً في حالةِ وِيجاراتنِي- أنظر الفصل الثالث). تلك هي حالة ماريا أوليفيرو.
وُلِدَتْ ماريا أوليفيرُوا في عام 1890 لأبٍ ميسورِ الحالِ كان يملُكُ مزرعة حيواناتٍ في البرازيلْ. "كانتْ سِنْهَا، إذا استخدمنا الإسم الذي كثيراً ما عُرِفَتْ بهِ، تحبُّ الحياةَ الريفيّةَ في أرضِ أبيها التي ترعرعتْ على ثُراها. مع ذلكَ يبدو أنّها قد عانتْ من الوحدة في موطنها المعزول نوعاً ما. كانتْ سِنْهَا كثيراً ما تزورُ قرية دون فيليسيانو وتستأنسُ هناكَ بصداقةِ إدَا لورنس، زوجة ف. ف. لورينس، معلّم مدرسة تلك الضّاحية. وقعتْ سِنْهَا في الحبِّ مرّتين مع رجلين لم يرضَ عنهما أبوها. أحدُ هذين الرجلين انتحر. وفي الحالةِ الثانيةِ من هاتينَ الحالتين المُحبِطتين وقعتْ سِنْهَا صريعةً لحالةٍ من الكآبةِ فأهملتْ نفسها وخرجتْ في الجوّ الباردِ الرّطبِ دونَ دِثارٍ كافٍ مما سبّب لها عدوى مرضيّة حادّة في رئتيها وحنجرتها. قد عانتْ، خصوصاً، من وجعِ حلقٍ. شُخِّصَ المرضُ على أنّهُ درنٌ رئويْ. وبعدَ شهورٍ قليلةٍ من إصابتِها بهِ تُوفّيَتْ. عندَ فراشِ موتِها أسرّتْ لإدا لورنس بأنّها كانتْ قد أ رادتْ الموتَ فعمدتْ إلى أن تُصيبَ نفسها بالعدوى. ثم وعدتْ، من بعدِ ذلكَ، صديقتها الحميمة بأنها ستعود إلى الدنيا، مرةً أخرى، في شخصِ إبنتِها. وبخلافِ ذلكَ تنبّأتْ سِنْهَا لصديقتِها ببضعةِ أشياءٍ فقالتْ لها:- "حينَ يُعادُ ميلادي وأبلُغُ من العمرِ سنّاً يسمحُ لي بالكلامِ عن سرِّ إعادةِ ميلادي في جسدِ الفتاةِ الصغيرةِ التي سوف تكون إبنتك سوف أقصّ عليكِ أشياءَ عديدة حدثتْ في حياتي الحاضرة ولسوف تتعرّفينَ، في ما سأقول، على الحقيقة"..."
ماتتْ سِنْهَا- كما تُخبرُنا روايةُ د. ستيفينسون السالفة- في أكتوبر 1917 وفي اليومِ التّالي لذلكَ الذي أدلتْ فيهِ لصديقتِها بهذا التّصريحِ الفريد. كان عمرُها، عندَ الوفاةِ، ثمانيةَ وعشرينَ عاماً.
"بعدَ عشرةِ أشهُرٍ من ذلكَ وُلدتْ إدا لورينس طفلةً سمّتها مارتا. حينما بلغتْ مارتا السنتين والنّصف من عمرها بدأتْ تتحدّثُ عن أحداثٍ في حياةِ سِنْهَا. ذكرتْ ملاحظتها الاولى عن هذا الموضوع لأختها الكبرى لُولا فقالتْ:- "لُولا، إحْمِلِيْنِيْ على ظهرِكْ". ردّت أختها، التي لم تكنْ (شأنُها في ذلكَ شأنُ كلِّ أطفالِ عائلةِ لورينس وجيرانهم) تعلمُ شيئاً عن وعدِ الفتاةِ الراحلةِ بالعودةِ، عليها فقالتْ:- "تستطيعين أن تمشي بصورةٍ مرضيّةْ. لا أحتاج إلى أن أحملك". على هذا ردّتْ مارتا بقولها:- "حينما كنتُ كبيرةً وأنتِ كُنتِ صغيرةً درجتُ كثيراً على حملِكْ". "متى كنتِ كبيرة؟" سألتها لُولا ضاحكةً. أجابتْ الطّفلةُ الصغيرة:- "في ذلك الوقت لم أعشْ هنا. فلقد عشتُ بعيداً عن هذا المكان وحيثُ كانتْ هنالكَ أبقارٌ وثيرانٌ كثيرةٌ وبُرتقالٌ وفيرْ. هنالكَ أيضاً كانتْ تُوجد حيواناتٌ شبيهةٌ بالماعز، لكنّها لم تكنْ ماعزاً (عَنِيَتْ بأولئكَ "الخُرفان"، لكنّها ما كانتْ تعرفُ تلكَ الكلمة)"...... "وعندما أخبرت الأمُّ طفلتها بأنّها ما عاشتْ مُطلقَاً حيثُ ذكرتْ أنّها قد عاشتْ أجابتَها الطّفلة:- "بلى، لكنّني، في هاتيكَ الأيّامِ، كان لي والدين آخرين"..."... "ثمّ سألتها إحدى إخواتها مازحةً عمّا إذا كانَ لديها، آنذاكَ، خادمةٌ زنجيّةٌ صغيرةٌ كما هم لديهم الآن. أجابتْها مارتا:- "لا. فخادمتُنا الزّنجيّةُ كانَتْ، في ذلكَ الأوان، كبيرةً، وكذلكَ كان الطّبّاخُ، لكن كان لدينا صبيٌّ زنجيٌّ صغيرٌ نسيَ، ذاتَ يومٍ، أن يجلبَ الماءَ فضربَهُ أبي". عندَ سماعِ ذلكَ قال أبُ مارتا إنّه لم يضرب صبيّاً زنجيّاً مطلقاً في حياتِهِ. ردّتْ عليهِ مارتا بقولِها:- "إنَّ من ضربَهُ هو أبي الآخر. ولقد صاح الصبيُّ الزّنجيُّ، حينذاكَ، مُتشكّيَاً إليَّ:- ساعِدِيْنِيْ يا سِنْهَا زِنْدَا!"
ثم سأل الأب مارتا إن كان ذلك الصّبيُّ قد جلبَ الماءَ من النّهرِ (مثلما كانت عائلتهم تفعل آنذاك). أجابت الطفلة الصغيرة أنّ الماءَ، في ذلك المكان، كانَ يُسْتَجلبُ من بئرٍ لأنّه ليس من ثمةِ نهرٍ هناك. ولقد كان ما ذكرتْهُ صحيحاً. سألها الأب، من بعدِ ذلك:- "من هي "سِنْهَا"، أو "سِنْهَا زِنْدَا" هذه؟" أجابتْهُ مارتا:- "تلكَ هي أنا. بيدَ أنّني كنتُ أُدْعَىْ أيضاً بإسمين آخرين أحدهما هو ماريا والآخرُ لا أستطيعُ تذكّرَهُ الآن".
إستخلصَ السيّدُ لورينس- كما جاء في روايةِ د. ستيفينسون- معلومات عديدة ملأتْ قائمةً بمائةٍ وعشرينَ تفصيلاً عن حياةِ مارتا السّالفة في "هيئةِ" سِنْهَا تطوّعتْ مارتا بإبلاغِها إيّاه. ثم تحدّث د. ستيفينسون حول ذلكَ الأمر مع مارتا في عام 2619. قالتْ، حينذاكَ، أنّ الكثيرَ مما علمتْهُ عن ذاكَ الموضوع قد تلاشى الآنَ عن واعيتِها، لكنّها ما فتئتْ متذكِّرةً، بوضوحٍ عظيمٍ، مشهدها حينما كانتْ (في شخصِ سِنْهَا) على فراشِ الموتْ. فهي- كما قالتْ- كثيراً ما شعرتْ، أثناءَ حياتِها كطفلةٍ صغيرةٍ إسمها مارتا، بذاتِ ألمِ الحُنجرةِ الذي أودى، في النّهايةِ، بحياةِ سِنْهَا، لكنّ ذلكَ كلّهُ بَهُتَ في ذاكرتِها مع تقدّمها في السّنْ.
علّقَ بعضُ المراقبين الذين عرفوا سِنْهَا ومارتا معاً على الشّبهِ الشّديدِ لخطّي يديهما. كما وأنّ هنالكَ أيضاً ملاحظاتٌ أوردها بعضُ أولئكَ حول المُماثلاتِ، في المظهرِ الفيزيائيِّ، بين الإمرأتين. فحينما بلغتْ مارتا التّاسعة عشرةَ من عمرها لمحَتْهَا إمرأةٌ زِنجيَّةٌ عجوزٌ وتعجّبَتْ من شَبَهِها الشّديدِ بِسِنْهَا. كانت تلك الزّنجيّةُ سَرِيَّةً وخادمةً سابقةً لأبِ سِنْهَا.
ما كان إيرادِي لهذهِ الحالةِ هُنا إلاّ لأنّها تُبدِيْ لنا كيفَ أنَّ الرُّوحَ الآيبَةَ (في صورةِ جسدٍ جديدٍ) كثيراً ما تكونُ واضحةَ الشّبهِ، في هيئتِها الفيزيائيّة (في وجهِهَا وخِلافِهِ)، لما كانتْ عليهِ قبلاً وهي في هيئةِ جسَدِهَا السّابِقْ.
- إبراهيم جعفر
- مشاركات: 1948
- اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am
الفصلُ الخامس
تيلهارد دِي شَارْدِنْ
1
كثيراً ما آمن الناس في الزمان الماضي بأن ما يُصيبنا من ضرٍّ إنما هو "مكتوبٌ" على أبراجِ النجومِ التي نحنُ لها تابعين. لكنَّ شكسبير كان محقّاً، بالطّبعِ، حينما قال إنّ الأمرَ ليس كذلك على الإطلاق. فالطريقة التي يُمسكُ بها الراكبُ زمامِ الفرس هي التي تُوجّه مسار حياته. ليس من إنسانٍ- إذاً- مقيّدٍ إلى أشكالِ سلوكٍ معيّنةٍ تفرضها عليه مكونات بنيانه الفيزيائي. فروحه هي- أو ينبغي أن تكون- السيّد(ة). اتساع وعي الإنسان بهذا الإمكان المفتوح هو الذي يُعجّل بتطوّرهِ الرّوحيِّ والشّعوريْ. وعلمُ النّفسِ، كما قُيّضَ لي أن أرى، قد أخطأ، خطأً عظيماً، في هذا السبيلِ حين ساقنا إلى الإعتقادِ بأننا لسنا مسؤولينَ عن طباعنا (ومِزاجاتنا) وإنما وراثتنا وبيئتنا هما المسؤلتان.
حين نقارن الفروق، كما والتّشابهات، بين الحياةِ الحاليّةِ لرجلٍ ما وحياته الماضية فإنّ عدداً من العواملِ المتعلّقةِ بهذا الشأن تُظهرُنا على نفسها.
أيُّ روحٍ تُولدُ في زمنٍ بعينِهِ (بحسابِ زمانِ نظامنا الشّمسيّ هذا) لسببٍ مرتبطٍ بما كانتْ عليهِ سابقاً. إنها لا تكون هي على ما هي عليهِ لأنّ النّجمَ الذي وُلدتْ تحته شاء لها ذلك، بل هي "يُحبَلُ" بها وتُولدُ في لحظةٍ فلكيّةٍ معيّنةٍ لأنَّ طاقاتِ رُوحِها قد تناغمتْ والفيض الكونيّ للقوى النّجميّة (الفَلَكيّة) في ذاتِ ذاكَ الزّمانْ. فاندغامُ تيّاراتِ طاقاتها الباطنة مع الفيضِ الكونيِّ في تاريخٍ معيّنٍ يُصيِّرُها منسجمةً وإيّاهُ بلطافةٍ، ومن ثم تنغمر، مرةً أخرى، بوسيلةِ نهرِ الطاقاتِ الدافق هذا، في إهابِ وضعيّةِ الحياة الفيزيائية على كوكب الأرض.
الروح التي تؤوب، على هذه الصورى، إلى الدنيا ستحتفظ بعددٍ من أوجهٍ شتّى لهيئتها السابقة على الأرضِ بحيثُ تُصيرُ هاتيكَ راسخةً فيها حينذاك.
في أثناءِ رفرفةِ الرّوحِ لأجنحتها انتظاراً للرحيلِ، ثانيةً، إلى مسرحِ الأرضِ تستجمعُ فيها الحاجات التي سوف يتحدّدُ، تبعاً لها، المنزلُ الأرضيُّ الذي ستهبطُ عليهِ وتُمثّلُ فيهِ، مُجدّداً، مسرحيّتها المعاشيّةْ.
قد يكون صرورياً للرّوحِ، حينذاكَ، أن تُسِرَّ أوجُهاً بذاتها من طبيعتها وتُفضحُ، بجلاءٍ، عن أوجهٍ أُخَرْ. فالقوى التي تهب عوناً دائماً على أمثالِ هذه الشؤون ستُعطيها الإشارة ولسوفَ تخطو هي على عتبةِ المسرحِ الدُّنيويِّ فيما تأثيراتٌ فلكيّةٌ معيّنةٌ ناشطةٌ في مجالها ستمنحُنا فرصاً خاصّةً بفترةِ حياتِها التالية على كوكب الأرضْ. وهكذا يُجلبُ إلى مجالِ الفعل المادّيّ والدنيويّ وجهٌ آخرٌ من وجوهِ جوهرِ كينونتهِ كروح.
ستصوغُ الروح الآيبة إلى العالم لذاتها ثوبَ هيئةٍ فيزيائيّةٍ يُقدُّ من صفاتٍ مُوجِّهَةٍ لغاياتٍ مخالفةٍ- بمقدارٍ- لغاياتِ حياتها السالفةْ. هنا قد تختلفُ، إلى حدٍّ، العوامل الوراثية والبيئية المحيطة بحياة الروح عما اعتادت عليه في ماضي الأيام. عليه فإنها ينبغي لها أن تُعبّر، خلال أنماطِ طاقةٍ مختلفةٍ، عن ذاتها في الهيئة الفيزيائية.
هذا هو تحدى الحياة الجديدة. هذه هي فرصتها التطورية. وصاحبها الإنسان قد يُعان عليها بواسطة تحسنات معينة في ظروفه المعاشية وفي ظروف من سيحيا بينهم أو، على العكسِ من ذلك، قد يجدُ، بسببٍ ضعفٍ ماضويٍّ ما، الأمورَ أكثرَ عُسراً. ذلك، بما ينطوي عليهِ من حاجةٍ للغلبَةِ والإخضاعِ، سيُقوّيه.
ولأنّ ذلك الإنسان- الروح قد جاء إلى الارض "محمولاً" على شعاعٍ روحيٍّ مختلفٍ ومنفتحاً على تقاطعِ تفاعلِ قوى هي، كذلك، مختلفة فإنه سيجد طيّاتاً وأوجُهاً جديدةً من روحهِ متسارعةَ النّشرِ والإنعتاقْ. وكثيراً ما تتبدّى في ذاتهِ، آنذاكَ، مَلَكَاتٌ جديدةْ.
غايةُ المرادِ من هذا الإنسان هي، طبعاً، توسيع نفسه الباطنة على مستوياتِ كلّ القوى الشّعشعانيّة الروحانية ا لمتاحة وموازنة خواص وقوى الروح خلل تفاعلات (أو تمازجات) هاتيك القوى في ذاته وانسجامها ونفسه-روحه التي هي، دوماً، في مسارِ تطوّرٍ مطّرِدْ. فهو ما ينفكُّ في سعيٍ حثيثٍ إلى اتّساعٍ أكبرٍ في وعيهِ وشعورهِ، ومن ثمّ إلى غورٍ ولطافةٍ كينونيتين عظيمتين.
يأتي الرجل، أو المرأة، إلى مقدمة مصاف الرجال والنساء ويصير ذا صيتٍ وشهرة أو ذا سمعة سيئة بسببٍ من قوةِ روحه. فإن هو تعلّم كيف ينفتح بنفسه على دفقاتٍ عظيمةٍ من قوى السماء الكونية فسوف ينحتُ لنفسه قالباً حياتيّاً ذا سعةٍ وقوّة. وتبعاً لذلكَ سيغدو كلّ ما يفعلُهُ ذا "قوّةِ حصانٍ" مقتدرةْ. فهو قد خُتمَ عليهِ بختمِ الفائزِ بحكمِ عينِ جواهرِ كينونتهِ.
طبعاً تعتمد كيفية استعماله لشحنات الطاقة الداخليه هذه على النحو الذي يُظهرُ بهِ قوّة نفسه في الوجود، خيّراً كان ذاك النحو أم شِرّيراً، ومُوجَّهَاً لنفسه كان أو للمجتمع الذي يعيش فيه. أو ربما لا يُظهر على الإطلاق، في ذلك السبيل، قوّةً ما للعالمِ الخارجيِّ، بل ينشغلُ بتطوّرهِ الخاصِّ عبر خطوطٍ سرّيّةٍ باطنةْ.
كلُّ حياةٍ لاحقةٍ للمرءِ تُمثّلُ فرصةً لذاته الأسمى كي تُطوّرُ عقله ونفسه (روحه) ملءَ وسعهما. في المراحل الأولى لحياةِ الروحِ الإنسانية اليافعة، في حياةِ الإنسانِ "البدائيِّ"، ما كان لهذه الدرجة من النجاح أن تُؤمّلْ. فالأخطاءُ واردةٌ كثيراً، لكن أيَّ خطأ يُعلّم الروح على ذاتِ النحو الذي تُعلّمُ به الأصابعُ المحر وقةُ الطّفلَ أن يبعدَ عن النارْ. أخطاءُ التّقييم هذه يُمكنُ للمرءِ أن يدعوها، إن شاء، "جهلاً أصليّاً"- وليس "خطيئة أصليّة". لكنّه من المحتّم لأيِّ روحٍ يافعةٍ أن ترتكبَ أخطاءاً. فالحياةُ ستُعلّمُ ما هو مفيد وما هو غير مفيد أيضاً.
أولئك الذين هم في أولى مراحل تطورهم الروحي يميلون، لحدٍّ معيّنٍ، إلى أن يستخدموا إمكانات أنفسهم أوتوماتيكيّاً. إنهم يسمحون لجواهر كينونتهم بأن تتفجّر، كلاماً وفعلاً، دونَ تحكّمٍ واعٍ منهم بأنفسهم أو إدراكٍ متفكّرٍ لدوافعهم الباطنة. فما نحنُ جميعاً جاهدونَ إلى أن نحوزهُ هو توسعة وتعميق إدراكنا بأنفسنا، ومن ثم تطويعها لتحليلٍ ذاتيٍّ ناقذْ. هذا هو الفرق بين الروح البشرية الغرة اليافعة وروح الإنسان المهذّب المشذّب ذي الحكمة والنّضج الروحي.
هنا ينهضُ سؤال:- كيف لإنسانٍ أن يُجهلَ في حياةٍ ما، يُحتفى به في أخرى، ثم يعود، فيما يبدو، مجهولاً ونكرة في الحياة التالية لهاتين؟ فهذا يحدثُ كثيراً.
السبب في حدوث ذلك أنّ من يعيش حياة شهرة يجلب إلى تلك الحياة أوجهاً من روحهِ محفوزةً بتناغمهِ الخاصِّ مع قوىَ شعشاعة كانتْ مُيَسَّرَةً له آنذاك. فموجّهُهُ الذاتيُّ سيختارُ، في ذاكَ الحين، أن يستعملَ من أوجهِ، أو خصائص، روحه تلكَ التي سوف تزدهر ازدهاراً عميقاً وراسخاً في إيقاعِ الزّمانِ الذي "يجدُ" نفسَهُ عائشاً فيهِ.
قد نأخذُ، كمثالٍ على ما نقول، شخصاً في قامةِ مايكيلانجلو. هنا، بلا شك، نُلاقي من نسمّيها "روحاً" قديمة. هنا إنسانٌ أفعمهُ معاشهُ الماضويُّ بالغنى في القوى الكونيّةْ. ولأنّ مايكيلانجلو قد ولد في زمنٍ مواتٍ لإبداعِ ورعايةِ الفنونِ فإنَّ القوى التي سبقَ وان انطوى عليها في حيواتٍ ماضيةٍ قد سُمحَ لها بأن تبلغ قمةً في الإزدهارِ والإمتيازْ. كان ذلك الفنانُ العبقريُّ قادراً على استقبالِ الإلهامِ من القوى الروحيّة العليا، كما وأنه قد جرى بمفاهيمهِ لسمو الكون الخلاق على سقوفِ وكانفاساتٍ كي يُعلّمَها كلَّ الأنسْ. فمخزونه الخاص من الحكمةِ، وصله الطبيعيِّ بالألوهيِّ قد علّمهُ التعبيرَ، في الفنِّ، عن بهاءِ المجالي العُلى بحسبِ قدرِ انعكاسهِ الممكن في الإنسانْ. هنالك كرامة- فوق-إنسانية، عظمة وجلال فاضوا على فرشاتهِ الخلاقة قدّموا للإنسانِ محاضرةً عما يمكن أن يصيرَهُ الإنسانْ. إنّ مايكيلانجلو، ومن هم على مثاله، كانوا تعابيرَ عن الألوهيِّ في الأرضْ.
مع ذلكَ، فإنّ أداءَ الإنسانِ الخارجيِّ لا يُطلعُنا، بالضرورةِ، على قوّتهِ وحكمته الداخليّةْ. فالتكبّرُ، تضخّم الأنا، فقدان التعاطف الرفيق بالآخرين، شهوة القوة، كلّ هذه الصفات تستطيع أن تجلبَ سقطةَ ذاكَ الذي لهجتْ باسمهِ ألسنةُ كلِّ الناسِ وحُرِقَ له بخُورُ الإطراءِ في قرنٍ غابرْ. لمثل هذه الروح قد نتوقع فترةً من التنكيرِ عبر كلّ حياتها التاليةِ تكونُ بمثابةِ إجراءٍ وقائيٍّ لها ضدّ تمركزِ الأنا الموسومة به حياتها الحاليّةْ. ربّما يكونُ الأمرُ مُقْتَضِيَاً أن تُؤدِّي تلك الرّوحُ (ذاك الإنسان)، في زمنٍ قادمٍ، دورَ عابرِ سبيلٍ مجهولٍ على مسرح الحياةْ. ذلكَ حتّى تتقوّم وتتعادل فيها (فيه) تصوّر الأنا لقيمتها الخاصّةْ. من الغريبِ أن نقولَ، في هذا المقامِ، أنَّ الأخطاءَ الكبيرةَ (في حياةِ امرئٍ ما) كثيراً ما تُنْجِبُ خُطىً واسعةً وكبيرةً إلى الأمام.
ذلك الذي يعيشُ بجرأةٍ، أو حتّى على حافّةِ الخطرِ، رغمَ أنّهُ قد يرتكبُ أخطاءَ فادحة، كثيراً ما يتعلّمُ أسرعَ من الوجِلِ، المتوجّسِ الذي قد يتطوذرُ روحيّاً، لكن ببطء. وذاتُ القوى التي يستولدُها الإنسانُ الذي ينجرُّ، باندفاعٍ، إلى زخمِ التّجاريبِ الحياتيّةِ- وإن أضرّتهُ نتائجُ هاتيكَ بالغ الضّرر- تُودي بهِ إلى حالةٍ من التّوبةِ، حالةٍ من انبثاقِ الفهمِ تبلُغُ مدىً قد يسوقُهُ خُطواتٍ طويلةً وعظيمةً إلى الأمامِ وصُعُدَاً في كينونتهِ الروحيّة المستقبليّةْ.
مرّت الأيام وبدأ "المُعلّمُ" يهبني وَمَضَاتٍ مُسترجعَةً من أزمنةٍ مضتْ. كانَ، أحياناً، يعرضُ على شاشةِ رؤياي الداخليّة صوراً لحدثٍ ما تمّ في الماضي ورغبَ هو في استجلائهِ لي.
تدريجياً بدأتْ عيناي، تحتَ هداه، في التفتّحِ حتّى استطعتُ أن ’أرى‘ جزءاً صغيراً مما أومضَ بهِ في شعوري (وعيي). كانت الصور قد تترى أمامَ مرآي وكنتُ، أحياناً، لا أستطيعُ تمييزها رغم أنّ الوجوهَ المصوّرة فيها كانتْ تبدو، حينذاكَ، مألوفة.
آهٍ، كم كان صعباً عليَّ الإستمساكَ بهاتيكَ اللّمحاتِ الخاطفةِ ومحاولة استدعاء وجهٍ كان يستبينُ لي على أنّهُ وجهُ أخٍ أو صديقٍ قريبْ! لكنّه كثيراً ما بدا لي اختراقُ تستُّرِ ذاكَ الوجهِ الأليفِ تحتَ حجابِ موضةٍ وزيٍّ من زمنٍ آخرٍ، تحتَ قناعِ لحيةٍ أو باروكةٍ أو لباسٍ من القرونِ الوسطى، شيئاً أشبهَ باللّقاءِ، صُدفةً، بصديقٍ (صديقةٍ) قديم (قديمة) في "حفلةٍ تنكّريّة" وعدم القدرة، مع ذلك، على التّعرّفِ عليهِ (عليه) من خللِ لباسهِ (لباسها) التّنكّريِّ الحاضرْ.
لكن "المعلّم" قد عرفَ تلك الوجوه. بل وربّما ذكرَ لي، أحياناً، أسماءها فعرفتُ من أصحابها من عرفتُ وغابَ عن باليَ الآخرْ.
وهكذا بدأ انكشافٌ جديدٌ مثيرْ.
كان هدف ذلك الإنكشاف إعطائي تنويراً عن العواملِ التي تحكم تقدّم الرّوح الإنسانيْ.
"الدّينُ هو علمُ حركةِ مقذوفات، هو الطريقة التي تُهزمُ بها دفعةُ جاذبيّةِ الأرضِ"، قالَ "المعلّمُ"، "لذا ينبغي عليهِ أن يُوسّعَ فهمَ المرءِ لمعنى الأشياءِ وكيفِها". وهكذا أراد "المعلّمُ" أن يعرضَ عليَّ شيئاً من ماضي بعضِ أولئكَ الناس الذين عشتَ بينهم، وكذلك جانباً من ماضي شخصيات بعينها غدتْ أعلاماً في عصرنا هذا. عليهِ فقد سعى التَّاريخُ، حيّاً، إليَّ. كان ما شهدتُهُ كشفاً قُصِدَ منهُ أن أتحقّقَ من أنّ أولئكَ الذين حولنا، مثل أقرباء المرء، أصدقائه، الرجال والنساء الذين قرأ المرءُ عنهم في الصّحفِ، أولئكَ الذينَ يصنعونَ التاريخ اليوم. هم ثلّةٌ من ذاتِ الأرواحِ التي خطَتْ، على السّاحةِ، منذُ قرنين مضيا أو يزيدْ. فالتاريخُ قد صنعناهُ "نحنُ"، و"نحنُ" هم المسؤولون عن العالم كما هو الآن، وإنّها "الكارما" التي تخصّنا هي التي نشتغلُ من خلالها. وما جِماعُ آلامنا ومتاعبنا، بهجاتنا ومآسينا، إلا نتيجةٌ للأشياءِ التي فعلناها في الماضي. "نحنُ" أسلافنا!
"نحنُ" مُنشئِي العالم، و"نحنُ" الذين جعلناهُ ينتهي إلى ما هو عليهِ الآن عبر ’خطيئات‘ سهونا وممارساتنا، جهلنا، افتقادنا فهم القوى الناشطة على مسرح الحياة وكيفيّة اشتغالها.
إنها لتجربةٌ مُحييةٌ أن نتحقّقُ نحنُ، بنو الإنسان، من هذا. فنحنُ، حينذاكَ، سنفهمُ، في الحال، الأهميّة الحيويّة لأيّ خاطرة (فكرة) تمرُّ ببالنا ولأيِّ فعلٍ نفعلُهُ اليوم وكم هو قصيرٌ الوقت المتاح لأيٍّ منّا، في هذه الدنيا، الذي يمثّل فرصةً لنا للقيامِ بإصلاحاتٍ في حالِ البشريّةِ وفي حالِ أرواحنا الفرديّة كذلك. إنّهُ لصادمٌ بما فيه الكفايةُ أن نتأمّلَ في أنَّ إعداماتَ الشّنقِ العامّةِ، إرسال الأطفال للعمل في المناجم، إرسال الشباب للمشانق أو نفيهم، مدى الحياة، إلى أماكنٍ بعيدةْ، حرقِ أناسٍ أبرياءٍ اعتُبرُوا سحرةٌ، حزُّ الإنسانِ لرأسِ أخيهِ الإنسانِ هي، كلّها، من مسؤوليّةِ أجدادنا الكبار. لكنّه أكثر زعزعة لنا أن نستبينَ أنّ الأرواحَ التي ارتكبتْ كلَّ ذلكَ ربّما كانتْ أرواحنا الحاليّةَ ذاتَها.
كيف لنا أن نردَّ ديناً كهذا للإنسانيّةِ وللأُلُوهيّة؟
أنا أيضاً قد أُعلمتُ، بالطبع، بشيءٍ عن أدوارٍ قمتُ بها، في حيواتٍ سابقةٍ، على كوكب الأرض. لكنه كثيراً ما لا يكون هنالك أيّ شيء يرضى عنه المرءُ رضاءاً كبيراً حينما يدرس حالة نفسه الخاصة قبل تخرجها من جامعة تجاربها الماضية. بيد أن تلك الدراسة ستعلّم المرء، فوق كل شيءٍ آخر، قيمة التسامح الوسيع والشامل. فأنتَ- كشخصٍ انفتح على أفقها- حين ترى الآخرون يقعون في الأخطاء ويرتكبون أغلاطَ رئيسة تقولُ لنفسك:- "لولا أن تداركتني نعمةُ ربي ولطف الزمان بي ما كنتُ سأصلُ إلى ما وصلتُ إليهِ الآن". بل وربما تقول حتّى:- "ذلك ما كنتُ أنا عليهِ". ولا تُزيدْ. ذلك لأننا كلّنا قد طرقنا درب العمر الطويل الصاعد من مستويي الرجولة والانوثة الباكرين إلى المستوى الغنساني الذي نجد أنفسنا عليهِ الآن.
كان هنالك ناظرُ مدرسةٍ شهيرٍ اعتاد، دوماً، على مصافحةِ يدِ أيِّ صبيٍّ يتعلّم في مدرستِهِ. وحينما سُئلَ عن دواعي ذلكَ أجابَ قائلاً:- "لأنَّ أحد هؤلاء التلاميذ قد يغدو، ذاتَ يومٍ، رئيساً للوزراء". وبمعرفتنا بحقيقة إعادة الميلاد (أو تناسخ الأرواح) قد نعكسُ نحن هذا القول المأثور عن الناظر فنقر بأنه لابدّ أن أحد هؤلاء الصبية قد كان، بالفعل، ذاتَ ماضٍ ما، رئيساً للوزراء أو شخصاً ذا مقام يُلاقي صاحبهُ ذات الدرجة من الإحتفاء والإحتفال.
حسناً، لا نستطيعُ كلّنا أن نكون رؤساء ووزراء. لكنني قد أُوضحَ لي أن كثيراً من أولئكَ الذين التقينا بهم في حيواتنا قد صاروا أشخاصاً يُشارُ لهم بالبنانِ في سالفِ أزمانهم.
فقط القلة من الناس قد تم اصطفاؤهم- إذاً- لدراسات متفرّدةْ.
قال لي "المعلّم":- "أن ترى وتتذكّر:- إنّ في ذلكَ لحكمة". وقد كان هو ("المُعلّم")، من حيثه الوجوديّ الماورائيّ، قادراً على تذكر حيواته الخاصة الماضية. ولقد أخبرني بنبأ بعضٍ من هاتيكَ، لكنّني لستُ بائحةً بذلكَ هنا. غيرَ أنّي، بغرض بيان الكيفية التي تعمل بها قوانين العبش وبعض العوامل التي تحكم وتوجّه تطوّرنا الرّوحي، أظنّ أنّهُ مأذونٌ لي هنا أن أروي لكم عنه قليلاً من أخبارِ حَيَوَاتٍ ذواتِ شهرةٍ وصيتٍ كان قد أطلعني عليها بهدف التأمل والدّرسْ.
ينبغي عليَّ أن أوضّح لقارئي، في هذا المفترق، أنّه رغمَ أنّ بعضاً من الحيواتِ التي أُلْقِيَ لي ضوءٌ عليها كانت لأشخاصٍ من دائرتي الخاصة إلا أنني، لأسباب واضحة، لا أستطيع الحديث عنها هنا. فالعديد من أولئك الأشخاص ما يزالوا، حتى الآن، أحياءاً، ثم أنّ من "رحلوا" عنّا منهم ما "غادروا" ديارنا إلا حديثاً وظلّ أقاربهم باقينَ على هذا المجالِ من الكونْ. هل للمرءِ أن يستعمل نماذجهم؟ ربما تكون بعض هذه النماذج غير مؤذية، على نحوٍ ما، لأصحابها، من رحل منهم ومن بنتظر. لذا حينما أُمنحُ الإذنَ قد أستخدمها كأمثلة موضحة لما أعني، ففقط بسوابقِ وقائعٍ كهذه يستطيع المرءُ أن يهبَ الإيضاحَ إيّاهُ وزناً وجذراً.
لماذا أستخدمُ، كنماذج إيضاحيّة، فقط أولئك الذين ذاع صيتهم؟ سببُ ذلك، في اعتقادي، هو أن أولئك يمكن لأيّ شخصٍ أن يدرسَ حالاتهم. فالمجهولون من الناس ليس للمرءِ من سبيلٍ إليهم في السّير الذاتيّة، التاريخ، أو في اللّوحات حتّى يُضَاهَونَ، في الهيئةِ، بمن هم تناسخٌ جديدٌ لهم. لذا فالمُحتفى بهم فقط سوف يصلحونَ للتَّقَصّي الفاحص.
أنا أعلمُ جيّداً أنني، بفعلي هذا، سأفتحُ على نفسي بابَ كلّ أنواعِ النقدِ والحديثِ اللاذعِ الذي قد تُحجِمُ عن قولهِ حتّى أكثر العمّاتِ لذُوعةً. لكن عهدَ التّطهيريّةِ والقهر الفكريّ العنيف قد مضى. ثم أنّ محاكم "التفتيش" الآنَ قد رُدّتْ، فحسب، إلى أشكالٍ من الأسئلةِ اللا منتهية، على التلفزيون وعلى الراديو، والآراء التي يُنكِرُ كلُّ واحدٍ منها على الآخرِ حقَّ الوجودْ.
إن غدا المرءُ دائمَ الصّمتِ عن كلّ الشِّؤونِ المتّصلة بقناعاتِهِ الداخليّة كيف لنا، إذاً، أن نتقاسمَ ما لمحناهُ؟ يبدو لي أنّ كثيراً من عمانا الحاضر عائدٌ إلى حقيقةِ أنّ المطاردةَ والإكراه قد غَصَبَا، بتواتُرٍ، لُبَّ الحقائقِ القديمةِ على الإنحصارِ في دروبٍ سِرِّيّةٍ في الذّات. الآنَ قد آنَ الأوانُ لأن نتحدّثَ عنها بجلاءٍ غيرِ هيّابٍ من الهُزءِ والإزدراءْ.
قبل مائة عامٍ خلتْ ربّما كانت "بيتُ لحمٍ" هي المكان المناسب لأن يبوح كُلُّ امرئٍ بحقيقةِ أنّه، في المستقبل، سنصير قادرين على الإتّصال، عبر البحرِ، ببلدانٍ أُخَرْ خلال بصرنا وسمعنا- أو حتّى برجالٍ ونساءٍ على القمرْ. وبعد مُضِيِّ قرنٍ من الآنِ ربّما سيُبرهنُ العلمُ والتنويم المغناطيسيّ الإرتداديُّ regressive hypnotism، أخيراً حقيقةَ حيَوَاتِنا العديدةْ.
إذا اقتبسنا، في هذا المعنى، كلاماً عن بيير تيلهارد دي شاردن فسنراهُ يقول:- "ذلك الذي ينطقُ بهذه الكلماتِ أمام "مجلس الكبار" سوف يُضحَكُ عليهِ ويُصرفُ بعيداً على اعتبارِ أنّهُ "حالمٌ"..."
لم يهزأ امرئٌ بتيلهارد دي شاردن، لكنّ سلطات الفاتيكان رفضت نشر أعماله وحرّمت عليه الوعظ. فقط بعد موتهِ في عام 7519 صار عمله معروفاً عالميّاً ومكرّماً. المِفتاحُ الأساسيُّ لفكرِ شاردن النّشوئي كان حقيقة التطوّر. "الطبيعة هي معادل "الصيرورة"، التخلّق الذّاتي". هكذا تحدّثَ شاردن وأظهرنا على أنّ تطوّر الحياةِ البطيء قد تمّ عبر "التَّراكُبِيَّة
complexification "، "فالذّرّاتُ، كما قال، "تنامى تركيبها إلى جزئيّات، ثم إلى خلايا ومنظومات عضويّة. وقد صاحبتْ التركيبيّة هذه "زيادةٌ في الإدراكِ الواعي، في إشعاعِ القلبِ الوهّاج المفكّر للمخّ الإنساني". "لولا عمليّة التّطوّر البيولوجيّ هذه والتي ينشأ عنها الكائنُ الإنسانيُّ"، يواصل شاردن الحديث، "ما كان للأنفُسِ الزّكيّةِ أن تُوجد".
مع ذلك يظلُّ الأمرُ كما كتب عنهُ هذا الرائي المضّطهد الذي هو، في ذاتِ الوقتِ، عالمٌ:- ".. "مجلس الكبار" قال إنه ليس من ثمة شيء متحرك في حضن الطبيعة الراسخ العميق. عينُ الحسِّ المشترك ترى ذلك الشيء والعلمُ يؤكّدهُ.... الفلسفةُ تُوضّحُ لنا أنهّ ليس هناكَ حِراكٌ نشوئيٌّ في الطبيعةِ الخامدةْ... الدّينُ يمنعُ ذلك:- لا شيءَ ينبغي لهُ أن يتحرّكْ..." رُغمَ ذلكَ فإنّه هو، تيلهارد الرّائي، تيلهارد المُحدّق في أعماقِ التّركيبِ البالغِ الشّسوعِ الذي هو نفسه جزءٌ منهُ- ذلك التركيب الذي، حين يشهد جذوره متأمّلاً، يراها تمتدُّ باطناً، فباطناً حتّى يتلاشى هو، في ظاهرِ العالمِ، عنها فتضيعُ منهُ في عتمةِ ماضٍ مُلتبسٍ، هو من يُحصّنُ رُوحهُ، ثانيةً، من هذه العتمة وهذا الإلتباس عبر تأملهِ وشعوره بحركةٍ كونيّةٍ عنيدةٍ مرسومةٍ في الشّعاعاتِ المُتلاحقةِ للمادّة "الميّتة" والإنتشارالحاضر للأحياء... ومُحدّقاً صُعُدَاً باتّجاهِ الفضاءِ المُفعمِ تهيّؤاً لخلقهِ وهب (شاردن) نفسهُ، جسداً وروحاً، بإيمانٍ تجدّد تأكيده، لـ"تقدّمٍ" سيحملُ معهُ، في سبيلهِ، جميع من ينسجموا معهُ أو، عند النّهايةِ الأخرى، سينفضُّ عنهُ بعيداً كلُّ "أولئك الذين سوف لا يَلقُونَ السّمعْ".
تحدّث تيلهارد دي شاردن عن المسيح بوصفهِ "مُحيي الكون" وأشارَ إلى "التّمسيحِ Christification " النّهائيِّ، في مقبلِ الزّمانِ، لكلّ عمليّةِ النّموِّ في الطبيعةِ، وفي الإنسانِ ذاتهِ.
ذلكم هو العالِمُ، مجوّد علم المتحجّرات الآليّة والأسقف اليسوعيُّ الذي عانتْ رؤياهُ الكونيّةُ، كما ومعرفتُهُ التي توفّرَ عليها عبر البحث والدرس، قمعاً لازمها وما انفكَّ عنها إلا بعدِ موتِهِ.
إلى أيِّ مدىً تستطيعُ السّلطةُ أن تكونَ عمياءْ؟
ما بالنا مفرطو التّذبذب هكذا حتّى نُدينُ الأفكارَ التي تبدو لنا جديدة!
ما اقتبستُ تلك الكلمات عن تيلهارد دي شاردن إلا لأنها تحتوي، في الجّوهرِ، على لُبِّ ما وهبنِي إيّاهُ "المُعلّمُ"، منذ عام 1940 وما بعدُهُ، من معرفةٍ جَهِدْتُ في توصيفِها في شتّى المطبُوعاتِ قبلَ فترةٍ طويلةٍ من بروزِ عملِ تيلهارد إلى الضّوء.
هذا ليس ادّعاءاً منّي (إذ كيفَ للمرءِ أن يدّعي حيازةَ تعليمٍ وهبهُ إيّاهُ سواه؟)، لكنّه- فقط- تسجيلٌ تاريخيٌّ لحقيقةِ أنّ رؤيا تيلهارد دي شاردن، التي أزاحتها السّلطةُ جانباً على أنّها "شيءٌ خطيرٌ"، قد سُرّبتْ، بواسطة القوى الكينونيّة القيّوميّة، إلى الفكرِ الإنسانيِّ، في أنحاءٍ عديدةٍ من العالمِ، منذُ زمانٍ سابقٍ بكثيرٍ لذلك الذي سُمِحَ لها فيهِ، من قِبَلِ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ، أن ترى نور النّهارْ.
هذا يُوضّح لنا كيف أنّ الفكرَ الجديدَ قد اندغم في واعيةِ الإنسانِ التي تنزَّلَ إليها من مجالي الأبعادِ الماورائيّةِ الشّاسعةِ، من مجالي "المُعلّمين الرّوحيّين" في الآمادِ العُلَىْ. ثمّ إنّهُ علّةُ الواقعةِ المُلاحظةِ في كونِ أنَّ عديداً من الإختراعات، شأنها شأن الفكر ’الجّديد‘ (رُغمَ أنّهُ قديمٌ قِدم التّلال) تطلعُ على الدّنيا، في أماكنٍ شتّى منها، في ذاتِ الوقتِ، أو في أوقاتٍ هي، في النّهايةِ، مُتقاربَةْ.
كنتُ قد اقتبستُ عن د. إيان ستيفينسون، الباحث الدقيق والإخصّائي النّفسي، بعض حالاتٍ لإعادة الميلاد (أو تناسخ الأرواح) عنيتُ بها أن أرفدَ نفسي بشجاعةٍ تؤهّلني للكشفِ عن اليسيرِ مما عُلّمتُهُ، خلال فترة ثلاثينَ عاماً، عن ذلك الموضوع. فدكتور ستيفينسون هو- إذاً- من وهبني جرأةً على أن أنشُرَ، على الملأ، حالاتٍ في هذا البابِ كنتُ قد أخفيتُها عن النّاسِ خوفاً من أن يهزأ بي "مجلس الكبار" ويصرفها، كحلمٍ عابرٍ، بعيداً عنهُ (وعنهُمُو).
ولأنَّ ملكَةَ الغوصِ في تفاصيلِ الحياةِ الماضيةِ لروحٍ ما هي أعظم المَلَكاتِ عسراً وبلاءاً في سُبِلِها وغاياتِها دعنا- إذاً- نفترضُ أنّ من أخترتهم نماذجاً لفعاليّتها النافذة ما هم إلا ممثّلي حالات احتماليّة، أو قُل هم حصيلةَ بحثٍ- لسِواي- انتهى إلى نماذجٍ مُجليةٍ، في صورةِ أناسٍ أحياءٍ، لفعاليّاتِ (ميكانيزماتِ) قوانين الرّوح. ثم دعنا، كذلكَ، نكفُّ عن الآخرين شعور الإنزعاج من حقيقة تصديقي بما حوت هاتيك الحالات، فما ذلك التصديق سوى قناعتي الخاصّة. بالطبع يستطيع القراء أن يستخدموا الحالات إياها كمؤشراتٍ للكيفيّةِ التي تعملُ بها قوانين الفعل وردّ الفعل- وذلك انطلاقاً مما حرى بيانه- على تطوير الفردِ الإنسانِيْ.
وما وصفتُ الأمرَ في سيرتي الذاتيّةِ فإنّ هاتيكَ الحالاتِ ربما قُذِفَتْ، آنذاكَ، في واعيتي في أحيانٍ كنتُ فيها إما مفكّرةً في أشياءٍ مختلفةٍ عنها تماماً، مُستغرَقَةً في الإنشغالِ بشأنٍ يوميٍّ ما أو مُتنزِّهَةً برفقةِ الكلاب. حينذاكَ قد تنطلقُ الأسماءُ في سمعِي بجلاءٍ فيرِدُنِي أنَّ "هاتيكَ وتلكَ، من الأسماءِ في القرنِ الثامن عشر، هي الآنَ هاتيكَ وتلكَ من الأسماء".
أحياناً تكونُ الأسماءُ الواردةُ إليَّ أسماءُ أشخاصٍ ما عرفتهُم، أو سمعتُ بهم، من قبلِ، في حياتي. فينزعُ بي ذلكَ نحو مكتبةِ المراجع العامة حيث أبحثُ عما خُطَّ، هناكَ، تحتَ هذا وذاكَ من أسماءِ اولئكَ الرّجالِ والنّساءِ حتّى إذا ما جمعتُ، ملءَ ذراعيَّ، كتُباً عنهم ذهبتُ بها إلى البيتِ وانهمكتُ في مُضاهاةِ صورهم أو شخوصهم التاريخية بصورِ وشخوصِ من وردني أنّهم صاروا إليهم الآن والذين ربما كانوا، أو لم يكونوا، ذائعي الصيت. أحياناً يأخذُ منّي أمرُ اكتشافِ صورةِ (بورتريه) هذا وذاكَ من الشخصيّاتِ التاريخيّةِ شهوراً. ولربّما أُضِيءَ لي دربُ بحثي هذا بعثوري على نقشٍ قديمٍ لوجهِ أحدِ هؤلاءِ في مكتبةٍ لبيعِ الكتبِ المستعملةْ. وعندَ إجرائنا المقارنة بين ذاكَ النّقشِ والوجهِ الشّبيهِ به في الحاضرِ قد نُستثارُ، أنا وزوجي، انفعالاً باكتشافنا تماثُلَ تشكيلهما العظميِّ، هيئتي وجهيهما وتقاطيع مُحَيَّيْهُمَا الدقيقة، الشيء الذي يشي بأنّهُ، حتى مع فارقِ مئاتٍ كُثُرٍ من السّنينِ بينهما، فإنّ هاتين الشخصيتين (أو، بالأحرى، تلك الرّوح الماضية المتناسخة في شخصية حاضرة) قد تكون لديهما، أحياناً، ميول عقليّة مشتركةْ.
هدف هذه الدراسة هو أن تُظهر نفس (روح) أيّ فردٍ منا على أنها كينونة خالدة، تدريجية الإندياح، متعلّمة، بصبرٍ، دروس العيش كما تُعبّر عن نفسها خلال الميول المغروسة والقابليّات التي ينطوي عليها أفراد الناس والتي كثيراً ما تكون شبيهة بتلك التي انطوت عليها نفوسهم الماضية. ومن خلال ذاك التعليم كثيراً ما يُكرّر بنو الإنسان، مرّةً فمرّةً، ذات الأخطاء الفادحة حتى حينُ زمانٌ يُغصبُهم فيه الألمُ المتسبّبُ عن هاتيكَ على إدراكِ أنَّ الطريقة التي كانوا بها يسلكون ليستْ بالحكيمةْ. على هذا السبيلِ قد نرى كيف أنّ قوى وأدوارَ رجلٍ ما في الحياةِ مُعينةٌ للجِّنسِ الإنسانيِّ على التقدّمْ. مع ذلكَ فإنّهُ، أحياناً وبفعلِ عماءِ ونُكرانِ رفاقهِ البشريين، يدفعُ مثلُ ذلك الرّجل ثمناً عزيزاً لمعروفهِ على الآخرين، فلربّما يفقد حياته فداءاً لمبادئهِ.
الأهمُّ من مقارنةِ صورةِ قناعِ شخصيّهٍ من قرنٍ ما بأخرى من قرنٍ مختلفٍ هو مقارنةُ الخصائصِ، الإهتماماتِ والميولِ المغروسةِ في كلٍّ من الشخصيّتين المعنيّتين. فالشخصيّةُ الأحدث عهداً منهما ليست فقط كثيراً ما تكرر خِلاق سابقتها على نحوٍ شديدِ التّماثل- خاصة حيثما إعادة الميلاد متتابعة- بل وكثيراً ما تنزعُ، كذلكَ، بغرابةٍ، نحو تكرار فعلِ ذاتِ الأشكالِ من الأفعالِ و"تلقّي" ذاتِ الأشكالِ من الأحداثِ التي فعلتها وتلقّتها تلك. قد وصفتُ ذلكَ المنزعَ بأنّه "غريب"، لكنّه، حقّاً، ليس بغريبٍ إن تأمّلَ المرءُ في كونِ أنّ صفاتِ الإنسانِ، أو خصائصه، هي الإنعكاسُ الخارجيُّ للطاقات الجوهريّة التي صاغت كينونته الباطنة. فقط حين تتغيّر هاتيكَ، بقوّةِ فعلِ التجربة، تتغيّر شخصيّاتنا فيُصيرُ ظاهرُ كينوناتنا تعبيراً عن ذاكَ التّغييرِ في ذواتنا الدّاخليّة.
يتعاملُ العديدُ من النّاسِ باستخفافٍ مع موضوع تناسخ الأرواح. ذلك كانّه فانتازيا أو لعبة تخمينات عشوائيّة. فثمة ثُلّةٍ كبيرةٍ من النّاسِ "تحدسُ" وتنشرُ، بزهوٍ، ما وقع في بالها من خاطراتٍ ظنّيّةٍ حول من كانوا هم، أو كان بعضٌ من أصدقائهم، في أزمانٍ سالفةٍ، بين أفرادِ مجتمعاتهم.
قد يكونُ في ذلكَ لهوٌ وتسريةٌ. إنّه قد يُضخّمُ شعور المرء بأهميّته الذّاتيّة حيثما كان ماضي المرء هو موضع الإعتبار. لكن، حسب خبرتي الخاصة، تكشَّفَتْ لي هاتيك التخمينات، بدرجاتٍ متفاوتةٍ، على أنّها خاطئة. ذلك فضلاً عن كونها منطوية على طريقةِ استدلالٍ سطحيّة ولا أساسَ لها على الإطلاق إن اعتُبِرَتْ من منظورِ دراسةٍ جادّةٍ للموضوعِ الذي هي خائضةٌ فيهِ مع الخائضين. على سبيلِ المثالِ كنتُ، في إحدى المناسباتِ، أتحدّثُ عن ذاكَ الموضوعِ في قاعةِ دارٍ أُنشئَتْ على الطّرازِ الجّورْجِيِّ وصُفّتْ على حوائطها لوحاتٌ لأولئكَ الذينَ سكنوها في غابرِ الأزمانْ. تملّكَ الحماسُ، حينذاكَ، أحدُ السّامعينَ فهرُعَ، بعد نهايةِ حديثي، إلى حيثُ كنتُ وقال لي:- "أنا أيضاً لي حدوسي. أنا متأكّدٌ من أنّكِ كنتِ الرّجل المصوّر على الحائط خلفكِ!"
طبعاً أنا ما كنتُ ذلك الرّجُلْ.
وهكذا، ينبغي على المرءِ، في غايةِ الأمرِ، أن يكونَ صارماً مع خيالهِ فلا يسمحُ له بالوقوعِ في الظّنِّ والهمسْ. ثم إنّه، كذلكَ، من الخيرِ للمرءِ أن يترك الموضوعَ وشأنَهُ إن لم يستيقن من مصدر تعليمه.
هنالكَ، أيضاً، ولعٌ بأن يشعر المرء، عبر "حدسٍ" ما، بأنه قد عاش، ماضياً، في مِصر القديمة، اليونان، أو فِلسطين. أنا متأكّدةٌ من أنّ العديد منا قد خبروا الحياةَ في هاتيكَ الحضاراتِ الطيّبَةِ الذّكر. لكنّني، لشُحِّ ما يُستطاعُ معرفتُهُ عن أولئكَ الناس وتلك الحضارات، ولفقدانِ اللوحاتِ المُصوِّرَةِ إيّاهم في معاشهم اليوميِّ أنا أُفضّلُ استخدامَ نماذجٍ لإيضاحِ ما أعني من بينَ من عاشوا في القرونِ الأخيرةْ. فهؤلاءِ أحدثُ عهداً من أولئكَ، وبالتّالي يُمكنُ اختبارُ أمرِ تشابُههم مع من يُقارَنُوا بهم من معاصريْنَا وِفْقَ مُعطياتٍ حياتيّةٍ مُفصَّلَةٍ وظرفيَّةْ.
إنَّ هذه الدراسَةَ لجليلةٌ؛ هذا الغوصُ في خبايا الرّوحِ الإنسانيّةْ. إنّها، بالكادِ، مهمّةٌ مُقدّسَةٌ، إذ أنَّ لُبَّ الفردِ الإنسانيِّ هو، في أصلِهِ، إلهيٌّ. على الإنسانِ- إذاً- أن يُباشِرَ تقصِّيَاتَها وشروحَهَا كما يُباشِرُ الدِّخُولَ إلى مقامٍ إلهي مُقدّسْ. فما من ثمة شيءٍ أدنى من ذلكَ خليقٌ بها وبالإنسان.
2
أخبرني"المعلّم" أنّ الرجلالذي عرفناهُ أسقفاً يسوعيّاً تحت اسم تيلهارد دي شاردن كان، فيتناسخٍ روحيٍّ سالفٍ، هو بليز باسكال، الكاتب والمتصوف الفرنسي. هذا الكشف بِِيحَ لي به في حديثٍ جليٍّ، مسموع النبرة:- "تيلهارد دي شاردن كان بليز باسكال". أيُّ فردٍ من الناسِ، في يومنا هذا، يعرفُ شيئاً عن شخصيّة وكتابات تيلهارد دي شاردن.
في "موسوعة نيلسون" نجد باسكال يُوصفُ بأنّهُ... هنا صعقتني الدهشة فتوقّفتُ عن القراءة، فقراءتي عن باسكال، من ناحيةٍ، وتصفّحي كتاباً عن تيلهارد دي شاردن، من ناحيةٍ أخرى، أطلعاني على شيءٍ ما كنتُ أدري بهِ من قبل:- كلاهما وُلدَا في كليرمونت-فيراند.
هذا واحدٌ من ما تُدعَى "الاتّفاقات"، وتلكَ يَعْرَجُ المرءُ بها، باستمرارٍ، في طيّاتِ دراسةٍ أَخّاذةٍ كهذه. على المرء، إذاً، أن يقطع، بين الفينةِ والأخرى، خيوط متابعته للسرد حتّى ينظرُ، ثانيةً، في القانون الشّموليِّ، كما يُرَى وهو يشتغِلُ فينا وعلينا، عبرَ كلِّ تبدّلاتِ حيواتنا.
ثمةُ أمكنةٍ على الأرضِ لها مغناطيسيّتها النافذةُ فينا. فكثيراً ما يجدُ الإنسانُ أنّ روحاً بعينها قد أُعيدَ ميلادها إما في، أو عن كثَبٍ من، المكان الذي عاشت فيه من قبل. والرّوحُ، إذ تؤوبُ إلى هناك، إنّما هي تزورُ موطنها القديم أو تشعر جذبةً خاصّةً نحوه. وحينما يُعادُ ميلادُ المرءِ في أمّةٍ أخرى كثيراً ما تكونُ تلك الأمّةُ مقيمةً في آخرِ مكانٍ سبقَ للمرءِ أن وُلِدَ فيه وهو يزورُهُ الآنَ، ظاهريّاً بالصّدفةِ، في إجازةٍ أو استجابةٍ لحاجةٍ قاهرةْ.
هذه الحقيقة توسّع في بيانِها الكتابُ المثيرُ الذي ألّفهُ الأخصّائيُّ النّفسيُّ آرثر غِيُوردام وسمّاهُ "التّطهير النّفسيّ وتناسخ الأرواح"[صدر في عام 1973 عن نيفيل اسبيرمان للنشر]. كان لهذا الرجل رغبة مِلحاحة، طوال سنين حياته، في زيارةِ إقليم معيّن في الجنوب الفِرنسيِّ يُدعى "مونتسيكر"، بيدَ أنّه كانَ، أيضاً، شديد الفزع من ذلك المكان. ثم تكشّفت لهُ، أخيراً، أنّ رُوحَهُ الباكرة اليافعة قد عانتْ كثيراً في ذلك الإقليم.
تُعاوُدُ الوقائعُ المتّصفة بهذا الطابع الحدوث على نحو متوتّر. وبالفعلِ، في كلّ تواريخ الحَيَوات الحقيقيّة التي سأورِدُها لاحقاً، هنالكَ وقائعٌ وأقوالٌ مُنتقاةٌ هي الأقدرُ، من بينِ سِواها، على الكشفِ عن شخصيّةِ الذاتِ المرتبطةِ بها وعن العواملِ التي تُسهمُ في تطوّرِ رُوحٍ ما أو تنكصُ بها.
وهكذا جلستُ، الآنَ وإثرَ عودتي من زيارةٍ أخرى للمكتبة، في حضرةِ ثلاثةِ كُتُبٍ عن بيير تيلهارد دي شاردن، على إحدى نواحي مقعدي، وكتاب عن بليز باسكال (طبعَهُ، في 1937، الكاثوليكيّ الرومانيّ موريس بيشوب)، على ناحيتِهِ الأخرى. عن هذه الكتُب اقتبستُ ما سوف يأتي.
وجَدْتُ على ديباجةِ الكتابِ الأخيرِ مُقتبسَاً عن باسكال قد يُناسبُ عقليّة تيلهارد:- "ما خُلِقَ الإنسانُ إلا من أجلِ اللانهائيّة". وصلاً على ذلك المقتبَسِ سنُتابعُ، الآنَ، مسارَ حياةِ باسكال، كما صوّرهُ موريس بِشُوب في كتابه، حتى نسوقُ إلى الضّوءِ بعضَاً من خصائصِ العقلِ والرّوحِ الذينَ أسهما، لاحقاً، في صياغةِ كينونةِ إنسانٍ بالغ الذَّكاءِ والحكمةِ مثل بيير تيلهارد دي شاردن.
وُلدَ باسكال في 19 يونيو.1623 وحدّثنا موريس بأنه كان "طفلاً معجزة" في الرياضيات، وأنه جرّب اختراعات عديدة. هنا نرى عقلية تيلهارد دي شاردن العلميّة وهي موغلة، منذ ذلك الأوان، في نشاطها.
كانت دراسات باسكال مكثّفة إلى حدّ أنّ صحّته انهارت ونصحه الأطبّاء بأن "يكفّ عن كلّ عمله العقليّ المتواصل" ويُشغلُ نفسهُ بأشياءِ هذه الدّنيا. "كانت هذه النصيحة غير مرحّب بها كثيراً عندهُ، لكنّهُ صُغِطَ، من قِبَلِ الجَّميعِ، ضغطاً كبيراً حتّى انصاعَ لها في النّهايةْ". على كلٍّ، كان باسكال، خلال إقامتهِ في باريس، من الضّعفِ في الصّحّةِ بحيثُ افتقدَ القدرةَ على المشاركةِ في النشاطاتِ الإجتماعيّةِ هناك، لذا عاد إلى كليرمونت و"استعاد، بفعلِ سُكناهُ على تلالِ أهلِهِ، درجةً من العافيةْ".
إن تقدّمنا، مع باسكال، في السنين وعَرَجْنَا عليهِ في عام 1646 لرأيناه وهو يُقضي وقتَهُ في "فورةِ تجريبٍ فيزيائيٍّ، رياضيٍّ وفلسفيٍّ". لكنّه، في عام 4761، وجد انشغالاً جديداً لذهنه الفعّال فارتمى، بعاطفةٍ جيّاشةٍ، في صميمِ المُنازعاتِ الثّيولوجيّةِ، ثمّ سرتْ إشاعةٌ بين أصدقائهِ قائلةً إنّه قد تحوّل إلى راهبٍ، إلى ناسكٍ معتزِلْ. ولقد نشبَ، حينذاكَ، قدرٌ كبيرٌ من الإختلافِ حولَ فِكرِهِ اللاأرثوذوكسيْ".
بِمُضِيِّ الزّمانِ وثّق باسكال وأختُهُ جاكلين، مؤقّتاً، صلتَهُما وديرَ بورت رويال الشّهير. كان ذلك الدّيرُ عبارةً عن مجموعةٍ مبانٍ مَهِيْبَةٍ مُحاطةٍ بمزارعٍ واسعةٍ مملوكةٍ للطائفةِ المسيحيّةِ البينديكتانيّة وبحيشانٍ (فناءاتٍ) مُتّصلةٍ مأهولةٍ براهباتٍ ورهبان. كان عمر الأخ وأخته، حينذاك، على التوالي، خمسة وعشرين واثنين وعشرين عاماً.
في عام 1654 واتَى بليز باسكال إشراقٌ رُوحيٌّ غيّرَ حياتَهُ كلّها:- شعرَ بأنّهُ قد "تحدّثَ مع الله". بدا له، وهو جالسٌ وحيداً، أنَّ اللّه قد "تنزّلَ لهُ في نارٍ" وتحدّثَ معهُ على مدى ساعتين.
هذه التجربةُ الصّوفيّةُ أدخلتْهُ في حالةٍ مُفعَمَةٍ بالشّعورِ وبالعُمقِ حتّى أنّهُ فاضَ بكتابةِ وصفٍ للحظاتها وخاطَ الرّقعةَ الجِّلديّةَ التي دوّن عليها ذلك الوصف على باطن جُبّتِهِ وقُبالةَ جانبها الذي يُحاذي القلب. ثمّ ظلَّ مرتدياً لها حتّى وفاتهِ.
"يقينٌ، يقينٌ، شعورٌ، بهجةٌ، سلامٌ.
بهجةٌ، بهجةٌ، بهجةٌ، دمُوعُ سلامٍ.
نارٌ..."
كانت نشوتُهُ إشراقيّةً. كانت فيها قناعةٌ، سلامٌ، وطُمأنينةٌ لرُوحِهِ النّاشدةْ.
هجر باسكال العالم- إذاً- وانضمّ إلى دير بورت رويال، مرّةً أخرى. رُغمَ ذلكَ كان، بين الفينةِ والأخرى، يؤوبُ إلى باريس ويُقضي فيها فتراتٍ من العيشِ رجُلاً من غِمارِ النّاسِ وكاتباً.
هذا ليس هو المقام الذي تُناقشُ عندَهُ لاأرثوذوكسيّةُ (على حدّ اعتبارِ الكنيسة الكاثولوكية، على الأقل) الفكر الجّانسِنِيْ التي ختمتْ، على أيّام باسكال، ذاكَ المركز الدّيني الشّهير (أي باريس) بختْمِها.
كان عبقريُّ التنظيم مِير أنجيليكو قد جعل من دير بورت رويال شيئاً فريداً:- كوكبةً من الرّاهباتِ المُتقشّفاتِ المُحاطاتِ بثُلّةٍ رفيقةٍ من رجالٍ استثنائيّين:- معتزلاتٌ ومعتزلون اجتهدوا في سبيلِ خلاصِ أرواحهم وفي سبيلِ البهاءِ الأعظمِ للمعتقدِ الجّانْسِنِيْ.
"كان بورت رويال، فلسفيّاً، يجد الديكارتيّة مقبولة عقلياً بسبب منطقيّتها الذهنانيّة... لكنّهُ احتفظَ بمسافةٍ بينه وبين العلم والفلسفة المعاصرين. إنّ أعمالَ أولئك الملحميّين، الذين كان باسكال من بين جهابذتهم، لها أهمّيتُها في التّاريخِ الأدبيِّ لفرنسا. كانت مَهَمَّتَهُمْ هي جعلَ الحُجّةِ الثّيولوجيّةِ مفهومةً ومثيرةً لاهتمام غير الثيولوجيين"(وفق مبدأ تناسخ الأرواح فإن تيلهارد دي شاردن، أيضاً، قد تابع مهمّته الخاصة الباكرة هذه).
"حاز دير بورت رويال على عبقريّةٍ في الدِّعايةِ العامّةِ أظهَرَتْ نفسَها ليس بالوسائلِ الأدبيّةِ وحدها. فهو قد كان لهُ أثرٌ على أناسٍ ذوي أهميّةٍ ونفوذْ... كان ذلك الدّيرُ موطنَ باسكال الرّوحيِّ حتّى وفاته".
أصبح باسكال كاتباً، وفي عمليه المشهورين "الرسائل المحليّة" و "التفكّرات" حوّل الخلاف الطائفي إلى عمله العظيم المسمّى "اعتذارات من أجل المسيحيّة".
يقول كاتب سيرة باسكال (الذي أخذتُ عنهُ اقتباساتي السابقة) إنّ مؤلّف باسكال المدعو "التّفكّرات" يمكنُ لهُ أن يُستخرَجَ عنهُ كُتيّبٌ صغيرٌ مُسمّىً "كُتيّب باسكال الإعترافي". "هنا"، يقولُ راوي السيرة الباسكاليّة، "ينبغي لنا أن نجدَ هاتيك الأفكار التي كتبها باسكال بملء قلبه وطاعةً لضرورةٍ تعبيريّةٍ نافذةْ. هنا ينبغي لنا أن نقرأ عن دراما باسكال الرّوحيّة، بحثه عن الشّهرة، عن الحبِّ، نزوله إلى باطنِ اليأسِ، ثمّ عن مُجيءِ "المُخلّصِ" في ليلةِ الكشفِ... أنا أؤمنُ، أنا أعرفُ أنّ عاطفةَ رُوح باسكال قد بِيْحَ بها في كلماتِ هذا الكتاب، ثم أنها ما تزالُ تنفلِتُ من باطنِ هاتيكَ الكلماتِ وتضطّربُ بها عقولُ الأحياءِ من الرّجالِ والنّساءْ".
في عام 0661 تلبّدت السماواتُ منذرةً سوءاً سيلحقُ بدير بورت رويال وبالجّانسَنِيّين. فقد أدان "مجلسُ الدّولة" كتابَ باسكال المُسمّى "الرسائل المحليّة" وأحرقهُ الجّلادُ على رؤوس الأشهاد. ثمّ أعلنَ الملكُ الشابُّ لويس السادس عشر أنّه قد اعتزم تحطيم العقيدة الجّانسنيّة. لاقى تصميمُهُ هذا قبولاً مُتحمّساً من المحكمة العليا (القضاءْ) ومن نسبةٍ كبيرةٍ من رجال الدّينْ.
في عام 6561 أصدر البابا مرسوماً مُديناً للنظريّات الجّانسنيّة كما عرضتْ في كتاب باسكال المُسمّى "الأوغسطينيّات". ثمّ أصدرت السلطات السماويّة، من بعد ذلك، أمراً رسميّاً طالب جميع الأساقفة، الرّهبان والرّاهبات بالتّوقيع الموافق على المرسوم. فلقد صارت الجّانسنيَّةُ، حينذاكَ، كما يقول راوي سيرة باسكال الذاتيّة، "عقيدةً التمسّكُ بها خطِرٌ. فكلُّ كبارِ شخصيّاتِ دَيرِ بورت رويال قد التقوا، في اجتماعٍ لهم، حتّى يبتُّوا في أمرِها".
كانت الرَّاهباتُ قد وقّعْنَ على المرسومِ اتّباعاً للائحةٍ من لوائحِ الدّيرِ لم يصُغْهَا أيٌّ من آرنود أو باسكال. ثمّ أُدِيرَ حوارٌ حول الأمرِ فشل، على كلٍّ، في الوصولِ إلى اتّفاقٍ ما:- "قاد اختلافُ الآراءِ وتشعّبها إلى تبادُلِ كَلِمَاتٍ فظٍّ ومراراتٍ في القلوب. انهمك آرنود ونيكول في التّوضيحات. نُوقِشَتْ إدانةُ البابا... أُغْمِيَ على باسكال". أُخْلِيَتْ الغُرفةْ. حينما عادَ باسكال إلى وعيِهِ سأله جيلبيرت عمّا سبّب انهياره فأجابهُ باسكال قائلاً:- "عندما رأيتُ كلَّ أولئك النّاس الذين اعتبرتهُم من وهبهُم اللهُ معرفةً بالحقِّ، من كان ينبغي عليهم أن يكونوا حماة الحقيقة، وهم يتذبذبونَ ويبدُونَ في موقفِ الهَاجرِ لها،، أعترِفُ بأنّي قد قُبِضْتُ بأسىً كان من الشّدّةِ بحيثُ أنّني ما استطعتُ احتمالَهُ فغُصِبْتُ على الرِّضُوخِ لهُ".
"تعرّضَ إيمانُ طائفةِ باسكال إلى إدانةٍ قويّةٍ من البابا ومن كلّ المؤسّسةِ الكاثوليكيّة. ثمّ أنّ باسكال نفسه قد خُصّصَ، من بعدِ ذلكَ، بالإدانةِ من قِبَلِ طائفتِهِ ذاتِها. ثمةُ قليلٍ من الأصدقاءِ بقِيَ وفيّاً لهُ، لكن المشرفين على دَيْرِ بورت رويال، من قياداتٍ وهيئاتٍ، كانوال ضدّهُ. بعدَ وفاةِ باسكال في عام 1662 دُمِّرَ دَير بورت رويال، بأمرِ الملك لويس السادس عشر، تدميرَاً تامّاً حتّى لم يَبْقَ حجرٌ فيهِ قائماً على حجرٍ آخرٍ".
أولئكَ العارفُونَ بحياة تيلهارد دي شاردن سيرون كيف أنّ التاريخَ يُعيدُ نفسهُ بغرابةْ. ولقد أثار ما اقتبستُ من كتابِ بِشُوب، خلال كتابتي الصفحات الفائتة، اهتمامي ودهشتي من كيف أنّ الحياةََ الأخيرةََ (حياة تيلهارد دي شاردن) قد تمازجَتْ ظلالُها مع الحياةِ الأولى (حياة باسكال).
إنّ عبقريّةَ وتفاني باسكال ظلاّ- في هيئته الشّاردِنِيَّة [من "شاردن"-المترجم]- سِمتان واسمتان لهُ، رُغمَ أنَّ الرُّوحَ التي "كانتْ" رُوحه قد أَلْبَسَتْ نفسَها جسداً جديداً. وتيلهارد دي شاردن كان- بالطّبع- وظلّ ذلك العالم الأريب في تفكيره المنطقيْ. فعقلُهُ المُبدُعُ والدّائبُ النّشدان قد تحوّلَ إلى البحثِ في أُسُسِ الحياةِ عبرَ تبحّرِهِ في علمِ الآثارِ، علمِ المُتحجّراتِ الآليّةِ وعلم دراسةِ تطوّرِ الحياةِ خلال معاينة المُتحجّراتْ. صار دي شاردن أسقفاً يسوعيّاً، بيدَ أنّهُ ظلَّ عميقَ التّديّن، واثقَ الإرتِباطِ باللهِ وبرؤيا "الرّبِّ الكونِيِّ". لكنَّ رؤياهُ النَّافذةَ رأتْ أبعدَ ممّا يرى معظمُ بني البشرِ، لذا أدانتْهُ المؤسّسةُ الأرثوذوكسيّة. ومرّةً فمرّةً قدّم تيلهارد دي شاردن عمله للفاتيكان، لكنّه دوماً قُوبِلَ بالنّبذِ والرّفضْ. إنّه قد كان مُجاهداً في سبيلِ أن "يُوطِّنَ" كُشُوفَاتَهُ الثِّيُولوجيّةَ والصُّوفيّةَ في "بيتِ" كنيستِهِ الأم. لكن هذه لم تشأ قبولَ هاتيكَ فأدّى به كلُّ ذلكَ إلى الإنتِبَاذِ والإفْرَادِ إلى أن يمُوتَ في المنفى، بعيداً عن بلاده ومُنْكَسِرَاً بالخيبَةْ.
وهكذا نجلِبُ إلى أنفُسنا الإصطدامَ الحتميَّ بقُوى المُحافظَةِ إن نحنُ فكّرْنَا (أو شعرنا) على نحوٍ سابقٍ لزماننا.
3
ليس للحديثِ السابقِ أن يُفهمَ على أنذهُ يُتيحُ لكلّ إنسانٍ في هذا العالمِ العريضِ أن يغدو موضوعاً لتقصٍّ روحيٍّ موازٍ لذلك الذي اشتملَ عليهِ. فأنا لا أعرفُ شيئاً إلا عن أولئكَ الذين انتُخِبُوا لي، من بينَ أفرادِ النّاسِ، كي أطّلعَ على ما اطّلعتُ عليهِ من شؤونهم. عليهِ فإنَّ من ضمّنتهُم بين دفّتَيْ هذه الأطرُوحةِ ليسوا سوى أسماء قليلة لشخصيّاتٍ أُخِذَتْ من بينَ ثُلّةٍ هُدِيْتُ إليها.
إذأً، لكي نجعل هذا الإستكناه ممتعاً وقيّماً في ذاتِ الوقتِ، تعيّنَ علينا أن نستخدم، كنماذج إيضاحيّة له، حيَوات اناسٍ معروفينَ جيّداً، بل وإنّ بعضَ أولئكَ كانوا، بين الفينةِ والأخرى، أناساً أحياءْ.
قد نُسائلُ أنفُسَنَا، أحياناً، عمّا يهيبُ برجُلٍ (أو امرأةٍ) كان ذا (ذات) انغماسٍ عميقٍ في الحياةِ السياسيّةِ أن يُوجّهَ (تُوجّهَ) اهتماماتَ حياةٍ لاحقةٍ له (لها) نحو انشغالاتٍ من نفس الطبيعةْ.
إجابةُ هذا التساؤل، طبعاً، أنّ مكوّنات روحه متآلفة على هيئةٍ تنزعُ به نحو الشعور الآني بجذبةِ جِماعِ أنماطِ الطّاقةِ التي نسجها في ذاتِهِ خلال القرون السّالفةْ. فهاتيك المكوّنات (أو هاتيك الأنماط الطّاقيّة) إنّما هي تمثّلاتٌ "صًوَرِيّةٌ" لفكره وسلُوكِهِ. ثمةُ دافعٍ مُلحٍّ في ذاك الإنسانِ إلى أن يُعيدَ أداءَ ما قد كانَ مُستغرَقَاً فيهِ في حيواتٍ سابقةْ. فهو- كما يحسّ في نفسه في حاضره- ذا اهتمامٍ عميقٍ بالشؤون العامّة. وربّما تكونُ لهُ رغبةٌ خالصةٌ في خدمةِ بلادهِ، أو في تحسينِ أحوالِ رفاقِهِ البشريين. إنّ تجاربَ وخبرات هذا الرجل السابقة في أساليب الخطاب العام وقدراته الذهنية المجرّبة هي، بلا شك، خير هادٍ لهُ في هذا السبيل... العديدُ من الأصدقاءِ القدامى لهذا الغنسان سيحذون حذوه الحاضر ويشاركون في ذاتِ اللّعبة السياسية. بجانب كلّ ما قلناه عنه يحوز هذا الإنسان على قوىً باطنةٍ ليست بالهيّنةِ يُمكننا أن نشهدَ عليها وهي مُعينةً لهُ على أن يكتسبَ لنفسهِ درجةً معيّنةً من النّجاح، من الفلاح في مساعيهِ اليوميّة اللاهثة وفي جعل نفسه معروفاً ومحبوباً بين الناس. وهكذا يُوطئُ قدمه، مرّةً أخرى، على ذاتِ الدّربِ المعهود العتيق... سئلتُ، مرّةً، عمّا لماذا لا تُوجّه الرّوح، حين أوبتها إلى الدنيا في هيئةٍ جديدةٍ، إلى رسالةٍ في الحياةِ جديدةً تماماً ومختلفةً تماماً- "يبدو أنّني سأجعلُ من نفسي، مرّةً أخرى، دبلوماسيّاً"، قالَ سائلي.
من الواضح أنه ما دامت مكونات روح ما لا تزال، إلى مدى بعيد، كما كانت في سابق عهدها الحي على كوكب الأرض وما دامت، كذلك، طاقاتها الباطنة معتادة على نفس اساليب ردود فعلها السالفة فإن الأنا الفردية المجسدة لها ستفضل، لا شعورياً، "تدعيم" [بالمفهوم النّفسي لهذه الكلمة- المترجم] طريقتها القديمة في التصرف بحيث أنها، غالباً، ستتّبع، حاضراً وفي حياتها المقبلة، نمطاً من الفكر، الشعور والسلوك هو، نوعاً ما، ذات السابق. لكن هنالك دائماً مُفتتحات تغيير للنّمط، بوادر تطوير أوجه أخرى من الرّوح. ذلك يعتمد على مدى تنوع القوى التي نسجها الرجل (الإنسان) في دخيلة نفسه خلال ماضيه الطويل. بعضُ النّاسِ متعدّدو الجوانب، فهم قد طوّروا في ذواتهم ملكات عديدة أهّلتهم لأن يكونوا موسيقيين، رسامين، رجال كنيسة، مكتشفين، تماماً كما ورجال دولة أو سياسيين. ومسألة أيٍّ من هذه النزوعات المسبقة سيطوّره الإنسان الموهوب تعتمد عليه وحده. فمثل بعض رواد حضارة عصر النهضة قد يصير مفكراً أو، بذاتِ القدرِ، نحاتاً، مهندساً معماريّاً، مخترعاً؛ أو هو قد يغدو "حاكماً طبيعيّاً" (أي امرئٍ قد كان، في ماضي حيَواتِهِ، حاكماً لمرّاتٍ عديدة) وراعياً للفنون.
هنالك قولٌ لوولتر بيتر يُوضّحُ ما ذهبنا إليهِ:- "الذائقةُ هي ذاكرةُ حضارةٍ عرفها الإنسانُ من قبل".
الذّائقةُ، حبّ الجّمالِ، الظلّ والنّغمُ، عشقُ الإنسجامٍ، لطافةُ الحسِّ (الإدراك) والشّعورِ، كما والسّلوك، الشّغفُ بالدّقّةِ، باللّباقةِ، بتوازُنِ الشّكلِ والخطِّ، كلُّ هذه الأشياء المحيطة بالمرء تنسجُ في عقلِهِ (شعورِهِ) وروحهِ إيقاعاً يُرجّعُ صداهُ كلَّ ما هو لطيفٌ وخيّرْ.
الرّوح التي أنشئتْ على مثل هذه الثقافة كثيراً ما تُدمجُ في ذاتِها ذبذباتِ هاتيكَ المُبدَعاتِ التي اجترحها أسمى خيالٍ خلاّقٍ للإنسان. والعقلُ، الشّعور والنّفس سوف يتوقون، في المستقبل، إلى مجاليها الراقية وسشعرون بالجّوع، بل وبسقامِ الفؤادِ، شوقاً إليها.
نفس الشيء صحيحٌ عن ما هو عكس هذا. "أنتَ لا تستطيع مسَّ القارِ دون أن يلتصقَ بكَ شيءٌ منهُ". ولسوف يظلّ ملتصقاً بكَ حتّى تُطهّرُ منهُ، في زمنٍ "آخرٍ" مُقبلٍ، طاقاتُ رُوحك.
لقد رأت النور، في هذه الدراسة، مُحدثَات غريبة ولا مُتوقّعةْ. من هذه، على سبيل المثال، ما عُلّمتُهُ من أنّ امرأةً كانتْ طيلةَ حياتها السّالفةِ، تقريباً، صمّاءَ ألفتْ نفسها، في حاضرِ أيّامها، رائية رُوحيّة. فإدراكاتُها ما فوق-الحسيّة قد أُحيِيَتْ فيها على نحوٍ مثتجاوزٍ للعاديِّ بفعلِ أشواقِها وجُهدها، في خلال سنواتٍ عديدةٍ جدّاً من القرن الماضي (القرن التاسع عشر)، في سبيلِ أن تُبصِر. كما وأنّ جهازَ استقبالها الشّعوريِّ الحسّاسَ كان يزدادُ يشتدُّ رهافةً مع اشتدادِ كَبَدِها إلى أن تستعيدَ سمعها.
إنّ حبّ الرقصِ، الباليه وما إليهما من فنون، في حياةٍ سابقةٍ، يهب الطّفل (الطّفلة)، في حياته (حياتها) الحاضرة، قَدَمَاً مُستوفَزَةْ. تأمّل في هذه الصّبيّةِ التي أنشأتْ، في ذاتها، هيئةً من التّوازُنِ العضليِّ، حسّاً بالإيقاعِ والتّناسق، تشوّقاً إلى التّعبير الذّاتيِّ عبر حركات الجسد والموسيقى. إنذها ستغدو راقصةً إيقاعيّة (بالارينا) من الطّرازِ الأوّل- إن هي بذلتْ ما في وُسعِها في سبيلِ ذلك.
ثمّ اعتَبَرْ- أيّها القارئ- حالة هذا الإنسان الذي "حشرَتْهُ " الحياةُ في زُمرةِ رجالِ البحريّةِ في العهودِ الماجدةِ للسّفنِ المبحرة. إنّه قد طوّر، الآنَ، في نفسهِ جسارةً غيرَ هيّابةٍ من الأعالي وخفّةً في مُوازنةِ الحبالِ وفتلِها في عزِّ الرّيحِ العاصفةْ. ذلك قد يسُوقُهُ إلى أن يجعلَ من نفسهِ فنّاناً أكروباتيّاً في حياته الحاضرة، خبيراً في المشيِ على شفا الحبالِ السّوامقِ، وحُرّاً من الخوفِ حيثُ قد يصيرُ الآخرونَ العاطلونُ عن خبراتِ حيواتِهِ الماضيةِ خُرُقَاً ومشلولينَ بالرّعبْ.
كذلكَ قد يتُوقُ بحّارُ القرنِ الماضي (القرن التاسع عشر) إلى العودةِ، مرّةً أخرى، إلى البحرِ، وربّما حتّى يهربُ إليهِ في صبا حياته الحاليّة (أي في القرن العشرين). والخيَّالُ ذو البأسِ، الذي ربّما كان، في سابقِ زمانهِ، بطلاً يتصدّى "القوائم"، قد يصيرُ، في أيّامه الحاضرةِ (أي في القرن العشرين)، بطلاً أولمبيّاً. أيضالً الممرّضة والصيدلانيّة، الطبيب والجّرّاح، في قرونٍ سابقةٍ، قد يجدوا أنفُسهُم يُعادُ ميلادُهُم، في هذا القرن العشرين، ورسالات حيواتهم متشرِّبَةً ذواتَهُم كما يتشرّبُ الصّوفُ الصِّبَاغْ. فالدّربُ، في مرآتهم، واضحٌ وذكرى خدمة المرضى قريبةٌ من إدراكهم المباشر... والرّحّالةُ جوّاب الآفاقِ، في أيّامِهِ السّالفةِ، تستوفزُهُ- الآنَ- قدمُهُ على طريقِ الرّحيلْ. كذلك من كانَ، ذاتَ زمانٍ، شابّاً أرستُقراطيّاً غنيّاً يلفَى نفسضهُ، حاليّاً، مُلاقٍ صعوبةً في اتّخاذِ مهنةٍ منتظمةْ. فهو، لا شعوريّاً، يُسائلُ نفسَهُ والدّهرَ "أينَ كلَّ أولئكَ الخَدَمِ، الخيولِ، السّاسةِ، الذين دأبوا على أن يحيطُوا بي؟"
من الغريبِ أنّ نقولَ هنا إنّ "الرّجلَ المَلَكِيَّ" عادةً ما يظلُّ، في مقبلِ أيّامهِ، رجلاً مَلَكِيَّاً مُحبّاً للمملكةِ، للدّولةِ ذاتِ السّلطانِ ولمفهومِ العرشْ. ذلك لأن الحقَّ الإلهيَّ للملوكِ قائمٌ، كتصوّرٍ وإيمانٍ، عندَ التّخُومِ القريبةِ لذاكرتِهِ الغائرةِ العميقةْ. لكأنِّيَ أرى يدَ هذا الرّجل مُنخطِفَةً نحو غِمدِ سيفٍ خياليٍّ يرُدُّ بهِ الإهانةَ عن الملكِ أو المَلِكَةْ. هذا الرّجلُ موسومٌ بتقديرٍ فطريٍّ لصورةِ "المَلِكِ" الذى استوى على "عرشِ" السّماواتِ والشّمسِ التي هي، في النّاموسِ الكونيِّ، باسطةً سُلطانَها على عائلةِ الكواكبْ.
لكن، مهلا! فمُنازعُ تلك السّلطة المُطلقةِ ما يزالُ على عهدِهِ.. و"رجُلُ الشّعبِ" ما ينفكُّ يصيحُ:- "فلتحيا الدّولة، فليسقط النّظام المَلَكيُّ! .. كلّ النّاسِ قد وُلِدُوا سَواسيَةْ !" أو، إن لم يقُل هذا فإنّه سيحسّهُ في ذاكرتِهِ الباطنةْ. وفي الدّولة سيشعرُ، كذلكَ، بأنّه، شخصيّاً، يستطيعُ القيامَ بأحدِ المهامِ الأكبر. لكن، كم من ثوريّينَ أجلسُوا أنفُسَهُم على عرشِ الديكتاتوريّةِ حينما واتتهُم الفُرصةْ؟
هنالكَ أمثلةٌ لا حصرَ لهت لذلك التوريثِ الخَلقِيِّ والخُلْقِيِّ- للسّماتِ وللنّوازِعِ الشّخصيّةِ، للعاداتِ وللأفكارِ (الخواطرِ)، للميُولِ المُسبقَةِ وللتّحيّزاتِ وللمواهب- الذّي يُفسّرُنا لأنفسنا- أو هو قد يفعلُ ذلكَ إن نحنُ فقط استجمعنا، في صميمِ ذواتِنا، رؤيا عميقة لتاريخنا الرُّوحيْ. فما نُحبُّ وما نكرهُ، غَيراتُنا، عواطفُنا، مهاراتُنا الأكثرَ تجريباً أو استعمالاً، عداواتُنا ومحبّاتُنا، كلُّ هذهِ تندغمُ في حنايا النّفسِ والرّوحِ على هيئةِ سماتٍ وميولٍ، تنافُراتٍ ليس لها سببٌ ظاهرٌ، أو حبٌّ من أوّلِ نظرةْ.
كُلُّ ذلك الذي نفعلُهُ ونُفكِّرُهُ الآنَ يُنشئُ مُستقبلنا، "يُزيّتُ" عجلاتِ مركبةِ الرّحلةِ الغاديةِ، أو هو يُخلّقُ انطباعات (اندغامات) في مُوشَّى الطّاقاتِ الذي هو نفسنا الباطنة. هذا هو السّحرُ الكامنُ تحتَ سيرورةِ كلّ التّطوّرِ والنّماءِ، الصّدفةِ والحظِّ السّعيدِ كذلكْ.
عطفاً على جِماعِ ما سبقَ يصيرُ جليّاً لدينا أنَّ العالمَ كما نُنْشِؤُهُ الآنَ سوفَ يكونُ ذاتَ العالمِ الذي سنؤوبُ إليهِ في حياةٍ مُقبِلةْ. فنحنُ- إذاً- مُنَاطٌ بنا، في سبيلِ مستقبَلِنا فيهِ، صونَ ناموسِهِ وجمالهِ والعدالةِ في حقّهِ وحقِّ سعيِنا في آفاقِهِ.
هذه الدِّراسةُ تُشيرُ، بوضُوحٍ، إلى أنّ كلَّ النّاسِ لا يُولدونَ سواسيةً. فأيٌّ منهم يُولدُ ولهُ إرثٌ من سوءِ السّلوكِ (أو سوءِ التَّواؤُمِ) على ظهرِهِ، على تفاوتٍ بينهُ وآخرينَ في ذلكْ.. كلٌّ يُولدُ في مِيقاتٍ مُختَلِفٍ من تاريخِ الكوكبْ. فبعضُ النّاسِ- في منظُورِ ذلكَ- أرواحٌ قديمةٌ ذاتُ "حسابِ" خبرةٍ قيِّمٍ في "بنُوكِها" الرّوحيّةِ استجمعتْهُ ممّا توفّرتْ عليهِ من بصائرِ الحضاراتِ السّالفةِ العظيمةْ. والآخرونَ أرواحٌ جديدةٌ ليستْ لها إلا ذكرى صغيرة عن أيِّ صورةٍ من الثّقافةِ قائمةٍ في خلفيّتِها الرّوحيّةِ التّاريخيّة، أو في جُوّانيَّتِها. جميعُ النّاسِ- في الأساسِ- سائرُونَ على ذاتِ الدّربِ، لكن بعضهُم طوتْهُ خُطاهُمُو أكثرَ من الآخرين. وأولئكَ المتقدّمون في السّيرِ قد تعلّمُوا دروساً كثيرةَ العددِ من بينَ ما تُعلِّمُهُ الحياةُ إيّاهُم، فيما ظلَّ العديدُ من القادمينَ الجّدُدِ من سواهِم دُونهُم في مستوى تجاريبِهم على دربِ الحِكمةْ.
كلُّ النّاسِ، في الجّوهرِ والقابليّاتِ، سواسيةْ. لكنّهم ليسوا على ذاتِ الدَّرَجَةِ من التّطوّرْ. فالنُّضجُ في الحُكمِ والحِكمةِ لا يُؤتاهُ الإنسانُ إلا بعدَ تلمذةٍ طويلةٍ في "مدرسةِ الدّنيا".
تيلهارد دِي شَارْدِنْ
1
كثيراً ما آمن الناس في الزمان الماضي بأن ما يُصيبنا من ضرٍّ إنما هو "مكتوبٌ" على أبراجِ النجومِ التي نحنُ لها تابعين. لكنَّ شكسبير كان محقّاً، بالطّبعِ، حينما قال إنّ الأمرَ ليس كذلك على الإطلاق. فالطريقة التي يُمسكُ بها الراكبُ زمامِ الفرس هي التي تُوجّه مسار حياته. ليس من إنسانٍ- إذاً- مقيّدٍ إلى أشكالِ سلوكٍ معيّنةٍ تفرضها عليه مكونات بنيانه الفيزيائي. فروحه هي- أو ينبغي أن تكون- السيّد(ة). اتساع وعي الإنسان بهذا الإمكان المفتوح هو الذي يُعجّل بتطوّرهِ الرّوحيِّ والشّعوريْ. وعلمُ النّفسِ، كما قُيّضَ لي أن أرى، قد أخطأ، خطأً عظيماً، في هذا السبيلِ حين ساقنا إلى الإعتقادِ بأننا لسنا مسؤولينَ عن طباعنا (ومِزاجاتنا) وإنما وراثتنا وبيئتنا هما المسؤلتان.
حين نقارن الفروق، كما والتّشابهات، بين الحياةِ الحاليّةِ لرجلٍ ما وحياته الماضية فإنّ عدداً من العواملِ المتعلّقةِ بهذا الشأن تُظهرُنا على نفسها.
أيُّ روحٍ تُولدُ في زمنٍ بعينِهِ (بحسابِ زمانِ نظامنا الشّمسيّ هذا) لسببٍ مرتبطٍ بما كانتْ عليهِ سابقاً. إنها لا تكون هي على ما هي عليهِ لأنّ النّجمَ الذي وُلدتْ تحته شاء لها ذلك، بل هي "يُحبَلُ" بها وتُولدُ في لحظةٍ فلكيّةٍ معيّنةٍ لأنَّ طاقاتِ رُوحِها قد تناغمتْ والفيض الكونيّ للقوى النّجميّة (الفَلَكيّة) في ذاتِ ذاكَ الزّمانْ. فاندغامُ تيّاراتِ طاقاتها الباطنة مع الفيضِ الكونيِّ في تاريخٍ معيّنٍ يُصيِّرُها منسجمةً وإيّاهُ بلطافةٍ، ومن ثم تنغمر، مرةً أخرى، بوسيلةِ نهرِ الطاقاتِ الدافق هذا، في إهابِ وضعيّةِ الحياة الفيزيائية على كوكب الأرض.
الروح التي تؤوب، على هذه الصورى، إلى الدنيا ستحتفظ بعددٍ من أوجهٍ شتّى لهيئتها السابقة على الأرضِ بحيثُ تُصيرُ هاتيكَ راسخةً فيها حينذاك.
في أثناءِ رفرفةِ الرّوحِ لأجنحتها انتظاراً للرحيلِ، ثانيةً، إلى مسرحِ الأرضِ تستجمعُ فيها الحاجات التي سوف يتحدّدُ، تبعاً لها، المنزلُ الأرضيُّ الذي ستهبطُ عليهِ وتُمثّلُ فيهِ، مُجدّداً، مسرحيّتها المعاشيّةْ.
قد يكون صرورياً للرّوحِ، حينذاكَ، أن تُسِرَّ أوجُهاً بذاتها من طبيعتها وتُفضحُ، بجلاءٍ، عن أوجهٍ أُخَرْ. فالقوى التي تهب عوناً دائماً على أمثالِ هذه الشؤون ستُعطيها الإشارة ولسوفَ تخطو هي على عتبةِ المسرحِ الدُّنيويِّ فيما تأثيراتٌ فلكيّةٌ معيّنةٌ ناشطةٌ في مجالها ستمنحُنا فرصاً خاصّةً بفترةِ حياتِها التالية على كوكب الأرضْ. وهكذا يُجلبُ إلى مجالِ الفعل المادّيّ والدنيويّ وجهٌ آخرٌ من وجوهِ جوهرِ كينونتهِ كروح.
ستصوغُ الروح الآيبة إلى العالم لذاتها ثوبَ هيئةٍ فيزيائيّةٍ يُقدُّ من صفاتٍ مُوجِّهَةٍ لغاياتٍ مخالفةٍ- بمقدارٍ- لغاياتِ حياتها السالفةْ. هنا قد تختلفُ، إلى حدٍّ، العوامل الوراثية والبيئية المحيطة بحياة الروح عما اعتادت عليه في ماضي الأيام. عليه فإنها ينبغي لها أن تُعبّر، خلال أنماطِ طاقةٍ مختلفةٍ، عن ذاتها في الهيئة الفيزيائية.
هذا هو تحدى الحياة الجديدة. هذه هي فرصتها التطورية. وصاحبها الإنسان قد يُعان عليها بواسطة تحسنات معينة في ظروفه المعاشية وفي ظروف من سيحيا بينهم أو، على العكسِ من ذلك، قد يجدُ، بسببٍ ضعفٍ ماضويٍّ ما، الأمورَ أكثرَ عُسراً. ذلك، بما ينطوي عليهِ من حاجةٍ للغلبَةِ والإخضاعِ، سيُقوّيه.
ولأنّ ذلك الإنسان- الروح قد جاء إلى الارض "محمولاً" على شعاعٍ روحيٍّ مختلفٍ ومنفتحاً على تقاطعِ تفاعلِ قوى هي، كذلك، مختلفة فإنه سيجد طيّاتاً وأوجُهاً جديدةً من روحهِ متسارعةَ النّشرِ والإنعتاقْ. وكثيراً ما تتبدّى في ذاتهِ، آنذاكَ، مَلَكَاتٌ جديدةْ.
غايةُ المرادِ من هذا الإنسان هي، طبعاً، توسيع نفسه الباطنة على مستوياتِ كلّ القوى الشّعشعانيّة الروحانية ا لمتاحة وموازنة خواص وقوى الروح خلل تفاعلات (أو تمازجات) هاتيك القوى في ذاته وانسجامها ونفسه-روحه التي هي، دوماً، في مسارِ تطوّرٍ مطّرِدْ. فهو ما ينفكُّ في سعيٍ حثيثٍ إلى اتّساعٍ أكبرٍ في وعيهِ وشعورهِ، ومن ثمّ إلى غورٍ ولطافةٍ كينونيتين عظيمتين.
يأتي الرجل، أو المرأة، إلى مقدمة مصاف الرجال والنساء ويصير ذا صيتٍ وشهرة أو ذا سمعة سيئة بسببٍ من قوةِ روحه. فإن هو تعلّم كيف ينفتح بنفسه على دفقاتٍ عظيمةٍ من قوى السماء الكونية فسوف ينحتُ لنفسه قالباً حياتيّاً ذا سعةٍ وقوّة. وتبعاً لذلكَ سيغدو كلّ ما يفعلُهُ ذا "قوّةِ حصانٍ" مقتدرةْ. فهو قد خُتمَ عليهِ بختمِ الفائزِ بحكمِ عينِ جواهرِ كينونتهِ.
طبعاً تعتمد كيفية استعماله لشحنات الطاقة الداخليه هذه على النحو الذي يُظهرُ بهِ قوّة نفسه في الوجود، خيّراً كان ذاك النحو أم شِرّيراً، ومُوجَّهَاً لنفسه كان أو للمجتمع الذي يعيش فيه. أو ربما لا يُظهر على الإطلاق، في ذلك السبيل، قوّةً ما للعالمِ الخارجيِّ، بل ينشغلُ بتطوّرهِ الخاصِّ عبر خطوطٍ سرّيّةٍ باطنةْ.
كلُّ حياةٍ لاحقةٍ للمرءِ تُمثّلُ فرصةً لذاته الأسمى كي تُطوّرُ عقله ونفسه (روحه) ملءَ وسعهما. في المراحل الأولى لحياةِ الروحِ الإنسانية اليافعة، في حياةِ الإنسانِ "البدائيِّ"، ما كان لهذه الدرجة من النجاح أن تُؤمّلْ. فالأخطاءُ واردةٌ كثيراً، لكن أيَّ خطأ يُعلّم الروح على ذاتِ النحو الذي تُعلّمُ به الأصابعُ المحر وقةُ الطّفلَ أن يبعدَ عن النارْ. أخطاءُ التّقييم هذه يُمكنُ للمرءِ أن يدعوها، إن شاء، "جهلاً أصليّاً"- وليس "خطيئة أصليّة". لكنّه من المحتّم لأيِّ روحٍ يافعةٍ أن ترتكبَ أخطاءاً. فالحياةُ ستُعلّمُ ما هو مفيد وما هو غير مفيد أيضاً.
أولئك الذين هم في أولى مراحل تطورهم الروحي يميلون، لحدٍّ معيّنٍ، إلى أن يستخدموا إمكانات أنفسهم أوتوماتيكيّاً. إنهم يسمحون لجواهر كينونتهم بأن تتفجّر، كلاماً وفعلاً، دونَ تحكّمٍ واعٍ منهم بأنفسهم أو إدراكٍ متفكّرٍ لدوافعهم الباطنة. فما نحنُ جميعاً جاهدونَ إلى أن نحوزهُ هو توسعة وتعميق إدراكنا بأنفسنا، ومن ثم تطويعها لتحليلٍ ذاتيٍّ ناقذْ. هذا هو الفرق بين الروح البشرية الغرة اليافعة وروح الإنسان المهذّب المشذّب ذي الحكمة والنّضج الروحي.
هنا ينهضُ سؤال:- كيف لإنسانٍ أن يُجهلَ في حياةٍ ما، يُحتفى به في أخرى، ثم يعود، فيما يبدو، مجهولاً ونكرة في الحياة التالية لهاتين؟ فهذا يحدثُ كثيراً.
السبب في حدوث ذلك أنّ من يعيش حياة شهرة يجلب إلى تلك الحياة أوجهاً من روحهِ محفوزةً بتناغمهِ الخاصِّ مع قوىَ شعشاعة كانتْ مُيَسَّرَةً له آنذاك. فموجّهُهُ الذاتيُّ سيختارُ، في ذاكَ الحين، أن يستعملَ من أوجهِ، أو خصائص، روحه تلكَ التي سوف تزدهر ازدهاراً عميقاً وراسخاً في إيقاعِ الزّمانِ الذي "يجدُ" نفسَهُ عائشاً فيهِ.
قد نأخذُ، كمثالٍ على ما نقول، شخصاً في قامةِ مايكيلانجلو. هنا، بلا شك، نُلاقي من نسمّيها "روحاً" قديمة. هنا إنسانٌ أفعمهُ معاشهُ الماضويُّ بالغنى في القوى الكونيّةْ. ولأنّ مايكيلانجلو قد ولد في زمنٍ مواتٍ لإبداعِ ورعايةِ الفنونِ فإنَّ القوى التي سبقَ وان انطوى عليها في حيواتٍ ماضيةٍ قد سُمحَ لها بأن تبلغ قمةً في الإزدهارِ والإمتيازْ. كان ذلك الفنانُ العبقريُّ قادراً على استقبالِ الإلهامِ من القوى الروحيّة العليا، كما وأنه قد جرى بمفاهيمهِ لسمو الكون الخلاق على سقوفِ وكانفاساتٍ كي يُعلّمَها كلَّ الأنسْ. فمخزونه الخاص من الحكمةِ، وصله الطبيعيِّ بالألوهيِّ قد علّمهُ التعبيرَ، في الفنِّ، عن بهاءِ المجالي العُلى بحسبِ قدرِ انعكاسهِ الممكن في الإنسانْ. هنالك كرامة- فوق-إنسانية، عظمة وجلال فاضوا على فرشاتهِ الخلاقة قدّموا للإنسانِ محاضرةً عما يمكن أن يصيرَهُ الإنسانْ. إنّ مايكيلانجلو، ومن هم على مثاله، كانوا تعابيرَ عن الألوهيِّ في الأرضْ.
مع ذلكَ، فإنّ أداءَ الإنسانِ الخارجيِّ لا يُطلعُنا، بالضرورةِ، على قوّتهِ وحكمته الداخليّةْ. فالتكبّرُ، تضخّم الأنا، فقدان التعاطف الرفيق بالآخرين، شهوة القوة، كلّ هذه الصفات تستطيع أن تجلبَ سقطةَ ذاكَ الذي لهجتْ باسمهِ ألسنةُ كلِّ الناسِ وحُرِقَ له بخُورُ الإطراءِ في قرنٍ غابرْ. لمثل هذه الروح قد نتوقع فترةً من التنكيرِ عبر كلّ حياتها التاليةِ تكونُ بمثابةِ إجراءٍ وقائيٍّ لها ضدّ تمركزِ الأنا الموسومة به حياتها الحاليّةْ. ربّما يكونُ الأمرُ مُقْتَضِيَاً أن تُؤدِّي تلك الرّوحُ (ذاك الإنسان)، في زمنٍ قادمٍ، دورَ عابرِ سبيلٍ مجهولٍ على مسرح الحياةْ. ذلكَ حتّى تتقوّم وتتعادل فيها (فيه) تصوّر الأنا لقيمتها الخاصّةْ. من الغريبِ أن نقولَ، في هذا المقامِ، أنَّ الأخطاءَ الكبيرةَ (في حياةِ امرئٍ ما) كثيراً ما تُنْجِبُ خُطىً واسعةً وكبيرةً إلى الأمام.
ذلك الذي يعيشُ بجرأةٍ، أو حتّى على حافّةِ الخطرِ، رغمَ أنّهُ قد يرتكبُ أخطاءَ فادحة، كثيراً ما يتعلّمُ أسرعَ من الوجِلِ، المتوجّسِ الذي قد يتطوذرُ روحيّاً، لكن ببطء. وذاتُ القوى التي يستولدُها الإنسانُ الذي ينجرُّ، باندفاعٍ، إلى زخمِ التّجاريبِ الحياتيّةِ- وإن أضرّتهُ نتائجُ هاتيكَ بالغ الضّرر- تُودي بهِ إلى حالةٍ من التّوبةِ، حالةٍ من انبثاقِ الفهمِ تبلُغُ مدىً قد يسوقُهُ خُطواتٍ طويلةً وعظيمةً إلى الأمامِ وصُعُدَاً في كينونتهِ الروحيّة المستقبليّةْ.
مرّت الأيام وبدأ "المُعلّمُ" يهبني وَمَضَاتٍ مُسترجعَةً من أزمنةٍ مضتْ. كانَ، أحياناً، يعرضُ على شاشةِ رؤياي الداخليّة صوراً لحدثٍ ما تمّ في الماضي ورغبَ هو في استجلائهِ لي.
تدريجياً بدأتْ عيناي، تحتَ هداه، في التفتّحِ حتّى استطعتُ أن ’أرى‘ جزءاً صغيراً مما أومضَ بهِ في شعوري (وعيي). كانت الصور قد تترى أمامَ مرآي وكنتُ، أحياناً، لا أستطيعُ تمييزها رغم أنّ الوجوهَ المصوّرة فيها كانتْ تبدو، حينذاكَ، مألوفة.
آهٍ، كم كان صعباً عليَّ الإستمساكَ بهاتيكَ اللّمحاتِ الخاطفةِ ومحاولة استدعاء وجهٍ كان يستبينُ لي على أنّهُ وجهُ أخٍ أو صديقٍ قريبْ! لكنّه كثيراً ما بدا لي اختراقُ تستُّرِ ذاكَ الوجهِ الأليفِ تحتَ حجابِ موضةٍ وزيٍّ من زمنٍ آخرٍ، تحتَ قناعِ لحيةٍ أو باروكةٍ أو لباسٍ من القرونِ الوسطى، شيئاً أشبهَ باللّقاءِ، صُدفةً، بصديقٍ (صديقةٍ) قديم (قديمة) في "حفلةٍ تنكّريّة" وعدم القدرة، مع ذلك، على التّعرّفِ عليهِ (عليه) من خللِ لباسهِ (لباسها) التّنكّريِّ الحاضرْ.
لكن "المعلّم" قد عرفَ تلك الوجوه. بل وربّما ذكرَ لي، أحياناً، أسماءها فعرفتُ من أصحابها من عرفتُ وغابَ عن باليَ الآخرْ.
وهكذا بدأ انكشافٌ جديدٌ مثيرْ.
كان هدف ذلك الإنكشاف إعطائي تنويراً عن العواملِ التي تحكم تقدّم الرّوح الإنسانيْ.
"الدّينُ هو علمُ حركةِ مقذوفات، هو الطريقة التي تُهزمُ بها دفعةُ جاذبيّةِ الأرضِ"، قالَ "المعلّمُ"، "لذا ينبغي عليهِ أن يُوسّعَ فهمَ المرءِ لمعنى الأشياءِ وكيفِها". وهكذا أراد "المعلّمُ" أن يعرضَ عليَّ شيئاً من ماضي بعضِ أولئكَ الناس الذين عشتَ بينهم، وكذلك جانباً من ماضي شخصيات بعينها غدتْ أعلاماً في عصرنا هذا. عليهِ فقد سعى التَّاريخُ، حيّاً، إليَّ. كان ما شهدتُهُ كشفاً قُصِدَ منهُ أن أتحقّقَ من أنّ أولئكَ الذين حولنا، مثل أقرباء المرء، أصدقائه، الرجال والنساء الذين قرأ المرءُ عنهم في الصّحفِ، أولئكَ الذينَ يصنعونَ التاريخ اليوم. هم ثلّةٌ من ذاتِ الأرواحِ التي خطَتْ، على السّاحةِ، منذُ قرنين مضيا أو يزيدْ. فالتاريخُ قد صنعناهُ "نحنُ"، و"نحنُ" هم المسؤولون عن العالم كما هو الآن، وإنّها "الكارما" التي تخصّنا هي التي نشتغلُ من خلالها. وما جِماعُ آلامنا ومتاعبنا، بهجاتنا ومآسينا، إلا نتيجةٌ للأشياءِ التي فعلناها في الماضي. "نحنُ" أسلافنا!
"نحنُ" مُنشئِي العالم، و"نحنُ" الذين جعلناهُ ينتهي إلى ما هو عليهِ الآن عبر ’خطيئات‘ سهونا وممارساتنا، جهلنا، افتقادنا فهم القوى الناشطة على مسرح الحياة وكيفيّة اشتغالها.
إنها لتجربةٌ مُحييةٌ أن نتحقّقُ نحنُ، بنو الإنسان، من هذا. فنحنُ، حينذاكَ، سنفهمُ، في الحال، الأهميّة الحيويّة لأيّ خاطرة (فكرة) تمرُّ ببالنا ولأيِّ فعلٍ نفعلُهُ اليوم وكم هو قصيرٌ الوقت المتاح لأيٍّ منّا، في هذه الدنيا، الذي يمثّل فرصةً لنا للقيامِ بإصلاحاتٍ في حالِ البشريّةِ وفي حالِ أرواحنا الفرديّة كذلك. إنّهُ لصادمٌ بما فيه الكفايةُ أن نتأمّلَ في أنَّ إعداماتَ الشّنقِ العامّةِ، إرسال الأطفال للعمل في المناجم، إرسال الشباب للمشانق أو نفيهم، مدى الحياة، إلى أماكنٍ بعيدةْ، حرقِ أناسٍ أبرياءٍ اعتُبرُوا سحرةٌ، حزُّ الإنسانِ لرأسِ أخيهِ الإنسانِ هي، كلّها، من مسؤوليّةِ أجدادنا الكبار. لكنّه أكثر زعزعة لنا أن نستبينَ أنّ الأرواحَ التي ارتكبتْ كلَّ ذلكَ ربّما كانتْ أرواحنا الحاليّةَ ذاتَها.
كيف لنا أن نردَّ ديناً كهذا للإنسانيّةِ وللأُلُوهيّة؟
أنا أيضاً قد أُعلمتُ، بالطبع، بشيءٍ عن أدوارٍ قمتُ بها، في حيواتٍ سابقةٍ، على كوكب الأرض. لكنه كثيراً ما لا يكون هنالك أيّ شيء يرضى عنه المرءُ رضاءاً كبيراً حينما يدرس حالة نفسه الخاصة قبل تخرجها من جامعة تجاربها الماضية. بيد أن تلك الدراسة ستعلّم المرء، فوق كل شيءٍ آخر، قيمة التسامح الوسيع والشامل. فأنتَ- كشخصٍ انفتح على أفقها- حين ترى الآخرون يقعون في الأخطاء ويرتكبون أغلاطَ رئيسة تقولُ لنفسك:- "لولا أن تداركتني نعمةُ ربي ولطف الزمان بي ما كنتُ سأصلُ إلى ما وصلتُ إليهِ الآن". بل وربما تقول حتّى:- "ذلك ما كنتُ أنا عليهِ". ولا تُزيدْ. ذلك لأننا كلّنا قد طرقنا درب العمر الطويل الصاعد من مستويي الرجولة والانوثة الباكرين إلى المستوى الغنساني الذي نجد أنفسنا عليهِ الآن.
كان هنالك ناظرُ مدرسةٍ شهيرٍ اعتاد، دوماً، على مصافحةِ يدِ أيِّ صبيٍّ يتعلّم في مدرستِهِ. وحينما سُئلَ عن دواعي ذلكَ أجابَ قائلاً:- "لأنَّ أحد هؤلاء التلاميذ قد يغدو، ذاتَ يومٍ، رئيساً للوزراء". وبمعرفتنا بحقيقة إعادة الميلاد (أو تناسخ الأرواح) قد نعكسُ نحن هذا القول المأثور عن الناظر فنقر بأنه لابدّ أن أحد هؤلاء الصبية قد كان، بالفعل، ذاتَ ماضٍ ما، رئيساً للوزراء أو شخصاً ذا مقام يُلاقي صاحبهُ ذات الدرجة من الإحتفاء والإحتفال.
حسناً، لا نستطيعُ كلّنا أن نكون رؤساء ووزراء. لكنني قد أُوضحَ لي أن كثيراً من أولئكَ الذين التقينا بهم في حيواتنا قد صاروا أشخاصاً يُشارُ لهم بالبنانِ في سالفِ أزمانهم.
فقط القلة من الناس قد تم اصطفاؤهم- إذاً- لدراسات متفرّدةْ.
قال لي "المعلّم":- "أن ترى وتتذكّر:- إنّ في ذلكَ لحكمة". وقد كان هو ("المُعلّم")، من حيثه الوجوديّ الماورائيّ، قادراً على تذكر حيواته الخاصة الماضية. ولقد أخبرني بنبأ بعضٍ من هاتيكَ، لكنّني لستُ بائحةً بذلكَ هنا. غيرَ أنّي، بغرض بيان الكيفية التي تعمل بها قوانين العبش وبعض العوامل التي تحكم وتوجّه تطوّرنا الرّوحي، أظنّ أنّهُ مأذونٌ لي هنا أن أروي لكم عنه قليلاً من أخبارِ حَيَوَاتٍ ذواتِ شهرةٍ وصيتٍ كان قد أطلعني عليها بهدف التأمل والدّرسْ.
ينبغي عليَّ أن أوضّح لقارئي، في هذا المفترق، أنّه رغمَ أنّ بعضاً من الحيواتِ التي أُلْقِيَ لي ضوءٌ عليها كانت لأشخاصٍ من دائرتي الخاصة إلا أنني، لأسباب واضحة، لا أستطيع الحديث عنها هنا. فالعديد من أولئك الأشخاص ما يزالوا، حتى الآن، أحياءاً، ثم أنّ من "رحلوا" عنّا منهم ما "غادروا" ديارنا إلا حديثاً وظلّ أقاربهم باقينَ على هذا المجالِ من الكونْ. هل للمرءِ أن يستعمل نماذجهم؟ ربما تكون بعض هذه النماذج غير مؤذية، على نحوٍ ما، لأصحابها، من رحل منهم ومن بنتظر. لذا حينما أُمنحُ الإذنَ قد أستخدمها كأمثلة موضحة لما أعني، ففقط بسوابقِ وقائعٍ كهذه يستطيع المرءُ أن يهبَ الإيضاحَ إيّاهُ وزناً وجذراً.
لماذا أستخدمُ، كنماذج إيضاحيّة، فقط أولئك الذين ذاع صيتهم؟ سببُ ذلك، في اعتقادي، هو أن أولئك يمكن لأيّ شخصٍ أن يدرسَ حالاتهم. فالمجهولون من الناس ليس للمرءِ من سبيلٍ إليهم في السّير الذاتيّة، التاريخ، أو في اللّوحات حتّى يُضَاهَونَ، في الهيئةِ، بمن هم تناسخٌ جديدٌ لهم. لذا فالمُحتفى بهم فقط سوف يصلحونَ للتَّقَصّي الفاحص.
أنا أعلمُ جيّداً أنني، بفعلي هذا، سأفتحُ على نفسي بابَ كلّ أنواعِ النقدِ والحديثِ اللاذعِ الذي قد تُحجِمُ عن قولهِ حتّى أكثر العمّاتِ لذُوعةً. لكن عهدَ التّطهيريّةِ والقهر الفكريّ العنيف قد مضى. ثم أنّ محاكم "التفتيش" الآنَ قد رُدّتْ، فحسب، إلى أشكالٍ من الأسئلةِ اللا منتهية، على التلفزيون وعلى الراديو، والآراء التي يُنكِرُ كلُّ واحدٍ منها على الآخرِ حقَّ الوجودْ.
إن غدا المرءُ دائمَ الصّمتِ عن كلّ الشِّؤونِ المتّصلة بقناعاتِهِ الداخليّة كيف لنا، إذاً، أن نتقاسمَ ما لمحناهُ؟ يبدو لي أنّ كثيراً من عمانا الحاضر عائدٌ إلى حقيقةِ أنّ المطاردةَ والإكراه قد غَصَبَا، بتواتُرٍ، لُبَّ الحقائقِ القديمةِ على الإنحصارِ في دروبٍ سِرِّيّةٍ في الذّات. الآنَ قد آنَ الأوانُ لأن نتحدّثَ عنها بجلاءٍ غيرِ هيّابٍ من الهُزءِ والإزدراءْ.
قبل مائة عامٍ خلتْ ربّما كانت "بيتُ لحمٍ" هي المكان المناسب لأن يبوح كُلُّ امرئٍ بحقيقةِ أنّه، في المستقبل، سنصير قادرين على الإتّصال، عبر البحرِ، ببلدانٍ أُخَرْ خلال بصرنا وسمعنا- أو حتّى برجالٍ ونساءٍ على القمرْ. وبعد مُضِيِّ قرنٍ من الآنِ ربّما سيُبرهنُ العلمُ والتنويم المغناطيسيّ الإرتداديُّ regressive hypnotism، أخيراً حقيقةَ حيَوَاتِنا العديدةْ.
إذا اقتبسنا، في هذا المعنى، كلاماً عن بيير تيلهارد دي شاردن فسنراهُ يقول:- "ذلك الذي ينطقُ بهذه الكلماتِ أمام "مجلس الكبار" سوف يُضحَكُ عليهِ ويُصرفُ بعيداً على اعتبارِ أنّهُ "حالمٌ"..."
لم يهزأ امرئٌ بتيلهارد دي شاردن، لكنّ سلطات الفاتيكان رفضت نشر أعماله وحرّمت عليه الوعظ. فقط بعد موتهِ في عام 7519 صار عمله معروفاً عالميّاً ومكرّماً. المِفتاحُ الأساسيُّ لفكرِ شاردن النّشوئي كان حقيقة التطوّر. "الطبيعة هي معادل "الصيرورة"، التخلّق الذّاتي". هكذا تحدّثَ شاردن وأظهرنا على أنّ تطوّر الحياةِ البطيء قد تمّ عبر "التَّراكُبِيَّة
complexification "، "فالذّرّاتُ، كما قال، "تنامى تركيبها إلى جزئيّات، ثم إلى خلايا ومنظومات عضويّة. وقد صاحبتْ التركيبيّة هذه "زيادةٌ في الإدراكِ الواعي، في إشعاعِ القلبِ الوهّاج المفكّر للمخّ الإنساني". "لولا عمليّة التّطوّر البيولوجيّ هذه والتي ينشأ عنها الكائنُ الإنسانيُّ"، يواصل شاردن الحديث، "ما كان للأنفُسِ الزّكيّةِ أن تُوجد".
مع ذلك يظلُّ الأمرُ كما كتب عنهُ هذا الرائي المضّطهد الذي هو، في ذاتِ الوقتِ، عالمٌ:- ".. "مجلس الكبار" قال إنه ليس من ثمة شيء متحرك في حضن الطبيعة الراسخ العميق. عينُ الحسِّ المشترك ترى ذلك الشيء والعلمُ يؤكّدهُ.... الفلسفةُ تُوضّحُ لنا أنهّ ليس هناكَ حِراكٌ نشوئيٌّ في الطبيعةِ الخامدةْ... الدّينُ يمنعُ ذلك:- لا شيءَ ينبغي لهُ أن يتحرّكْ..." رُغمَ ذلكَ فإنّه هو، تيلهارد الرّائي، تيلهارد المُحدّق في أعماقِ التّركيبِ البالغِ الشّسوعِ الذي هو نفسه جزءٌ منهُ- ذلك التركيب الذي، حين يشهد جذوره متأمّلاً، يراها تمتدُّ باطناً، فباطناً حتّى يتلاشى هو، في ظاهرِ العالمِ، عنها فتضيعُ منهُ في عتمةِ ماضٍ مُلتبسٍ، هو من يُحصّنُ رُوحهُ، ثانيةً، من هذه العتمة وهذا الإلتباس عبر تأملهِ وشعوره بحركةٍ كونيّةٍ عنيدةٍ مرسومةٍ في الشّعاعاتِ المُتلاحقةِ للمادّة "الميّتة" والإنتشارالحاضر للأحياء... ومُحدّقاً صُعُدَاً باتّجاهِ الفضاءِ المُفعمِ تهيّؤاً لخلقهِ وهب (شاردن) نفسهُ، جسداً وروحاً، بإيمانٍ تجدّد تأكيده، لـ"تقدّمٍ" سيحملُ معهُ، في سبيلهِ، جميع من ينسجموا معهُ أو، عند النّهايةِ الأخرى، سينفضُّ عنهُ بعيداً كلُّ "أولئك الذين سوف لا يَلقُونَ السّمعْ".
تحدّث تيلهارد دي شاردن عن المسيح بوصفهِ "مُحيي الكون" وأشارَ إلى "التّمسيحِ Christification " النّهائيِّ، في مقبلِ الزّمانِ، لكلّ عمليّةِ النّموِّ في الطبيعةِ، وفي الإنسانِ ذاتهِ.
ذلكم هو العالِمُ، مجوّد علم المتحجّرات الآليّة والأسقف اليسوعيُّ الذي عانتْ رؤياهُ الكونيّةُ، كما ومعرفتُهُ التي توفّرَ عليها عبر البحث والدرس، قمعاً لازمها وما انفكَّ عنها إلا بعدِ موتِهِ.
إلى أيِّ مدىً تستطيعُ السّلطةُ أن تكونَ عمياءْ؟
ما بالنا مفرطو التّذبذب هكذا حتّى نُدينُ الأفكارَ التي تبدو لنا جديدة!
ما اقتبستُ تلك الكلمات عن تيلهارد دي شاردن إلا لأنها تحتوي، في الجّوهرِ، على لُبِّ ما وهبنِي إيّاهُ "المُعلّمُ"، منذ عام 1940 وما بعدُهُ، من معرفةٍ جَهِدْتُ في توصيفِها في شتّى المطبُوعاتِ قبلَ فترةٍ طويلةٍ من بروزِ عملِ تيلهارد إلى الضّوء.
هذا ليس ادّعاءاً منّي (إذ كيفَ للمرءِ أن يدّعي حيازةَ تعليمٍ وهبهُ إيّاهُ سواه؟)، لكنّه- فقط- تسجيلٌ تاريخيٌّ لحقيقةِ أنّ رؤيا تيلهارد دي شاردن، التي أزاحتها السّلطةُ جانباً على أنّها "شيءٌ خطيرٌ"، قد سُرّبتْ، بواسطة القوى الكينونيّة القيّوميّة، إلى الفكرِ الإنسانيِّ، في أنحاءٍ عديدةٍ من العالمِ، منذُ زمانٍ سابقٍ بكثيرٍ لذلك الذي سُمِحَ لها فيهِ، من قِبَلِ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ، أن ترى نور النّهارْ.
هذا يُوضّح لنا كيف أنّ الفكرَ الجديدَ قد اندغم في واعيةِ الإنسانِ التي تنزَّلَ إليها من مجالي الأبعادِ الماورائيّةِ الشّاسعةِ، من مجالي "المُعلّمين الرّوحيّين" في الآمادِ العُلَىْ. ثمّ إنّهُ علّةُ الواقعةِ المُلاحظةِ في كونِ أنَّ عديداً من الإختراعات، شأنها شأن الفكر ’الجّديد‘ (رُغمَ أنّهُ قديمٌ قِدم التّلال) تطلعُ على الدّنيا، في أماكنٍ شتّى منها، في ذاتِ الوقتِ، أو في أوقاتٍ هي، في النّهايةِ، مُتقاربَةْ.
كنتُ قد اقتبستُ عن د. إيان ستيفينسون، الباحث الدقيق والإخصّائي النّفسي، بعض حالاتٍ لإعادة الميلاد (أو تناسخ الأرواح) عنيتُ بها أن أرفدَ نفسي بشجاعةٍ تؤهّلني للكشفِ عن اليسيرِ مما عُلّمتُهُ، خلال فترة ثلاثينَ عاماً، عن ذلك الموضوع. فدكتور ستيفينسون هو- إذاً- من وهبني جرأةً على أن أنشُرَ، على الملأ، حالاتٍ في هذا البابِ كنتُ قد أخفيتُها عن النّاسِ خوفاً من أن يهزأ بي "مجلس الكبار" ويصرفها، كحلمٍ عابرٍ، بعيداً عنهُ (وعنهُمُو).
ولأنَّ ملكَةَ الغوصِ في تفاصيلِ الحياةِ الماضيةِ لروحٍ ما هي أعظم المَلَكاتِ عسراً وبلاءاً في سُبِلِها وغاياتِها دعنا- إذاً- نفترضُ أنّ من أخترتهم نماذجاً لفعاليّتها النافذة ما هم إلا ممثّلي حالات احتماليّة، أو قُل هم حصيلةَ بحثٍ- لسِواي- انتهى إلى نماذجٍ مُجليةٍ، في صورةِ أناسٍ أحياءٍ، لفعاليّاتِ (ميكانيزماتِ) قوانين الرّوح. ثم دعنا، كذلكَ، نكفُّ عن الآخرين شعور الإنزعاج من حقيقة تصديقي بما حوت هاتيك الحالات، فما ذلك التصديق سوى قناعتي الخاصّة. بالطبع يستطيع القراء أن يستخدموا الحالات إياها كمؤشراتٍ للكيفيّةِ التي تعملُ بها قوانين الفعل وردّ الفعل- وذلك انطلاقاً مما حرى بيانه- على تطوير الفردِ الإنسانِيْ.
وما وصفتُ الأمرَ في سيرتي الذاتيّةِ فإنّ هاتيكَ الحالاتِ ربما قُذِفَتْ، آنذاكَ، في واعيتي في أحيانٍ كنتُ فيها إما مفكّرةً في أشياءٍ مختلفةٍ عنها تماماً، مُستغرَقَةً في الإنشغالِ بشأنٍ يوميٍّ ما أو مُتنزِّهَةً برفقةِ الكلاب. حينذاكَ قد تنطلقُ الأسماءُ في سمعِي بجلاءٍ فيرِدُنِي أنَّ "هاتيكَ وتلكَ، من الأسماءِ في القرنِ الثامن عشر، هي الآنَ هاتيكَ وتلكَ من الأسماء".
أحياناً تكونُ الأسماءُ الواردةُ إليَّ أسماءُ أشخاصٍ ما عرفتهُم، أو سمعتُ بهم، من قبلِ، في حياتي. فينزعُ بي ذلكَ نحو مكتبةِ المراجع العامة حيث أبحثُ عما خُطَّ، هناكَ، تحتَ هذا وذاكَ من أسماءِ اولئكَ الرّجالِ والنّساءِ حتّى إذا ما جمعتُ، ملءَ ذراعيَّ، كتُباً عنهم ذهبتُ بها إلى البيتِ وانهمكتُ في مُضاهاةِ صورهم أو شخوصهم التاريخية بصورِ وشخوصِ من وردني أنّهم صاروا إليهم الآن والذين ربما كانوا، أو لم يكونوا، ذائعي الصيت. أحياناً يأخذُ منّي أمرُ اكتشافِ صورةِ (بورتريه) هذا وذاكَ من الشخصيّاتِ التاريخيّةِ شهوراً. ولربّما أُضِيءَ لي دربُ بحثي هذا بعثوري على نقشٍ قديمٍ لوجهِ أحدِ هؤلاءِ في مكتبةٍ لبيعِ الكتبِ المستعملةْ. وعندَ إجرائنا المقارنة بين ذاكَ النّقشِ والوجهِ الشّبيهِ به في الحاضرِ قد نُستثارُ، أنا وزوجي، انفعالاً باكتشافنا تماثُلَ تشكيلهما العظميِّ، هيئتي وجهيهما وتقاطيع مُحَيَّيْهُمَا الدقيقة، الشيء الذي يشي بأنّهُ، حتى مع فارقِ مئاتٍ كُثُرٍ من السّنينِ بينهما، فإنّ هاتين الشخصيتين (أو، بالأحرى، تلك الرّوح الماضية المتناسخة في شخصية حاضرة) قد تكون لديهما، أحياناً، ميول عقليّة مشتركةْ.
هدف هذه الدراسة هو أن تُظهر نفس (روح) أيّ فردٍ منا على أنها كينونة خالدة، تدريجية الإندياح، متعلّمة، بصبرٍ، دروس العيش كما تُعبّر عن نفسها خلال الميول المغروسة والقابليّات التي ينطوي عليها أفراد الناس والتي كثيراً ما تكون شبيهة بتلك التي انطوت عليها نفوسهم الماضية. ومن خلال ذاك التعليم كثيراً ما يُكرّر بنو الإنسان، مرّةً فمرّةً، ذات الأخطاء الفادحة حتى حينُ زمانٌ يُغصبُهم فيه الألمُ المتسبّبُ عن هاتيكَ على إدراكِ أنَّ الطريقة التي كانوا بها يسلكون ليستْ بالحكيمةْ. على هذا السبيلِ قد نرى كيف أنّ قوى وأدوارَ رجلٍ ما في الحياةِ مُعينةٌ للجِّنسِ الإنسانيِّ على التقدّمْ. مع ذلكَ فإنّهُ، أحياناً وبفعلِ عماءِ ونُكرانِ رفاقهِ البشريين، يدفعُ مثلُ ذلك الرّجل ثمناً عزيزاً لمعروفهِ على الآخرين، فلربّما يفقد حياته فداءاً لمبادئهِ.
الأهمُّ من مقارنةِ صورةِ قناعِ شخصيّهٍ من قرنٍ ما بأخرى من قرنٍ مختلفٍ هو مقارنةُ الخصائصِ، الإهتماماتِ والميولِ المغروسةِ في كلٍّ من الشخصيّتين المعنيّتين. فالشخصيّةُ الأحدث عهداً منهما ليست فقط كثيراً ما تكرر خِلاق سابقتها على نحوٍ شديدِ التّماثل- خاصة حيثما إعادة الميلاد متتابعة- بل وكثيراً ما تنزعُ، كذلكَ، بغرابةٍ، نحو تكرار فعلِ ذاتِ الأشكالِ من الأفعالِ و"تلقّي" ذاتِ الأشكالِ من الأحداثِ التي فعلتها وتلقّتها تلك. قد وصفتُ ذلكَ المنزعَ بأنّه "غريب"، لكنّه، حقّاً، ليس بغريبٍ إن تأمّلَ المرءُ في كونِ أنّ صفاتِ الإنسانِ، أو خصائصه، هي الإنعكاسُ الخارجيُّ للطاقات الجوهريّة التي صاغت كينونته الباطنة. فقط حين تتغيّر هاتيكَ، بقوّةِ فعلِ التجربة، تتغيّر شخصيّاتنا فيُصيرُ ظاهرُ كينوناتنا تعبيراً عن ذاكَ التّغييرِ في ذواتنا الدّاخليّة.
يتعاملُ العديدُ من النّاسِ باستخفافٍ مع موضوع تناسخ الأرواح. ذلك كانّه فانتازيا أو لعبة تخمينات عشوائيّة. فثمة ثُلّةٍ كبيرةٍ من النّاسِ "تحدسُ" وتنشرُ، بزهوٍ، ما وقع في بالها من خاطراتٍ ظنّيّةٍ حول من كانوا هم، أو كان بعضٌ من أصدقائهم، في أزمانٍ سالفةٍ، بين أفرادِ مجتمعاتهم.
قد يكونُ في ذلكَ لهوٌ وتسريةٌ. إنّه قد يُضخّمُ شعور المرء بأهميّته الذّاتيّة حيثما كان ماضي المرء هو موضع الإعتبار. لكن، حسب خبرتي الخاصة، تكشَّفَتْ لي هاتيك التخمينات، بدرجاتٍ متفاوتةٍ، على أنّها خاطئة. ذلك فضلاً عن كونها منطوية على طريقةِ استدلالٍ سطحيّة ولا أساسَ لها على الإطلاق إن اعتُبِرَتْ من منظورِ دراسةٍ جادّةٍ للموضوعِ الذي هي خائضةٌ فيهِ مع الخائضين. على سبيلِ المثالِ كنتُ، في إحدى المناسباتِ، أتحدّثُ عن ذاكَ الموضوعِ في قاعةِ دارٍ أُنشئَتْ على الطّرازِ الجّورْجِيِّ وصُفّتْ على حوائطها لوحاتٌ لأولئكَ الذينَ سكنوها في غابرِ الأزمانْ. تملّكَ الحماسُ، حينذاكَ، أحدُ السّامعينَ فهرُعَ، بعد نهايةِ حديثي، إلى حيثُ كنتُ وقال لي:- "أنا أيضاً لي حدوسي. أنا متأكّدٌ من أنّكِ كنتِ الرّجل المصوّر على الحائط خلفكِ!"
طبعاً أنا ما كنتُ ذلك الرّجُلْ.
وهكذا، ينبغي على المرءِ، في غايةِ الأمرِ، أن يكونَ صارماً مع خيالهِ فلا يسمحُ له بالوقوعِ في الظّنِّ والهمسْ. ثم إنّه، كذلكَ، من الخيرِ للمرءِ أن يترك الموضوعَ وشأنَهُ إن لم يستيقن من مصدر تعليمه.
هنالكَ، أيضاً، ولعٌ بأن يشعر المرء، عبر "حدسٍ" ما، بأنه قد عاش، ماضياً، في مِصر القديمة، اليونان، أو فِلسطين. أنا متأكّدةٌ من أنّ العديد منا قد خبروا الحياةَ في هاتيكَ الحضاراتِ الطيّبَةِ الذّكر. لكنّني، لشُحِّ ما يُستطاعُ معرفتُهُ عن أولئكَ الناس وتلك الحضارات، ولفقدانِ اللوحاتِ المُصوِّرَةِ إيّاهم في معاشهم اليوميِّ أنا أُفضّلُ استخدامَ نماذجٍ لإيضاحِ ما أعني من بينَ من عاشوا في القرونِ الأخيرةْ. فهؤلاءِ أحدثُ عهداً من أولئكَ، وبالتّالي يُمكنُ اختبارُ أمرِ تشابُههم مع من يُقارَنُوا بهم من معاصريْنَا وِفْقَ مُعطياتٍ حياتيّةٍ مُفصَّلَةٍ وظرفيَّةْ.
إنَّ هذه الدراسَةَ لجليلةٌ؛ هذا الغوصُ في خبايا الرّوحِ الإنسانيّةْ. إنّها، بالكادِ، مهمّةٌ مُقدّسَةٌ، إذ أنَّ لُبَّ الفردِ الإنسانيِّ هو، في أصلِهِ، إلهيٌّ. على الإنسانِ- إذاً- أن يُباشِرَ تقصِّيَاتَها وشروحَهَا كما يُباشِرُ الدِّخُولَ إلى مقامٍ إلهي مُقدّسْ. فما من ثمة شيءٍ أدنى من ذلكَ خليقٌ بها وبالإنسان.
2
أخبرني"المعلّم" أنّ الرجلالذي عرفناهُ أسقفاً يسوعيّاً تحت اسم تيلهارد دي شاردن كان، فيتناسخٍ روحيٍّ سالفٍ، هو بليز باسكال، الكاتب والمتصوف الفرنسي. هذا الكشف بِِيحَ لي به في حديثٍ جليٍّ، مسموع النبرة:- "تيلهارد دي شاردن كان بليز باسكال". أيُّ فردٍ من الناسِ، في يومنا هذا، يعرفُ شيئاً عن شخصيّة وكتابات تيلهارد دي شاردن.
في "موسوعة نيلسون" نجد باسكال يُوصفُ بأنّهُ... هنا صعقتني الدهشة فتوقّفتُ عن القراءة، فقراءتي عن باسكال، من ناحيةٍ، وتصفّحي كتاباً عن تيلهارد دي شاردن، من ناحيةٍ أخرى، أطلعاني على شيءٍ ما كنتُ أدري بهِ من قبل:- كلاهما وُلدَا في كليرمونت-فيراند.
هذا واحدٌ من ما تُدعَى "الاتّفاقات"، وتلكَ يَعْرَجُ المرءُ بها، باستمرارٍ، في طيّاتِ دراسةٍ أَخّاذةٍ كهذه. على المرء، إذاً، أن يقطع، بين الفينةِ والأخرى، خيوط متابعته للسرد حتّى ينظرُ، ثانيةً، في القانون الشّموليِّ، كما يُرَى وهو يشتغِلُ فينا وعلينا، عبرَ كلِّ تبدّلاتِ حيواتنا.
ثمةُ أمكنةٍ على الأرضِ لها مغناطيسيّتها النافذةُ فينا. فكثيراً ما يجدُ الإنسانُ أنّ روحاً بعينها قد أُعيدَ ميلادها إما في، أو عن كثَبٍ من، المكان الذي عاشت فيه من قبل. والرّوحُ، إذ تؤوبُ إلى هناك، إنّما هي تزورُ موطنها القديم أو تشعر جذبةً خاصّةً نحوه. وحينما يُعادُ ميلادُ المرءِ في أمّةٍ أخرى كثيراً ما تكونُ تلك الأمّةُ مقيمةً في آخرِ مكانٍ سبقَ للمرءِ أن وُلِدَ فيه وهو يزورُهُ الآنَ، ظاهريّاً بالصّدفةِ، في إجازةٍ أو استجابةٍ لحاجةٍ قاهرةْ.
هذه الحقيقة توسّع في بيانِها الكتابُ المثيرُ الذي ألّفهُ الأخصّائيُّ النّفسيُّ آرثر غِيُوردام وسمّاهُ "التّطهير النّفسيّ وتناسخ الأرواح"[صدر في عام 1973 عن نيفيل اسبيرمان للنشر]. كان لهذا الرجل رغبة مِلحاحة، طوال سنين حياته، في زيارةِ إقليم معيّن في الجنوب الفِرنسيِّ يُدعى "مونتسيكر"، بيدَ أنّه كانَ، أيضاً، شديد الفزع من ذلك المكان. ثم تكشّفت لهُ، أخيراً، أنّ رُوحَهُ الباكرة اليافعة قد عانتْ كثيراً في ذلك الإقليم.
تُعاوُدُ الوقائعُ المتّصفة بهذا الطابع الحدوث على نحو متوتّر. وبالفعلِ، في كلّ تواريخ الحَيَوات الحقيقيّة التي سأورِدُها لاحقاً، هنالكَ وقائعٌ وأقوالٌ مُنتقاةٌ هي الأقدرُ، من بينِ سِواها، على الكشفِ عن شخصيّةِ الذاتِ المرتبطةِ بها وعن العواملِ التي تُسهمُ في تطوّرِ رُوحٍ ما أو تنكصُ بها.
وهكذا جلستُ، الآنَ وإثرَ عودتي من زيارةٍ أخرى للمكتبة، في حضرةِ ثلاثةِ كُتُبٍ عن بيير تيلهارد دي شاردن، على إحدى نواحي مقعدي، وكتاب عن بليز باسكال (طبعَهُ، في 1937، الكاثوليكيّ الرومانيّ موريس بيشوب)، على ناحيتِهِ الأخرى. عن هذه الكتُب اقتبستُ ما سوف يأتي.
وجَدْتُ على ديباجةِ الكتابِ الأخيرِ مُقتبسَاً عن باسكال قد يُناسبُ عقليّة تيلهارد:- "ما خُلِقَ الإنسانُ إلا من أجلِ اللانهائيّة". وصلاً على ذلك المقتبَسِ سنُتابعُ، الآنَ، مسارَ حياةِ باسكال، كما صوّرهُ موريس بِشُوب في كتابه، حتى نسوقُ إلى الضّوءِ بعضَاً من خصائصِ العقلِ والرّوحِ الذينَ أسهما، لاحقاً، في صياغةِ كينونةِ إنسانٍ بالغ الذَّكاءِ والحكمةِ مثل بيير تيلهارد دي شاردن.
وُلدَ باسكال في 19 يونيو.1623 وحدّثنا موريس بأنه كان "طفلاً معجزة" في الرياضيات، وأنه جرّب اختراعات عديدة. هنا نرى عقلية تيلهارد دي شاردن العلميّة وهي موغلة، منذ ذلك الأوان، في نشاطها.
كانت دراسات باسكال مكثّفة إلى حدّ أنّ صحّته انهارت ونصحه الأطبّاء بأن "يكفّ عن كلّ عمله العقليّ المتواصل" ويُشغلُ نفسهُ بأشياءِ هذه الدّنيا. "كانت هذه النصيحة غير مرحّب بها كثيراً عندهُ، لكنّهُ صُغِطَ، من قِبَلِ الجَّميعِ، ضغطاً كبيراً حتّى انصاعَ لها في النّهايةْ". على كلٍّ، كان باسكال، خلال إقامتهِ في باريس، من الضّعفِ في الصّحّةِ بحيثُ افتقدَ القدرةَ على المشاركةِ في النشاطاتِ الإجتماعيّةِ هناك، لذا عاد إلى كليرمونت و"استعاد، بفعلِ سُكناهُ على تلالِ أهلِهِ، درجةً من العافيةْ".
إن تقدّمنا، مع باسكال، في السنين وعَرَجْنَا عليهِ في عام 1646 لرأيناه وهو يُقضي وقتَهُ في "فورةِ تجريبٍ فيزيائيٍّ، رياضيٍّ وفلسفيٍّ". لكنّه، في عام 4761، وجد انشغالاً جديداً لذهنه الفعّال فارتمى، بعاطفةٍ جيّاشةٍ، في صميمِ المُنازعاتِ الثّيولوجيّةِ، ثمّ سرتْ إشاعةٌ بين أصدقائهِ قائلةً إنّه قد تحوّل إلى راهبٍ، إلى ناسكٍ معتزِلْ. ولقد نشبَ، حينذاكَ، قدرٌ كبيرٌ من الإختلافِ حولَ فِكرِهِ اللاأرثوذوكسيْ".
بِمُضِيِّ الزّمانِ وثّق باسكال وأختُهُ جاكلين، مؤقّتاً، صلتَهُما وديرَ بورت رويال الشّهير. كان ذلك الدّيرُ عبارةً عن مجموعةٍ مبانٍ مَهِيْبَةٍ مُحاطةٍ بمزارعٍ واسعةٍ مملوكةٍ للطائفةِ المسيحيّةِ البينديكتانيّة وبحيشانٍ (فناءاتٍ) مُتّصلةٍ مأهولةٍ براهباتٍ ورهبان. كان عمر الأخ وأخته، حينذاك، على التوالي، خمسة وعشرين واثنين وعشرين عاماً.
في عام 1654 واتَى بليز باسكال إشراقٌ رُوحيٌّ غيّرَ حياتَهُ كلّها:- شعرَ بأنّهُ قد "تحدّثَ مع الله". بدا له، وهو جالسٌ وحيداً، أنَّ اللّه قد "تنزّلَ لهُ في نارٍ" وتحدّثَ معهُ على مدى ساعتين.
هذه التجربةُ الصّوفيّةُ أدخلتْهُ في حالةٍ مُفعَمَةٍ بالشّعورِ وبالعُمقِ حتّى أنّهُ فاضَ بكتابةِ وصفٍ للحظاتها وخاطَ الرّقعةَ الجِّلديّةَ التي دوّن عليها ذلك الوصف على باطن جُبّتِهِ وقُبالةَ جانبها الذي يُحاذي القلب. ثمّ ظلَّ مرتدياً لها حتّى وفاتهِ.
"يقينٌ، يقينٌ، شعورٌ، بهجةٌ، سلامٌ.
بهجةٌ، بهجةٌ، بهجةٌ، دمُوعُ سلامٍ.
نارٌ..."
كانت نشوتُهُ إشراقيّةً. كانت فيها قناعةٌ، سلامٌ، وطُمأنينةٌ لرُوحِهِ النّاشدةْ.
هجر باسكال العالم- إذاً- وانضمّ إلى دير بورت رويال، مرّةً أخرى. رُغمَ ذلكَ كان، بين الفينةِ والأخرى، يؤوبُ إلى باريس ويُقضي فيها فتراتٍ من العيشِ رجُلاً من غِمارِ النّاسِ وكاتباً.
هذا ليس هو المقام الذي تُناقشُ عندَهُ لاأرثوذوكسيّةُ (على حدّ اعتبارِ الكنيسة الكاثولوكية، على الأقل) الفكر الجّانسِنِيْ التي ختمتْ، على أيّام باسكال، ذاكَ المركز الدّيني الشّهير (أي باريس) بختْمِها.
كان عبقريُّ التنظيم مِير أنجيليكو قد جعل من دير بورت رويال شيئاً فريداً:- كوكبةً من الرّاهباتِ المُتقشّفاتِ المُحاطاتِ بثُلّةٍ رفيقةٍ من رجالٍ استثنائيّين:- معتزلاتٌ ومعتزلون اجتهدوا في سبيلِ خلاصِ أرواحهم وفي سبيلِ البهاءِ الأعظمِ للمعتقدِ الجّانْسِنِيْ.
"كان بورت رويال، فلسفيّاً، يجد الديكارتيّة مقبولة عقلياً بسبب منطقيّتها الذهنانيّة... لكنّهُ احتفظَ بمسافةٍ بينه وبين العلم والفلسفة المعاصرين. إنّ أعمالَ أولئك الملحميّين، الذين كان باسكال من بين جهابذتهم، لها أهمّيتُها في التّاريخِ الأدبيِّ لفرنسا. كانت مَهَمَّتَهُمْ هي جعلَ الحُجّةِ الثّيولوجيّةِ مفهومةً ومثيرةً لاهتمام غير الثيولوجيين"(وفق مبدأ تناسخ الأرواح فإن تيلهارد دي شاردن، أيضاً، قد تابع مهمّته الخاصة الباكرة هذه).
"حاز دير بورت رويال على عبقريّةٍ في الدِّعايةِ العامّةِ أظهَرَتْ نفسَها ليس بالوسائلِ الأدبيّةِ وحدها. فهو قد كان لهُ أثرٌ على أناسٍ ذوي أهميّةٍ ونفوذْ... كان ذلك الدّيرُ موطنَ باسكال الرّوحيِّ حتّى وفاته".
أصبح باسكال كاتباً، وفي عمليه المشهورين "الرسائل المحليّة" و "التفكّرات" حوّل الخلاف الطائفي إلى عمله العظيم المسمّى "اعتذارات من أجل المسيحيّة".
يقول كاتب سيرة باسكال (الذي أخذتُ عنهُ اقتباساتي السابقة) إنّ مؤلّف باسكال المدعو "التّفكّرات" يمكنُ لهُ أن يُستخرَجَ عنهُ كُتيّبٌ صغيرٌ مُسمّىً "كُتيّب باسكال الإعترافي". "هنا"، يقولُ راوي السيرة الباسكاليّة، "ينبغي لنا أن نجدَ هاتيك الأفكار التي كتبها باسكال بملء قلبه وطاعةً لضرورةٍ تعبيريّةٍ نافذةْ. هنا ينبغي لنا أن نقرأ عن دراما باسكال الرّوحيّة، بحثه عن الشّهرة، عن الحبِّ، نزوله إلى باطنِ اليأسِ، ثمّ عن مُجيءِ "المُخلّصِ" في ليلةِ الكشفِ... أنا أؤمنُ، أنا أعرفُ أنّ عاطفةَ رُوح باسكال قد بِيْحَ بها في كلماتِ هذا الكتاب، ثم أنها ما تزالُ تنفلِتُ من باطنِ هاتيكَ الكلماتِ وتضطّربُ بها عقولُ الأحياءِ من الرّجالِ والنّساءْ".
في عام 0661 تلبّدت السماواتُ منذرةً سوءاً سيلحقُ بدير بورت رويال وبالجّانسَنِيّين. فقد أدان "مجلسُ الدّولة" كتابَ باسكال المُسمّى "الرسائل المحليّة" وأحرقهُ الجّلادُ على رؤوس الأشهاد. ثمّ أعلنَ الملكُ الشابُّ لويس السادس عشر أنّه قد اعتزم تحطيم العقيدة الجّانسنيّة. لاقى تصميمُهُ هذا قبولاً مُتحمّساً من المحكمة العليا (القضاءْ) ومن نسبةٍ كبيرةٍ من رجال الدّينْ.
في عام 6561 أصدر البابا مرسوماً مُديناً للنظريّات الجّانسنيّة كما عرضتْ في كتاب باسكال المُسمّى "الأوغسطينيّات". ثمّ أصدرت السلطات السماويّة، من بعد ذلك، أمراً رسميّاً طالب جميع الأساقفة، الرّهبان والرّاهبات بالتّوقيع الموافق على المرسوم. فلقد صارت الجّانسنيَّةُ، حينذاكَ، كما يقول راوي سيرة باسكال الذاتيّة، "عقيدةً التمسّكُ بها خطِرٌ. فكلُّ كبارِ شخصيّاتِ دَيرِ بورت رويال قد التقوا، في اجتماعٍ لهم، حتّى يبتُّوا في أمرِها".
كانت الرَّاهباتُ قد وقّعْنَ على المرسومِ اتّباعاً للائحةٍ من لوائحِ الدّيرِ لم يصُغْهَا أيٌّ من آرنود أو باسكال. ثمّ أُدِيرَ حوارٌ حول الأمرِ فشل، على كلٍّ، في الوصولِ إلى اتّفاقٍ ما:- "قاد اختلافُ الآراءِ وتشعّبها إلى تبادُلِ كَلِمَاتٍ فظٍّ ومراراتٍ في القلوب. انهمك آرنود ونيكول في التّوضيحات. نُوقِشَتْ إدانةُ البابا... أُغْمِيَ على باسكال". أُخْلِيَتْ الغُرفةْ. حينما عادَ باسكال إلى وعيِهِ سأله جيلبيرت عمّا سبّب انهياره فأجابهُ باسكال قائلاً:- "عندما رأيتُ كلَّ أولئك النّاس الذين اعتبرتهُم من وهبهُم اللهُ معرفةً بالحقِّ، من كان ينبغي عليهم أن يكونوا حماة الحقيقة، وهم يتذبذبونَ ويبدُونَ في موقفِ الهَاجرِ لها،، أعترِفُ بأنّي قد قُبِضْتُ بأسىً كان من الشّدّةِ بحيثُ أنّني ما استطعتُ احتمالَهُ فغُصِبْتُ على الرِّضُوخِ لهُ".
"تعرّضَ إيمانُ طائفةِ باسكال إلى إدانةٍ قويّةٍ من البابا ومن كلّ المؤسّسةِ الكاثوليكيّة. ثمّ أنّ باسكال نفسه قد خُصّصَ، من بعدِ ذلكَ، بالإدانةِ من قِبَلِ طائفتِهِ ذاتِها. ثمةُ قليلٍ من الأصدقاءِ بقِيَ وفيّاً لهُ، لكن المشرفين على دَيْرِ بورت رويال، من قياداتٍ وهيئاتٍ، كانوال ضدّهُ. بعدَ وفاةِ باسكال في عام 1662 دُمِّرَ دَير بورت رويال، بأمرِ الملك لويس السادس عشر، تدميرَاً تامّاً حتّى لم يَبْقَ حجرٌ فيهِ قائماً على حجرٍ آخرٍ".
أولئكَ العارفُونَ بحياة تيلهارد دي شاردن سيرون كيف أنّ التاريخَ يُعيدُ نفسهُ بغرابةْ. ولقد أثار ما اقتبستُ من كتابِ بِشُوب، خلال كتابتي الصفحات الفائتة، اهتمامي ودهشتي من كيف أنّ الحياةََ الأخيرةََ (حياة تيلهارد دي شاردن) قد تمازجَتْ ظلالُها مع الحياةِ الأولى (حياة باسكال).
إنّ عبقريّةَ وتفاني باسكال ظلاّ- في هيئته الشّاردِنِيَّة [من "شاردن"-المترجم]- سِمتان واسمتان لهُ، رُغمَ أنَّ الرُّوحَ التي "كانتْ" رُوحه قد أَلْبَسَتْ نفسَها جسداً جديداً. وتيلهارد دي شاردن كان- بالطّبع- وظلّ ذلك العالم الأريب في تفكيره المنطقيْ. فعقلُهُ المُبدُعُ والدّائبُ النّشدان قد تحوّلَ إلى البحثِ في أُسُسِ الحياةِ عبرَ تبحّرِهِ في علمِ الآثارِ، علمِ المُتحجّراتِ الآليّةِ وعلم دراسةِ تطوّرِ الحياةِ خلال معاينة المُتحجّراتْ. صار دي شاردن أسقفاً يسوعيّاً، بيدَ أنّهُ ظلَّ عميقَ التّديّن، واثقَ الإرتِباطِ باللهِ وبرؤيا "الرّبِّ الكونِيِّ". لكنَّ رؤياهُ النَّافذةَ رأتْ أبعدَ ممّا يرى معظمُ بني البشرِ، لذا أدانتْهُ المؤسّسةُ الأرثوذوكسيّة. ومرّةً فمرّةً قدّم تيلهارد دي شاردن عمله للفاتيكان، لكنّه دوماً قُوبِلَ بالنّبذِ والرّفضْ. إنّه قد كان مُجاهداً في سبيلِ أن "يُوطِّنَ" كُشُوفَاتَهُ الثِّيُولوجيّةَ والصُّوفيّةَ في "بيتِ" كنيستِهِ الأم. لكن هذه لم تشأ قبولَ هاتيكَ فأدّى به كلُّ ذلكَ إلى الإنتِبَاذِ والإفْرَادِ إلى أن يمُوتَ في المنفى، بعيداً عن بلاده ومُنْكَسِرَاً بالخيبَةْ.
وهكذا نجلِبُ إلى أنفُسنا الإصطدامَ الحتميَّ بقُوى المُحافظَةِ إن نحنُ فكّرْنَا (أو شعرنا) على نحوٍ سابقٍ لزماننا.
3
ليس للحديثِ السابقِ أن يُفهمَ على أنذهُ يُتيحُ لكلّ إنسانٍ في هذا العالمِ العريضِ أن يغدو موضوعاً لتقصٍّ روحيٍّ موازٍ لذلك الذي اشتملَ عليهِ. فأنا لا أعرفُ شيئاً إلا عن أولئكَ الذين انتُخِبُوا لي، من بينَ أفرادِ النّاسِ، كي أطّلعَ على ما اطّلعتُ عليهِ من شؤونهم. عليهِ فإنَّ من ضمّنتهُم بين دفّتَيْ هذه الأطرُوحةِ ليسوا سوى أسماء قليلة لشخصيّاتٍ أُخِذَتْ من بينَ ثُلّةٍ هُدِيْتُ إليها.
إذأً، لكي نجعل هذا الإستكناه ممتعاً وقيّماً في ذاتِ الوقتِ، تعيّنَ علينا أن نستخدم، كنماذج إيضاحيّة له، حيَوات اناسٍ معروفينَ جيّداً، بل وإنّ بعضَ أولئكَ كانوا، بين الفينةِ والأخرى، أناساً أحياءْ.
قد نُسائلُ أنفُسَنَا، أحياناً، عمّا يهيبُ برجُلٍ (أو امرأةٍ) كان ذا (ذات) انغماسٍ عميقٍ في الحياةِ السياسيّةِ أن يُوجّهَ (تُوجّهَ) اهتماماتَ حياةٍ لاحقةٍ له (لها) نحو انشغالاتٍ من نفس الطبيعةْ.
إجابةُ هذا التساؤل، طبعاً، أنّ مكوّنات روحه متآلفة على هيئةٍ تنزعُ به نحو الشعور الآني بجذبةِ جِماعِ أنماطِ الطّاقةِ التي نسجها في ذاتِهِ خلال القرون السّالفةْ. فهاتيك المكوّنات (أو هاتيك الأنماط الطّاقيّة) إنّما هي تمثّلاتٌ "صًوَرِيّةٌ" لفكره وسلُوكِهِ. ثمةُ دافعٍ مُلحٍّ في ذاك الإنسانِ إلى أن يُعيدَ أداءَ ما قد كانَ مُستغرَقَاً فيهِ في حيواتٍ سابقةْ. فهو- كما يحسّ في نفسه في حاضره- ذا اهتمامٍ عميقٍ بالشؤون العامّة. وربّما تكونُ لهُ رغبةٌ خالصةٌ في خدمةِ بلادهِ، أو في تحسينِ أحوالِ رفاقِهِ البشريين. إنّ تجاربَ وخبرات هذا الرجل السابقة في أساليب الخطاب العام وقدراته الذهنية المجرّبة هي، بلا شك، خير هادٍ لهُ في هذا السبيل... العديدُ من الأصدقاءِ القدامى لهذا الغنسان سيحذون حذوه الحاضر ويشاركون في ذاتِ اللّعبة السياسية. بجانب كلّ ما قلناه عنه يحوز هذا الإنسان على قوىً باطنةٍ ليست بالهيّنةِ يُمكننا أن نشهدَ عليها وهي مُعينةً لهُ على أن يكتسبَ لنفسهِ درجةً معيّنةً من النّجاح، من الفلاح في مساعيهِ اليوميّة اللاهثة وفي جعل نفسه معروفاً ومحبوباً بين الناس. وهكذا يُوطئُ قدمه، مرّةً أخرى، على ذاتِ الدّربِ المعهود العتيق... سئلتُ، مرّةً، عمّا لماذا لا تُوجّه الرّوح، حين أوبتها إلى الدنيا في هيئةٍ جديدةٍ، إلى رسالةٍ في الحياةِ جديدةً تماماً ومختلفةً تماماً- "يبدو أنّني سأجعلُ من نفسي، مرّةً أخرى، دبلوماسيّاً"، قالَ سائلي.
من الواضح أنه ما دامت مكونات روح ما لا تزال، إلى مدى بعيد، كما كانت في سابق عهدها الحي على كوكب الأرض وما دامت، كذلك، طاقاتها الباطنة معتادة على نفس اساليب ردود فعلها السالفة فإن الأنا الفردية المجسدة لها ستفضل، لا شعورياً، "تدعيم" [بالمفهوم النّفسي لهذه الكلمة- المترجم] طريقتها القديمة في التصرف بحيث أنها، غالباً، ستتّبع، حاضراً وفي حياتها المقبلة، نمطاً من الفكر، الشعور والسلوك هو، نوعاً ما، ذات السابق. لكن هنالك دائماً مُفتتحات تغيير للنّمط، بوادر تطوير أوجه أخرى من الرّوح. ذلك يعتمد على مدى تنوع القوى التي نسجها الرجل (الإنسان) في دخيلة نفسه خلال ماضيه الطويل. بعضُ النّاسِ متعدّدو الجوانب، فهم قد طوّروا في ذواتهم ملكات عديدة أهّلتهم لأن يكونوا موسيقيين، رسامين، رجال كنيسة، مكتشفين، تماماً كما ورجال دولة أو سياسيين. ومسألة أيٍّ من هذه النزوعات المسبقة سيطوّره الإنسان الموهوب تعتمد عليه وحده. فمثل بعض رواد حضارة عصر النهضة قد يصير مفكراً أو، بذاتِ القدرِ، نحاتاً، مهندساً معماريّاً، مخترعاً؛ أو هو قد يغدو "حاكماً طبيعيّاً" (أي امرئٍ قد كان، في ماضي حيَواتِهِ، حاكماً لمرّاتٍ عديدة) وراعياً للفنون.
هنالك قولٌ لوولتر بيتر يُوضّحُ ما ذهبنا إليهِ:- "الذائقةُ هي ذاكرةُ حضارةٍ عرفها الإنسانُ من قبل".
الذّائقةُ، حبّ الجّمالِ، الظلّ والنّغمُ، عشقُ الإنسجامٍ، لطافةُ الحسِّ (الإدراك) والشّعورِ، كما والسّلوك، الشّغفُ بالدّقّةِ، باللّباقةِ، بتوازُنِ الشّكلِ والخطِّ، كلُّ هذه الأشياء المحيطة بالمرء تنسجُ في عقلِهِ (شعورِهِ) وروحهِ إيقاعاً يُرجّعُ صداهُ كلَّ ما هو لطيفٌ وخيّرْ.
الرّوح التي أنشئتْ على مثل هذه الثقافة كثيراً ما تُدمجُ في ذاتِها ذبذباتِ هاتيكَ المُبدَعاتِ التي اجترحها أسمى خيالٍ خلاّقٍ للإنسان. والعقلُ، الشّعور والنّفس سوف يتوقون، في المستقبل، إلى مجاليها الراقية وسشعرون بالجّوع، بل وبسقامِ الفؤادِ، شوقاً إليها.
نفس الشيء صحيحٌ عن ما هو عكس هذا. "أنتَ لا تستطيع مسَّ القارِ دون أن يلتصقَ بكَ شيءٌ منهُ". ولسوف يظلّ ملتصقاً بكَ حتّى تُطهّرُ منهُ، في زمنٍ "آخرٍ" مُقبلٍ، طاقاتُ رُوحك.
لقد رأت النور، في هذه الدراسة، مُحدثَات غريبة ولا مُتوقّعةْ. من هذه، على سبيل المثال، ما عُلّمتُهُ من أنّ امرأةً كانتْ طيلةَ حياتها السّالفةِ، تقريباً، صمّاءَ ألفتْ نفسها، في حاضرِ أيّامها، رائية رُوحيّة. فإدراكاتُها ما فوق-الحسيّة قد أُحيِيَتْ فيها على نحوٍ مثتجاوزٍ للعاديِّ بفعلِ أشواقِها وجُهدها، في خلال سنواتٍ عديدةٍ جدّاً من القرن الماضي (القرن التاسع عشر)، في سبيلِ أن تُبصِر. كما وأنّ جهازَ استقبالها الشّعوريِّ الحسّاسَ كان يزدادُ يشتدُّ رهافةً مع اشتدادِ كَبَدِها إلى أن تستعيدَ سمعها.
إنّ حبّ الرقصِ، الباليه وما إليهما من فنون، في حياةٍ سابقةٍ، يهب الطّفل (الطّفلة)، في حياته (حياتها) الحاضرة، قَدَمَاً مُستوفَزَةْ. تأمّل في هذه الصّبيّةِ التي أنشأتْ، في ذاتها، هيئةً من التّوازُنِ العضليِّ، حسّاً بالإيقاعِ والتّناسق، تشوّقاً إلى التّعبير الذّاتيِّ عبر حركات الجسد والموسيقى. إنذها ستغدو راقصةً إيقاعيّة (بالارينا) من الطّرازِ الأوّل- إن هي بذلتْ ما في وُسعِها في سبيلِ ذلك.
ثمّ اعتَبَرْ- أيّها القارئ- حالة هذا الإنسان الذي "حشرَتْهُ " الحياةُ في زُمرةِ رجالِ البحريّةِ في العهودِ الماجدةِ للسّفنِ المبحرة. إنّه قد طوّر، الآنَ، في نفسهِ جسارةً غيرَ هيّابةٍ من الأعالي وخفّةً في مُوازنةِ الحبالِ وفتلِها في عزِّ الرّيحِ العاصفةْ. ذلك قد يسُوقُهُ إلى أن يجعلَ من نفسهِ فنّاناً أكروباتيّاً في حياته الحاضرة، خبيراً في المشيِ على شفا الحبالِ السّوامقِ، وحُرّاً من الخوفِ حيثُ قد يصيرُ الآخرونَ العاطلونُ عن خبراتِ حيواتِهِ الماضيةِ خُرُقَاً ومشلولينَ بالرّعبْ.
كذلكَ قد يتُوقُ بحّارُ القرنِ الماضي (القرن التاسع عشر) إلى العودةِ، مرّةً أخرى، إلى البحرِ، وربّما حتّى يهربُ إليهِ في صبا حياته الحاليّة (أي في القرن العشرين). والخيَّالُ ذو البأسِ، الذي ربّما كان، في سابقِ زمانهِ، بطلاً يتصدّى "القوائم"، قد يصيرُ، في أيّامه الحاضرةِ (أي في القرن العشرين)، بطلاً أولمبيّاً. أيضالً الممرّضة والصيدلانيّة، الطبيب والجّرّاح، في قرونٍ سابقةٍ، قد يجدوا أنفُسهُم يُعادُ ميلادُهُم، في هذا القرن العشرين، ورسالات حيواتهم متشرِّبَةً ذواتَهُم كما يتشرّبُ الصّوفُ الصِّبَاغْ. فالدّربُ، في مرآتهم، واضحٌ وذكرى خدمة المرضى قريبةٌ من إدراكهم المباشر... والرّحّالةُ جوّاب الآفاقِ، في أيّامِهِ السّالفةِ، تستوفزُهُ- الآنَ- قدمُهُ على طريقِ الرّحيلْ. كذلك من كانَ، ذاتَ زمانٍ، شابّاً أرستُقراطيّاً غنيّاً يلفَى نفسضهُ، حاليّاً، مُلاقٍ صعوبةً في اتّخاذِ مهنةٍ منتظمةْ. فهو، لا شعوريّاً، يُسائلُ نفسَهُ والدّهرَ "أينَ كلَّ أولئكَ الخَدَمِ، الخيولِ، السّاسةِ، الذين دأبوا على أن يحيطُوا بي؟"
من الغريبِ أنّ نقولَ هنا إنّ "الرّجلَ المَلَكِيَّ" عادةً ما يظلُّ، في مقبلِ أيّامهِ، رجلاً مَلَكِيَّاً مُحبّاً للمملكةِ، للدّولةِ ذاتِ السّلطانِ ولمفهومِ العرشْ. ذلك لأن الحقَّ الإلهيَّ للملوكِ قائمٌ، كتصوّرٍ وإيمانٍ، عندَ التّخُومِ القريبةِ لذاكرتِهِ الغائرةِ العميقةْ. لكأنِّيَ أرى يدَ هذا الرّجل مُنخطِفَةً نحو غِمدِ سيفٍ خياليٍّ يرُدُّ بهِ الإهانةَ عن الملكِ أو المَلِكَةْ. هذا الرّجلُ موسومٌ بتقديرٍ فطريٍّ لصورةِ "المَلِكِ" الذى استوى على "عرشِ" السّماواتِ والشّمسِ التي هي، في النّاموسِ الكونيِّ، باسطةً سُلطانَها على عائلةِ الكواكبْ.
لكن، مهلا! فمُنازعُ تلك السّلطة المُطلقةِ ما يزالُ على عهدِهِ.. و"رجُلُ الشّعبِ" ما ينفكُّ يصيحُ:- "فلتحيا الدّولة، فليسقط النّظام المَلَكيُّ! .. كلّ النّاسِ قد وُلِدُوا سَواسيَةْ !" أو، إن لم يقُل هذا فإنّه سيحسّهُ في ذاكرتِهِ الباطنةْ. وفي الدّولة سيشعرُ، كذلكَ، بأنّه، شخصيّاً، يستطيعُ القيامَ بأحدِ المهامِ الأكبر. لكن، كم من ثوريّينَ أجلسُوا أنفُسَهُم على عرشِ الديكتاتوريّةِ حينما واتتهُم الفُرصةْ؟
هنالكَ أمثلةٌ لا حصرَ لهت لذلك التوريثِ الخَلقِيِّ والخُلْقِيِّ- للسّماتِ وللنّوازِعِ الشّخصيّةِ، للعاداتِ وللأفكارِ (الخواطرِ)، للميُولِ المُسبقَةِ وللتّحيّزاتِ وللمواهب- الذّي يُفسّرُنا لأنفسنا- أو هو قد يفعلُ ذلكَ إن نحنُ فقط استجمعنا، في صميمِ ذواتِنا، رؤيا عميقة لتاريخنا الرُّوحيْ. فما نُحبُّ وما نكرهُ، غَيراتُنا، عواطفُنا، مهاراتُنا الأكثرَ تجريباً أو استعمالاً، عداواتُنا ومحبّاتُنا، كلُّ هذهِ تندغمُ في حنايا النّفسِ والرّوحِ على هيئةِ سماتٍ وميولٍ، تنافُراتٍ ليس لها سببٌ ظاهرٌ، أو حبٌّ من أوّلِ نظرةْ.
كُلُّ ذلك الذي نفعلُهُ ونُفكِّرُهُ الآنَ يُنشئُ مُستقبلنا، "يُزيّتُ" عجلاتِ مركبةِ الرّحلةِ الغاديةِ، أو هو يُخلّقُ انطباعات (اندغامات) في مُوشَّى الطّاقاتِ الذي هو نفسنا الباطنة. هذا هو السّحرُ الكامنُ تحتَ سيرورةِ كلّ التّطوّرِ والنّماءِ، الصّدفةِ والحظِّ السّعيدِ كذلكْ.
عطفاً على جِماعِ ما سبقَ يصيرُ جليّاً لدينا أنَّ العالمَ كما نُنْشِؤُهُ الآنَ سوفَ يكونُ ذاتَ العالمِ الذي سنؤوبُ إليهِ في حياةٍ مُقبِلةْ. فنحنُ- إذاً- مُنَاطٌ بنا، في سبيلِ مستقبَلِنا فيهِ، صونَ ناموسِهِ وجمالهِ والعدالةِ في حقّهِ وحقِّ سعيِنا في آفاقِهِ.
هذه الدِّراسةُ تُشيرُ، بوضُوحٍ، إلى أنّ كلَّ النّاسِ لا يُولدونَ سواسيةً. فأيٌّ منهم يُولدُ ولهُ إرثٌ من سوءِ السّلوكِ (أو سوءِ التَّواؤُمِ) على ظهرِهِ، على تفاوتٍ بينهُ وآخرينَ في ذلكْ.. كلٌّ يُولدُ في مِيقاتٍ مُختَلِفٍ من تاريخِ الكوكبْ. فبعضُ النّاسِ- في منظُورِ ذلكَ- أرواحٌ قديمةٌ ذاتُ "حسابِ" خبرةٍ قيِّمٍ في "بنُوكِها" الرّوحيّةِ استجمعتْهُ ممّا توفّرتْ عليهِ من بصائرِ الحضاراتِ السّالفةِ العظيمةْ. والآخرونَ أرواحٌ جديدةٌ ليستْ لها إلا ذكرى صغيرة عن أيِّ صورةٍ من الثّقافةِ قائمةٍ في خلفيّتِها الرّوحيّةِ التّاريخيّة، أو في جُوّانيَّتِها. جميعُ النّاسِ- في الأساسِ- سائرُونَ على ذاتِ الدّربِ، لكن بعضهُم طوتْهُ خُطاهُمُو أكثرَ من الآخرين. وأولئكَ المتقدّمون في السّيرِ قد تعلّمُوا دروساً كثيرةَ العددِ من بينَ ما تُعلِّمُهُ الحياةُ إيّاهُم، فيما ظلَّ العديدُ من القادمينَ الجّدُدِ من سواهِم دُونهُم في مستوى تجاريبِهم على دربِ الحِكمةْ.
كلُّ النّاسِ، في الجّوهرِ والقابليّاتِ، سواسيةْ. لكنّهم ليسوا على ذاتِ الدَّرَجَةِ من التّطوّرْ. فالنُّضجُ في الحُكمِ والحِكمةِ لا يُؤتاهُ الإنسانُ إلا بعدَ تلمذةٍ طويلةٍ في "مدرسةِ الدّنيا".
- إبراهيم جعفر
- مشاركات: 1948
- اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am
[color=brown]الفصلُ السّابع
دانِي كَيْ
1
أنا قد عُلّمتُ، حاليّاً، أنّ من تقدّموا علينا الرّكبَ، رُعاةُ الجّنسِ البشريِّ، أعضاءُ هيئةِ الموظّفين السّماويّين يستعملون أنفسهُم، في الأبعادِ اللامرئيّة، وسائلاً للألُوهيِّ. ومبعثُ سرورِ هؤلاء، وواجبهم أيضاً، هو أن يسكبُوا ما يستطيعُوا من حكمةٍ وبركةٍ على أرجاءِ كوكبِ الأرضْ. إنّهم لمشغُولون بنشدان الوسائطِ المِطواعةِ التي تستطيعُ، بدورها، استقبال الإلهام من المقامات العُلى (كثيراً ما يكونُ التّنوّعُ في مواهبِ الرّوحِ في حَيَواتِها المتجسّدة المختلفة راجعاً إلى تغيّرِ الكينونةِ الحافظةِ لها، ومن ثمّ تغيّر طبيعةِ الإلهامِ المُنسربِ إليها).
ليس لنا أن نُسمّي قِدّيسي الكنيسةِ فقط وسائلاً للأُلُوهيِّ. فهنالكَ الكثيرون مِن سِواهِم ممّن قد يندهشونَ إن همو قد أُخبِرُوا بأنّهم الآنَ، أو أنّهم كانوا، قنواتٍ للقُوى الإلهيّة. أولئكَ ليسُوا فقط أساقفة، شُعراء، حُكماء، ومن لفّ لفّهُم، إذ أنّهم كثيراً ما يكونُوا أُناساً بُسطاء، رجالاً ونساءاً على تواضعٍ ووداعةٍ في النّسبِ العائليِّ والرّسالة:- كُتّاباً، مُغنّين وفنّانين ترفيهيّين يُبهجُونَ سامعيهم وينغّمُونَ الرّوحَ بمرحِهِم، برقصهِم وبغنائهم.
يبدو أنّهُ، في العديدِ من الحالاتِ، تستعملُ القُوى الكينُونيّةُ القيّومةُ أمثالَ هؤلاءِ الرّجال والنّساء ليُعينُوا العالمَ على مناطقِهِ الضّبابيّةِ، يزيلُوا عن القلبِ غُمَّهُ ويستحفزُوا جسارةَ المرءِ على المُضيِّ قُدُمَاً في الحياةْ.
ثمةُ أفرادٍ من النّاسِ، رُغمَ كونِهِم متواضعي الحسب والنّسب وبسيطين في معرفتهم بدروبِ هذه الدّنيا، قد سخّروا أنفسَهُم، في الماضي، في سبيلِ أن يكونوا ذُخراً حقيقيّاً للحُبْ. أولئكَ يفيضُونَ بالحبِّ، سخِيّاً ووهّاباً، كما تفيضُ الشّمسُ بضوئها على الآفاقْ.
كان من بينَ أولئكَ النّفرِ من الأُنسِ هانز جرستِيَنْ أندرسون. وفي زماننا هذا ينتمي إليهم دانِي كَيْ. هذان، أعلمُ الآنَ، هما رُوحٌ واحدةْ.
إنّ دانِيْ كَيْ، دون شكٍّ، لعبقريٍّ في فنِّ التّرفيه. إنّهُ يملأُ نفسَهُ بقوّةِ الحُبِّ والبهجةِ ويمنحهما لكلّ العالمِ مُباركةً وإنعاشاً نافذاَ.
تستوطنُ رُوحُ الشّعرِ وبهجةُ الحبِّ اللألاءةُ ذاتَي كلٍّ من الفنّانين التّرفيهيّين المُحتفى بهما، وأيٌّ منهما له مشاهدون في شتّى أرجاءِ العالمِ الوسيعْ. الضّحكةُ نُورٌ. إنّها "مَتَاعُ" الملائكةِ، غذاءُ الرّوحِ السّامي.
قَارِنْ بين وجهي هذين الرّجلين وسترى أنَّ تشكيلَ عظامهما مثتشابهٌ إلى حدٍّ مُدهشْ. كما وستلمسُ، كذلكَ، ذاتَ التّعبيرِ العذبِ على مُحيّيهِما، وذاتَ المودّةِ المُنفتِحَةِ على الأطفالْ.
كلا الرّجلين انحدرا من خلفيّةٍ متواضعةٍ، ثمّ صارا قُدوةً للعالمْ.
سأقتبسُ هنا مقاطعاً عن حياةِ أندرسون من أوتوبيوجرافيّتِهِ الخاصّةِ، ثمّ من كتابٍ آخرٍ حديثٍ عنهُ ألّفهُ ريُومرْ قَوْدِنْ.
"هانس جِرِسْتِيَنْ أندرسون هو صبيٌّ جُبِلَ من الحُبْ". ذلكَ لأنّ شُعاعاً شمسيّاً قد اخترقَ دربَهُ، كما قالَ هو ذاتُهُ عن نفسهِ في الكلماتِ الخاتمةِ لسيرتِهِ الذّاتيّةْ.
وُلِدَ هانس جِرسْتِيَنْ أندرسون في أودينسِي بالدينمارك في عام 1805. كانتْ عائلتُهُ فقيرة، فأبُوهُ كان يعملُ أُسكافيّاً. أمّا جدّاهُ فقد عاشا حياة مزارِعَيْن ثريّين، ثم أودتْ بهما الأيّامُ الشّؤمُ إلى شظفِ العيشْ. نشأ الصبيُّ هانس مشمولاً بالرّعايةِ الرّؤومِ لعائلتِهِ، فلقد كان أثيراً عندها.
كتبَ عن هذا الحبِّ الوَالِدِيِّ فقال:- "عاشَ أبي من أجلِي وأنفَقَ كلَّ زمانِ فراغِهِ في صًنعِ اللّعبِ والصّورِ لي". قرأ أباهُ عليهِ ما لا يُحصى من الحكاياتِ، كما ونحتَ لهُ عرائسَ لمسرحِ دُماهِ الصّغيرْ. قضى الطّفلُ هانس أوقاتَهُ ينسجُ الحكايا لنفسِهِ حولَ عرائسِ مسرحِ الدّمَى ويُلبشسُ هاتيكَ قِطعَ قُماشٍ مُنتخبَةٍ يأتي بها من الجّيرانْ. علّمتْهُ امرأةٌ عجُوزٌ القراءةَ والكِتابةَ فأضحى، بسُرعةٍ كبيرةٍ، قارئاً لشكسبير في بيتِ أحدِ الجّيرانْ.
كان لهانس الصّبي صوتٌ غِنائيٌّ جميلٌ وحزْمةٌ من الشَّعَرِ الذّهبيْ. تاق إلى أن يكونَ مُمثّلاً. لذا عندما بلغَ الثّالثةَ عشرةَ من عمرهِ غادر البيتَ، بنقودٍ قليلةٍ من فئةِ "الشّلنِ"، إلى كوبنهاجن ناشداً حسن التّوفيقْ. وحينما كانتْ أمّهُ تُبدي استياءها من فِعلِهِ ذاكَ كان دائماً يُسري عنها بقولِهِ إنّه سيُصبحُ مشهُورَا.
هذه الثّقةُ، التي كثيراً ما نلمسها في أولئكَ اللذينَ قُيّضَ لهم النّجاح، تُخبِرُ عن حظٍّ جميلٍ في حياةٍ سالفةٍ انطبعتْ ذكراها عميقاً في هامشِ الشّعور- ذلكم هو حظٌّ جميلٌ كان لهُ أن يُكتَسَبْ.
كان صبيّاً عميقَ التَّدَيّنْ. واللهُ، في مرآةِ شعُورِهِ، كان خليلاً حميما... كثيراً ما وصفَ نفسهُ بأنّهُ "طِفلُ قِسمةٍ سعيدةْ". كتبَ عن ذلكَ قائلاً:- "حينَ نزلتُ إلى اليابسةِ في زِيلاندْ ذهبتُ خلفَ ظلٍّ عند الشاطئ وركعتُ على رُكبتَيَّ مُصلّياً للهِ أن يُعينَنِي ويُهدِيْنِي. بعد ذلك شعرتُ بأنّيَ أُسْرِيَ عنّي فوضعتُ ثقتِي في اللهِ وفي حظّيْ".
بعد تذبذُباتٍ كثيرةٍ وافقَ سِبَوْنِي، مُعلّم الغناء في المسرحِ المَلَكيِّ، على اتّخاذِهِ تلميذاً لهُ فجمعَ رجالٌ ذوي شأنٍ تبرّعاتَ من بينِهم عوناً لهُ على معاشِهِ.
تاقَ هانس ج. أندرسون، أيضاً، إلى أن يُصبِحَ راقصاً. ثمّ مثّلَ أدواراً صغيرةً عديدةً على المسرح. لكنّهُ قالَ عن نفسِهِ إنّه كانَ، حينذاكَ، "أنحفَ ممّا ينبغي، طويلاً نحيلاً". ويذكُرُ، عن تِلكَ الفترةِ، قولَ مُديرِ المسرحِ لهُ:- "المسرحُ يقبلُ فقط الأشخاصَ الشّباب المتعلّمين" وتأثّرَهُ بذلكَ الكلامِ حتّى فاضتْ دمُوعُهُ، القريبةُ أبداً إلى عينيهِ، على خدّيهِ.
بدأ كتابةَ تمثيليّاتٍ وشعرٍ، لكنّهُ أُنبِئَ بأنّه ينبغي عليهِ أن يتعلّمَ تعليماً مدرسيّاً. كانت لهُ موهبةٌ في خلقِ صداقاتٍ مع أشخاصٍ ذوي مقاماتٍ اجتماعيّةٍ رفيعةٍ أعانُوهُ كثيراً على صعابِ حياتِهِ. أثمرتْ صداقاتُهُ تلكَ لقاءاً مع المَلِكِ هيَّاهُ لهُ أصحابُهُ واختُتِمَ بإنعامِ الأخيرِ عليهِ بمِنحةٍ من الخِزانةِ العامّةْ.
كانتْ أيّامُهُ المدرسيّةُ، كما وصفَها، "كئيبةً ومريرةً". وهنالكَ قالُوا له إنّهُ سوف لن يُصبِحَ شاعراً أبداً، بل "رُبّما سينتهي بهِ المآلُ إلى مُستشفىً للأمراضِ العقليّةْ".
أنبأنا هانس أنّهُ جلسَ لامتحاناتهِ المدرسيّةِ في الثالثةِ والعشرين من عمرِهِ. "لكنّني كنتُ، حينذاكَ، ما أزالُ أشبَهَ كثيراً بطفلٍ في شخصيّتِي وطريقةِ حديثِي معاً"، قال مُعلّقاً على ذلكْ. ظلَّ، في المدرسةِ، كاتباً المسرحيّات والأشعار. وافق المسرحُ، أخيراً، على أن يعرِضَ أحدَ مسرحيّاتِه. "صرتُ مُفعماً بالبهجةْ. وبدأ كلُّ منزلٍ يفتحُ أبوابَهُ لي فتنقّلْتُ بينَ حلقةٍ خُصُوصيّةٍ من النّاسِ وأُخرىْ في رِضًىً مُبارَكٍ عن الذّاتْ... طُبِعَ أوّلُ كتابٍ شعريٍّ لي... ترامتْ الحياةُ أمامي مُستحمّةً بالضّوْ". هكذا وصفَ شعورهُ آنذاكْ. ثمّ واصلَ الحديثَ فقالَ إنّهُ، حينما دعاهُ امرئٌ شاعراً، فاضتْ عيناهُ بالدِّمُوعِ التي تُواتيهُ بسهولةٍ، في حالِ الإنشِراحِ، كما وفي حالِ الأسى.
كان بسيطاً، ساذَجَاً، طفُوليَّاً حتّى نهايةِ عهدِهِ في هذه الدّنيا تقريباً:- "كان كلُّ فردٍ من النّاسِ يقولُ عنّي إنّني قد أُفْسِدَ طبعي تماماً بالمديح. لكن أصدقائي قد فهموا- الآنَ- أنَّ ما بِي ما كانَ زهواً أو تِيهاً، بل سروراً بكُلِّ ذلكَ الذي أنعمَ اللهُ بهِ عَلَيَّ..."
مضى هانس، في هذا السّبيلِ، قائلاً:- "إنّهُ لمن المُتعِبِ القراءةَ عن الدّمُوعِ المُستمرّةِ، السّعادةِ الوحشيّةِ، ثمّ إنّه أكثرَ إتعاباً أن تُعانيهُم! وهانس أندرسون هو إنسانٌ أُبْلِيَ، في العديدِ من أحوالِهِ، بعواطِفِهِ التي كانتْ تجلدهُ جلداً".
قال أصدقاءهُ إنّه ينبغي عليهِ أن يُصيرَ رجلاً راشداً. وهبهُ الملكُ مِنحةَ تِرحالْ. ومن زياراتِهِ الأولى لإيطاليا جاء أوّل كُتُبِهِ النّاجحةِ حقّاً:- قصّة حياتي. أحدثَ الكتابُ ثورةً في الرّوايةِ الدنماركيّة. وفيما هو مُنتظِرٌ صدُورَهُ للجّمهورِ بقلقٍ مُمِضٍّ ومُسقِمٍ كتبَ قصصهُ الخياليّة.
سُرعانَ ما اصبحَ مشهوراً وتِبعهُ الأطفالُ على الشّوارعْ. وما أن جمعَ مالاً قليلاً حتّى اعتنى، عنايةً كبيرةً، بمظهرِهِ. لقد أحبَّ الملابس البديعة. ها هو- الآنَ- يرتدي مِعطفاً مُخطّطاً بالمِخْمَلِ، قُبُّعةً عاليةً ويُرسلُ شعرَهُ مُموَّجَا. زارَ، على أيّامِهِ تِلْكَ، منازِلَ علِيَّةِ القومِ "جَنتِلماناً" أنيقا. انتشرتْ قصصهُ في كلّ أنحاءِ العالمْ. أحبَّها الرّاشدُونَ والأطفالُ معاً.
"منذُ تلكَ اللّحظةِ وُلِدَ نَثْرٌ جديدٌ في الأدبِ الدّنماركي:- ظُرْفَاً ولوناً، طزاجةً وبساطةً... أُخبِرْنَا، في الإنجِيلِ، أنَّ اللّهَ قد خلقَ الإنسانَ من تُرابِ الأرضِ ونفخَ في مِنْخَارَيْهِ فصارَ الإنسانُ رُوحاً حيَّةْ. بدون أيِّ انتهاكٍ لقداسةِ الدِّينِ قد يُمكنُ القولَ إنَّ هانس أندرسون قد فعلَ، أيضاً، شيئاً مثلَ ذلكْ. فهو شكّلَ أقاصِيْصَهُ من ذرّاتِ تُرابِ الأرضِ، وكان نَفَسَهُ مُفْرَدَاً... إنّ ما ابتَدَعَهُ كان سيمياءاً من الحِكمةِ، الشّعرِ، المَرَحِ والبراءةْ". هكذا قال عنهُ رِيُومَرْ قَودِنْ.
"كثيراً ما يبدو"، كتب هانس أندرسون، "أنَّ أيَّ سورٍ وأيَّ زهرةٍ صغيرةٍ يُحادثَانِي فيقُولُ كُلٌّ منهُما لي:- "أُنظُرْ إلَيَّ، فقط للحظةٍ، وستنسربُ قصّتِي إلى دواخِلِكَ مُباشرةً..."
أُحْتُفِيَ بهانس، في زمانِهِ، أينَما حلَّ. وفي سِنَّيْ حياتِهِ الأخيرةِ كان الأطفالُ معهُ دوماً. كانُوا يتقاطرُونَ، آنذاكَ، لرؤيتِهِ وهم مُحمّلُونَ بالأكاليلِ والقُبَلْ. والأمَّهَاتُ كُنَّ يدعِينَ اللّهَ، إثرَ كُلِّ زيارةٍ لهُ، أن "يُبارِكَهُ ويَهَبَهُ السّرُورْ"... كتبَ ذاتَ مرّةٍ:- "كم مُشرقٌ ولطيفٌ هو العالمُ! كم طيّبُونَ هُمُ النّاسُ! إنّها لبَهْجَةٌ أن يحيا الإنسان!... ليس من الزّهوِ بالنّفْسِ قولِي إنّنِي ابنُ الحظِّ السّعيدْ. وكثيراً ما أتساءلُ، بقلبٍ متواضعٍ، لماذا خصّنِي ربُّنا، أنا بالذّاتِ، بكُلِّ هذهِ المَسَرَّةِ العظيمةِ، بكُلِّ هذه المُبارَكَاتِ العديدة؟"
2
عن حياة هانس جرستين أندرسون المستقبليّة المثتناسخة في شخص داني كيْ ليس، على حدّ علمي، هنالكَ أيّ سيرٍ كثتِبَتْ. لذا سأقتبسُ ممّا أستطيعُ الإلمامَ بهِ من الذي عرفهُ الجّمهورُ العامُّ عنهُ في المقالاتِ واللقاءاتِ الصّحفيّة والتعليقاتِ الإذاعيّة والتذلفزيونيّةْ. الآن أمامي مادّةٌ، منشورةً بمجلّةٍ، تصفُ مراحلَ سيرِهِ المِهنِيَّ وتُدعّمُ ذلكَ بإشاراتٍ (ملاحظاتٍ) اقتُطِفَتْ من تأبينٍ لهُ قُدّمَ في الإذاعةْ.
هرب دانيال كيمنسكي وعائلتُهُ من روسيا واستقرّوا بالولاياتِ المتّحدةِ الأمريكيّةْ. كان طفلاً مُشرِقَاً كالشّمسِ ومن بواكيرِ ما رُوِيَ عنهُ أنّهُ شنّجَ بعضَ الحاضرينَ بالضّحِكِ عندما كان تلميذاً بالمدرسةِ، في السادسةِ أو السّابعةِ من عُمرِهِ. حلُمَ دانيال، في عهدِ صباهِ، بأن يُصيرَ طبيبا- كان دوماً مهتمّاً بعلاجِ المرضى. لكنّ عائلتَهُ ما استطاعتْ توفيرَ ثمنِ التّدريبِ اللازمِ لذلكْ. لذا اتّخذَ من بعضِ المِهَنِ الهامشيّةِ مورداً لرزقِهِ، ثمّ اتّجهَ لهوايةِ التّمثيلِ وجعلَها وسيلةً للتّعبيرِ الذّاتِيْ. تدريجيّاً نَضُجَتْ هذه الهوايةُ فيهِ وأزهَرَتْ شُغلاً في فنِّ الكبارَيه وفي خشبةِ المسرَحِ المِهنِيِّ فغدا مُغنّياً، راقصاً، كوميديّاً، مُقلّداً للنّاسِ، الكائناتِ والمواقفِ ومُشخّصاً عبقريذاً. ذهبَ إلى لندن في عام 1938، لكنّ عرضَهُ هناكَ ما كُتِبَ لهُ النّجاحْ. وفي عام 1839 قابلَ فتاةً ألّفتْ لهُ أغنياتٍ مُخصّصةً لأدائِهِ. تزوّجا وصار هو فنّاناً ذا صيتٍ في برودوَيْ. ألّفَ، حينذاكَ، أفلاماً ونجحَ فيها، بخاصّةٍ في أدوارِ تمثيلِ الشّخصيّاتِ المُتميّزةْ. ثمّ لمعَ في الفِلمِ الأعظمَ جماهيريّةً في عهدِهِ والرّاوي لحياةِ هانس جرستين أندرسون (ليستْ هذه هي المرّةُ الاولى التي عرفتُ فيها رجلاً ما "سِيْقَ" إلى التذمثيلِ في فِلْمٍ عن عينِ حياتِهِ الماضيَةْ).
"لم يَطْمِسْ نجاحُهُ، في ذاتِهِ، وفاءهُ العظيمَ واهتمامَهُ بقضايا المُبتَلِِيْنَ والمساكينَ من النّاسِ مثل الاطفالِ المرضَى واللاجئينْ. فلقد جابَ أنحاءِ العالمِ وهو يشتغلُ على حديثٍ مُعقّبٍ على فِلْمٍ لليونسيفْ (المنظّمة العالميّة لرعايةِ الطّفُولةْ). والكثيرون قد أُخِذُوا وتأثّرُوا بطريقتِهِ الحنِيْنَةِ والرّائعةِ في حثِّ الأطفالِ المرضَىْ والجَّوْعَىْ على اللّعبِ والإنطِلاقْ". هكذا قالتْ عنهُ مادّةُ المجلّةِ التي ذَكَرْتْ.
إبتدعَ دانيال فكرةً جديدةً لجمعِ المالِ في سبيلِ عونِ الأطفالِ المحرُومينْ. فهو قد قادَ العديْدَ من فِرقِ الموسيقى الأوركستراليّة العالميّة مغنّياً وفُكاهيّاً مُحلِّيَاً لأدائهِ في كلِّ ذلكَ بما وُهِبَ من طبيعةٍ لامسةٍ للمَرَحِ وللعجِيبِ من أحوالِ هذه الدّنيا لدرجَةِ أنّها كانت تُشعلُ قاعات المسارحِ اهتزازاً وضجيجاً من الضّحَكاتِ النّشَاوى.
دفع النّاسُ ما بلغَ حتّى خمسينَ جنيهاً إسترلينيّاً لمقعدٍ في "ألبيرتْ هول"، كما وقد وصف المؤلّفُ الموسيقيُّ المُتميّزُ ديمتري ميتروبولس دانِي كضيْ بأنّه "مايسترو موسيقِي مطبوع يستطيعُ أن يجعلَ الأوركسترا تُبدِعُ ما يشَاءْ". كان دانِي قادراً على أن يُصيّرَ الموسيقيّينَ، كما وجُمهُورَ المُشاهِدِيْنَ-المُستمعِيْنَ، إلى أشخاصٍ مغلوبينَ على أمرِهِم ضَحِكَاً. "يستطيعُ [دانِي كيْ] أن يرُدَّ- عامداً- كلَّ موسيقى الفرقةِ الاوركستراليّةِ إلى حالِ نشازٍ وفوضى، ثمّ يستجمِعُ، من بعدٍ، بروعةٍ، أجزاءها ومقاطِعَهَا مُغَيّرَاً، بذلكَ، جِمَاعَ مِزَاجِ رُوَّادِ القاعةِ الموسيقيّةِ الذين ما أن تمرُّ لحظاتٌ حتّى يتسامونُ- موسيقيُّون وحِضُورٌ- انتشاءاً بالنّغم". بلغتْ جُملةُ ما جُمِعَ للمقاصدِ الخيريّةِ ، آنذاكَ، من مالٍ ما يربُو على نِصفِ المليونِ من الجّنَيهاتْ.
"لكّلِّ إنسانٍ طريقتُهُ الخاصّةُ في عملِ الأشياءْ"، قال دانِي، "وأنا، من نافذةِ رؤيتِي، أشهدُ بأنَّ طريقتِي الخاصّةَ في ذلكَ هي أفضلَ ما هُيِّئَ لي من وسائلٍ إلى ذلك. إن كُنتُ مُستطيعاً منحَ بعضِ أشخاصٍ جديرينَ بفنّي قدراً إضافيّاً صغيراً من الأمانِ الذي يستحقّونهُ فليس لي إلاّ أن أكونَ راغباً جدّاً في عونهم على ذلكَ السّبيلْ". لمْ يسْتَلِمْ دانِي كيْ أيَّ أُجُورٍ على تِلكَ العروضِ الخيريّةِ، بل هو كان يدفعُ نفقاتَهُ الخاصّةَ عندَ أدائِها. يتميّزُ داني كضيْ بشخصيّةٍ فاتنةٍ:- "كان يُمارسُ نوعاً من السّحرِ على مُشاهديهِ". فمَنْ مِن أولئكَ يا تُرى ما انسحرَ بطلعتِهِ الباسمةِ، بتواضُعِهِ الجّمِّ ومودّتِهِ الفيّاضةْ. ثمّ تلكَ اللّطافةَ المُضيئةَ، حسَّ الإيقاع في الرّقص الذي طالما فتنَ من رأوه. وذاكَ الأسرُ في النّحوِ الذي يُجري بهِ تمثيلهُ، سواءاً كان مُعْمِلاً فيهِ سحرَ مرحِهِ أو مُتظاهِرَاً بالبُكاءِ (كم هو كثيراً جداً ما يُغضّنُ وجههُ المُعبّرَ ويجعلُهُ باكياً بالدّموعِ المُختَلَقَةْ!). وعندما يكونُ داني كي طليقاً بينَ الأطفالِ فمن الجَّلِيِّ أنّهُ يحوزُ منهُم على أعظمِ تجاذُبٍ ودودْ. إنّ رجلاً كذاكَ لَهُوَ شرابٌ مُنعشٌ للعالمْ. فأيُّ إنسانٍ يشعثرُ بانفتاحِ مِزاجِهِ في صُحبَتِهِ.
هكذا تعلّمتُ، تدريجيّاً، أنّ العبقريّةَ، في حياةٍ واحدةٍ، لها تاريخٌ عريقٌ من التّهيئةِ، في حَيَوَاتِ قرونٍ باكرةٍ منسوجةٍ من معزُوفاتِ كَمَانٍ استراديفاريوسيٍّ [نسبة إلى أنطونيو استراديفاري، وهو صانع كَمَاناتْ مشهور- المترجم]، لرُوحٍ مُصطفاةٍ- تاريخٌ جديرٌ بالتّشكيلِ المُعْتَنِيْ.
3
لقد سمعنَا مِرَارَاً التَّعبيرَ القائل:- "إنّ فُلانَ (أو عِلاّنَ) قد وُلِدَ قِسّيساً". أنا علمتُ أنّ ذلك القول هو، أحياناً، حقيقةٌ واقعةْ. فكثيراً ما يُرَىْ فِعلُ التّوريثِ الرّوحيِّ (والفيزيائيِّ) للماضي، بينَ أفرادِ الشّخصيّاتِ الدِّينيّةِ، أمراً عصيّاً على المُغَالَبَةْ.
نستطيعُ، في هذا المجالِ، أن نتصوّرَ رجلاً ذا حبٍّ عميقٍ للمسيحيّةِ، للكنيسةِ، رجلاً ساقهُ جهادُهُ، في أزمانٍ ضاربةٍ في التّاريخِ، في سبيلِ خدمةِ ذينكُمَا إلى أن يلبَسَ المَسُوحَ ويصيرُ عميقَ التّشرُّبِ بالحياةِ الدّينيّةْ.
إنَّ جَواهِرَ الحَيَوَاتِ الماضيةِ لذلك الرّجل قد انطبعتْ في دخيلةِ نفسِهِ ورُوحِهِ. ولرُبّما بدأ سلسلةً هاتِيكَ الحَيَواتِ بصيرورتِهِ راهباً وعالماً دينيّاً. ثمّ، بمُضيِّ القرونِ، غدتْ نفسُهُ منجذبةً بكلِّ (أو إلى كُلِّ) ذلك الذي تمنحُهُ إيّاهُ الكنيسةْ. وقد يكونُ حافزُهُ في ذلك جمالُ الموسيقى، الإحتِفاليّةُ، التّقوى، حسُّ الخِدْمَةِ لوجهِ اللهِ، في أحسنِ الأحوالِ، أو الإحتماليّةُ الشّديدةُ لأن يكونَ دربُ الكنيسةِ ذاكَ طريقاً أكيداً لتحسينِ وضعهِ الإجتماعيِّ وإدخالِهِ في زُمرَةِ وُجَهَاءِ القومِ، في أسوئِها. مهما كان السّببُ في نِزُوعِهِ ذلك تظلُّ الكنيسةُ هي نِداءهُ، رُبّما لمرّاتٍ عديدةْ. فتلكَ هي "عادةُ" قلبِهِ، ذكرى هامش-شعُوريّة لكلّ ذلكَ الذي يُرضِيْهِ ويُحقّقُ ذاتَهُ على أحسنِ وجهْ.
ذلك الإنسانُ هو، حقّاً، "قِسّيسٌ مطبُوعٌ" جاءَ إلى هذا القرنِ (القرنِ العشرين) وهو مُنطوٍ على شعُورٍ عميقٍ بأنّ في مقامِ القِسّيسِ مُدّخرٌ لهُ كلُّ الخيرْ. لذا فدراساتُهُ، شخصيّتُهُ وملامحُ طلعتِهِ ذاتُها تسُوقُهُ سوقَاً يؤوبُ بهِ إلى الكنيسةِ وهو لا يستطيعُ لهُ دفعَاً.
لكنَّ هذا القرن هو القرن العشرون، هو عهدُ الشّكِّ، عهدُ التَّحليلِ الذّهنِيِّ، عهدُ العقلِ المُحرِّرِ لنفسِهِ من أنماطِ التّفكيرِ العريقَةْ. ولربّما انعطفَ هذا الوضعُ بالرّوحِ- التِي اتّخذَتْ، وقتَذاكَ، هيئةَ رجُلِ دينٍ "أُمسِكَ" بهِ في حدودِ دورِهِ الكَنَسيِّ وتنازُعِهِ، مع ذلكَ، واضّطرابِ زمانِهِ- نحو الإنفتاحِ الوسيعِ على مفاهيمٍ جديدةْ. فصاحبُها سيجدُ نفسهُ، آنذاكَ، متجاوزاً، في نموّهِ الرُّوحيِّ والشّعُوريِّ، المِنهاجَ المُؤَسَّس العريق، ومن ثمَّ سيحسُّ بأنّهُ آيلٌ إلى أن يكونَ "سجيناً" في الأشكالِ القديمةِ لذاتِهِ وبأنَّ كنيستَهُ الحبيبةَ ما عادتْ تُصيِّرُهُ "حُرّاً طليقَاً" بل هي، على خلافِ ذلكَ، غاديةً حائلاً بينهُ وتطوُّرَهُ النّفسيَّ-الرّوحيَّ الأبعدْ. في القرونِ الماضيةِ كانتْ الكنيسةُ مُناسِبَةً لتطويرِ عقلِ ونفسِ ذاكَ الإنسانْ. لكنّهُ الآنَ قد ضاقتْ عنهُ أنساقُها العتيقةُ وأضحى سجيناً لمهنتِهِ المُختارةْ. إنّهُ- الآنَ- مُرتكِسٌ إلى الوراءِ وجاذبٌ معهُ، في ارْتِكَاسِهِ ذاكَ، ثُلّةً من النّاسْ.
هو لا يستطيعُ مواجهةَ ذلكَ، بيدَ أنّهُ صارَ مُرائياً أمامَ اللهِ وأمامَ كِيانِهِ الرُّوحِيِّ الخاصْ.
لقد أُبينَ لي أنَّ ذاكَ ليس شيئاً غيرَ عاديٍّ في أيّامنا هذه. فالولاءُ التّراجيديُّ للمواقفِ القديمةِ ينتكسُ بالتّطَوّرِ التّصاعُدِيِّ لفِكرِ الإنسانِ الفردْ. ثمّ أنّ العقْلَ الأكاديميَّ والدِّينيَّ-السّماويَّ يُشكّلُ، أحياناً، سجناً للشّبابْ. ذلكَ لأنَّ البازَ المُحلّقَ في آفاقِ الفِكرِ والشّعُورِ سيكونُ محجُوبَاً عن هاتيكَ الآفاقِ إن قُيّدَ بأنماطِ تفكيرٍ عريقَةْ.
ربّما يكونُ السّبيلُ الوحيدُ للإنفِكاكِ من تِلكَ الورطةِ هو قبولُ من يتّبِعُوا "أنظمةً مقدّسَةً" فقط حين تغدُو سنينهم- وعقُولهُم- مُتقدّمةً ومُستويةً بالنّضْجْ. فحياةٌ في العالمِ الخارجِيِّ حتّى سنَّ الأربِعينَ أو الخمسينَ قد تهبُ الإنسانَ فُرصةً أكبرَ للتّوصّلِ إلى معرفةِ خُصوصيّتِهِ الرّوحيّةِ وللإنسجامِ مع فكرهِ المتنامي التّطوّرِ، وعساهُ، حينذاكَ، يتعرّفُ على المعنى الواقعيِّ لانجذابِهِ نحو الكنيسةِ فيستبينُ لهُ ذاكَ على أنّهُ افتتانٌ مِغناطيسيٌّ بنمطِ عيشٍ قديمٍ ومحبُوبٍ، بيدَ أنّهُ رُبّما ما عادَ مُناسبَاً للطّبيعةِ الذّاتيّةِ لرُوحِهِ المُتوسّعةْ.
إن كان الأمرُ كذلكَ فعلينا أن نحوزَ على رجالٍ أكثرَ إخلاصاً والتزاماً في رعايتهم لشّئونِ الكنيسةِ، كما وينبغي لنا، كذلكَ، أن نُنشئَ كنيسةً ذاتَ نَمَطٍ من الفِكرِ تنامِيهِ مُتوافقٌ مع التّقدّمِ الفكريِّ العامِّ للجِّنْسِ الإنسانِيْ.
لعلَّ استيعابَ الإنسانِ لرؤيا تجدّدِ الميلادِ يجلبُ معهُ إلى أُفِقِهِ الفِكريِّ (والشِّعُورِيِّ) المفتوحِ المشكلةَ المُقلِقَة الخاصّةَ بأفرادٍ من النّاسِ ما يَزالُوا منحبِسينَ في طيّاتِ معتقَدِهِم العقليِّ العتيقِ، ذلكَ المُعتاد الذي كان يجب عليهم أن يتخطَّوهُ.
إنَّ الكثيرَ من أوجُهِ حيَواتِنا التي ما انفكّتْ، حتّى الآنَ، مُحيرةً جدّاً للوعيِ والشّعورِ ستُضيؤُها هذه الفرضيّةْ. أنا قد هفَوتُ إلى استخلاصِ كلِّ ما أستطيعُهُ من معرفةٍ من "المُعلّمِ" وكانتْ أسئلتِي هي طلائعي إليها. وتحتَ توجيهِهِ بدا لي، من متابعتِي للتطوّرِ الفكريِّ والشّعوريِّ لرُوحٍ ما عبرَ حَيَواتٍ عديدةٍ، خُصوصاً هاتيكَ التي "تَنَاسَخَتْ" فيها في معاشِ إنسانٍ ذي منزَعٍ دينيٍّ، أنَّ هنالكَ ميلاً مُعيّناً لديها، رسّختْهُ قرونٌ من الإيمانِ العميقِ، نحوَ أن تأتِي على زمانٍ من العقمِ الرّوحيِّ-الشّعُوريْ.
نحنُ على علمٍ بقولِ باسكال:- "إنَّ للقلبِ أسبابُهُ التي لا يدري العقلُ نفسُهُ عنها شيئاً" [في الأصلِ البَاسْكَاليِّ (من "باسكال") كلمةُ "القلبِ" تأتي مؤنّثةً حتّى تُلمّحُ إلى مَلَكَتَيْ الشّعُورِ والحِدْسِ اللّتينَ هُما "أُنثويّتَيْنَ" في الأساسِ الأنطولوجِي- المترجمٍ].
يبدو أنّ للقلبِ- حقّاً وصدقاَ- هذا التميّز الشّعُوريَّّ-المعرفيَّ، هذا التّواصُلَ مع لُبِّ الإدراكِ الجُّوّانِيْ. وهو، في ذلك، يستبِقُ بعيداً الذّهنَ الذي لا يستطيعُ- بالقَطْعِ- أن يُبرهِنَ، وحدهُ، وجودَ اللهْ. الإنسانُ البسيطُ جدّاً يُمكِنُ أن يُعَلَّمَ اليقينُ الباطنيُّ خلال القلبْ، غيرَ أنّهُ في حالةِ تحقيقِ البشرِ لمستوىً أعلىً من التّعليمِ وتوسّعِ الجّنسِ البشريِّ في تطوّرِهِ العقلانيِّ يَسبِقُ الذّهنُ القلبْ. إنّهُ يصيرُ جذراً في استحسانِهِ- أو عدمِ استحسانِهِ- لإملاءاتِ القلبِ، فهو يُبغِي التّحليلَ، العقلنةَ، البرهنَةَ وإيرادَ الدّليلْ.
يستطيعُ القلبُ القولَ:- "أنا أعرفُ أنَّ فُلانَاً وعِلاّنَاً سوف لا يرتكبان أبداً فِعلاً كهذا"... لكنَّ الذّهنَ (العقلَ) لا يقوى على برهان ذلكْ.
ويستطيعُ القلبُ، أيضاً، أن يقُول:- "أنا أعرفُ أنَّ اللّهَ موجودْ". لكن هل يستطيعُ الذّهنُ (العقلُ) بُرهانَ ذلكْ؟
إنّ القلبَ والعقلَ ينبغي لهما أن يُوازَنَا عبرَ تواؤُمِ واحدهما مع الآخرْ. فالقلبُ هو العارفْ. أمّا الذّهنُ (العقلُ) فهو السّاندُ الأساسيُّ لحكمةِ القلبْ.
تُظهِرُنا التّجربةُ على أنَّ الإنسانَ يصلُ إلى نُقطةٍ في تطوُّرِهِ حيثُ الرّوحُ تنتهِي إلى حالةٍ من "الهِجرانِ" الظَّاهِرِيْ. فالّذي كانَ، ذاتَ زمانٍ، مُنافِحاً مُتحرّقَاً عن الإيمانِ وخادمَاً متحمّساً للأمرِ الإلهيِّ يصيرُ، حاضراً، مفصُولاً عن كلِّ ذلكَ بِواسِطَةِ وعيهِ الذّهنيِّ المُتنامي. وربّما يظلُّ على حالهِ ذاكَ حتّى نهايةِ حياتِهِ.
هل هُنالِكَ أيُّ دليلٍ على وجُودِ الكينونةِ الإلهيّة؟ يتساءلُ- ذاكَ الإنسانُ- مرّةً ثانيةً، ثمّ ثالثةً إذ يُردّدُ:- هل يستطيعُ المرءُ بُرهانَ ذاكَ الوجُودْ؟
أسئلةٌ مثلُ هذينَ استوطنتْ أيّامَهُ. ثمّ اصطدمتْ واعيتُهُ بحائطٍ أصَمْ. ذلكَ لأنّ القوى العقلانيّة- رُغم دقّتها، تشعّبها وضرورتها للتّطوّرِ الشّخصيْ- هي أدنى، في درجةِ تماسِّها والشُّعاعات الإلهيّة، من نثقطةِ الوصلِ القلبيَّةِ الباطِنَةْ.
الحُبُّ هو مُعلِّمٌ لكوكبنا الأرضيِّ وليس الوعي الذّهنِيْ. الحبُّ يُعلّمُ الإنسانَ الآنَ، وهو قد علّمَهُ منذُ عهودٍ سَلَفَتْ، أنَّ من الخطأ اغتيالَ الإنسانِ لرفاقِهِ من بني الإنسانْ. لكن العقل (الذّهن) ما فتِأَ مُوغِلاً في فِعلِ ذلكَ بمهارةٍ مُتفاقِمَةٍ يوماً بعدَ يومْ. القلبُ يُعلّمُنا أنَّ تعذيبَ النّاسِ، الحيواناتِ، أو أيِّ كائنٍ حيٍّ، هو شيءٌ ليس لنا حتّى أن نُخاطِرَ أنفُسَنَا- خِفيَةً- بهِ، لكنَّ العقلَ (الذّهنَ، الذَّكاءَ)، في موقفٍ كذاك، ينبري متسائلاً فحسبْ:- "هل من مصلحةٍ ما في ذلك؟"
*
ربّما تأمّلنا هنا في عبارةِ "هل من مصلحةٍ ما في ذلك؟" على ضُوءٍ استثنائيْ. علينا أن نتذكّرَ أنّ الخبيثَ الذي يبدو ظافراً على أوضاعٍ ماديّةٍ إنّما يُحقّقُ نجاحاً برّانيّاً في حياتِهِ، فقانُونُ "الكارما" قد
طَبَعَ، برسُوخٍ مكينٍ، على ذاتِهِ الباطنةِ خَتْمَ عَدَمِ توازُنٍ في القُوى الكامنةِ فيهِ. عليهِ فإنّهُ، في حياتِهِ القادمةِ،ربّما يجدُ نفسَهُ فقيراً ومُهملاً- تلكَ مرحلةٌ ينبغي عليهِ معاناتَها.
يبدو أنَّ هنالكَ فترةً في معاشِنا الإنسانيِّ يصيرُ فيها أحاسنُ النّاسِ بيننا، من هُم قد وَهَبُوا جِماعَ قلُوبِهم للإيمانِ بالأُلُوهِيِّ وبمحبّةِ الأُلُوهيِّ، معمِيِّينَ فجأةً بذاتِ القُوى العقليّةِ التي حازوها ثمرةً لتعلّمهم الذّهنانيْ (الثّقافيْ).
النّاسُ يمرّون بمرحلةٍ كتِلكَ قد تستغرقَ منهم حيواتٍ تامّةْ. آنذاكَ هم يديرونَ ظهورهم للقلبِ و"حقيقتِهِ" [أو "حقيقيَّتِهِ"- كما قد أقول- المترجم] ويُوغلونَ في إقناعِ أنفُسهم بأنَّ ولاءهُم القديمَ ما هو إلاّ خُرافةْ. إنّهُم يُحجّبُونَ ذواتَهُم خلفَ "قِناعِ" التّفكيرِ بأنَّ مستواهم الثّقافيَّ الجديدَ، الباردَ والمبنيَّ على التّحليلِ والبُرهانِ، هو أكثرَ حكمةً من نارِ القلبِ العارفةْ.
لقد أنبئتُ بأنّ ذلكَ "المُنزَلَقَ" في دربِ الإنسانِ النّاشدِ للحكمةِ الإلهيّةِ يستطيعُ أن يُبقِيْهِ "مُتعثّراً" بهِ إلى حينٍ، ولربّما نُظِرَ إلى ذلك "التّعثّرِ" على أنّهُ حدثٌ عامٌّ يقعُ، تقريباً، لكلِّ فردٍ إنسانيٍّ بلغ بهِ النّماءُ الشّخصيُّ مرحلةً معيّنةً ومُعتبرةً من التّقدّمْ. من يُوافقُ حالُهُ تلكَ الوضعيّةَ قد يكونُ رجُلَ كنيسةٍ كان، في حياتِهِ السّابقةِ، مسيحيّاً تقيّاً وَرِعَاً إلاّ أنّهُ، في حاضرِ أيّامهِ، يشهدُ، إذ يتجاوز في تطوّرهِ الذّاتيِّ عهدَ المُراهقةِ ويدرُسُ في الجّامعةِ، موتَ إيمانِهِ، الذي شملَ عمراً سالفاً كاملاً، في دخيلةِ ذاتهِ، ثمّ هو، من بعدِ ذلكَ، يُدرِكُ- ويا للأسى!- أنَّ قلبَهُ- الآنَ- يغدُو بارداً. وقد يُنازِعُ ذاكَ الإنسانُ نفسَهُ الحاضرةَ كثيراً عساهُ يستوقِدُ فيها، مُجدَّدَاً، حماسَهُ القديمَ للتّناغُمِ والكينونةِ الإلهيّةِ، لكنّهُ لا يستطيعُ إلى ذلكَ سبيلا. فهكذا غايةٌ رُبّما تأخُذُ منهُ حياةً أخرى بتَمامِها يُغالبُ فيها يبَابَهُ الحالِيْ.
إنّ قرننا العشرينَ هذا قد يبدو زماناً عقيماً، عهداً من الجّهلِ بالرُّوحِ، أو من النّفاذِ الشّيطانيِّ إلى عالمنا. مع ذلكَ ربّما لا تكونُ مرحلةُ البُرودةِ الرّوحيّةِ هذه سوى مُقدّمةٍ لطفرةٍ عظيمةٍ إلى الأمامْ. ذلكَ لأنَّ النّفسَ ينبغي لها أن تُنازِعَ وتُكابِدَ من أجلِ بقائِها قبل أن تستطيعَ، كرّةً أخرى، سَمَاعَ خَفْقِ نبضِ القلبْ.
إنَّ العقلَ (الذّهنَ) لن يفتح، أبداً، بوّاباتَ الفردوسْ. فقط جذوةُ نارِ المعرفةِ القلبيّةِ ستستشرِفُ ما وراءها.
*
"ليس للمرءِ هنا أن يعتقد أنّ الإنسانَ قد وُثِّقَتْ عُرَاهُ وهذه الحياةُ على كوكبِ الأرضِ لآمادٍ مفتُوحةٍ قادمة". فالأرواحُ الآدميّةُ تتخرّجُ، باستمرارٍ، من جامعةِ كوكبِ الأرضِ، يستوي في ذلكَ من كانَ ذائعَ الصّيتِ منها على مسرحِ الحياةِ أو مغمُورا. ورُغمَ أنَّ بلوغَ لحظةِ الحُرّيّةِ تِلكَ قد يأخذُ، من المرءِ، قرُونَاً إلا أنّه مُستيقَنُ المُجيءْ. فإن واتى الإنسانُ ذاكَ الإنطلاقُ سيجدُ شعُورَهُ منفتحاً على لطائفِ هدايا الرّوح ويحوزُ على أجنحةِ اللاعودةْ. هُنالكَ- في "آخِرَتِهِ" تِلكَ- سيكونُ حُرّاً من عبُوديّتِهِ لدورانِ عجلةِ إعادةِ الميلادِ على كوكبِ الأرضِ، ومن ثمَّ يستطيعُ اختيارَ دربِهِ المثستقبَلِيْ. وهو، في حُرّيّتِهِ تلكَ، إمّا أن يبقَى قريباً وفي مُتناولِ يدِ الإنسانيّةِ حتّى يُعينُها على التّرَقِّي عبرَ مَدرَجِ سعيٍ هو أوسعَ بكثيرٍ ممّا كدحتْ عليهِ من قبلِ من سُبُلٍ، أو قد يختارُ التّماذُجَ والكائنات الأسمى حتّى يُشارِكُهُم، مُغتَبِطَاً، في تدابيرِهِمْ على المستوياتِ الكونيّةْ.
في حياةِ الإنسانِ الطّويلةِ على كوكبِ الأرضِ يأتي زمانٌ يُناغِمُ فيهِ نفسَهُ الحقيقيّةَ الباطنةَ مع المجالي الكونيّةِ الأسمى حتّى تنشرِحُ بهِ الملائكةُ، عظامُ الملائكةِ وكلُّ الرفقةِ السّماويّةِ، انشراحاً يفوقُ مدى معرفتِهِ بهِ. فصلاتُهُ، حينما لا يزالُ في الجّسدِ الفيزيائيِّ، تصلهُ بالرّحمةِ الإلهيّةِ اللانهائيّةِ وتُيسّرُ عليهِ سنواتِ تناسُخِهِ الرُّوحيِّ الأخيرِ على هذا الكوكب.
*
أعرفُ أنَّ استشهادِي هنا بأُناسٍ مُحتَفَى بهم سيرفعُ ضدّيَ مُختَلَفَ أنواعِ الإعتِراضات- كذلكَ حواجب العيون. لهذا السبب كتمتُ، بجُبنٍ ولسنينٍ عديدةٍ، ما أُطلِعْتُ عليهِ من أشياءٍ نثَرْتُ بعضَها في حنايا بحثِي هذا، ثمّ أرفقْتُها بألبومٍ فخيمٍ من البورتريهاتِ والصُّورِ على سبيلِ الإيضاحِ والمقارنةْ.
لكنّ الآنَ عليَّ أن أستَمْسِكَ بجِمَاعِ شَجاعَتِيْ وأخطُو قُدُمَاً على طريقِيْ.
4
لقد علمتُ أنّ فولتير قد تحوّل إلى جورج برناردشو في تناسخه الرّوحيّ اللاحق. حين سماع يمكننا، فقط، البوح لأنفسنا بما يلي:- "حَسَناً، ذاكَ يُظهِرُنا على كيفَ أنّ النّاسَ يتغيّرون ببطءٍ في مدى مائة عام أو ما يُقاربُهُ".
حيثُ يُلفتُ انتباهُ المرءِ إلى رباطٍ بيّنٍ كذلك الذي بين فولتير وبيرناردشو سينطلقُ المرءُ، في الحالِ، إلى المكتبةِ ناشداً بورتريهات (صور) لهذين الرجلين السّاطعي النّجم وحقّاً سيجدهما ذاكَ النّاشدُ متقاربينَبما يُكفِي في هيئتيهما. تشهدُ بذلكَ عينا كلٍّ منهما الجَّلِيَّ افتراقُ إحداهما عن الأخرى، ذاكَ التّعبير المَرِحْ، المتطلّع المُنتبِهْ، على مُحيّيهما، ثم اشتراكهما في ملامح الرجل العجوز الصّعلوكيّ الطّلعة (أو الفاسق) التي قد يُعزّز انطباعها فينا مرأى فولتير مرتدياً باروكةً كي يُخفي صلَعَهُ. إنّ القريحةَ الحادّةَ، المرح اللاذع ينطلقُ، ببلاغةٍ، في وجهَي هذين الرجلين. فالرّوحُ فيهُما قد عبّرَتْ، بوضوحٍ، عن نفسها في الهيئةِ الجّسَدِيَّةِ على صورةِ مُرَكَّبَيْ طاقةٍ يُشبِهانَ بعضهما البعضَ كثيراً.
كما قُلتُ باكراً، يبدو أنّه من الضّروريِّ للمرءِ أن يجمعَ، إن أمكَنَ، نصفَ دزينةٍ (دستةٍ) من صور الشخص المعنِيِّ حتّى يستيقن من حقيقةِ مرآهِ أو رسمِهِ. فالكثيرُ من ذلك الأمرِ يعتمدُ على راسمِ اللّوحةِ، على زاويةِ النّظرِ التي يتّخذُها تجاه جليسِهِ، نفاذهِ السَّايكولوجيِّ، رغبته في الإرضاءِ، في الإطراءِ أو في التّحدّثِ بالحقيقةْ. ذلك كلّهُ فضلاً عن قدرته الفنية والتقنيّة على الإمساكِ بشَبَهِ من يرسم في ما يرسم. في فتراتٍ معيّنةٍ من التَّاريخِ، كالقرنين السابع والثامن عشر على سبيل المثال، مالت هيئةُ الرّسمِ إلى جعلِ النّساءِ، خاصّةً، يتراءينَ على أنّهنَّ متشابهاتٍ جدّاً. كان الرسّامان لِيلِي وكنيلر يستخدمان نمطاً شائعاً من فنّ اللّوحةِ يبدو، أحياناً، لاغياً لأيّ ملامحٍ شخصيّةٍ للوجهِ المرسوم. أيضاً، لاحظتُ أن تنامي العادات الليبراليّة في الأكلِ والشّربِ جعلتْ الرّجالَ، خاصّةً، يبدونَ، حينَ يُرسَمُون، أثقلَ إستوناً أو استونَيْنْ [ 6•35أو 12.70 كيلوجراماً- المترجم] من أوزانهم آن أوبتهم إلى الدّنيا في هيئاتِ أنفُسٍ وأجسادٍ "جديدةٍ" في القرن العشرين. النّساءُ، كذلك، كانتْ لهُنَّ، في ذلك الزّمان، ذِقُونَ مُضاعفَةَ العرض، الشيء الذي ما عُدَّ من علاماتِ الرّشاقةِ في تلك الأيّام. ثم هنالكَ أيضاً عواملٌ أخرى تُصعّبُ عمليّاتِ المقارنة (أو المُقاربَة) التي نحنُ بصددها مثل الباروكات وأساليب تصفيف الشّعر التي تُغيّر مظاهرَ الأشخاصِ تغييراً مُعتبَراً.
على الرّغمِ من ذلكَ فإنني حين يتمُّ "إنبائي"، ربّما في هاجعاتِ اللّيالي أو آنما أكونُ مُنشغِلَةً بالتّنزّهِ وكلابي عبر التّلال فيما خاطري منصرفٌ إلى شيءٍ آخرٍ تماماً، بأنّ الشخصيّة المعاصرة المُسمّاة فُلان الفُلاني، أو فُلانة الفُلانيّة، في القرن السادس عشر أُهَزُّ بما أُنبئْتُ به وأهرعُ باحثةً، بدأبٍ، عن مصادرِ دعمٍ لحقيقتِهِ. وعندما يُسفرُ بحثي، ربما بعد عامٍ أو ما إليهِ، عن عثوري على رسمٍ حفريٍّ عتيقٍ لشخصيّة عصرِ النّهضةِ التي حُدّثْتُ عنها تظلُّ، هزّتي (أو إثارتي) حيّةً إذ أجدُ، في الشّخصيّةِ إيّاها، ذاتَ الأنفِ المنحدر المعقوف، ذاتَ مُنحنَى الفكِّ الطّويلِ العظميِّ، ذاتَ الفمِ العريضِ الزّهديِّ، ذاتَ هيئةِ الرأسِ على الكتفينِ ثمّ، فوقَ ذلكَ، مُماثلةً في الصّفاتِ، الأذواقِ وأنماطِ التّفكيرِ بينها وشقيقتها الرّوحيّة المُعاصرة.
لكن دعني أعودُ إلى فولتير.
كان فولتير من الشّهرةِ بحيثُ أنّني أحتاجُ فقط إلى استعراضِ الخطوطِ العريضةِ لرسالةِ ذاك الرّجل اللامع في الحياة ومنحى تفكيره.
وُلِدَ فرانسوا ماري أرويت دي فولتير في باريس في عام 6941. ولقد عاش، مثل بيرناردشو، مدّةً عظيمةً من السّنينِ وماتَ في عام 1778 بعد أن بلغ الرابعة والثمانين من العمر.
إن حقيقة نزوعنا نحو أن نعيش، في حياتنا الحاضرة، نفس أو ما يقارب السنوات التي عشناها في حياتنا السابقة لهي منبئة لنا بأن هنالك قاعدة ما وراء ذلك الأمر. فهي تومئ إلى أننا لا "نُسحب" من ساحة هذه الدنيا، في اليوم المعني الذي نُفاصلها فيه، بواسطة قضاءٍ إلهيٍّ عشوائيٍّ، بل نحن نموت- ما عدا في بعضِ ظروفٍ استثنائيّة- حين يبدأ الإنهاكُ العقليُّ في "خلخلةِ" انسجام مُركّباتِ طاقاتِنا.
أقولُ ما سبقَ على هيئةِ حديثٍ خاطِرِيٍّ للقارئِ أن يضعَهُ بينَ قوسين.
"بعد أن تلقّى فولتير تعليمه في معهدٍ يسوعيٍّ تعهّدت السيّدة نينون دي لينكلوس برعايته فأعطته دروساً في اللّياقة الإجتماعيّة، ثم خلّفتْ لهُ تِرْكَةً" (أنا أقتبسُ هذا عن موسوعة نيلسون المعرفيّة). تمضي الموسوعة إيّاها في حديثها عن فولتير فتقول إنّه "قد قُدّمَ إلى أميزِ المجتمعاتِ الثقافيّةِ الباريسيّةِ حيثُ ينتشرُ، بجانبِ الثّقافةِ والأدبِ، حسُّ تهتّكٍ أخلاقيٍّ متهوّر... سُرعانَ ما بدأ قلمُهُ ينهمرُ بفيضٍ من الكتاباتِ المُتهكّمةِ، الجّملِ البليغةِ، الأناشيدِ والرّسائل... ثمّ، أثناءَ دراستِهِ للقانون، كتب فولتير مَسخَرَةً حمقاء عن وليِّ العهدِ فأودعَ، بسببها، سجن الباستيل الشّهير. وبعد إطلاق سراحه ألّف عدداً من المسرحيّاتِ لاقت نجاحاً باهراً".
في عام 1726 ذهب فولتير إلى إنجلترا وقضى فيها ثلاثة أعوام أنشأ فيها "صداقات مع طليعة الكتّاب ورجال الدولة ودرس الأحوال السياسية والدينية للبلاد. إثر عودتهِ إلى باريس كرّس فولتير نفسه للأدب والنظريّات التّجاريّة ولقي من ذلك حظّاً عظيماً"... هذا الأمرُ ينطبقُ على شو أيضاً.
كان الممثلون والممثلات يُقاطَعُونَ اجتماعيّاً، بشكلٍ أوتوماتيكيٍّ، في فرنسا تلك الأيّام. أدّى حنق فولتير، من استِهداف الإكليروس لأولئك القوم من الفنّانين- خاصّة عند حضوره الإتّفاقِيِّ لجنازةِ إحدى النساء التي كانت خليلةً لهُ- ومن دسيسةٍ بِلاطيّةٍ حِيكَتْ ضدّهُ، إلى التّحدّثِ، بمرارةٍ مُتهكّمةٍ، عن النّاسِ الذين كانوا، آنذاكَ، حكّامَاً. هنالكَ أقاصيصٌ كثيرةٌ عن شهامةِ فولتير مع النّساء وعن علاقاته العاطفية العديدة. مؤخّراً، بعد أن أكسبتهُ كتاباتُهُ الذّكيّةُ شهرةً وصيتاً، أنفقَ فولتير ثلاثة أعوام في بلاط الملك البروسيِّ فريدريك الذي أعجبَ بهِ إعجاباً عظيماً. ثمّ استقرَّ به المقام- بعد أن نفاه الملك إلى خارج البلاد- في بلدة فيرني قرب جنيف حيثُ انهمكَ، بلا انقطاعٍ، في الكتابةْ.
"كان غلّه ضدّ الكنيسة متنامياً والسنين، ثم هو ثد صوّب، من مقرِّ تقاعده، سيلاً من سهامٍ تهكّميّةٍ مُتلاحقةٍ نحو الإكليروس وألاعيبهم... ثم تُوفّي في باريس ورفضت كنيسة سينت سلبايس دفنه على الطريقة المسيحية. لذا دُفنت جثته، على عجل، في دير سيسيلياغس".
وتستمر موسوعة نيلسون في الحديث عن فولتير وتقول إنه، كشاعر، "يفشل في أن يمسّ القلبَ، كما وهو لا يستجيبُ للتعاطفاتِ الشعوريّةِ العميقةِ للطبيعةِ الإنسانيّة... مع ذلك يظلّ كاشفاً عن مخزنِ ذكاءٍ ولذوعيّةٍ كبيرين. ثم إنه لو قُيّمَ ككاتب مساخر سيكونُ واحداً من الأعاظم".
قيل عن فولتير إنه كان مشغولاً جداً بالإحتجاجِ على ما هو خطأ دون أن يكون بنّاءاً في مشغلتِهِ تلكْ. لكننا نردُّ ذلك الرأي على أصحابه بقولنا إنّ العالم كان محتاجاً آنذاكَ- وما يزالُ- إلى من يُنجز مهمّة الإحتجاج هذه. ولعلّنا ننصفُ فولتير كثيراً إذا اقتبسنا، في هذا المُتعلّق، شيئاً مما وردَ في الكتاب الجديد [الصادر في عام -1976المترجم] الذي ألفه ثيودور بيسترمان عنهُ. قال ثيودور بيسترمان في كتابه المعنيّ إنّ الثورةَ التي حدثتْ في تفكيرِ الناس في القرن الثامن عشر كانتْ، إلى حدٍّ كبيرٍ، من إنجاز فولتير، ثم أشار إلى أن قاموس الثيولوجيا الكاثوليكية يقف شاهداً على ذلك حيث يختم مادّته عن فولتير بالكلمات التالية:- "إن جهود فولتير شكّلت عاملاً أساسيّاً في بروزِ العالم المعاصر إلى الوجود، ذلك العالم الذي ضمنت فيه الدّولة، إذ فُكّتْ عن قياد الكنيسة وصارت علمانية خالصة، لكلّ مواطنٍ فيها حريته الشخصية والفكرية والديمية وحقه في التعبير، بضمير مستقل، عن آرائه الخاصة، سواءاً في أحاديثه أو كتاباته الصحفيّة".
يكمن لب تفكير فولتير السياسي في الفقرة التالية المأخوذة، أيضاً، من سيرته المكتوبة بقلم بيسترمان:- "لم يؤمن (فولتير) بالنظم الميتافيزيقية لأنها تخنق التفكير. وكان، كذلكَ، شاكّاً في كل الإصلاحات التي تُوصي بها اللجان ويعتقد أنه، عدا فيما ندر، ما من شيء عظيم في هذه الدنيا قد أنجزَ أبداً إلا بفعلِ عبقريّةِ وصمودِ إنسانٍ واحدْ. ثمة شيء فوضوي تقريباً في قناعة فولتير بأن التقدّم يُستطاعُ بلُوغُهُ فقط عبرَ الجّهدِ الشّخصِيْ".
ما يُعطي هذا التعقيب تميّزاً عن غيره هو أنّ فولتير، طوال أيام حياته، كان عدوّاً لا مُهاوداً ولا مُتزحزحاً ليس للكنيسةِ فحسب وإنما للمسيحية نفسها ولكلّ الدّين. لكن هذا الموقف لم يمنعه من المحاولة، بجدّيّة شديدة، لإقناع السّلطات بأنّه كان، على الأقل، "أُلُوهيّاً"، أي معتنقاً مفهوماً ما لله". هكذا قال بيسترمان. لكنّ آخرينَ استرعوا انتباهنا إلى أقوالٍ لفولتير أقنعتهُم بأنّهُ قد آمنَ بـ"كائنٍ أعلى" هو، بوضوحٍ، ليس إله النّصوصِ المسيحيّةِ المقدّسة، المعجزات وما إلى ذلك لكنّهُ، كما قال هو نفسُهُ عنهُ، إلهٌ ليس مرتبطاً بدينٍ سماويٍّ (أو ميتافيزيقِيٍّ) ما. على كلٍّ، استخدم فولتير عبارتَي "معتقد بالله دون الوحي" و"مؤمن بالله فحسب"، بصورةٍ مترادفةٍ، لوصفِ طبيعة فلسفته الدِّينيّةِ تلكْ.
ثم، في عام 6517، كتب شرحاً لما يعنيه بذلك قال فيهِ إنّ مَن "يؤمن بالله فحسب، أو دون الوحي" هو إنسانٌ "اقتنعَ، قناعةً راسخةً، بوجودِ كائنٍ أعلى خيّرٍ، كما وهو قديرٌ، قد خلقَ كلَّ الكائنات".
أوضح فولتير، في شرحهِ ذاكَ، أنّ هنالكَ نوعينَ من الإعتقادِ في الله دون الوحي:-
1. الأوّل معتَقد أولئك الذين يرون أنّ الله قد خلق العالم دون أن يُزوّد إنسانَهُ بقانونٍ أخلاقيْ. هؤلاء، في اعتبار فولتير، ينبغي أن يُدعَوا "فلاسفة" فقط.
2. الثّاني هو مُعتقد من يؤمنوا بأنّ اللهَ قد وهبَ الإنسانَ قانوناً طبيعيّاً. هؤلاء، في منطق فولتير، لهم دين. إن تحدّثنا، بصورةٍ عامّةٍ، عن ذاكَ "القانون الطّبيعِيْ" فإنّنا سنجد فولتير يُشيرُ بهِ، كما أوردَ بيسترمان، إلى الإعتقاد الدّينيِّ في وجودِ "صيغةٍ أخلاقيّةٍ قَبْلِيَّةٍ مغروسةٍ، مرّةً واحدةً وإلى الأبدِ، بواسطةِ الخالقِ، في الإنسانِ الذي ليس لهُ من ثمةِ صلةٍ إزاءها".
قال فولتير، بالإنجليزيّة، "اللهُ لا يُستطاعُ إمّا أن يُبرهنَ وجودهُ، أو يُنفَى، بواسطة مجرّد قدرة العقل. فنحنُ ليس لنا فكرة وافية عن الأُلوهيّة... أنّى لنا الإجابةُ على هذه المسألةِ بقوى ذكائنا المحدود ومعرفتنا الواهية؟" لكنّه، عل أيّةِ حالٍ، آمنَ بأنّ اللهَ والدّين ضروريّانَ لإقامةِ مجتمعٍ أخلاقيٍّ مُتماسِكْ... قال في هذا المعنى:- "إن لم يُوجد اللهُ سوفَ يتعيّنُ علينا أن نخترعَهُ".
وصفَ قَوْتَه فولتير بمجموعةٍ متلاحقةٍ من النّعُوتِ فقال عنهُ إنّه امتلكَ "العمقَ، العَظَمَةَ، الحدس، التلقائيّة، الملكة، الجدارة، الذوق، الخيال، الفطنة... البراعة، الأسلوب، السّلاسة، الجّرأة، الأناقة، الكمال..."... و.. و.... إلى آخرِهِ... حقّاً كان فولتير رُوحاً حرّةً حقيقيّةْ.
أورد بيسترمان أمثلة على الطاقة الهائلة التي والى بها فولتير- آنما كان يعيشُ في فيرني- تأثيرهُ على العالم رُغمَ أنّ عمرهُ، حينذاكَ، قد صارَ إلى الثّمانينَ أو ما يُقاربُها. فلقد جادَ قلمُهُ، في ذلكَ الأوان، بفيضٍ من رسائلٍ موجّهةٍ إلى أناسٍ في كلّ أنحاءِ أوربّا ومتعلّقة بمنشوراته الفكريّة والأدبيّة، بانشغالاتِه بالمسائلِ العامّةِ واهتمامهِ بالقضايا الإنسانيّة وما يمِتُّ إلى ذلك جميعِهِ من أشياءٍ وشؤونْ. وجميعُ هاتيك الرسائل كان فولتير يكتبها بإسهابٍ لا ينتهي. فالرجل العجوز كان، حتّى وقتذاكَ، يجد الوقت اللازم لإنفاقِ طاقةٍ لانهائيّةٍ في إنتاجِ مسرحيّاتِهِ، في إدارةِ شؤونِ أعمالِهِ الخاصّةِ وأعمالِ عائلتِهِ وفي استقبالِ سيلٍ لا ينقطع من الضّيوفِ الذين كانوا يجيؤونه في فيرني كي يمحضُوهُ إجلالهُم وتقديرهم. أحد أولئكَ الضيوف كان رجلاً إنجليزيّاً يُدعى جون مور. وصف جون مور فولتير فقال عنهُ:- "هذا الشخص الغير عادي قد أفلحَ في إثارةِ الفضولِ والإحتفاظِ بانتباهِ أوربّا لفسحةٍ من الزَّمانِ هي أطول، بكثيرٍ، من أيِّ مدّةٍ أخرى فعل فيها ذلك أيُّ رجُلٍ آخرٍ من هذا العصر، ولا نستثني هنا الملوك والأبطال. وحتّى أكثر الوقائع لا أهميّة تبدو، حين نسبتها إليهِ، باعثةً على درجةٍ ما من اهتمام الجّمهور". وبعد أن وصف الرجل الإنجليزيّ فولتير بأنّه كان، وقتذاكَ، "نحيفاً بإفراطٍ" تحدّثَ عن "هيئتِهِ التي أُفْعِمَتْ بالحيويّةِ والرّوحِ أكثرَ ممّا تُفعمُ بهما، عموماً، أيُّ هيئةٍ أخرى لإنسانٍ عاديٍّ من لحمٍ ودمٍ، مهما كان مُزهراً ويافعاً". ثم واصل صاحبُنا الإنجليزيُّ كلامهُ عن فولتير فقال:- "ما لاقت عينايَ أبداً عينينَ أعظَمَ نفاذاً، في هذا العالمِ، من عينَي فولتير الذي بلغ الآنَ عامَهُ الثّمانين. إنَّ كلَّ طلعتِهِ مُعبّرةٌ عن العبقريّةِ، قُوّةِ المُلاحظةِ والحساسيّةِ القُصوَىْ".
في عام 1772 كتب ديدرو، وهو أحد المفكّرين "الموسوعيّيين"، دفاعاً بليغاً عن العلاّمة فولتير ضدّ مزاعم شانتْهُ بالغَيرةِ ونُكرانِ الجّميلِ قال فيهِ:- "هذه [المزاعم] قد تكون صحيحة، أو غير صحيحة، لكنَّ هذا الرّجُلَ "الغيُورَ" هو ابنُ ثمانينَ عاماً رفَعَ، خلالَ كلِّ سِنَّيْ حياتِهِ، سوطَهُ ضدَّ الطُّغاةِ، المهووسين دينيّاً ومساوئٍ عظيمةٍ أخرى في هذا العالم. ثمّ أنّ هذا الرّجل "ناكر الجّميل" هو صديقٌ صامدٌ للإنسانيّةِ إذ أنّهُ، أكثرَ من مرّةٍ، سرَّى عن المنكوبين قنوطهم وانبرى مُنتقِماً للبراءةْ. وهذا الرّجل "المجنون" قدّمَ، كذلكَ، لأرضِ آبائِهِ فلسفةَ لوك ونيوتن، وهاجم أكثرَ التّحيّزاتِ رهبةً في مجالِ المسرحِ، بشّرَ بحرّيّةِ الفِكرِ، ألهمَ النّاسَ رُوحَ السّماحِ، صان الذّوقَ الرّفيعَ الذي كان مُتلاشياً عن الدّنيا، كما وانجزَ عدداً من الأفعالِ الحميدةِ وأبدعَ جُمْلَةً من الكِتاباتِ الممتازةْ. إنّ اسمَهُ قد شُرِّفَ، في كلِّ أقطارِ الدّنيا، ولسوفَ يبقى حيّاً عبرَ جميعِ القرونْ.
5
وُلِدَ جورج بيرناردشو في دَبلِنْ في 26يوليو .1856 وتُوفّيَ في عام 0519 عن عمرٍ بلغ الرابعة والتّسعينَ سنة.
ليس، حقّاً، حاجةً هُنالِكَ لأن أحاولَ تلخيص رسالة حياة وعبقرية هذا الرجل الذي هو أعظمَ النّاسِ صيتاً خلال المائة عام الأخيرة. لكنّني، على أيّةِ حالٍ، سأنتقي، على نحوٍ عشوائيٍّ، فقرات قليلة عنهُ من كتابين وقعا في يدي اليوم عند المكتبة العامّة المحلّيّة، أحدهما هو الذي ألّفه أريك بينتلي، والآخر هو الذي كتبهُ أَودرِيْ ويليامسون.
في أحدِ الكتابين إيّاهما وجدتُ مُقتَبَسَاً يتحدّثُ عن سؤالِ امرئٍ لبيرناردشو عن الطّريقةِ التي يحيا بها حيثُ أجابهُ قائلاً:- "إنّ من غدا كاتباً لهو مثل رياضِيْ. أنّى لهُ، إن لم يكُن كذلك، أن يُصارعَ اللهَ كما فعل يعقوب والملاك؟"
تدفّقتْ قوة بيرناردشو الخلاّقة، الهائلة واللامنتهية، إلى العالمِ في هيئةِ مُتنوّعاتٍ شاسعةٍ من الأعمالْ. "لقد استمرَّ بيرناردشو في الكتابةِ حتّى موتِهِ. ذلكَ لأنّ إيقاع حياته الراسخ ما كان له ان يُكسرَ بعد كلّ هاتيكَ السّنينِ الطويلة. كانت لبيرناردشو مقدرة استثنائيّة على ممارسةِ مشغلتِهِ الإبداعيّةِ في كلّ يومٍ من أيّام حياتِهِ. فالكتابةُ قد صارتْ ضرورةً بالنسبةِ له، وهو بِعقلِهِ الذي ما سكنَ أبداً أو هدأ. داوم بيرناردشو على كتابةِ متفرِّقاتٍ من المسرحيّاتِ حتّى يوم وفاتِهِ. وخلال الثلاثين عاماً التي غدا فيها ذا شهرةٍ رفيعةٍ دَفَقَ من قَلَمِهِ نهرٌ مَكِينٌ من الكتابةِ النّثريّةِ التي اتّخذتْ شكلَ مقالاتٍ نقديّةٍ، مُقابلاتٍ، رسائل وكُتيّباتْ... وإلى نهايةِ حياتِهِ اتّسمتْ كتاباتهُ بحيويّةٍ عقليّةٍ وقلَمِيَّةٍ (لغويّة). كما وأنّ معظم أحكامه أوتقييماته برهنتْ، والسّنينُ عابرةٌ، على أنّها أكثرَ نفاذاً ونبوئيّةً ممّا ظنَنّاها في وقتِ صدورِها".
ولمّا كان شو مُستغرَقَاً في علاقاتٍ شخصيّةٍ مع أكثرِ المُمثّلاتِ ذكاءاً وجمالاً فلقد قِيلَ عنهُ إنّه وقعَ في حُبِّ الكثيراتِ مِنهُنَّ. مع ذلكَ تزوّجَ وارثةً إيرلنديّةً على أساسِ غرامٍ ما تعَدّى الرّباطِ الأفلاطونيْ.
كان عمل شو في نقد الموسيقى- الذي هو أعظم تأثيراً (أو استثارةً) في القرنِ الماضي- مُقدّمَةً لأكثرِ انعطافاتِهِ الإبداعيّةِ أهمّيّةً. تِلكَ هي انعطافتُهُ نحو الكتابةِ للمسرح. وكعضوٍ باكرٍ في الجّمعيّة الفابيّة وصديق لسيدني ويب كان شو عاملاً، طيلة حياته، من أجل الإشتراكيّة. ولقد قُيّضَ له، من خلال نشاطه السِّياسيِّ أيضاً، أن يغدو على صلةٍ مع وليام موريس- ذلك الإشتراكيُّ، الشّاعرُ، المُخطّطُ الثَّورِيُّ- وأن يصيرَ، كذلكَ، مؤسّساً مشاركاً لإدوان بيرن-جونز، وِستِلر، دانتِي قابرَييل روزيتِي وسوينبيرن في الحركةِ "الجَّمالِيَّةِ" في الفنِّ والأدبِ خلال ثمانينات القرن التّاسع عشر. مع ذلك، هو قد كتبَ، في سنواتِ عمرهِ المتأخّرة:- "الموسيقى كانت من الاهميّةِ الشديدةِ لتطوّري الشّخصيِّ بحيثُ أنّ لا أحدَ يُمكنُهُ، حقّاً، فهمَ فنّي دونَ أن يكونَ مُنغَمِرَاً في السيمفونيّاتِ والأوبرات، في موتسارت، فيردي ومَييربير، ولا تُحدّثْ عن هاندل، بيتهوفَن وفاقنر، إِنغماراً أكثرَ شموليّةً وكليّةً بكثيرٍ من ذاكَ الذي يَستَغْرِقُهُ حين انهماكهِ في ثنايا الدّراما الأدبيّة وشعرائها وكتّاب تمثيليّاتها".
لكن شو هو، أيضاً، من كتَبَ:- "إنّ الأعمالَ العظيمةَ في الأدبِ هي انتصاراتٌ للعقولِ العظيمةِ على الخيالِ العظيمْ"... أوصَلَتْ المسرحيّات العديدة شو إلى قمّةِ الكتابةِ الإبداعيّةْ. "المسرح"، كتبَ مرّةً، "ليس هو، فحسب، إقامة الكاميرا رقيبةً على الطّبيعةْ؛ إنّه العرضُ، على هيئةِ الأمثولةِ، للصّراعِ بين إرادةِ الإنسانِ وبيئتِهِ أو، بكلمةٍ واحدةٍ، لمشكلتِهِ... أنا لستُ محكوماً بالقواعِد؛ أنا مُلهمْ. لكن إن سألتَنِي عن ماهيّةِ ذاكَ الإلهام، أو لماذا هو يُواتيني فلن أستطيعُ إجابةً عليكَ لأنّني لا أدريها. إلهامٌ- إذاً- ينبغي أن يكونَ ذلك الذي يدفعُني للكتابةِ، فهو يأتيني دونَ أيِّ إشارةٍ مُباشرةٍ إلى غاياتِي الخاصّة أو اهتماماتِي".
يُعقّبُ إريك بينتلي على هذا الحديثِ قائلاً:- "قد نكُونُ مُوقِنِيْنَ جدّاً بأنَّ شو ما كان يغُشُّ، في آنِ كتابتِهِ لهذا الكلام، الجّمهُورَ أو نفسَهُ... فهنالكض فقراتٌ كاملةٌ في بيتِ القِلُوبِ المُنكَسِرَة، القِدّيسة جُوان و العودة إلى ميتوشالح تؤكّدُهُ. لقد كتبَ، ذاتَ مرّةٍ، رسالةً إلى "لجنةِ الرَّقابةِ" قال فيها:- "أنا مُتخصّصٌ في المسرحيّات اللاأخلاقيّةِ والزِّندِيْقَةْ. لقد اكتسبتُ شَهرتِي بواسطة صراعي العنيد في سبيلِ إرغامِ الجُّمهُورِ على إعادةِ تقييمِ أخلاقيّاته". وبالأخلاقِ هو قد عنى، طبعاً، ليس السّلوك الشّهوانيَّ وإنّما شؤوناً متعلّقةً بالضّميرِ الفرديِّ والعامِّ، أنظِمَةًاجتماعيّةً كاملةً وتفكيراً ضيّقَ الأُفُقِ أو مُحافِظَاً. في الواقعِ هو قد استخدمَ مسرحيّاتهُ لأغراضِ "دعائيّة" [وُضِعَتُ "دعائيّة" هذه بين علامتي تنصيص حتّى لا يختلِطُ فهمُها للقارئ بمعنى "الدِّعائيّة السّياسيّة-الإجتماعيّة المُبتذلة" وإنّما يَنْظَرُ إليها ذاكَ على أنّها ذاتُ معنىً فكريٍّ وفلسفيٍّ مُعتَبَر هو أصلُها التَّاريخيُّ والإجتِماعيْ]. لذا هو كثيراً ما اتُّهِمَ بأنّه كان هدَّاماً وليس بنّاءاً على أيِّ وجهٍ من الوجُوهِ وإلاّ، كما يتساءلُ مُتّهِمُوهُ، فما الذي وضعَهُ مكانَ ما هدّهُ من نُظِمٍ وتقاليدْ؟ على كلّ حالٍ، كثيراً ما قال شو إنّهُ، في القرن الماضي أو القرنين الماضيين، وهب لنا مُفكّرُونا الفنّانون (أو فنّانُونا المُفكّرُون) جسداً من الأدبِ الذي يُؤسّسُ نوعاً من الإنجيل. في ذلك الإنجيل- معاً وفولتير، إبسِن، تولستوي وآخرين- أضحى بيرناردشو مساهماً ليبراليّاً".
في كتاب إريك بينتلي وجدتُ أيضاً فصلاً طويلاً عن فِكرِ شو الدّينِي والفلسفِيْ. بيدَ أنّه من المُستحيلِ أن يُقدّمَ المرءُ هنا صيغةً مُيسّرَةً لذلك الفكر. على كلٍّ، ما بين أشياءٍ عديدةٍ أخرى أورد بينتلي عن شو "استخدامه جهداً ذكيّاً في الإمساكِ بكُلِّ ما هو جيّدٍ في كُلِّ فلسفةِ حياةْ..." ثمّ أردفَ على ذلكَ قولَهُ إنَّ شو يُتَّهَمُ، كلازمةٍ طبيعيّةٍ لمنحاهُ هذا، بأنّهُ "عدوُّ للمُجتمع، خصمٌ لليبراليّة ومُناهضاً للعلمِ والدّينِ معاً". وممّا يهمُّنا بما فيه الكفاية أنّ الفصلَ إيّاهُ ختم حديثَهُ عن فكر شو بالكلماتِ التّالية:- "إنّه [شو] يقُودُ حملةً... وذلكَ هو ديدنُ المُفكّر المُصلح في كلِّ العصورِ، خصوصاً في هيئته التي جسّدتها تقاليدُ "فِكريّات" القرن الثامن عشر. ألم نَدْعُ ما أتى بهِ فولتير وروسو "فِكريّات"، بالذّاتِ بسببِ تغييرِهما لمعنى كلمة "فيلسوف" حتّى صارَ لها، تقريباً، نفسَ المُحتوى الذي يتضمَّنُهُ مفهُوم شو عن "المُفكّر الأصلي" و"الفيلسوف الفنّان" الذي هو، عندهُ، مُجرّد أديب وكاتب منغمس في فِكرِ زمانِهِ وواهبٍ، بالتّالي، أجودَ طاقاتِهِ للدّفاعِ عن مَا يُؤمنُ بأنَّها الأُسُسُ الإنسانيّةُ البسيطةُ ضدَّ البِناءِ الفوقِيِّ الفاسدِ للمدنيّةِ الحديثة؟"
لا يتحدّث شو عن "اللهِ" بالمعنى المسيحيِّ المعهُودِ، بل عن الأخلاقِ الإنسانيّةْ. وإلهُهُ رمزٌ للمِثاليْ.
ربّما نستطيعُ أن نُوجِزَ أن نُوجِزَ مُجمَلَ توجّهات واهتمامات شو الفكريّة، الأدبيّة والحياتيّة في الكلمات التالية التي سبقَ واقتبسناها عنهُ:- "أنا مُتخصّصٌ في المسرحيّاتِ اللا أخلاقيّةِ والزِّنْدِيْقَةْ. لقد اكتسبتُ شهرَتِي بواسطة صراعيَ العنيدَ في سبيلِ إرغامِ الجُّمهُورِ على إعادةِ تقييمِ أخلاقيّاتِهِ". لرُبّما جازَ لنا، كما أرى، أن نُضيْفَ إلى ذلكَ العبارةَ التّالية:- "ومراجعة تفكيره في مُجملِ تصوّرِهِ لماهيّةِ المجتمع". ذلكَ هو، أيضاً، لُبُّ مُنجَزَاتِ فولتير الفكريّة والأدبيّة الزّاخرة. فالرّجلان إيّاهما قد اجترآ على الرّأيِ العامِّ حتّى يُغيّرَاهُ، كما اعتقَدَا، إلى الأفضَلْ.
الفصل الثامن
الجّنرال ديجُول
لقد قِيلَ إنّ الظّرفَ الزّمانِيَّ يصنعُ الإنسان.
في هذه السّيرةِ المُقتطفةِ من حيواتِ أفرادٍ بشريّين مُعيّنين يظلُّ مقصدُنا ليس هو، بالأساسِ، وصفَ أيِّ تفصيلٍ خارجيٍّ عن الأشكالِ البرَّانِيّةِ التي تتخّذها هاتيكَ الحَيَواتِ، بل هو إضاءةَ طبائعِ شخصيّاتها والمَلَكَاتِ التي وُلِدَ بها أصحابُها وكيفَ هم تطوَّرُوا في معمعانِ مُواجهتِهم للأحداث. لهذا الغرضِ انتقيتُ، من بينَ دفّاتِ سيرٍ ذاتيّةٍ ذاتِ صيتٍ حَسَنٍ، تلكَ الفقرات التي تصفُ السّماتِ، مواطنَ القُوّةِ والضّعفِ التي ينطوي عليها الأفرادُ إيّاهُم، فتلك كلُّها آثارٌ ناجمةٌ عن هيئاتِ حَيَواتِنا السّابقة على كوكبِ الأرضْ. وإنّه لمن شأننا وحدنا استخدام تلك الأوجه من أنفُسنا (أو أرواحنا) كما يَستَعْمِلُ الفنّانُ فِرشاتَهُ عسانا، بذلكَ، نُشكّلُ الصّيغةَ التي نُجري عليها حيواتنا، بكلِّ إضاءاتها وظلالها، ثمّ بألوانها المنسجمة والبنّاءة أو التي- لغياب انسجامها وبنَّائيَّتِها- ليس لها من نفعٍ لأنفسنا أو لرفاقنا من بنِي الإنسان.
إنَّ الأمرَ الأكثرَ إذهالاً للمرءِ في هذه الدّراسةِ هو بُطءِ تطوّرِنا. فمناقصُنا القديمةُ ذاتُها كثيراً ما تُعاوِدُ الظّهُورَ فينا، حياةً إثرَ حياةٍ، فتُلْقِيْ، بدورِها، على مسارِحِ وجُودِنا، أحداثاً مماثلةً لما سبقها هي مُحصّلةَ مناقِصنا تلكَ أو افتقارنا لسلامةِ الحُكم:- ذاكَ الزّهوُ، شهوةُ القتلِ تلكَ، ذاكَ الإعتزازُ الذّاتيُّ رُبّما أو الأَنَوِيَّة. أحياناً يستطيعُ المرءُ أن يرى كيف أنّ محاسنَ شخصيّةٍ ما تنفُذُ، مُشعّةً، من بينِ مثالبِها. فالشّجاعةُ ونُبلُ الهدفِ يحملان الرّوحَ قُدُمَاً عبرَ مصاعبِها الكبيرةِ فتتحوّلُ أخطاؤُها ذاتُها إلى قُوى بفعلِ حاجةِ الظّرفِ الزّمانِيْ. وتدريجيّاً تُعدِّلُ وتُوَائِمُ التّجربةُ الحياتيّةُ أيَّ عدمِ توازُنٍ للطّاقاتِ في الرّوحْ.
نحنُ ندركُ كيفَ أنّه إذا سارت كُلُّ الأُمُورِ كما يهوى إنسانٌ ما في جِماعِ ذلكَ الزّمنِ الحَياتِيِّ الطويلِ، وأنّه إن لم يكن هنالك ثمةُ تحدٍّ يُجابهُهُ ولا إخفاقات فسوف ينتشرُ في حنايا نفسه الباطنةِ "فائضُ قيمةِ" عواملِ سايكولوجيّةٍ معيّنةٍ، ثمّ تتّخذُ تلكَ لنفسها موقعاً حصيناً في دخيلتِهِ. إنّنا نرى كيفَ أنّ "ضَرَبَاتِ عَصَى" الحياةِ التي انهالتْ عليهِ بسببِ مثالبِ طبيعتِهِ إنّما هُنَّ مثَّلْنَ فُرصاً لهُ كي يُعدّلَ ويُعيدَ مُمازجَةَ جَواهرِهِ النّفسيّةِ عساهُ يُطوّعُ أولئكَ تطويعاً يأتي بهِ على زمنٍ ينتصرُ فيهِ على ذاكَ الذي كانَ، في نفسهِ، سبباً لمعظمِ متاعبِهِ وشقائهِ في ماضيهِ العريقِ الطّويلْ. ونحنُ، كذلكَ، نرى كيفَ أنَّ "الكارما" هي بركةُ ورحمةُ فعاليّاتِ القوانين الكونيّةْ. فبدونَ تسلسُلِ ردُودِ الأفعالِ المُعاوِضَةِ ستظلُّ الطّاقاتُ التي نُصاغُ منها على وضعيّةٍ سِكُونيّةٍ، وبالتّالي نبقى نحنُ، إلى الأبدِ، أسرى طبائعنا المِزاجِيّةِ وسائرِ مُحدّداتِنا.
هذا من ناحيةٍ. أما من الناحيةِ الأخرى فإننا، أحياناً، نكونُ محظوظينَ إذ نلحظُ، أثناءَ دراسالتنا هذه، كيف أنَّ الخصائصَ اللّطيفةَ التي طوّرتها رُوحٌ ما في ذاتِها خلال القرونِ الماضيةِ تجذُبُ إليها الحظَّ السّعيدَ الظّاهِرَ في حياتِها الحاضِرَةْ. فشجاعتُها، انشراحُها، انطباعُها الودودُ عن رِفاقِها من النّاسِ، تلهّفُها إلى فِعلِ الخيرِ، إلى النّجدةِ، كما ومثابرتُها وخُلُوُّها من الشّفقةِ الذّاتيّةِ في أيّامِ العُسرِ، كُلُّ هاتيكَ الصّفاتِ تجذبُ إليها عونَ وعطفَ أولئكَ الذين انسحروا بطبيعتِها. وهكذا- إذاً- "تُزيِّتُ" لها صفاتُها الخيّرةُ عجلاتِ الحياةِ ويبدو التّوفيقُ مُفضّلاً لها، ولصيغةِ وجُودِها، على الآخرينْ.
كي نُوسّعُ هذه النقاط سنُجري الآنَ دراسةً مقارنةً عن رُوحٍ واحدةٍ وهي في حالِ توالي ثلاث حيوات عليها "كُشِفَ" لي النّقابُ عنهُنَّ وعن صلاتِهُنَّ ببعضِهُنَّ. في هذه الثلاثةِ إمتداداتٍ لوجودٍ حيويٍّ ورُوحيٍّ واحدٍ نرى بياناً لكيفَ أنَّ المواهبَ والمَلَكَاتِ الخاصّةَ بتلكَ الرُّوحِ تجلبُ، في كلِّ حياةٍ مُفردةٍ لها، إلى مُقدّمةِ وعيِها، اهتمامها ومسلكها بفعل الظروف التي تضعها الحياةُ فيها أو، بالأحرى، التي تضعُ هِيَ فيها نفسَها.
إنَّ تِلكَ الرّوحَ التي سوفَ نتحدّثُ عنها، بتشخُّصاتٍ ثلاثةٍ لها في أزمانٍ مُختلفَةٍ، هي رُوحٌ جلبَ لها امتِيازُها الشّخصيُّ النّجاحَ والسُّمعَةَ، فيما حَوَّلَتْ مثالِبُها النّاسَ عنها فانقلبُوا عليها وسِيقَتْ إلى مصاعبٍ وخيباتْ. تلكَ الرّوحُ هي الرّوحُ الواحدةُ لكُلٍّ من كوندِي العظيم، العاهل النّمساويِّ العريق جوزيف الثّاني والرئيس الفِرنسيِّ الأسبقْ الجنرال ديجول؛ كلُّ هذه هي أسماءٌ لإنسانٍ واحدٍ تجسّدتْ فيهِ قُوى باطنةٌ كبيرةٌ وعظيمةٌ كامنةٌ، كما ومثالبٌ بارزةْ.
ونحنُ نُقدّمُ مُلخّصاتَنا لتواريخِ الحَيَوَاتِ إيّاها يجدُرُ بنا أن نذكُرَ كيفَ أنَّ التّاريخَ، حقّاً وصِدقاً، يُكرّرُ نفسَهُ، خاصّةً في الحَيَوَاتِ العديدةِ لكائنٍ إنسانيٍّ واحدْ. فحتّى يُغيّرُ ذلكَ الكائنُ الإنسانيُّ نفسهُ سيظلُّ ذلك الأمرُ، حتماً، قائماً كما هُوَ. وكما قُلنا سابقاً، نحنُ ننحتُ أشكالَ حيواتِنا الخاصّةِ وِفقاً لعاداتنا الفكريّةِ الذّاتيّةِ وصيغِ ردودِ أفعالِنا تجاه الظّرُوفِ المُحيطَةِ بِنا.
ووصلاً على كلِّ ما ذكرنا يظلُّ الأمرُ الأكثرَ روعةً في ما نحنُ، الآنَ، خائضُونَ فيهِ هو تعرّفنا على كيفَ أنّ رُوحاً ما تتحوّلُ، في ثلاثةِ قرونٍ، إلى كينونةٍ ذاتِ رغبةٍ مُتناميةٍ تدريجيّاً في أن تكُونَ خادمةً لجنسها البشرِيْ. ثمةُ استنارةٍ عقليّةٍ وشعوريّةٍ تدريجيّةٍ تجعلُ صاحبَ الرّوحِ إيّاها يستخدمُ ليس فقط مواهبه العريقة العهد، كقائدٍ عسكريٍّ، لحمايةِ وصونِ وتمجيدِ بلادِهِ وإنّما، فضلاً عن ذلكَ، يُحفّزُهُ تطوّرُهُ الشّخصيُّ واهتمامُهُ المُتناميين على العملِ في سبيلِ تحسينِ الأوضاعِ الإجتماعيّةِ لأولئكَ الذين استدعاهُ "الظّرفُ التّاريخيُّ" واقتضاهُ حاكماً عليهُمْ.
نحنُ نرى، في هاتيكَ الحَيَواتِ الثّلاث، كيف أنَّ التّناقُضاتَ المعقّدة لشخصيّةِ إنسانِها قد دفعتْهُ، في كلّ حياةٍ، "لتغييرِ مواقفِهِ". فهو، حينما كان "كوندي العظيم"، تحالفَ أوّلاً مع فصيلٍ عسكريٍّ ضمَّ نَفَرَاً من بنِي بلادِهِ، ثمّ مارسَ، هو والحزب المدعُوُّ بحزبِ "الفَرَونديّين"، حرباً ضدّ الملكِ الفِرنسيْ. ثمّ هو، بعد أن صار جوزيف الثّاني، تحالفَ مع عدوِّ بلادهِ الملك البروسيِّ فريدريك وأرغم أُمّهُ على إعطاءِ موافقتِها على تقسيمِ بولندا. وأخيراً، في شخصِ الجنرال ديجول، كان ذلك الإنسانُ بين ولاءاتِهِ لإيمانِهِ القديم، للمارشال بيتان وإدارته ولحركة المقاومة الفِرنسيّة الحُرّةِ وبين ميلِهِ إمّا إلى الإنعِطافِ نحو حلفاء روسيا أو تحقيق رغبته الخاصّة في الإرتِقاءِ بفرنسا إلى وضعيّةِ أُمّةٍ مجيدةٍ مُعتزلةٍ ومُستقِلّةْ. كلّ العالمِ يُدرِكُ أيَّ عذاباتٍ دفعها ثمناُ لذلكْ. إنّ تاريخه الخاص العريق أعطاهُ إحساساً بالحوزةِ على قوّةٍ فوقَ-إنسانيّةٍ، فهو قد شعر، عميقاً في دخيلةِ نفسِهِ، بنداءٍ يدعُوهُ إلى بلُوغِ العظمةِ القوميّةْ.
سنلحظُ، كذلكَ، تشابُهاتَ أخرى ما بينَ الحيَواتِ إيّاها في الطّبائعِ والأمزجةِ وفي كيفَ أنَّ حوادثاً هازّةً وذاتَ أهمّيّةٍ أساسيّةٍ بالنّسبةِ للرّوحِ الكامنةِ وراءها حدثتْ في نفس المواقع الجّغرافيّة:- آراس، تريفاس، دنكيرك، بوردوكس وبوّابات باريس.
عطفاً على ما سبق سنشهدُ، في ذاك الإنسان، وعياً بالعبقريّةِ، حسّاً بالقُوّةِ الشّخصيّةِ المستبطنة ذاته، ثمّ ثقةً ستتخطّى وتُذلّل جميعَ العقبات. فهو قد تعلّمَ كيف يتنفّس، عميقاً في حنايا روحه، القوى الكونيّة. إنّه قد بنى، في دخيلةِ نفسِهِ، لا ريبَ خلالَ حَيَواتٍ عديدةٍ، القُدرةَ على الإمتصاصِ النّافذِ لقُوى "اللاّمرئي". ثم هو قد استدعى إليهِ، غريزيّاً وعبر سلسلةِ ديمومةِ حيَواتِهِ المُتّصِلةِ، "قُدرَةَ الرّبِّ" ؛(كما قد تكونُ سُمِّيَتْ في مُصْطَلَحِيَّةِ العهدِ القديم)، الشيء الذي وهبَهُ قامةَ "مجدٍ" مخصُوصةً وصِفاتٍ بِطُوليّةً خَتَمضتْ بِخاتَمِها على كُلِّ فِعْلٍ صَدَرَ عنهُ.
2
دعنا أوّلاً نعرفُ شيئاً عن حياة "كوندي العظيم". سأستعينُ في حديثي هذا بمُقتبساتٍ من القاموس الإمبراطوريِّ للبيوغرافيا العالميّة ومن سيرةٍ ذاتيّةٍ كتبهاعن "كوندي العظيم" السيّد ف. ستيقملر.
لنُثبِتُ، أوّلاً، ما هو جَلِيٌّ:- نحنُ لا نبدأ دربَ عيشِنا الإنسانيِّ بـ"قُوّةِ حُصانٍ" فائقةِ العلُوِّ. فلكي يصلُ "كوندي العظيم" إلى درجةٍ من الحياةِ الديناميكيّةِ مثل التي بلغها كان ينبغي لروحهِ أن تُغامِرَ، مرّاتَ عديدة، فوقَ سماواتِ وأعماقِ الحياةِ الأرضيّةِ التي تجني، في مسارها ذاكَ، ما جنتهُ من قُدرةٍ وخشبرةٍ معاشيّةْ.
وُلد لويس دي بوربون، الذي غدا- لاحقاً- الأمير كوندي وعُرِفَ بين عمُومِ النّاسِ باسم "كوندي العظيم"، في باريس في سبتمبر 1621، وكان الإبنَ الرّابعَ لهنري دي بوربون الثّاني.
تعهّدتْ المدرسةُ اليسوعيّةُ في بورجيس بتدريسِ لويس دي بوربون المقرّر التّعليمي المعتاد في تلك الأيام فتفوّق، في تمارينه الفيزيائية ودراساته كذلك، على كلّ أقرانِهِ. وفي سنّه الثانية عشر أكمل مقرّر الفلسفة واقام مناظرات عامّة كثيرة. ولتكملةِ تربيتِهِ أرسل الأبُ الأميرَ الشابَّ إلى بورقندِي كي يتولّى مسؤوليّة الحكم هناك. في بورقندي اكتسبَ لويس دي بوربون معرفةً بكلِّ الأشياءِ المُتعلّقةِ بالإدارةِ العسكريّةِ والقضائيّةِ المحلّيِّةِ، كما وتعلّمَ، بِدأبٍ، الهندسةَ، التّحصينَ وكلَّ فنِّ الحرب. وفي عام 1940 اشتركَ، وهو ابنُ التّاسعة عشر، في حصارِ منطقةِ آراس والإستيلاء عليها فلفَتَ الأنظارَ إليهِ ببسالتِهِ الشّديدةْ.
وحتّى يعلو الأبُ بالمركزِ الإجتماعيِّ والسّياسيِّ لابنهِ الشابِّ رتّبَ له زواجاً من حفيدةِ ريشيلُو الأثرياء والمنيعين. "أعربَ الأميرُ عن نفوره القويِّ جداً من ذلك الزذواج، لكنّهُ أُلزِمَ بالإستِسلامِ لهُ" (لأسبابٍ "كارميَّةٍ" سنرى، لاحقاً، كيف أنّ هذه الصّيغة قد كُرّرتْ في حياةِ "كوندي العظيم" القادمة حيثُ غدا العاهلَ النّمساويَّ جوزيف الثّاني).
"في العام التالي سُمّي الأميرُ الشابُّ جنرالاً وقائداً عامّاً للجّيشِ الذي أُرسِلَ لحمايةِ مشارفِ شامبين وبيكاردي من الأسبان". وإثرَ سلسلةِ مناوراتٍ حربيّةٍ (في عام (1645 "أحرزَ نصراً كبيراً وتامّاً على الأسبانْ... ثمّ صارَ، بذلكَ الظّفرِ وخلافهِ من انتصاراتٍ ثانويّةِ الاهميّةِ، سيّداً على كلِّ مدى منطقةِ الموسيلي الشاسع، موغلاً، بذلكَ، بعيداً حتّى تريفاس ومُنهياً أعظمَ حملةٍ مجيدةٍ قامَ بها، أبداً، جنرالٌ في الثانيةِ والعشرينَ من عُمرِهِ..." في العامين التّاليين استلم الأميرُ الشابُّ قيادةَ الجّيشِ في الاقاليمِ الواقعةِ بينَ فرنسا وألمانيا، ثمّ "هاجمَ، في عام 1646، دُنكيرك واستولى عليها بعدَ مقاومةٍ مُستميتَةْ".
بعد موتِ أبيهِ حازَ على لقبِ "الأميرِ كوندي"، لكنّه عُرفَ، عادةً، باسمِ "السيّد الأمير". ثم خوّلتْهُ الملكةُ-الأمُّ جميع السّلطات والمناصب الحكوميّة التي سبقَ وأن تقلّدها الأمير الراحل. بيد أنّ ذلكَ ما كانَ مرضيّاً لكوندي فتقدّم، عند تنصيبِ مازارِن أدميرالاً أعلى للجّيشِ، بدعوى زعم فيها أنّهُ أحقَّ بذاكَ المنصبِ، إلا أنّ تلك الدّعوى رُفِضَتْ. أشعرَهُ ذلك النّكرانُ بحنقٍ شديدٍ ضدَّ الكاردينالِ الذي اعترتْهُ، في مُقابلِ ذلكَ، أحاسيسُ غيرةٍ مُتناميةٍ وخوفٌ من قُوّةِ، طموحِ ونفوذِ الأميرِ الشّابْ.
كانت فرنسا، في تلك الأيام، تمرّ باضطراباتٍ في منطقة فِروندي هزّتها هزّاً عظيماً وألقتْ بها في حالةِ حربٍ أهليّةٍ بين البرلمان، السّلطات المدنيّة والتّاج المَلَكي. بعثت الملكة رسولاً إلى كوندي يدعوهُ إلى سندها باستشاراته وسيفه. أجابها الأمير الشاب إلى ذلكَ وهو يشعر بالندمِ إذ أحسَّ نُذُرَاً بكوارثٍ حتميّةٍ سيسُوقُهُ إليها مسارٌ كان الإعتدالُ فيهِ، بالكادِ، مستحيلاً، فيما النّجاح والفشل متماثلان في عواقبهما المدمرة. إستمرّ النزاعُ بين حزب الملكة، المدعوم من قِبل كوندي، وبين مواطني باريس حتى ربيع 1649 حين غُزِلَتْ خيوطُ تسويةٍ لهُ. إلاّ أنّ هاتيكَ الخيُوطِ ما لبثتْ أن تناثرتْ مُزُقَاً قبلَ نهايةِ العامِ الذي نُسِجَتْ فيهِ. ولمّا كان الأميرُ، في معمعةِ هاتيكَ الأحداثِ، "مُتذبذباً ومتردداً ما بين ميله إلى العرشِن كراهيّته لمازاران (الأدميرال الأعلى للجيش) وحقده على البورجوازيّة" فإنّه أصغى، بين الفينةِ والأخرى، للجميع، لكنّه ما عامل أيّاً منهم بعدالةٍ وصراحةٍ ثمّ، من بعدِ ذلكَ، أسخطهُم كلّهُم، واحداً بعد الآخر".
ضاق مازاران رعاً بشعورِ كوندي اللامحتمل بأهميّته الشخصيّةِ وامتلائهِ بالطّموحِ السّياسيِّ فأمر باعتقاله وإرساله إلى سجن فِيْنْسَيْنَسْ.
"بعد ثلاثةِ عشرةِ شهراً من البقاءِ في الأسرِ تبدّلَ حظّهُ. فالكاردينال دي ريتز نحّى مازاران عن منصبه وأطلق سراحهُ. كان الأميرُ، إلى حينٍ، سيّداً وصاحبَ مكانةٍ عظيمةٍ، ولربّما تسنّى لهُ، وقتذاكَ، استخدامَ المكانةِ تلكَ في سبيلِ خيرِ وبركةِ بلادِهِ إن كانتْ مواهبه في الشؤونِ المدنيّةِ على ذاتِ المستوى العَلِيِّ الذي كانت عليهِ ملكاتُهُ العسكريّة. لكنّهُ، بتيهِهِ في معمعانِ الدّسائسِ "الفِرونديّةِ" [نسبة إلى "فِروندي"- المترجم] الدنيئةِ والمتشابكةِ سمحَ لنفسهِ بأن يكونَ مشوّش الخاطر خوفاً وريبةً من خيانةٍ تتهدّدُ حُريّتَهُ، بل وحتّى حياتَهُ". على كلِّ حالٍ "كان امرهُ قد بُتَّ فيهِ بالفِعلِ فأقدمَ على حملِ السّلاحِ، ثمّ نشدَ عونَ ملك إسبانيا واتّخذ مقرّ قيادةٍ في بوردوكس.
هكذا تحالف كوندي مع إسبانيا وفروندي ضدّ الملك الفرنسي لويس السادس عشر (الذي كان، حينذاكَ، في الثانيةِ عشرةِ فقط من عمرِهِ، الشّيء الذي جعل الملكةَ تتولّى منصب وليّ العهد منذ موت لويس اثالث عشر). "رأسَ حزب الملك السيّد يُوريني الذي كان، عموماً، ناجحاً حيثُما حلَّ". بعد لأيٍ، أحرز كوندي، الذي نظّم طلعةً عسكريّةً قادها بنفسه، نصراً هامّاً على حزبِ الملك.. ثمّ زحفَ إلى باريس التي أغلقتْ أبوابها في وجهِ جنوده. ثمّ تصدّتْ له، عند حاجزِ سينت آنتوين، القوّات الملكيّة فنشب نزاعٌ رهيبٌ دُمّرتْ فيهِ كتائبُهُ تماماً. كان رجالُهُ يُقاتلونَ وظهورُهُم قُبالةَ حوائطِ باريس، فيما احتشدَ جيشُ الملكِ، بقيادةِ تِيوريني، على جبلٍ مُواجهٍ لهم فحازوا، بفضل ذاك الموقع، على قصبِ سبقٍ استراتيجيٍّ (ولوجستِيٍّ) كبيرْ. كان تيوريني متقدّماً إلى موقعٍ يشنُّ منهُ هجومه الحاسم الأخير ضدَّ كوندي ورفاقهُ حينَ، بإيعازٍ من الآنسةِ المُعظّمةِ ابنةِ عمِّ كوندي، التي كانتْ تُراقبُ المعركةَ من وراءِ حجابِ الحوائطْ، "حَوَّلتْ بنادقُ الباستيل نيرانها نحو جيش الملك وأُرغِمَتْ بوابّاتُ باريس على الإنفتاحِ على مِصراعيها. تراجعَ كوندي إلى داخلِ المدينةِ وهو محميٌّ بذاتِ نيرانِ المدافعِ التي كان ينبغي لها أن تُدافعَ عن باريس ضدّهُ".
سُرعانَ ما تداعتْ أطرافُ ذلك النّزاعِ "الفِرونديِّ" اللامُجدي واستسلم قُوّادُهُ لسُلطةِ الملكْ. كانتْ الطّبقةُ البُرجوازيّةُ السّاخطةُ تُقاتِلُ، في ذلك الصّراعِ العقيم، المَلِكْ.
قرّر كوندي، الذي وقف في النّزاعِ إيّاهُ بجانبِ "الشّعبْ"، بعدَ تردّدٍ طويلٍ، أن يُغادرَ المملكة. عليهِ جَمَعَ من تبقّوا من مُواليِيْهِ وانسحب بهم من باريس، ثمّ زحفوا، بكلّيّتِهم، إلى مقرِّ قيادةِ ملكِ إسبانيا في الفلاندرز. يُعلّقُ استيقملر، في مؤلّفِهِ عن كوندي، على ذلك فيقُولُ إنّه دالٌّ على أنّ هنالكَ واحدةً من صفاتِ الفرونديّين العقيمة لم يبالغ الناس في الحديثِ عنها، وتلكَ هيَ، في اعتبارِهِ، "ادّعاءُ أيِّ فردٍ منهم أنّ له الحقَّ في الإنفرادِ بكلِّ سُلطةٍ، فقط لكونِهِ فِرونديّاً نبيلاً"... "فجميعُ أولئك القوم"، يُمضي استيقملر قائلاً، "مُنصبغِينَ بذاتِ إحساسِ العظمةِ الفرديّةِ الذي انصبغَتْ به العائلة الملكيّة نفسها. وبما أنّ كوندي كان متطرّفاً في إحساسه بمجده الشّخصيِّ أكثرَ من غالبيّةِ الفِرونديّين الآخرين فإنّه فضّل أن يدخُلَ في خدمةِ ملكِ إسبانيا وعرشِها قبلَ أن يستسلم لسُلطةِ ملكِ فرنسا".
لسبعِ سنينٍ قاتل كوندي مع ملكِ إسبانيا ضدّ بلادهِ. وآخر الحروباتِ التّي شاركَ فيها، حينذاكَ، كانت موقعةً عُرِفتْ باسمِ "موقعةِ المُنحدراتْ" غصبتهُ هيئةُ الجنرالاتِ الإسبانيّةِ على خوضِها رُغم تقديرِهِ الحسَنِ الذي أوصى بخلافِ ذلكْ. أسفرتْ تلك المعركةُ عن استسلامِ إقليمِ الدَّنكيركْ لفرنسا والإذلال التام لإسبانيا. وفي المعاهدةِ السِّلميّةِ التي تلت ذلك تمّ العفوُ عن كوندي وإعادةُ كلِّ عقاراتِهِ إليهِ. كذلكَ تمّ ردُّ الإعتبارِ والممتلكاتِ لكلِّ مناصريهِ اللذينَ تبعوهُ إلى خارجِ فرنسا. وفي مقابلةٍ مع الملكِ لويس السادس عشر وعد العاهل الفرنسي بأن لا يُشيرَ، أبداً، ثانيةً، إلى الحادثةِ التي كانتْ مؤذيةً فقط للأميرِ نفسِهِ".
إنصرفَ كوندي، من بعد ذلك، عن باريس إلى منزله الرّيفيِّ الفخمِ في شانتلِي حيثُ سرَّى عن نفسِهِ بإدخالِ تحسيناتٍ عليهِ.
في السّنينِ التي تبِعَتْ تلك الاحداث قاد كوندي، مرّةً أخرى، كتائبَ الملكِ في حملاتٍ على إقليمِ الفلاندرز الإسبانيِّ وهولندا. "ومُظهِرَاً، كالمعتادِ، درجةً عاليةً من القدرةِ والشَّجاعةِ، خاصّةً في استغلالهِ الذّكيِّ لمعبرِ نهرِ الرّاين في مواجهةِ العدُوِّ حيثُ تلقّى رُصاصةً مزّقَتْ رِسغَهُ. أدّتْ بهِ تلكَ الإصابةُ إلى الإعتذارِ عن قبُولِ قيادةِ الجّيشِ، التي منحها لهُ الملكُ في العامِ التّالي، وقضاءِ أيّامِ اعتزالِهِ الحياةَ العامّةَ في شانتلِي حيثُ استمدَّ أعظمَ مُتعةٍ له من تزيينِ أوقاتِ تقاعُدِهِ المليحةِ مُبتهجَاً بصُحبةِ رجالاتِ الأدبْ".
تُوفّي "الأمير كوندي" في عام 1686.
هكذا مُكّنّا من دراسةِ كيفَ أنَّ القُدراتِ الواسعةَ لتلك الرّوحِ قد أُضعِفَتْ بإحساسِ شرفٍ شخصيٍّ وعظمةٍ مُبالغٍ فيهِ هو كفيلٌ بتضخيمِ ذاتِ الفردِ الإنسانيِّ منذُ شبابهِ وما بعدِهِ، الشّيءُ الذي يطبعُ بطابِعِهِ على روحهِ حتّى في عهودِ شَتّى حيواتِهِ المُستقبليّةْ.
يجبُ عليَّ أن أردّدَ هنا أنّني، لكوني لستُ طالبةَ تاريخ، لا أحوزُ على معرفةٍ بقصصِ حَيَواتِ تلكَ تلكَ الشّخصيّاتِ التي أُعْطِيَتْ لي أسماؤُها للدّرْسِ والمُقارنةْ. فأنا ما علمتُ شيئاً عنهُم إلاّ بعد أن أُخْطِرْتُ بأسمائِهم.
3
أُعلِمتُ أنَّ تلكَ الرّوحَ عينَها قد انتسختْ، في القرنِ الثامن عشر، في شخص الإبنِ الأكبرِ لماريا تيريزا، إمبراطور النّمسا. في هذه الدراسةِ سأقتبسُ تفاصيلَ خاصّة بسيرةِ الشّخصيّةِ المعنيّةِ عن كتابٍ عنوانه ماريا تيريزا ألّفهُ إدوارد قِرانشكو، وعن القاموس الإمبراطوري العالمي للبيوغرافيا، وعن كتابٍ آخرٍ عنوانه جوزيف الثّاني ألّفهُ س. ك. رادوفا.
كان جوزيف هو الإبن (الطفل المثالي) الذي طالما تاقتْ أمه ماريا تيريزا، إمبراطورة النّمسا، لمجيئهِ إلى الدّنيا. وُلِدَ ذاكَ الإنسانُ المُنتظرُ في فينّا في الثامن عشر من مارس 1741.
قِيلَ أنّ ماريا تيريزا قد حملتْهُ، وهو طفلٌ رضيعٌ، على ذراعيها حتّى يُعينُها في التماسٍ عاطفيٍّ لدي المجريّين المتعصّبين في بريسبيرق عساهم يُساعدوها في حمايةِ حقوقها الوراثيّةْ. (أكّد جوزيف، فيما بعد، أنّ أمّهُ قد قرصتْ مؤخّرتهُ، حينذاكَ، حتّى تجعلهُ يُبكي في اللحظةِ المناسبةْ- كانتْ تاكتيكات الملكة ناجحةْ). تلقّى جوزيف الصّبيُّ تعليماً وعنايةً تربويّةً حريصةً على أيدي عددٍ من المُدرّسينَ الخُصوصيّين، كما وتعهّدَ اليسوعيّونَ بتعليمهِ الدّينِيْ.
"تفوّقَ في التمارينِ الرياضيّة وكان، في شبابه، متحرّقاً إلى أن يُشاركَ في التدريباتِ العسكريّة... في سنّ السّادسةِ عُهِدَ لهُ بإمرةِ لواءٍ حربيٍّ خاصٍّ بهِ فانبرى منذراً القيادة العليا للجّيشِ "الهاوقفتس" حينَ تناقشتْ في أمرِ إجراءِ إصلاحاتٍ كبيرةٍ على هيئةِ لوائهِ ذاك. قال، وقتذاك، مخاطباً، بعجرفةٍ، "الهاوقفتس":- "أحّذّركم من أن تَمَسّوا لوائيَ الخاصَّ بأيٍّ من إصلاحاتِكم تلكَ، فأنا لن أسمحَ بها".
هذا الحادثُ الباكرُ الصّغيرُ يؤشّرُ لنا على "القاعدةِ المفتاحيّةِ" التي صِيغتْ، على مِنوالِها، شخصيّةُ الأميرِ الشابِّ الصّاخبة. قال قِراشِنكو معقّباً عليهِ:- "إنّ إلقاءَ التّبعةِ واللّومِ، عند استجلاءِ مثالبِ طبيعةِ جوزيف، على تنشئةٍ خاطئةٍ، كما حدثَ معهُ بتواتُرٍ، ليس من الإنصافِ في شيء. فأخواه شارلس وليوبولد قد أنشآ، بالضّبطِ، على ذاتِ النّهجِ، إلاّ أنّهما اختلفا في طبائعهما عنهُ. الشّاهدُ على ما نذهبُ إليهِ هو أنّ شارلس قد انطوى على طبعٍ هيّنٍ وسطحيْ. أمّا ليوبولد، رُغم أنّه ما كان واعداً في صباهِ، فقد تحوّلَ، في شبابِهِ، إلى إنسانٍ مُتميّزِ الشّخصيّةِ تطوّرَ، لاحقاً، إلى شخصٍ أحكَمَ، أرأفَ وأثرى الحُكّامِ خيالاً في عهدِهِ.
"نظر جوزيف إلى مجرياتِ أحوالِ أُمّهِ، أبيهِ، أخويهِ وإخواتِهِ، في البدءِ، بتحفّظٍ سئِمْ، ثمّ سُرعانَ ما تنامى فيهِ ذلكَ إلى ازدراءٍ مُفْتَرٍ"... "مع جوزيف ما كان لنظام تنشئةٍ ما أن يثبتَ فعاليّتَهُ. ذلكَ لأنَّهُ لا قلبَ لديهِ. وحتّى لو أخذنا علاقته العاطفيّة المتأخّرة مع إيزابيلاّ المسكينة في الحُسبان فلن يُغيّرُ ذلك من أمرِهِ شيئاً. فهو على أتمِّ ما يمكنُ للإنسانِ الأنويِّ القَحْ. وما عاطفتُهُ المعتزلةُ سوى، ببساطةٍ، وجهٌ آخرٌ من وجوهِ أنويّتِهِ. إنّه ما كان شاعراً بحضورِ إيزابيلاّ فيهِ كإنسانٍ حيٍّ، فهي قد كانتْ، باختصارْ، "شيئاً" غذّى فيهِ حُبّهُ لذاتِهِ". تلكُم كانتْ ملاحظةً عبّر بها قِراشِنكثو عن طرفٍ من مُلاحظاتِهِ حولَ طبيعةِ شخصيّةِ جوزيف الثّاني.
جُلِبَتْ إيزابيلاّ البارميّة [نسبةً إلى "بارما"] من إيطاليا في سبيلِ مصاهرةٍ ذاتِ أهمّيّةٍ سياسيّةٍ لعائلةِ آلِ هابسبيرق المالكة وابتداراً لخطوةٍ نحو تعزيزِ الرّوابطِ بينَ مارسيليا وفينّا عبرَ تزويجِ جوزيف الثاني لامرأةٍ من آلِ بوربون، رُغم أنّ الشّابيّنَ إيّاهما ما التقيا أبداً. وعندما ماتت إيزابيلاّ، بعد ثلاث سنوات من عقد قرانها وجوزيف، غُصبَ جوزيف، عُنوةً واقتداراً، على أن "يَعقدَ"، مرة ثانيةً، تحالفاً سياسيّاً وامرأةً أخرى هي جوزيفا. كانتْ جوزيفا تلك "بغيضةً إلى نفسِهِ"، الشيء الذي دفعَهُ إلى معاملتِها بـ"برودةٍ تامّة" .
ليس لجوزيف أبداً أن يُستَمَالْ. فالإستِمالةُ تعني، ضمنيّاً، قبُولَ المرءِ لوجهاتِ نظرٍ أخرى، وهو لا يستطيعُ شيئاً في هذه الدّنيا سوى أن يقودَ ويأمُرْ. كانتْ العثرةُ الوحيدةُ في دربِ مرتقاهِ السّياسيِّ هي وصيّة أمّهِ، ولكنَّ حتّى تلك كانتْ، بالكادِ، أكبرَ مما يستطيعُ احتمالَهُ. كان، بالطّبعِ، محتشداً بالأفكارِ التي ما جانبَ العديدُ منها السّداد. لكنّ إصلاحاتُهُ ما نبعتْ من حبّهِ لشعبِهِ، أو حتّى شفقتِهِ عليهِ- يقفُ شاهداً على ذلك المسغبةُ التي أصابتْ فلاّحِي بوهيميا- وإنّما من حُبٍّ للذّاتِ مُطوَّعٍ بِمُثِلِ عدالةٍ مجرّدةٍ ومن ازدراءٍ لكلِّ من اختلفَ معهُ. كان مستيقناً من أنَّ عائلةَ آلِ هايبسبيرق المالكة يجب أن تُساقَ، بالسّياطِ، إلى ان تتّخذَ شكلاً يكونُ جديراً بامتيازه الفرديِّ كأوتوقراطيٍّ "أصيلْ". أمّا ما فهمهُ من معنى تحسينِ الظّروفِ المعاشيّةِ لشعبِهِ وناسهِ فما تعدّى سحقَهُ، بغامرِ الشّغفِ والبهجةِ، لليسوعيّين وضبطه وربطه لأرستقراطيّةٍ ممقوتة. مرّةً أخرى اتّخذَ (على طريقتِهِ الخاصّة) ذلكَ الإنسان الذي صارَ
" جوزيف الثاني" في القرن الثامن عشر الميلادي جانب الشّعب والعامّة ضدّ النّبلاءْ.
كان جوزيف ليس سوى طفلٍ في السادسةِ من عمره حين كتب عنهُ بوديولس، وزير فريديك الأكبر، إلى سيّدهِ قائلاً:- "إنّ مُحيّاهُ يعكسُ الكِبَرَ والعجرفةَ، كذلك سلوكه... فهو له أرفع تصوّرٍ عن مقامهِ الإجتماعيِّ-السّياسيْ.. حاول الإمبراطور أن أن يُخلّصهُ من أمثالِ تِلكَ الإنطباعاتِ المزهُوّة، لكن حبّه العظيم للصبِيِّ أضعفَ سلطتهُ عليهِ... في السادسةِ كان، بالفعلِ، قد صار ذا سُمعةٍ شُهِرَتْ بتجاهلها الصّارخِ لكلِّ أولئكَ الذين حوله ممن لم يكونوا على أرفعِ الدّرجاتِ اجتماعيّاً (وسياسيّاً)، ثمَّ هو سخر، كذلكَ، أمام الملأ، من المقام الإجتماعيِّ- السّياسيِّ لعائلةِ أبيهِ"... "كانتْ ماريا تيريزا مصمّمةً على وضع نهايةٍ لهذا النوع من الإنتفاخِ الفارغ" فكتبت إلى مدرّسيهِ الخُصوصيّين، كما روى لنا عنها قِراشنكو، عن "أولئكَ الذين دلّلوهُ كثيراً وسمحوا له بأن يُنمّي في ذاتِهِ تصَوّراً فجّاً عن مكانته الرفيعة. إنّه يتوقّع أن يُشرّف ويُطاع ويجدُ أيَّ انتقادٍ له غير لطيفٍ، بل ليس مسموحاً بهِ تقريباً... هو يسلُكُ دائماً بطريقةٍ خاليةٍ من التّهذيب، بل فظّة. هذا ينبغي له أن يُوقفْ".... "لكنّه كان شخصاً صلداً أصمّاً، وكلّ الصّفاتِ التي آيستْ أمّه منهُ وهو لمّا يزلُ في روضةِ الأطفالِ بقيَتْ معهُ طوالَ أيّامِ حياتِهِ فظلّ، دوماً، مُتحرّشاً، فظّاً، هلوعاً ومُرّاً... إعترضتْ أمّه على سوءِ معاملته اليسوعيين وتحرّشه بالنّبلاء... ثم هي، أيضاً، اعترضت، أشدّ كثيراً من ذلكَ، على الطّريقةِ المتعجرفةِ المتعالية التي هاجمهم بها. كانت عالمةً، كذلك، بكلّ شيءٍ عن طموحِهِ، فوق كلِّ شيءٍ آخرٍ، إلى الفخامةِ الشّخصيّةِ والمجدِ الحربيْ. وعندما أنبئَتْ، في مرّةٍ من المرّاتِ، أنّ ابنها، مهما غدا على أشدِّ ما يكونُهُ من غلظةٍ وقسوةٍ، هو في جانب الملائكة ما دام مهتمّاَ بشؤونِ المغلوبين والمسحوقين لابدَّ أنّها تساءلتْ
دانِي كَيْ
1
أنا قد عُلّمتُ، حاليّاً، أنّ من تقدّموا علينا الرّكبَ، رُعاةُ الجّنسِ البشريِّ، أعضاءُ هيئةِ الموظّفين السّماويّين يستعملون أنفسهُم، في الأبعادِ اللامرئيّة، وسائلاً للألُوهيِّ. ومبعثُ سرورِ هؤلاء، وواجبهم أيضاً، هو أن يسكبُوا ما يستطيعُوا من حكمةٍ وبركةٍ على أرجاءِ كوكبِ الأرضْ. إنّهم لمشغُولون بنشدان الوسائطِ المِطواعةِ التي تستطيعُ، بدورها، استقبال الإلهام من المقامات العُلى (كثيراً ما يكونُ التّنوّعُ في مواهبِ الرّوحِ في حَيَواتِها المتجسّدة المختلفة راجعاً إلى تغيّرِ الكينونةِ الحافظةِ لها، ومن ثمّ تغيّر طبيعةِ الإلهامِ المُنسربِ إليها).
ليس لنا أن نُسمّي قِدّيسي الكنيسةِ فقط وسائلاً للأُلُوهيِّ. فهنالكَ الكثيرون مِن سِواهِم ممّن قد يندهشونَ إن همو قد أُخبِرُوا بأنّهم الآنَ، أو أنّهم كانوا، قنواتٍ للقُوى الإلهيّة. أولئكَ ليسُوا فقط أساقفة، شُعراء، حُكماء، ومن لفّ لفّهُم، إذ أنّهم كثيراً ما يكونُوا أُناساً بُسطاء، رجالاً ونساءاً على تواضعٍ ووداعةٍ في النّسبِ العائليِّ والرّسالة:- كُتّاباً، مُغنّين وفنّانين ترفيهيّين يُبهجُونَ سامعيهم وينغّمُونَ الرّوحَ بمرحِهِم، برقصهِم وبغنائهم.
يبدو أنّهُ، في العديدِ من الحالاتِ، تستعملُ القُوى الكينُونيّةُ القيّومةُ أمثالَ هؤلاءِ الرّجال والنّساء ليُعينُوا العالمَ على مناطقِهِ الضّبابيّةِ، يزيلُوا عن القلبِ غُمَّهُ ويستحفزُوا جسارةَ المرءِ على المُضيِّ قُدُمَاً في الحياةْ.
ثمةُ أفرادٍ من النّاسِ، رُغمَ كونِهِم متواضعي الحسب والنّسب وبسيطين في معرفتهم بدروبِ هذه الدّنيا، قد سخّروا أنفسَهُم، في الماضي، في سبيلِ أن يكونوا ذُخراً حقيقيّاً للحُبْ. أولئكَ يفيضُونَ بالحبِّ، سخِيّاً ووهّاباً، كما تفيضُ الشّمسُ بضوئها على الآفاقْ.
كان من بينَ أولئكَ النّفرِ من الأُنسِ هانز جرستِيَنْ أندرسون. وفي زماننا هذا ينتمي إليهم دانِي كَيْ. هذان، أعلمُ الآنَ، هما رُوحٌ واحدةْ.
إنّ دانِيْ كَيْ، دون شكٍّ، لعبقريٍّ في فنِّ التّرفيه. إنّهُ يملأُ نفسَهُ بقوّةِ الحُبِّ والبهجةِ ويمنحهما لكلّ العالمِ مُباركةً وإنعاشاً نافذاَ.
تستوطنُ رُوحُ الشّعرِ وبهجةُ الحبِّ اللألاءةُ ذاتَي كلٍّ من الفنّانين التّرفيهيّين المُحتفى بهما، وأيٌّ منهما له مشاهدون في شتّى أرجاءِ العالمِ الوسيعْ. الضّحكةُ نُورٌ. إنّها "مَتَاعُ" الملائكةِ، غذاءُ الرّوحِ السّامي.
قَارِنْ بين وجهي هذين الرّجلين وسترى أنَّ تشكيلَ عظامهما مثتشابهٌ إلى حدٍّ مُدهشْ. كما وستلمسُ، كذلكَ، ذاتَ التّعبيرِ العذبِ على مُحيّيهِما، وذاتَ المودّةِ المُنفتِحَةِ على الأطفالْ.
كلا الرّجلين انحدرا من خلفيّةٍ متواضعةٍ، ثمّ صارا قُدوةً للعالمْ.
سأقتبسُ هنا مقاطعاً عن حياةِ أندرسون من أوتوبيوجرافيّتِهِ الخاصّةِ، ثمّ من كتابٍ آخرٍ حديثٍ عنهُ ألّفهُ ريُومرْ قَوْدِنْ.
"هانس جِرِسْتِيَنْ أندرسون هو صبيٌّ جُبِلَ من الحُبْ". ذلكَ لأنّ شُعاعاً شمسيّاً قد اخترقَ دربَهُ، كما قالَ هو ذاتُهُ عن نفسهِ في الكلماتِ الخاتمةِ لسيرتِهِ الذّاتيّةْ.
وُلِدَ هانس جِرسْتِيَنْ أندرسون في أودينسِي بالدينمارك في عام 1805. كانتْ عائلتُهُ فقيرة، فأبُوهُ كان يعملُ أُسكافيّاً. أمّا جدّاهُ فقد عاشا حياة مزارِعَيْن ثريّين، ثم أودتْ بهما الأيّامُ الشّؤمُ إلى شظفِ العيشْ. نشأ الصبيُّ هانس مشمولاً بالرّعايةِ الرّؤومِ لعائلتِهِ، فلقد كان أثيراً عندها.
كتبَ عن هذا الحبِّ الوَالِدِيِّ فقال:- "عاشَ أبي من أجلِي وأنفَقَ كلَّ زمانِ فراغِهِ في صًنعِ اللّعبِ والصّورِ لي". قرأ أباهُ عليهِ ما لا يُحصى من الحكاياتِ، كما ونحتَ لهُ عرائسَ لمسرحِ دُماهِ الصّغيرْ. قضى الطّفلُ هانس أوقاتَهُ ينسجُ الحكايا لنفسِهِ حولَ عرائسِ مسرحِ الدّمَى ويُلبشسُ هاتيكَ قِطعَ قُماشٍ مُنتخبَةٍ يأتي بها من الجّيرانْ. علّمتْهُ امرأةٌ عجُوزٌ القراءةَ والكِتابةَ فأضحى، بسُرعةٍ كبيرةٍ، قارئاً لشكسبير في بيتِ أحدِ الجّيرانْ.
كان لهانس الصّبي صوتٌ غِنائيٌّ جميلٌ وحزْمةٌ من الشَّعَرِ الذّهبيْ. تاق إلى أن يكونَ مُمثّلاً. لذا عندما بلغَ الثّالثةَ عشرةَ من عمرهِ غادر البيتَ، بنقودٍ قليلةٍ من فئةِ "الشّلنِ"، إلى كوبنهاجن ناشداً حسن التّوفيقْ. وحينما كانتْ أمّهُ تُبدي استياءها من فِعلِهِ ذاكَ كان دائماً يُسري عنها بقولِهِ إنّه سيُصبحُ مشهُورَا.
هذه الثّقةُ، التي كثيراً ما نلمسها في أولئكَ اللذينَ قُيّضَ لهم النّجاح، تُخبِرُ عن حظٍّ جميلٍ في حياةٍ سالفةٍ انطبعتْ ذكراها عميقاً في هامشِ الشّعور- ذلكم هو حظٌّ جميلٌ كان لهُ أن يُكتَسَبْ.
كان صبيّاً عميقَ التَّدَيّنْ. واللهُ، في مرآةِ شعُورِهِ، كان خليلاً حميما... كثيراً ما وصفَ نفسهُ بأنّهُ "طِفلُ قِسمةٍ سعيدةْ". كتبَ عن ذلكَ قائلاً:- "حينَ نزلتُ إلى اليابسةِ في زِيلاندْ ذهبتُ خلفَ ظلٍّ عند الشاطئ وركعتُ على رُكبتَيَّ مُصلّياً للهِ أن يُعينَنِي ويُهدِيْنِي. بعد ذلك شعرتُ بأنّيَ أُسْرِيَ عنّي فوضعتُ ثقتِي في اللهِ وفي حظّيْ".
بعد تذبذُباتٍ كثيرةٍ وافقَ سِبَوْنِي، مُعلّم الغناء في المسرحِ المَلَكيِّ، على اتّخاذِهِ تلميذاً لهُ فجمعَ رجالٌ ذوي شأنٍ تبرّعاتَ من بينِهم عوناً لهُ على معاشِهِ.
تاقَ هانس ج. أندرسون، أيضاً، إلى أن يُصبِحَ راقصاً. ثمّ مثّلَ أدواراً صغيرةً عديدةً على المسرح. لكنّهُ قالَ عن نفسِهِ إنّه كانَ، حينذاكَ، "أنحفَ ممّا ينبغي، طويلاً نحيلاً". ويذكُرُ، عن تِلكَ الفترةِ، قولَ مُديرِ المسرحِ لهُ:- "المسرحُ يقبلُ فقط الأشخاصَ الشّباب المتعلّمين" وتأثّرَهُ بذلكَ الكلامِ حتّى فاضتْ دمُوعُهُ، القريبةُ أبداً إلى عينيهِ، على خدّيهِ.
بدأ كتابةَ تمثيليّاتٍ وشعرٍ، لكنّهُ أُنبِئَ بأنّه ينبغي عليهِ أن يتعلّمَ تعليماً مدرسيّاً. كانت لهُ موهبةٌ في خلقِ صداقاتٍ مع أشخاصٍ ذوي مقاماتٍ اجتماعيّةٍ رفيعةٍ أعانُوهُ كثيراً على صعابِ حياتِهِ. أثمرتْ صداقاتُهُ تلكَ لقاءاً مع المَلِكِ هيَّاهُ لهُ أصحابُهُ واختُتِمَ بإنعامِ الأخيرِ عليهِ بمِنحةٍ من الخِزانةِ العامّةْ.
كانتْ أيّامُهُ المدرسيّةُ، كما وصفَها، "كئيبةً ومريرةً". وهنالكَ قالُوا له إنّهُ سوف لن يُصبِحَ شاعراً أبداً، بل "رُبّما سينتهي بهِ المآلُ إلى مُستشفىً للأمراضِ العقليّةْ".
أنبأنا هانس أنّهُ جلسَ لامتحاناتهِ المدرسيّةِ في الثالثةِ والعشرين من عمرِهِ. "لكنّني كنتُ، حينذاكَ، ما أزالُ أشبَهَ كثيراً بطفلٍ في شخصيّتِي وطريقةِ حديثِي معاً"، قال مُعلّقاً على ذلكْ. ظلَّ، في المدرسةِ، كاتباً المسرحيّات والأشعار. وافق المسرحُ، أخيراً، على أن يعرِضَ أحدَ مسرحيّاتِه. "صرتُ مُفعماً بالبهجةْ. وبدأ كلُّ منزلٍ يفتحُ أبوابَهُ لي فتنقّلْتُ بينَ حلقةٍ خُصُوصيّةٍ من النّاسِ وأُخرىْ في رِضًىً مُبارَكٍ عن الذّاتْ... طُبِعَ أوّلُ كتابٍ شعريٍّ لي... ترامتْ الحياةُ أمامي مُستحمّةً بالضّوْ". هكذا وصفَ شعورهُ آنذاكْ. ثمّ واصلَ الحديثَ فقالَ إنّهُ، حينما دعاهُ امرئٌ شاعراً، فاضتْ عيناهُ بالدِّمُوعِ التي تُواتيهُ بسهولةٍ، في حالِ الإنشِراحِ، كما وفي حالِ الأسى.
كان بسيطاً، ساذَجَاً، طفُوليَّاً حتّى نهايةِ عهدِهِ في هذه الدّنيا تقريباً:- "كان كلُّ فردٍ من النّاسِ يقولُ عنّي إنّني قد أُفْسِدَ طبعي تماماً بالمديح. لكن أصدقائي قد فهموا- الآنَ- أنَّ ما بِي ما كانَ زهواً أو تِيهاً، بل سروراً بكُلِّ ذلكَ الذي أنعمَ اللهُ بهِ عَلَيَّ..."
مضى هانس، في هذا السّبيلِ، قائلاً:- "إنّهُ لمن المُتعِبِ القراءةَ عن الدّمُوعِ المُستمرّةِ، السّعادةِ الوحشيّةِ، ثمّ إنّه أكثرَ إتعاباً أن تُعانيهُم! وهانس أندرسون هو إنسانٌ أُبْلِيَ، في العديدِ من أحوالِهِ، بعواطِفِهِ التي كانتْ تجلدهُ جلداً".
قال أصدقاءهُ إنّه ينبغي عليهِ أن يُصيرَ رجلاً راشداً. وهبهُ الملكُ مِنحةَ تِرحالْ. ومن زياراتِهِ الأولى لإيطاليا جاء أوّل كُتُبِهِ النّاجحةِ حقّاً:- قصّة حياتي. أحدثَ الكتابُ ثورةً في الرّوايةِ الدنماركيّة. وفيما هو مُنتظِرٌ صدُورَهُ للجّمهورِ بقلقٍ مُمِضٍّ ومُسقِمٍ كتبَ قصصهُ الخياليّة.
سُرعانَ ما اصبحَ مشهوراً وتِبعهُ الأطفالُ على الشّوارعْ. وما أن جمعَ مالاً قليلاً حتّى اعتنى، عنايةً كبيرةً، بمظهرِهِ. لقد أحبَّ الملابس البديعة. ها هو- الآنَ- يرتدي مِعطفاً مُخطّطاً بالمِخْمَلِ، قُبُّعةً عاليةً ويُرسلُ شعرَهُ مُموَّجَا. زارَ، على أيّامِهِ تِلْكَ، منازِلَ علِيَّةِ القومِ "جَنتِلماناً" أنيقا. انتشرتْ قصصهُ في كلّ أنحاءِ العالمْ. أحبَّها الرّاشدُونَ والأطفالُ معاً.
"منذُ تلكَ اللّحظةِ وُلِدَ نَثْرٌ جديدٌ في الأدبِ الدّنماركي:- ظُرْفَاً ولوناً، طزاجةً وبساطةً... أُخبِرْنَا، في الإنجِيلِ، أنَّ اللّهَ قد خلقَ الإنسانَ من تُرابِ الأرضِ ونفخَ في مِنْخَارَيْهِ فصارَ الإنسانُ رُوحاً حيَّةْ. بدون أيِّ انتهاكٍ لقداسةِ الدِّينِ قد يُمكنُ القولَ إنَّ هانس أندرسون قد فعلَ، أيضاً، شيئاً مثلَ ذلكْ. فهو شكّلَ أقاصِيْصَهُ من ذرّاتِ تُرابِ الأرضِ، وكان نَفَسَهُ مُفْرَدَاً... إنّ ما ابتَدَعَهُ كان سيمياءاً من الحِكمةِ، الشّعرِ، المَرَحِ والبراءةْ". هكذا قال عنهُ رِيُومَرْ قَودِنْ.
"كثيراً ما يبدو"، كتب هانس أندرسون، "أنَّ أيَّ سورٍ وأيَّ زهرةٍ صغيرةٍ يُحادثَانِي فيقُولُ كُلٌّ منهُما لي:- "أُنظُرْ إلَيَّ، فقط للحظةٍ، وستنسربُ قصّتِي إلى دواخِلِكَ مُباشرةً..."
أُحْتُفِيَ بهانس، في زمانِهِ، أينَما حلَّ. وفي سِنَّيْ حياتِهِ الأخيرةِ كان الأطفالُ معهُ دوماً. كانُوا يتقاطرُونَ، آنذاكَ، لرؤيتِهِ وهم مُحمّلُونَ بالأكاليلِ والقُبَلْ. والأمَّهَاتُ كُنَّ يدعِينَ اللّهَ، إثرَ كُلِّ زيارةٍ لهُ، أن "يُبارِكَهُ ويَهَبَهُ السّرُورْ"... كتبَ ذاتَ مرّةٍ:- "كم مُشرقٌ ولطيفٌ هو العالمُ! كم طيّبُونَ هُمُ النّاسُ! إنّها لبَهْجَةٌ أن يحيا الإنسان!... ليس من الزّهوِ بالنّفْسِ قولِي إنّنِي ابنُ الحظِّ السّعيدْ. وكثيراً ما أتساءلُ، بقلبٍ متواضعٍ، لماذا خصّنِي ربُّنا، أنا بالذّاتِ، بكُلِّ هذهِ المَسَرَّةِ العظيمةِ، بكُلِّ هذه المُبارَكَاتِ العديدة؟"
2
عن حياة هانس جرستين أندرسون المستقبليّة المثتناسخة في شخص داني كيْ ليس، على حدّ علمي، هنالكَ أيّ سيرٍ كثتِبَتْ. لذا سأقتبسُ ممّا أستطيعُ الإلمامَ بهِ من الذي عرفهُ الجّمهورُ العامُّ عنهُ في المقالاتِ واللقاءاتِ الصّحفيّة والتعليقاتِ الإذاعيّة والتذلفزيونيّةْ. الآن أمامي مادّةٌ، منشورةً بمجلّةٍ، تصفُ مراحلَ سيرِهِ المِهنِيَّ وتُدعّمُ ذلكَ بإشاراتٍ (ملاحظاتٍ) اقتُطِفَتْ من تأبينٍ لهُ قُدّمَ في الإذاعةْ.
هرب دانيال كيمنسكي وعائلتُهُ من روسيا واستقرّوا بالولاياتِ المتّحدةِ الأمريكيّةْ. كان طفلاً مُشرِقَاً كالشّمسِ ومن بواكيرِ ما رُوِيَ عنهُ أنّهُ شنّجَ بعضَ الحاضرينَ بالضّحِكِ عندما كان تلميذاً بالمدرسةِ، في السادسةِ أو السّابعةِ من عُمرِهِ. حلُمَ دانيال، في عهدِ صباهِ، بأن يُصيرَ طبيبا- كان دوماً مهتمّاً بعلاجِ المرضى. لكنّ عائلتَهُ ما استطاعتْ توفيرَ ثمنِ التّدريبِ اللازمِ لذلكْ. لذا اتّخذَ من بعضِ المِهَنِ الهامشيّةِ مورداً لرزقِهِ، ثمّ اتّجهَ لهوايةِ التّمثيلِ وجعلَها وسيلةً للتّعبيرِ الذّاتِيْ. تدريجيّاً نَضُجَتْ هذه الهوايةُ فيهِ وأزهَرَتْ شُغلاً في فنِّ الكبارَيه وفي خشبةِ المسرَحِ المِهنِيِّ فغدا مُغنّياً، راقصاً، كوميديّاً، مُقلّداً للنّاسِ، الكائناتِ والمواقفِ ومُشخّصاً عبقريذاً. ذهبَ إلى لندن في عام 1938، لكنّ عرضَهُ هناكَ ما كُتِبَ لهُ النّجاحْ. وفي عام 1839 قابلَ فتاةً ألّفتْ لهُ أغنياتٍ مُخصّصةً لأدائِهِ. تزوّجا وصار هو فنّاناً ذا صيتٍ في برودوَيْ. ألّفَ، حينذاكَ، أفلاماً ونجحَ فيها، بخاصّةٍ في أدوارِ تمثيلِ الشّخصيّاتِ المُتميّزةْ. ثمّ لمعَ في الفِلمِ الأعظمَ جماهيريّةً في عهدِهِ والرّاوي لحياةِ هانس جرستين أندرسون (ليستْ هذه هي المرّةُ الاولى التي عرفتُ فيها رجلاً ما "سِيْقَ" إلى التذمثيلِ في فِلْمٍ عن عينِ حياتِهِ الماضيَةْ).
"لم يَطْمِسْ نجاحُهُ، في ذاتِهِ، وفاءهُ العظيمَ واهتمامَهُ بقضايا المُبتَلِِيْنَ والمساكينَ من النّاسِ مثل الاطفالِ المرضَى واللاجئينْ. فلقد جابَ أنحاءِ العالمِ وهو يشتغلُ على حديثٍ مُعقّبٍ على فِلْمٍ لليونسيفْ (المنظّمة العالميّة لرعايةِ الطّفُولةْ). والكثيرون قد أُخِذُوا وتأثّرُوا بطريقتِهِ الحنِيْنَةِ والرّائعةِ في حثِّ الأطفالِ المرضَىْ والجَّوْعَىْ على اللّعبِ والإنطِلاقْ". هكذا قالتْ عنهُ مادّةُ المجلّةِ التي ذَكَرْتْ.
إبتدعَ دانيال فكرةً جديدةً لجمعِ المالِ في سبيلِ عونِ الأطفالِ المحرُومينْ. فهو قد قادَ العديْدَ من فِرقِ الموسيقى الأوركستراليّة العالميّة مغنّياً وفُكاهيّاً مُحلِّيَاً لأدائهِ في كلِّ ذلكَ بما وُهِبَ من طبيعةٍ لامسةٍ للمَرَحِ وللعجِيبِ من أحوالِ هذه الدّنيا لدرجَةِ أنّها كانت تُشعلُ قاعات المسارحِ اهتزازاً وضجيجاً من الضّحَكاتِ النّشَاوى.
دفع النّاسُ ما بلغَ حتّى خمسينَ جنيهاً إسترلينيّاً لمقعدٍ في "ألبيرتْ هول"، كما وقد وصف المؤلّفُ الموسيقيُّ المُتميّزُ ديمتري ميتروبولس دانِي كضيْ بأنّه "مايسترو موسيقِي مطبوع يستطيعُ أن يجعلَ الأوركسترا تُبدِعُ ما يشَاءْ". كان دانِي قادراً على أن يُصيّرَ الموسيقيّينَ، كما وجُمهُورَ المُشاهِدِيْنَ-المُستمعِيْنَ، إلى أشخاصٍ مغلوبينَ على أمرِهِم ضَحِكَاً. "يستطيعُ [دانِي كيْ] أن يرُدَّ- عامداً- كلَّ موسيقى الفرقةِ الاوركستراليّةِ إلى حالِ نشازٍ وفوضى، ثمّ يستجمِعُ، من بعدٍ، بروعةٍ، أجزاءها ومقاطِعَهَا مُغَيّرَاً، بذلكَ، جِمَاعَ مِزَاجِ رُوَّادِ القاعةِ الموسيقيّةِ الذين ما أن تمرُّ لحظاتٌ حتّى يتسامونُ- موسيقيُّون وحِضُورٌ- انتشاءاً بالنّغم". بلغتْ جُملةُ ما جُمِعَ للمقاصدِ الخيريّةِ ، آنذاكَ، من مالٍ ما يربُو على نِصفِ المليونِ من الجّنَيهاتْ.
"لكّلِّ إنسانٍ طريقتُهُ الخاصّةُ في عملِ الأشياءْ"، قال دانِي، "وأنا، من نافذةِ رؤيتِي، أشهدُ بأنَّ طريقتِي الخاصّةَ في ذلكَ هي أفضلَ ما هُيِّئَ لي من وسائلٍ إلى ذلك. إن كُنتُ مُستطيعاً منحَ بعضِ أشخاصٍ جديرينَ بفنّي قدراً إضافيّاً صغيراً من الأمانِ الذي يستحقّونهُ فليس لي إلاّ أن أكونَ راغباً جدّاً في عونهم على ذلكَ السّبيلْ". لمْ يسْتَلِمْ دانِي كيْ أيَّ أُجُورٍ على تِلكَ العروضِ الخيريّةِ، بل هو كان يدفعُ نفقاتَهُ الخاصّةَ عندَ أدائِها. يتميّزُ داني كضيْ بشخصيّةٍ فاتنةٍ:- "كان يُمارسُ نوعاً من السّحرِ على مُشاهديهِ". فمَنْ مِن أولئكَ يا تُرى ما انسحرَ بطلعتِهِ الباسمةِ، بتواضُعِهِ الجّمِّ ومودّتِهِ الفيّاضةْ. ثمّ تلكَ اللّطافةَ المُضيئةَ، حسَّ الإيقاع في الرّقص الذي طالما فتنَ من رأوه. وذاكَ الأسرُ في النّحوِ الذي يُجري بهِ تمثيلهُ، سواءاً كان مُعْمِلاً فيهِ سحرَ مرحِهِ أو مُتظاهِرَاً بالبُكاءِ (كم هو كثيراً جداً ما يُغضّنُ وجههُ المُعبّرَ ويجعلُهُ باكياً بالدّموعِ المُختَلَقَةْ!). وعندما يكونُ داني كي طليقاً بينَ الأطفالِ فمن الجَّلِيِّ أنّهُ يحوزُ منهُم على أعظمِ تجاذُبٍ ودودْ. إنّ رجلاً كذاكَ لَهُوَ شرابٌ مُنعشٌ للعالمْ. فأيُّ إنسانٍ يشعثرُ بانفتاحِ مِزاجِهِ في صُحبَتِهِ.
هكذا تعلّمتُ، تدريجيّاً، أنّ العبقريّةَ، في حياةٍ واحدةٍ، لها تاريخٌ عريقٌ من التّهيئةِ، في حَيَوَاتِ قرونٍ باكرةٍ منسوجةٍ من معزُوفاتِ كَمَانٍ استراديفاريوسيٍّ [نسبة إلى أنطونيو استراديفاري، وهو صانع كَمَاناتْ مشهور- المترجم]، لرُوحٍ مُصطفاةٍ- تاريخٌ جديرٌ بالتّشكيلِ المُعْتَنِيْ.
3
لقد سمعنَا مِرَارَاً التَّعبيرَ القائل:- "إنّ فُلانَ (أو عِلاّنَ) قد وُلِدَ قِسّيساً". أنا علمتُ أنّ ذلك القول هو، أحياناً، حقيقةٌ واقعةْ. فكثيراً ما يُرَىْ فِعلُ التّوريثِ الرّوحيِّ (والفيزيائيِّ) للماضي، بينَ أفرادِ الشّخصيّاتِ الدِّينيّةِ، أمراً عصيّاً على المُغَالَبَةْ.
نستطيعُ، في هذا المجالِ، أن نتصوّرَ رجلاً ذا حبٍّ عميقٍ للمسيحيّةِ، للكنيسةِ، رجلاً ساقهُ جهادُهُ، في أزمانٍ ضاربةٍ في التّاريخِ، في سبيلِ خدمةِ ذينكُمَا إلى أن يلبَسَ المَسُوحَ ويصيرُ عميقَ التّشرُّبِ بالحياةِ الدّينيّةْ.
إنَّ جَواهِرَ الحَيَوَاتِ الماضيةِ لذلك الرّجل قد انطبعتْ في دخيلةِ نفسِهِ ورُوحِهِ. ولرُبّما بدأ سلسلةً هاتِيكَ الحَيَواتِ بصيرورتِهِ راهباً وعالماً دينيّاً. ثمّ، بمُضيِّ القرونِ، غدتْ نفسُهُ منجذبةً بكلِّ (أو إلى كُلِّ) ذلك الذي تمنحُهُ إيّاهُ الكنيسةْ. وقد يكونُ حافزُهُ في ذلك جمالُ الموسيقى، الإحتِفاليّةُ، التّقوى، حسُّ الخِدْمَةِ لوجهِ اللهِ، في أحسنِ الأحوالِ، أو الإحتماليّةُ الشّديدةُ لأن يكونَ دربُ الكنيسةِ ذاكَ طريقاً أكيداً لتحسينِ وضعهِ الإجتماعيِّ وإدخالِهِ في زُمرَةِ وُجَهَاءِ القومِ، في أسوئِها. مهما كان السّببُ في نِزُوعِهِ ذلك تظلُّ الكنيسةُ هي نِداءهُ، رُبّما لمرّاتٍ عديدةْ. فتلكَ هي "عادةُ" قلبِهِ، ذكرى هامش-شعُوريّة لكلّ ذلكَ الذي يُرضِيْهِ ويُحقّقُ ذاتَهُ على أحسنِ وجهْ.
ذلك الإنسانُ هو، حقّاً، "قِسّيسٌ مطبُوعٌ" جاءَ إلى هذا القرنِ (القرنِ العشرين) وهو مُنطوٍ على شعُورٍ عميقٍ بأنّ في مقامِ القِسّيسِ مُدّخرٌ لهُ كلُّ الخيرْ. لذا فدراساتُهُ، شخصيّتُهُ وملامحُ طلعتِهِ ذاتُها تسُوقُهُ سوقَاً يؤوبُ بهِ إلى الكنيسةِ وهو لا يستطيعُ لهُ دفعَاً.
لكنَّ هذا القرن هو القرن العشرون، هو عهدُ الشّكِّ، عهدُ التَّحليلِ الذّهنِيِّ، عهدُ العقلِ المُحرِّرِ لنفسِهِ من أنماطِ التّفكيرِ العريقَةْ. ولربّما انعطفَ هذا الوضعُ بالرّوحِ- التِي اتّخذَتْ، وقتَذاكَ، هيئةَ رجُلِ دينٍ "أُمسِكَ" بهِ في حدودِ دورِهِ الكَنَسيِّ وتنازُعِهِ، مع ذلكَ، واضّطرابِ زمانِهِ- نحو الإنفتاحِ الوسيعِ على مفاهيمٍ جديدةْ. فصاحبُها سيجدُ نفسهُ، آنذاكَ، متجاوزاً، في نموّهِ الرُّوحيِّ والشّعُوريِّ، المِنهاجَ المُؤَسَّس العريق، ومن ثمَّ سيحسُّ بأنّهُ آيلٌ إلى أن يكونَ "سجيناً" في الأشكالِ القديمةِ لذاتِهِ وبأنَّ كنيستَهُ الحبيبةَ ما عادتْ تُصيِّرُهُ "حُرّاً طليقَاً" بل هي، على خلافِ ذلكَ، غاديةً حائلاً بينهُ وتطوُّرَهُ النّفسيَّ-الرّوحيَّ الأبعدْ. في القرونِ الماضيةِ كانتْ الكنيسةُ مُناسِبَةً لتطويرِ عقلِ ونفسِ ذاكَ الإنسانْ. لكنّهُ الآنَ قد ضاقتْ عنهُ أنساقُها العتيقةُ وأضحى سجيناً لمهنتِهِ المُختارةْ. إنّهُ- الآنَ- مُرتكِسٌ إلى الوراءِ وجاذبٌ معهُ، في ارْتِكَاسِهِ ذاكَ، ثُلّةً من النّاسْ.
هو لا يستطيعُ مواجهةَ ذلكَ، بيدَ أنّهُ صارَ مُرائياً أمامَ اللهِ وأمامَ كِيانِهِ الرُّوحِيِّ الخاصْ.
لقد أُبينَ لي أنَّ ذاكَ ليس شيئاً غيرَ عاديٍّ في أيّامنا هذه. فالولاءُ التّراجيديُّ للمواقفِ القديمةِ ينتكسُ بالتّطَوّرِ التّصاعُدِيِّ لفِكرِ الإنسانِ الفردْ. ثمّ أنّ العقْلَ الأكاديميَّ والدِّينيَّ-السّماويَّ يُشكّلُ، أحياناً، سجناً للشّبابْ. ذلكَ لأنَّ البازَ المُحلّقَ في آفاقِ الفِكرِ والشّعُورِ سيكونُ محجُوبَاً عن هاتيكَ الآفاقِ إن قُيّدَ بأنماطِ تفكيرٍ عريقَةْ.
ربّما يكونُ السّبيلُ الوحيدُ للإنفِكاكِ من تِلكَ الورطةِ هو قبولُ من يتّبِعُوا "أنظمةً مقدّسَةً" فقط حين تغدُو سنينهم- وعقُولهُم- مُتقدّمةً ومُستويةً بالنّضْجْ. فحياةٌ في العالمِ الخارجِيِّ حتّى سنَّ الأربِعينَ أو الخمسينَ قد تهبُ الإنسانَ فُرصةً أكبرَ للتّوصّلِ إلى معرفةِ خُصوصيّتِهِ الرّوحيّةِ وللإنسجامِ مع فكرهِ المتنامي التّطوّرِ، وعساهُ، حينذاكَ، يتعرّفُ على المعنى الواقعيِّ لانجذابِهِ نحو الكنيسةِ فيستبينُ لهُ ذاكَ على أنّهُ افتتانٌ مِغناطيسيٌّ بنمطِ عيشٍ قديمٍ ومحبُوبٍ، بيدَ أنّهُ رُبّما ما عادَ مُناسبَاً للطّبيعةِ الذّاتيّةِ لرُوحِهِ المُتوسّعةْ.
إن كان الأمرُ كذلكَ فعلينا أن نحوزَ على رجالٍ أكثرَ إخلاصاً والتزاماً في رعايتهم لشّئونِ الكنيسةِ، كما وينبغي لنا، كذلكَ، أن نُنشئَ كنيسةً ذاتَ نَمَطٍ من الفِكرِ تنامِيهِ مُتوافقٌ مع التّقدّمِ الفكريِّ العامِّ للجِّنْسِ الإنسانِيْ.
لعلَّ استيعابَ الإنسانِ لرؤيا تجدّدِ الميلادِ يجلبُ معهُ إلى أُفِقِهِ الفِكريِّ (والشِّعُورِيِّ) المفتوحِ المشكلةَ المُقلِقَة الخاصّةَ بأفرادٍ من النّاسِ ما يَزالُوا منحبِسينَ في طيّاتِ معتقَدِهِم العقليِّ العتيقِ، ذلكَ المُعتاد الذي كان يجب عليهم أن يتخطَّوهُ.
إنَّ الكثيرَ من أوجُهِ حيَواتِنا التي ما انفكّتْ، حتّى الآنَ، مُحيرةً جدّاً للوعيِ والشّعورِ ستُضيؤُها هذه الفرضيّةْ. أنا قد هفَوتُ إلى استخلاصِ كلِّ ما أستطيعُهُ من معرفةٍ من "المُعلّمِ" وكانتْ أسئلتِي هي طلائعي إليها. وتحتَ توجيهِهِ بدا لي، من متابعتِي للتطوّرِ الفكريِّ والشّعوريِّ لرُوحٍ ما عبرَ حَيَواتٍ عديدةٍ، خُصوصاً هاتيكَ التي "تَنَاسَخَتْ" فيها في معاشِ إنسانٍ ذي منزَعٍ دينيٍّ، أنَّ هنالكَ ميلاً مُعيّناً لديها، رسّختْهُ قرونٌ من الإيمانِ العميقِ، نحوَ أن تأتِي على زمانٍ من العقمِ الرّوحيِّ-الشّعُوريْ.
نحنُ على علمٍ بقولِ باسكال:- "إنَّ للقلبِ أسبابُهُ التي لا يدري العقلُ نفسُهُ عنها شيئاً" [في الأصلِ البَاسْكَاليِّ (من "باسكال") كلمةُ "القلبِ" تأتي مؤنّثةً حتّى تُلمّحُ إلى مَلَكَتَيْ الشّعُورِ والحِدْسِ اللّتينَ هُما "أُنثويّتَيْنَ" في الأساسِ الأنطولوجِي- المترجمٍ].
يبدو أنّ للقلبِ- حقّاً وصدقاَ- هذا التميّز الشّعُوريَّّ-المعرفيَّ، هذا التّواصُلَ مع لُبِّ الإدراكِ الجُّوّانِيْ. وهو، في ذلك، يستبِقُ بعيداً الذّهنَ الذي لا يستطيعُ- بالقَطْعِ- أن يُبرهِنَ، وحدهُ، وجودَ اللهْ. الإنسانُ البسيطُ جدّاً يُمكِنُ أن يُعَلَّمَ اليقينُ الباطنيُّ خلال القلبْ، غيرَ أنّهُ في حالةِ تحقيقِ البشرِ لمستوىً أعلىً من التّعليمِ وتوسّعِ الجّنسِ البشريِّ في تطوّرِهِ العقلانيِّ يَسبِقُ الذّهنُ القلبْ. إنّهُ يصيرُ جذراً في استحسانِهِ- أو عدمِ استحسانِهِ- لإملاءاتِ القلبِ، فهو يُبغِي التّحليلَ، العقلنةَ، البرهنَةَ وإيرادَ الدّليلْ.
يستطيعُ القلبُ القولَ:- "أنا أعرفُ أنَّ فُلانَاً وعِلاّنَاً سوف لا يرتكبان أبداً فِعلاً كهذا"... لكنَّ الذّهنَ (العقلَ) لا يقوى على برهان ذلكْ.
ويستطيعُ القلبُ، أيضاً، أن يقُول:- "أنا أعرفُ أنَّ اللّهَ موجودْ". لكن هل يستطيعُ الذّهنُ (العقلُ) بُرهانَ ذلكْ؟
إنّ القلبَ والعقلَ ينبغي لهما أن يُوازَنَا عبرَ تواؤُمِ واحدهما مع الآخرْ. فالقلبُ هو العارفْ. أمّا الذّهنُ (العقلُ) فهو السّاندُ الأساسيُّ لحكمةِ القلبْ.
تُظهِرُنا التّجربةُ على أنَّ الإنسانَ يصلُ إلى نُقطةٍ في تطوُّرِهِ حيثُ الرّوحُ تنتهِي إلى حالةٍ من "الهِجرانِ" الظَّاهِرِيْ. فالّذي كانَ، ذاتَ زمانٍ، مُنافِحاً مُتحرّقَاً عن الإيمانِ وخادمَاً متحمّساً للأمرِ الإلهيِّ يصيرُ، حاضراً، مفصُولاً عن كلِّ ذلكَ بِواسِطَةِ وعيهِ الذّهنيِّ المُتنامي. وربّما يظلُّ على حالهِ ذاكَ حتّى نهايةِ حياتِهِ.
هل هُنالِكَ أيُّ دليلٍ على وجُودِ الكينونةِ الإلهيّة؟ يتساءلُ- ذاكَ الإنسانُ- مرّةً ثانيةً، ثمّ ثالثةً إذ يُردّدُ:- هل يستطيعُ المرءُ بُرهانَ ذاكَ الوجُودْ؟
أسئلةٌ مثلُ هذينَ استوطنتْ أيّامَهُ. ثمّ اصطدمتْ واعيتُهُ بحائطٍ أصَمْ. ذلكَ لأنّ القوى العقلانيّة- رُغم دقّتها، تشعّبها وضرورتها للتّطوّرِ الشّخصيْ- هي أدنى، في درجةِ تماسِّها والشُّعاعات الإلهيّة، من نثقطةِ الوصلِ القلبيَّةِ الباطِنَةْ.
الحُبُّ هو مُعلِّمٌ لكوكبنا الأرضيِّ وليس الوعي الذّهنِيْ. الحبُّ يُعلّمُ الإنسانَ الآنَ، وهو قد علّمَهُ منذُ عهودٍ سَلَفَتْ، أنَّ من الخطأ اغتيالَ الإنسانِ لرفاقِهِ من بني الإنسانْ. لكن العقل (الذّهن) ما فتِأَ مُوغِلاً في فِعلِ ذلكَ بمهارةٍ مُتفاقِمَةٍ يوماً بعدَ يومْ. القلبُ يُعلّمُنا أنَّ تعذيبَ النّاسِ، الحيواناتِ، أو أيِّ كائنٍ حيٍّ، هو شيءٌ ليس لنا حتّى أن نُخاطِرَ أنفُسَنَا- خِفيَةً- بهِ، لكنَّ العقلَ (الذّهنَ، الذَّكاءَ)، في موقفٍ كذاك، ينبري متسائلاً فحسبْ:- "هل من مصلحةٍ ما في ذلك؟"
*
ربّما تأمّلنا هنا في عبارةِ "هل من مصلحةٍ ما في ذلك؟" على ضُوءٍ استثنائيْ. علينا أن نتذكّرَ أنّ الخبيثَ الذي يبدو ظافراً على أوضاعٍ ماديّةٍ إنّما يُحقّقُ نجاحاً برّانيّاً في حياتِهِ، فقانُونُ "الكارما" قد
طَبَعَ، برسُوخٍ مكينٍ، على ذاتِهِ الباطنةِ خَتْمَ عَدَمِ توازُنٍ في القُوى الكامنةِ فيهِ. عليهِ فإنّهُ، في حياتِهِ القادمةِ،ربّما يجدُ نفسَهُ فقيراً ومُهملاً- تلكَ مرحلةٌ ينبغي عليهِ معاناتَها.
يبدو أنَّ هنالكَ فترةً في معاشِنا الإنسانيِّ يصيرُ فيها أحاسنُ النّاسِ بيننا، من هُم قد وَهَبُوا جِماعَ قلُوبِهم للإيمانِ بالأُلُوهِيِّ وبمحبّةِ الأُلُوهيِّ، معمِيِّينَ فجأةً بذاتِ القُوى العقليّةِ التي حازوها ثمرةً لتعلّمهم الذّهنانيْ (الثّقافيْ).
النّاسُ يمرّون بمرحلةٍ كتِلكَ قد تستغرقَ منهم حيواتٍ تامّةْ. آنذاكَ هم يديرونَ ظهورهم للقلبِ و"حقيقتِهِ" [أو "حقيقيَّتِهِ"- كما قد أقول- المترجم] ويُوغلونَ في إقناعِ أنفُسهم بأنَّ ولاءهُم القديمَ ما هو إلاّ خُرافةْ. إنّهُم يُحجّبُونَ ذواتَهُم خلفَ "قِناعِ" التّفكيرِ بأنَّ مستواهم الثّقافيَّ الجديدَ، الباردَ والمبنيَّ على التّحليلِ والبُرهانِ، هو أكثرَ حكمةً من نارِ القلبِ العارفةْ.
لقد أنبئتُ بأنّ ذلكَ "المُنزَلَقَ" في دربِ الإنسانِ النّاشدِ للحكمةِ الإلهيّةِ يستطيعُ أن يُبقِيْهِ "مُتعثّراً" بهِ إلى حينٍ، ولربّما نُظِرَ إلى ذلك "التّعثّرِ" على أنّهُ حدثٌ عامٌّ يقعُ، تقريباً، لكلِّ فردٍ إنسانيٍّ بلغ بهِ النّماءُ الشّخصيُّ مرحلةً معيّنةً ومُعتبرةً من التّقدّمْ. من يُوافقُ حالُهُ تلكَ الوضعيّةَ قد يكونُ رجُلَ كنيسةٍ كان، في حياتِهِ السّابقةِ، مسيحيّاً تقيّاً وَرِعَاً إلاّ أنّهُ، في حاضرِ أيّامهِ، يشهدُ، إذ يتجاوز في تطوّرهِ الذّاتيِّ عهدَ المُراهقةِ ويدرُسُ في الجّامعةِ، موتَ إيمانِهِ، الذي شملَ عمراً سالفاً كاملاً، في دخيلةِ ذاتهِ، ثمّ هو، من بعدِ ذلكَ، يُدرِكُ- ويا للأسى!- أنَّ قلبَهُ- الآنَ- يغدُو بارداً. وقد يُنازِعُ ذاكَ الإنسانُ نفسَهُ الحاضرةَ كثيراً عساهُ يستوقِدُ فيها، مُجدَّدَاً، حماسَهُ القديمَ للتّناغُمِ والكينونةِ الإلهيّةِ، لكنّهُ لا يستطيعُ إلى ذلكَ سبيلا. فهكذا غايةٌ رُبّما تأخُذُ منهُ حياةً أخرى بتَمامِها يُغالبُ فيها يبَابَهُ الحالِيْ.
إنّ قرننا العشرينَ هذا قد يبدو زماناً عقيماً، عهداً من الجّهلِ بالرُّوحِ، أو من النّفاذِ الشّيطانيِّ إلى عالمنا. مع ذلكَ ربّما لا تكونُ مرحلةُ البُرودةِ الرّوحيّةِ هذه سوى مُقدّمةٍ لطفرةٍ عظيمةٍ إلى الأمامْ. ذلكَ لأنَّ النّفسَ ينبغي لها أن تُنازِعَ وتُكابِدَ من أجلِ بقائِها قبل أن تستطيعَ، كرّةً أخرى، سَمَاعَ خَفْقِ نبضِ القلبْ.
إنَّ العقلَ (الذّهنَ) لن يفتح، أبداً، بوّاباتَ الفردوسْ. فقط جذوةُ نارِ المعرفةِ القلبيّةِ ستستشرِفُ ما وراءها.
*
"ليس للمرءِ هنا أن يعتقد أنّ الإنسانَ قد وُثِّقَتْ عُرَاهُ وهذه الحياةُ على كوكبِ الأرضِ لآمادٍ مفتُوحةٍ قادمة". فالأرواحُ الآدميّةُ تتخرّجُ، باستمرارٍ، من جامعةِ كوكبِ الأرضِ، يستوي في ذلكَ من كانَ ذائعَ الصّيتِ منها على مسرحِ الحياةِ أو مغمُورا. ورُغمَ أنَّ بلوغَ لحظةِ الحُرّيّةِ تِلكَ قد يأخذُ، من المرءِ، قرُونَاً إلا أنّه مُستيقَنُ المُجيءْ. فإن واتى الإنسانُ ذاكَ الإنطلاقُ سيجدُ شعُورَهُ منفتحاً على لطائفِ هدايا الرّوح ويحوزُ على أجنحةِ اللاعودةْ. هُنالكَ- في "آخِرَتِهِ" تِلكَ- سيكونُ حُرّاً من عبُوديّتِهِ لدورانِ عجلةِ إعادةِ الميلادِ على كوكبِ الأرضِ، ومن ثمَّ يستطيعُ اختيارَ دربِهِ المثستقبَلِيْ. وهو، في حُرّيّتِهِ تلكَ، إمّا أن يبقَى قريباً وفي مُتناولِ يدِ الإنسانيّةِ حتّى يُعينُها على التّرَقِّي عبرَ مَدرَجِ سعيٍ هو أوسعَ بكثيرٍ ممّا كدحتْ عليهِ من قبلِ من سُبُلٍ، أو قد يختارُ التّماذُجَ والكائنات الأسمى حتّى يُشارِكُهُم، مُغتَبِطَاً، في تدابيرِهِمْ على المستوياتِ الكونيّةْ.
في حياةِ الإنسانِ الطّويلةِ على كوكبِ الأرضِ يأتي زمانٌ يُناغِمُ فيهِ نفسَهُ الحقيقيّةَ الباطنةَ مع المجالي الكونيّةِ الأسمى حتّى تنشرِحُ بهِ الملائكةُ، عظامُ الملائكةِ وكلُّ الرفقةِ السّماويّةِ، انشراحاً يفوقُ مدى معرفتِهِ بهِ. فصلاتُهُ، حينما لا يزالُ في الجّسدِ الفيزيائيِّ، تصلهُ بالرّحمةِ الإلهيّةِ اللانهائيّةِ وتُيسّرُ عليهِ سنواتِ تناسُخِهِ الرُّوحيِّ الأخيرِ على هذا الكوكب.
*
أعرفُ أنَّ استشهادِي هنا بأُناسٍ مُحتَفَى بهم سيرفعُ ضدّيَ مُختَلَفَ أنواعِ الإعتِراضات- كذلكَ حواجب العيون. لهذا السبب كتمتُ، بجُبنٍ ولسنينٍ عديدةٍ، ما أُطلِعْتُ عليهِ من أشياءٍ نثَرْتُ بعضَها في حنايا بحثِي هذا، ثمّ أرفقْتُها بألبومٍ فخيمٍ من البورتريهاتِ والصُّورِ على سبيلِ الإيضاحِ والمقارنةْ.
لكنّ الآنَ عليَّ أن أستَمْسِكَ بجِمَاعِ شَجاعَتِيْ وأخطُو قُدُمَاً على طريقِيْ.
4
لقد علمتُ أنّ فولتير قد تحوّل إلى جورج برناردشو في تناسخه الرّوحيّ اللاحق. حين سماع يمكننا، فقط، البوح لأنفسنا بما يلي:- "حَسَناً، ذاكَ يُظهِرُنا على كيفَ أنّ النّاسَ يتغيّرون ببطءٍ في مدى مائة عام أو ما يُقاربُهُ".
حيثُ يُلفتُ انتباهُ المرءِ إلى رباطٍ بيّنٍ كذلك الذي بين فولتير وبيرناردشو سينطلقُ المرءُ، في الحالِ، إلى المكتبةِ ناشداً بورتريهات (صور) لهذين الرجلين السّاطعي النّجم وحقّاً سيجدهما ذاكَ النّاشدُ متقاربينَبما يُكفِي في هيئتيهما. تشهدُ بذلكَ عينا كلٍّ منهما الجَّلِيَّ افتراقُ إحداهما عن الأخرى، ذاكَ التّعبير المَرِحْ، المتطلّع المُنتبِهْ، على مُحيّيهما، ثم اشتراكهما في ملامح الرجل العجوز الصّعلوكيّ الطّلعة (أو الفاسق) التي قد يُعزّز انطباعها فينا مرأى فولتير مرتدياً باروكةً كي يُخفي صلَعَهُ. إنّ القريحةَ الحادّةَ، المرح اللاذع ينطلقُ، ببلاغةٍ، في وجهَي هذين الرجلين. فالرّوحُ فيهُما قد عبّرَتْ، بوضوحٍ، عن نفسها في الهيئةِ الجّسَدِيَّةِ على صورةِ مُرَكَّبَيْ طاقةٍ يُشبِهانَ بعضهما البعضَ كثيراً.
كما قُلتُ باكراً، يبدو أنّه من الضّروريِّ للمرءِ أن يجمعَ، إن أمكَنَ، نصفَ دزينةٍ (دستةٍ) من صور الشخص المعنِيِّ حتّى يستيقن من حقيقةِ مرآهِ أو رسمِهِ. فالكثيرُ من ذلك الأمرِ يعتمدُ على راسمِ اللّوحةِ، على زاويةِ النّظرِ التي يتّخذُها تجاه جليسِهِ، نفاذهِ السَّايكولوجيِّ، رغبته في الإرضاءِ، في الإطراءِ أو في التّحدّثِ بالحقيقةْ. ذلك كلّهُ فضلاً عن قدرته الفنية والتقنيّة على الإمساكِ بشَبَهِ من يرسم في ما يرسم. في فتراتٍ معيّنةٍ من التَّاريخِ، كالقرنين السابع والثامن عشر على سبيل المثال، مالت هيئةُ الرّسمِ إلى جعلِ النّساءِ، خاصّةً، يتراءينَ على أنّهنَّ متشابهاتٍ جدّاً. كان الرسّامان لِيلِي وكنيلر يستخدمان نمطاً شائعاً من فنّ اللّوحةِ يبدو، أحياناً، لاغياً لأيّ ملامحٍ شخصيّةٍ للوجهِ المرسوم. أيضاً، لاحظتُ أن تنامي العادات الليبراليّة في الأكلِ والشّربِ جعلتْ الرّجالَ، خاصّةً، يبدونَ، حينَ يُرسَمُون، أثقلَ إستوناً أو استونَيْنْ [ 6•35أو 12.70 كيلوجراماً- المترجم] من أوزانهم آن أوبتهم إلى الدّنيا في هيئاتِ أنفُسٍ وأجسادٍ "جديدةٍ" في القرن العشرين. النّساءُ، كذلك، كانتْ لهُنَّ، في ذلك الزّمان، ذِقُونَ مُضاعفَةَ العرض، الشيء الذي ما عُدَّ من علاماتِ الرّشاقةِ في تلك الأيّام. ثم هنالكَ أيضاً عواملٌ أخرى تُصعّبُ عمليّاتِ المقارنة (أو المُقاربَة) التي نحنُ بصددها مثل الباروكات وأساليب تصفيف الشّعر التي تُغيّر مظاهرَ الأشخاصِ تغييراً مُعتبَراً.
على الرّغمِ من ذلكَ فإنني حين يتمُّ "إنبائي"، ربّما في هاجعاتِ اللّيالي أو آنما أكونُ مُنشغِلَةً بالتّنزّهِ وكلابي عبر التّلال فيما خاطري منصرفٌ إلى شيءٍ آخرٍ تماماً، بأنّ الشخصيّة المعاصرة المُسمّاة فُلان الفُلاني، أو فُلانة الفُلانيّة، في القرن السادس عشر أُهَزُّ بما أُنبئْتُ به وأهرعُ باحثةً، بدأبٍ، عن مصادرِ دعمٍ لحقيقتِهِ. وعندما يُسفرُ بحثي، ربما بعد عامٍ أو ما إليهِ، عن عثوري على رسمٍ حفريٍّ عتيقٍ لشخصيّة عصرِ النّهضةِ التي حُدّثْتُ عنها تظلُّ، هزّتي (أو إثارتي) حيّةً إذ أجدُ، في الشّخصيّةِ إيّاها، ذاتَ الأنفِ المنحدر المعقوف، ذاتَ مُنحنَى الفكِّ الطّويلِ العظميِّ، ذاتَ الفمِ العريضِ الزّهديِّ، ذاتَ هيئةِ الرأسِ على الكتفينِ ثمّ، فوقَ ذلكَ، مُماثلةً في الصّفاتِ، الأذواقِ وأنماطِ التّفكيرِ بينها وشقيقتها الرّوحيّة المُعاصرة.
لكن دعني أعودُ إلى فولتير.
كان فولتير من الشّهرةِ بحيثُ أنّني أحتاجُ فقط إلى استعراضِ الخطوطِ العريضةِ لرسالةِ ذاك الرّجل اللامع في الحياة ومنحى تفكيره.
وُلِدَ فرانسوا ماري أرويت دي فولتير في باريس في عام 6941. ولقد عاش، مثل بيرناردشو، مدّةً عظيمةً من السّنينِ وماتَ في عام 1778 بعد أن بلغ الرابعة والثمانين من العمر.
إن حقيقة نزوعنا نحو أن نعيش، في حياتنا الحاضرة، نفس أو ما يقارب السنوات التي عشناها في حياتنا السابقة لهي منبئة لنا بأن هنالك قاعدة ما وراء ذلك الأمر. فهي تومئ إلى أننا لا "نُسحب" من ساحة هذه الدنيا، في اليوم المعني الذي نُفاصلها فيه، بواسطة قضاءٍ إلهيٍّ عشوائيٍّ، بل نحن نموت- ما عدا في بعضِ ظروفٍ استثنائيّة- حين يبدأ الإنهاكُ العقليُّ في "خلخلةِ" انسجام مُركّباتِ طاقاتِنا.
أقولُ ما سبقَ على هيئةِ حديثٍ خاطِرِيٍّ للقارئِ أن يضعَهُ بينَ قوسين.
"بعد أن تلقّى فولتير تعليمه في معهدٍ يسوعيٍّ تعهّدت السيّدة نينون دي لينكلوس برعايته فأعطته دروساً في اللّياقة الإجتماعيّة، ثم خلّفتْ لهُ تِرْكَةً" (أنا أقتبسُ هذا عن موسوعة نيلسون المعرفيّة). تمضي الموسوعة إيّاها في حديثها عن فولتير فتقول إنّه "قد قُدّمَ إلى أميزِ المجتمعاتِ الثقافيّةِ الباريسيّةِ حيثُ ينتشرُ، بجانبِ الثّقافةِ والأدبِ، حسُّ تهتّكٍ أخلاقيٍّ متهوّر... سُرعانَ ما بدأ قلمُهُ ينهمرُ بفيضٍ من الكتاباتِ المُتهكّمةِ، الجّملِ البليغةِ، الأناشيدِ والرّسائل... ثمّ، أثناءَ دراستِهِ للقانون، كتب فولتير مَسخَرَةً حمقاء عن وليِّ العهدِ فأودعَ، بسببها، سجن الباستيل الشّهير. وبعد إطلاق سراحه ألّف عدداً من المسرحيّاتِ لاقت نجاحاً باهراً".
في عام 1726 ذهب فولتير إلى إنجلترا وقضى فيها ثلاثة أعوام أنشأ فيها "صداقات مع طليعة الكتّاب ورجال الدولة ودرس الأحوال السياسية والدينية للبلاد. إثر عودتهِ إلى باريس كرّس فولتير نفسه للأدب والنظريّات التّجاريّة ولقي من ذلك حظّاً عظيماً"... هذا الأمرُ ينطبقُ على شو أيضاً.
كان الممثلون والممثلات يُقاطَعُونَ اجتماعيّاً، بشكلٍ أوتوماتيكيٍّ، في فرنسا تلك الأيّام. أدّى حنق فولتير، من استِهداف الإكليروس لأولئك القوم من الفنّانين- خاصّة عند حضوره الإتّفاقِيِّ لجنازةِ إحدى النساء التي كانت خليلةً لهُ- ومن دسيسةٍ بِلاطيّةٍ حِيكَتْ ضدّهُ، إلى التّحدّثِ، بمرارةٍ مُتهكّمةٍ، عن النّاسِ الذين كانوا، آنذاكَ، حكّامَاً. هنالكَ أقاصيصٌ كثيرةٌ عن شهامةِ فولتير مع النّساء وعن علاقاته العاطفية العديدة. مؤخّراً، بعد أن أكسبتهُ كتاباتُهُ الذّكيّةُ شهرةً وصيتاً، أنفقَ فولتير ثلاثة أعوام في بلاط الملك البروسيِّ فريدريك الذي أعجبَ بهِ إعجاباً عظيماً. ثمّ استقرَّ به المقام- بعد أن نفاه الملك إلى خارج البلاد- في بلدة فيرني قرب جنيف حيثُ انهمكَ، بلا انقطاعٍ، في الكتابةْ.
"كان غلّه ضدّ الكنيسة متنامياً والسنين، ثم هو ثد صوّب، من مقرِّ تقاعده، سيلاً من سهامٍ تهكّميّةٍ مُتلاحقةٍ نحو الإكليروس وألاعيبهم... ثم تُوفّي في باريس ورفضت كنيسة سينت سلبايس دفنه على الطريقة المسيحية. لذا دُفنت جثته، على عجل، في دير سيسيلياغس".
وتستمر موسوعة نيلسون في الحديث عن فولتير وتقول إنه، كشاعر، "يفشل في أن يمسّ القلبَ، كما وهو لا يستجيبُ للتعاطفاتِ الشعوريّةِ العميقةِ للطبيعةِ الإنسانيّة... مع ذلك يظلّ كاشفاً عن مخزنِ ذكاءٍ ولذوعيّةٍ كبيرين. ثم إنه لو قُيّمَ ككاتب مساخر سيكونُ واحداً من الأعاظم".
قيل عن فولتير إنه كان مشغولاً جداً بالإحتجاجِ على ما هو خطأ دون أن يكون بنّاءاً في مشغلتِهِ تلكْ. لكننا نردُّ ذلك الرأي على أصحابه بقولنا إنّ العالم كان محتاجاً آنذاكَ- وما يزالُ- إلى من يُنجز مهمّة الإحتجاج هذه. ولعلّنا ننصفُ فولتير كثيراً إذا اقتبسنا، في هذا المُتعلّق، شيئاً مما وردَ في الكتاب الجديد [الصادر في عام -1976المترجم] الذي ألفه ثيودور بيسترمان عنهُ. قال ثيودور بيسترمان في كتابه المعنيّ إنّ الثورةَ التي حدثتْ في تفكيرِ الناس في القرن الثامن عشر كانتْ، إلى حدٍّ كبيرٍ، من إنجاز فولتير، ثم أشار إلى أن قاموس الثيولوجيا الكاثوليكية يقف شاهداً على ذلك حيث يختم مادّته عن فولتير بالكلمات التالية:- "إن جهود فولتير شكّلت عاملاً أساسيّاً في بروزِ العالم المعاصر إلى الوجود، ذلك العالم الذي ضمنت فيه الدّولة، إذ فُكّتْ عن قياد الكنيسة وصارت علمانية خالصة، لكلّ مواطنٍ فيها حريته الشخصية والفكرية والديمية وحقه في التعبير، بضمير مستقل، عن آرائه الخاصة، سواءاً في أحاديثه أو كتاباته الصحفيّة".
يكمن لب تفكير فولتير السياسي في الفقرة التالية المأخوذة، أيضاً، من سيرته المكتوبة بقلم بيسترمان:- "لم يؤمن (فولتير) بالنظم الميتافيزيقية لأنها تخنق التفكير. وكان، كذلكَ، شاكّاً في كل الإصلاحات التي تُوصي بها اللجان ويعتقد أنه، عدا فيما ندر، ما من شيء عظيم في هذه الدنيا قد أنجزَ أبداً إلا بفعلِ عبقريّةِ وصمودِ إنسانٍ واحدْ. ثمة شيء فوضوي تقريباً في قناعة فولتير بأن التقدّم يُستطاعُ بلُوغُهُ فقط عبرَ الجّهدِ الشّخصِيْ".
ما يُعطي هذا التعقيب تميّزاً عن غيره هو أنّ فولتير، طوال أيام حياته، كان عدوّاً لا مُهاوداً ولا مُتزحزحاً ليس للكنيسةِ فحسب وإنما للمسيحية نفسها ولكلّ الدّين. لكن هذا الموقف لم يمنعه من المحاولة، بجدّيّة شديدة، لإقناع السّلطات بأنّه كان، على الأقل، "أُلُوهيّاً"، أي معتنقاً مفهوماً ما لله". هكذا قال بيسترمان. لكنّ آخرينَ استرعوا انتباهنا إلى أقوالٍ لفولتير أقنعتهُم بأنّهُ قد آمنَ بـ"كائنٍ أعلى" هو، بوضوحٍ، ليس إله النّصوصِ المسيحيّةِ المقدّسة، المعجزات وما إلى ذلك لكنّهُ، كما قال هو نفسُهُ عنهُ، إلهٌ ليس مرتبطاً بدينٍ سماويٍّ (أو ميتافيزيقِيٍّ) ما. على كلٍّ، استخدم فولتير عبارتَي "معتقد بالله دون الوحي" و"مؤمن بالله فحسب"، بصورةٍ مترادفةٍ، لوصفِ طبيعة فلسفته الدِّينيّةِ تلكْ.
ثم، في عام 6517، كتب شرحاً لما يعنيه بذلك قال فيهِ إنّ مَن "يؤمن بالله فحسب، أو دون الوحي" هو إنسانٌ "اقتنعَ، قناعةً راسخةً، بوجودِ كائنٍ أعلى خيّرٍ، كما وهو قديرٌ، قد خلقَ كلَّ الكائنات".
أوضح فولتير، في شرحهِ ذاكَ، أنّ هنالكَ نوعينَ من الإعتقادِ في الله دون الوحي:-
1. الأوّل معتَقد أولئك الذين يرون أنّ الله قد خلق العالم دون أن يُزوّد إنسانَهُ بقانونٍ أخلاقيْ. هؤلاء، في اعتبار فولتير، ينبغي أن يُدعَوا "فلاسفة" فقط.
2. الثّاني هو مُعتقد من يؤمنوا بأنّ اللهَ قد وهبَ الإنسانَ قانوناً طبيعيّاً. هؤلاء، في منطق فولتير، لهم دين. إن تحدّثنا، بصورةٍ عامّةٍ، عن ذاكَ "القانون الطّبيعِيْ" فإنّنا سنجد فولتير يُشيرُ بهِ، كما أوردَ بيسترمان، إلى الإعتقاد الدّينيِّ في وجودِ "صيغةٍ أخلاقيّةٍ قَبْلِيَّةٍ مغروسةٍ، مرّةً واحدةً وإلى الأبدِ، بواسطةِ الخالقِ، في الإنسانِ الذي ليس لهُ من ثمةِ صلةٍ إزاءها".
قال فولتير، بالإنجليزيّة، "اللهُ لا يُستطاعُ إمّا أن يُبرهنَ وجودهُ، أو يُنفَى، بواسطة مجرّد قدرة العقل. فنحنُ ليس لنا فكرة وافية عن الأُلوهيّة... أنّى لنا الإجابةُ على هذه المسألةِ بقوى ذكائنا المحدود ومعرفتنا الواهية؟" لكنّه، عل أيّةِ حالٍ، آمنَ بأنّ اللهَ والدّين ضروريّانَ لإقامةِ مجتمعٍ أخلاقيٍّ مُتماسِكْ... قال في هذا المعنى:- "إن لم يُوجد اللهُ سوفَ يتعيّنُ علينا أن نخترعَهُ".
وصفَ قَوْتَه فولتير بمجموعةٍ متلاحقةٍ من النّعُوتِ فقال عنهُ إنّه امتلكَ "العمقَ، العَظَمَةَ، الحدس، التلقائيّة، الملكة، الجدارة، الذوق، الخيال، الفطنة... البراعة، الأسلوب، السّلاسة، الجّرأة، الأناقة، الكمال..."... و.. و.... إلى آخرِهِ... حقّاً كان فولتير رُوحاً حرّةً حقيقيّةْ.
أورد بيسترمان أمثلة على الطاقة الهائلة التي والى بها فولتير- آنما كان يعيشُ في فيرني- تأثيرهُ على العالم رُغمَ أنّ عمرهُ، حينذاكَ، قد صارَ إلى الثّمانينَ أو ما يُقاربُها. فلقد جادَ قلمُهُ، في ذلكَ الأوان، بفيضٍ من رسائلٍ موجّهةٍ إلى أناسٍ في كلّ أنحاءِ أوربّا ومتعلّقة بمنشوراته الفكريّة والأدبيّة، بانشغالاتِه بالمسائلِ العامّةِ واهتمامهِ بالقضايا الإنسانيّة وما يمِتُّ إلى ذلك جميعِهِ من أشياءٍ وشؤونْ. وجميعُ هاتيك الرسائل كان فولتير يكتبها بإسهابٍ لا ينتهي. فالرجل العجوز كان، حتّى وقتذاكَ، يجد الوقت اللازم لإنفاقِ طاقةٍ لانهائيّةٍ في إنتاجِ مسرحيّاتِهِ، في إدارةِ شؤونِ أعمالِهِ الخاصّةِ وأعمالِ عائلتِهِ وفي استقبالِ سيلٍ لا ينقطع من الضّيوفِ الذين كانوا يجيؤونه في فيرني كي يمحضُوهُ إجلالهُم وتقديرهم. أحد أولئكَ الضيوف كان رجلاً إنجليزيّاً يُدعى جون مور. وصف جون مور فولتير فقال عنهُ:- "هذا الشخص الغير عادي قد أفلحَ في إثارةِ الفضولِ والإحتفاظِ بانتباهِ أوربّا لفسحةٍ من الزَّمانِ هي أطول، بكثيرٍ، من أيِّ مدّةٍ أخرى فعل فيها ذلك أيُّ رجُلٍ آخرٍ من هذا العصر، ولا نستثني هنا الملوك والأبطال. وحتّى أكثر الوقائع لا أهميّة تبدو، حين نسبتها إليهِ، باعثةً على درجةٍ ما من اهتمام الجّمهور". وبعد أن وصف الرجل الإنجليزيّ فولتير بأنّه كان، وقتذاكَ، "نحيفاً بإفراطٍ" تحدّثَ عن "هيئتِهِ التي أُفْعِمَتْ بالحيويّةِ والرّوحِ أكثرَ ممّا تُفعمُ بهما، عموماً، أيُّ هيئةٍ أخرى لإنسانٍ عاديٍّ من لحمٍ ودمٍ، مهما كان مُزهراً ويافعاً". ثم واصل صاحبُنا الإنجليزيُّ كلامهُ عن فولتير فقال:- "ما لاقت عينايَ أبداً عينينَ أعظَمَ نفاذاً، في هذا العالمِ، من عينَي فولتير الذي بلغ الآنَ عامَهُ الثّمانين. إنَّ كلَّ طلعتِهِ مُعبّرةٌ عن العبقريّةِ، قُوّةِ المُلاحظةِ والحساسيّةِ القُصوَىْ".
في عام 1772 كتب ديدرو، وهو أحد المفكّرين "الموسوعيّيين"، دفاعاً بليغاً عن العلاّمة فولتير ضدّ مزاعم شانتْهُ بالغَيرةِ ونُكرانِ الجّميلِ قال فيهِ:- "هذه [المزاعم] قد تكون صحيحة، أو غير صحيحة، لكنَّ هذا الرّجُلَ "الغيُورَ" هو ابنُ ثمانينَ عاماً رفَعَ، خلالَ كلِّ سِنَّيْ حياتِهِ، سوطَهُ ضدَّ الطُّغاةِ، المهووسين دينيّاً ومساوئٍ عظيمةٍ أخرى في هذا العالم. ثمّ أنّ هذا الرّجل "ناكر الجّميل" هو صديقٌ صامدٌ للإنسانيّةِ إذ أنّهُ، أكثرَ من مرّةٍ، سرَّى عن المنكوبين قنوطهم وانبرى مُنتقِماً للبراءةْ. وهذا الرّجل "المجنون" قدّمَ، كذلكَ، لأرضِ آبائِهِ فلسفةَ لوك ونيوتن، وهاجم أكثرَ التّحيّزاتِ رهبةً في مجالِ المسرحِ، بشّرَ بحرّيّةِ الفِكرِ، ألهمَ النّاسَ رُوحَ السّماحِ، صان الذّوقَ الرّفيعَ الذي كان مُتلاشياً عن الدّنيا، كما وانجزَ عدداً من الأفعالِ الحميدةِ وأبدعَ جُمْلَةً من الكِتاباتِ الممتازةْ. إنّ اسمَهُ قد شُرِّفَ، في كلِّ أقطارِ الدّنيا، ولسوفَ يبقى حيّاً عبرَ جميعِ القرونْ.
5
وُلِدَ جورج بيرناردشو في دَبلِنْ في 26يوليو .1856 وتُوفّيَ في عام 0519 عن عمرٍ بلغ الرابعة والتّسعينَ سنة.
ليس، حقّاً، حاجةً هُنالِكَ لأن أحاولَ تلخيص رسالة حياة وعبقرية هذا الرجل الذي هو أعظمَ النّاسِ صيتاً خلال المائة عام الأخيرة. لكنّني، على أيّةِ حالٍ، سأنتقي، على نحوٍ عشوائيٍّ، فقرات قليلة عنهُ من كتابين وقعا في يدي اليوم عند المكتبة العامّة المحلّيّة، أحدهما هو الذي ألّفه أريك بينتلي، والآخر هو الذي كتبهُ أَودرِيْ ويليامسون.
في أحدِ الكتابين إيّاهما وجدتُ مُقتَبَسَاً يتحدّثُ عن سؤالِ امرئٍ لبيرناردشو عن الطّريقةِ التي يحيا بها حيثُ أجابهُ قائلاً:- "إنّ من غدا كاتباً لهو مثل رياضِيْ. أنّى لهُ، إن لم يكُن كذلك، أن يُصارعَ اللهَ كما فعل يعقوب والملاك؟"
تدفّقتْ قوة بيرناردشو الخلاّقة، الهائلة واللامنتهية، إلى العالمِ في هيئةِ مُتنوّعاتٍ شاسعةٍ من الأعمالْ. "لقد استمرَّ بيرناردشو في الكتابةِ حتّى موتِهِ. ذلكَ لأنّ إيقاع حياته الراسخ ما كان له ان يُكسرَ بعد كلّ هاتيكَ السّنينِ الطويلة. كانت لبيرناردشو مقدرة استثنائيّة على ممارسةِ مشغلتِهِ الإبداعيّةِ في كلّ يومٍ من أيّام حياتِهِ. فالكتابةُ قد صارتْ ضرورةً بالنسبةِ له، وهو بِعقلِهِ الذي ما سكنَ أبداً أو هدأ. داوم بيرناردشو على كتابةِ متفرِّقاتٍ من المسرحيّاتِ حتّى يوم وفاتِهِ. وخلال الثلاثين عاماً التي غدا فيها ذا شهرةٍ رفيعةٍ دَفَقَ من قَلَمِهِ نهرٌ مَكِينٌ من الكتابةِ النّثريّةِ التي اتّخذتْ شكلَ مقالاتٍ نقديّةٍ، مُقابلاتٍ، رسائل وكُتيّباتْ... وإلى نهايةِ حياتِهِ اتّسمتْ كتاباتهُ بحيويّةٍ عقليّةٍ وقلَمِيَّةٍ (لغويّة). كما وأنّ معظم أحكامه أوتقييماته برهنتْ، والسّنينُ عابرةٌ، على أنّها أكثرَ نفاذاً ونبوئيّةً ممّا ظنَنّاها في وقتِ صدورِها".
ولمّا كان شو مُستغرَقَاً في علاقاتٍ شخصيّةٍ مع أكثرِ المُمثّلاتِ ذكاءاً وجمالاً فلقد قِيلَ عنهُ إنّه وقعَ في حُبِّ الكثيراتِ مِنهُنَّ. مع ذلكَ تزوّجَ وارثةً إيرلنديّةً على أساسِ غرامٍ ما تعَدّى الرّباطِ الأفلاطونيْ.
كان عمل شو في نقد الموسيقى- الذي هو أعظم تأثيراً (أو استثارةً) في القرنِ الماضي- مُقدّمَةً لأكثرِ انعطافاتِهِ الإبداعيّةِ أهمّيّةً. تِلكَ هي انعطافتُهُ نحو الكتابةِ للمسرح. وكعضوٍ باكرٍ في الجّمعيّة الفابيّة وصديق لسيدني ويب كان شو عاملاً، طيلة حياته، من أجل الإشتراكيّة. ولقد قُيّضَ له، من خلال نشاطه السِّياسيِّ أيضاً، أن يغدو على صلةٍ مع وليام موريس- ذلك الإشتراكيُّ، الشّاعرُ، المُخطّطُ الثَّورِيُّ- وأن يصيرَ، كذلكَ، مؤسّساً مشاركاً لإدوان بيرن-جونز، وِستِلر، دانتِي قابرَييل روزيتِي وسوينبيرن في الحركةِ "الجَّمالِيَّةِ" في الفنِّ والأدبِ خلال ثمانينات القرن التّاسع عشر. مع ذلك، هو قد كتبَ، في سنواتِ عمرهِ المتأخّرة:- "الموسيقى كانت من الاهميّةِ الشديدةِ لتطوّري الشّخصيِّ بحيثُ أنّ لا أحدَ يُمكنُهُ، حقّاً، فهمَ فنّي دونَ أن يكونَ مُنغَمِرَاً في السيمفونيّاتِ والأوبرات، في موتسارت، فيردي ومَييربير، ولا تُحدّثْ عن هاندل، بيتهوفَن وفاقنر، إِنغماراً أكثرَ شموليّةً وكليّةً بكثيرٍ من ذاكَ الذي يَستَغْرِقُهُ حين انهماكهِ في ثنايا الدّراما الأدبيّة وشعرائها وكتّاب تمثيليّاتها".
لكن شو هو، أيضاً، من كتَبَ:- "إنّ الأعمالَ العظيمةَ في الأدبِ هي انتصاراتٌ للعقولِ العظيمةِ على الخيالِ العظيمْ"... أوصَلَتْ المسرحيّات العديدة شو إلى قمّةِ الكتابةِ الإبداعيّةْ. "المسرح"، كتبَ مرّةً، "ليس هو، فحسب، إقامة الكاميرا رقيبةً على الطّبيعةْ؛ إنّه العرضُ، على هيئةِ الأمثولةِ، للصّراعِ بين إرادةِ الإنسانِ وبيئتِهِ أو، بكلمةٍ واحدةٍ، لمشكلتِهِ... أنا لستُ محكوماً بالقواعِد؛ أنا مُلهمْ. لكن إن سألتَنِي عن ماهيّةِ ذاكَ الإلهام، أو لماذا هو يُواتيني فلن أستطيعُ إجابةً عليكَ لأنّني لا أدريها. إلهامٌ- إذاً- ينبغي أن يكونَ ذلك الذي يدفعُني للكتابةِ، فهو يأتيني دونَ أيِّ إشارةٍ مُباشرةٍ إلى غاياتِي الخاصّة أو اهتماماتِي".
يُعقّبُ إريك بينتلي على هذا الحديثِ قائلاً:- "قد نكُونُ مُوقِنِيْنَ جدّاً بأنَّ شو ما كان يغُشُّ، في آنِ كتابتِهِ لهذا الكلام، الجّمهُورَ أو نفسَهُ... فهنالكض فقراتٌ كاملةٌ في بيتِ القِلُوبِ المُنكَسِرَة، القِدّيسة جُوان و العودة إلى ميتوشالح تؤكّدُهُ. لقد كتبَ، ذاتَ مرّةٍ، رسالةً إلى "لجنةِ الرَّقابةِ" قال فيها:- "أنا مُتخصّصٌ في المسرحيّات اللاأخلاقيّةِ والزِّندِيْقَةْ. لقد اكتسبتُ شَهرتِي بواسطة صراعي العنيد في سبيلِ إرغامِ الجُّمهُورِ على إعادةِ تقييمِ أخلاقيّاته". وبالأخلاقِ هو قد عنى، طبعاً، ليس السّلوك الشّهوانيَّ وإنّما شؤوناً متعلّقةً بالضّميرِ الفرديِّ والعامِّ، أنظِمَةًاجتماعيّةً كاملةً وتفكيراً ضيّقَ الأُفُقِ أو مُحافِظَاً. في الواقعِ هو قد استخدمَ مسرحيّاتهُ لأغراضِ "دعائيّة" [وُضِعَتُ "دعائيّة" هذه بين علامتي تنصيص حتّى لا يختلِطُ فهمُها للقارئ بمعنى "الدِّعائيّة السّياسيّة-الإجتماعيّة المُبتذلة" وإنّما يَنْظَرُ إليها ذاكَ على أنّها ذاتُ معنىً فكريٍّ وفلسفيٍّ مُعتَبَر هو أصلُها التَّاريخيُّ والإجتِماعيْ]. لذا هو كثيراً ما اتُّهِمَ بأنّه كان هدَّاماً وليس بنّاءاً على أيِّ وجهٍ من الوجُوهِ وإلاّ، كما يتساءلُ مُتّهِمُوهُ، فما الذي وضعَهُ مكانَ ما هدّهُ من نُظِمٍ وتقاليدْ؟ على كلّ حالٍ، كثيراً ما قال شو إنّهُ، في القرن الماضي أو القرنين الماضيين، وهب لنا مُفكّرُونا الفنّانون (أو فنّانُونا المُفكّرُون) جسداً من الأدبِ الذي يُؤسّسُ نوعاً من الإنجيل. في ذلك الإنجيل- معاً وفولتير، إبسِن، تولستوي وآخرين- أضحى بيرناردشو مساهماً ليبراليّاً".
في كتاب إريك بينتلي وجدتُ أيضاً فصلاً طويلاً عن فِكرِ شو الدّينِي والفلسفِيْ. بيدَ أنّه من المُستحيلِ أن يُقدّمَ المرءُ هنا صيغةً مُيسّرَةً لذلك الفكر. على كلٍّ، ما بين أشياءٍ عديدةٍ أخرى أورد بينتلي عن شو "استخدامه جهداً ذكيّاً في الإمساكِ بكُلِّ ما هو جيّدٍ في كُلِّ فلسفةِ حياةْ..." ثمّ أردفَ على ذلكَ قولَهُ إنَّ شو يُتَّهَمُ، كلازمةٍ طبيعيّةٍ لمنحاهُ هذا، بأنّهُ "عدوُّ للمُجتمع، خصمٌ لليبراليّة ومُناهضاً للعلمِ والدّينِ معاً". وممّا يهمُّنا بما فيه الكفاية أنّ الفصلَ إيّاهُ ختم حديثَهُ عن فكر شو بالكلماتِ التّالية:- "إنّه [شو] يقُودُ حملةً... وذلكَ هو ديدنُ المُفكّر المُصلح في كلِّ العصورِ، خصوصاً في هيئته التي جسّدتها تقاليدُ "فِكريّات" القرن الثامن عشر. ألم نَدْعُ ما أتى بهِ فولتير وروسو "فِكريّات"، بالذّاتِ بسببِ تغييرِهما لمعنى كلمة "فيلسوف" حتّى صارَ لها، تقريباً، نفسَ المُحتوى الذي يتضمَّنُهُ مفهُوم شو عن "المُفكّر الأصلي" و"الفيلسوف الفنّان" الذي هو، عندهُ، مُجرّد أديب وكاتب منغمس في فِكرِ زمانِهِ وواهبٍ، بالتّالي، أجودَ طاقاتِهِ للدّفاعِ عن مَا يُؤمنُ بأنَّها الأُسُسُ الإنسانيّةُ البسيطةُ ضدَّ البِناءِ الفوقِيِّ الفاسدِ للمدنيّةِ الحديثة؟"
لا يتحدّث شو عن "اللهِ" بالمعنى المسيحيِّ المعهُودِ، بل عن الأخلاقِ الإنسانيّةْ. وإلهُهُ رمزٌ للمِثاليْ.
ربّما نستطيعُ أن نُوجِزَ أن نُوجِزَ مُجمَلَ توجّهات واهتمامات شو الفكريّة، الأدبيّة والحياتيّة في الكلمات التالية التي سبقَ واقتبسناها عنهُ:- "أنا مُتخصّصٌ في المسرحيّاتِ اللا أخلاقيّةِ والزِّنْدِيْقَةْ. لقد اكتسبتُ شهرَتِي بواسطة صراعيَ العنيدَ في سبيلِ إرغامِ الجُّمهُورِ على إعادةِ تقييمِ أخلاقيّاتِهِ". لرُبّما جازَ لنا، كما أرى، أن نُضيْفَ إلى ذلكَ العبارةَ التّالية:- "ومراجعة تفكيره في مُجملِ تصوّرِهِ لماهيّةِ المجتمع". ذلكَ هو، أيضاً، لُبُّ مُنجَزَاتِ فولتير الفكريّة والأدبيّة الزّاخرة. فالرّجلان إيّاهما قد اجترآ على الرّأيِ العامِّ حتّى يُغيّرَاهُ، كما اعتقَدَا، إلى الأفضَلْ.
الفصل الثامن
الجّنرال ديجُول
لقد قِيلَ إنّ الظّرفَ الزّمانِيَّ يصنعُ الإنسان.
في هذه السّيرةِ المُقتطفةِ من حيواتِ أفرادٍ بشريّين مُعيّنين يظلُّ مقصدُنا ليس هو، بالأساسِ، وصفَ أيِّ تفصيلٍ خارجيٍّ عن الأشكالِ البرَّانِيّةِ التي تتخّذها هاتيكَ الحَيَواتِ، بل هو إضاءةَ طبائعِ شخصيّاتها والمَلَكَاتِ التي وُلِدَ بها أصحابُها وكيفَ هم تطوَّرُوا في معمعانِ مُواجهتِهم للأحداث. لهذا الغرضِ انتقيتُ، من بينَ دفّاتِ سيرٍ ذاتيّةٍ ذاتِ صيتٍ حَسَنٍ، تلكَ الفقرات التي تصفُ السّماتِ، مواطنَ القُوّةِ والضّعفِ التي ينطوي عليها الأفرادُ إيّاهُم، فتلك كلُّها آثارٌ ناجمةٌ عن هيئاتِ حَيَواتِنا السّابقة على كوكبِ الأرضْ. وإنّه لمن شأننا وحدنا استخدام تلك الأوجه من أنفُسنا (أو أرواحنا) كما يَستَعْمِلُ الفنّانُ فِرشاتَهُ عسانا، بذلكَ، نُشكّلُ الصّيغةَ التي نُجري عليها حيواتنا، بكلِّ إضاءاتها وظلالها، ثمّ بألوانها المنسجمة والبنّاءة أو التي- لغياب انسجامها وبنَّائيَّتِها- ليس لها من نفعٍ لأنفسنا أو لرفاقنا من بنِي الإنسان.
إنَّ الأمرَ الأكثرَ إذهالاً للمرءِ في هذه الدّراسةِ هو بُطءِ تطوّرِنا. فمناقصُنا القديمةُ ذاتُها كثيراً ما تُعاوِدُ الظّهُورَ فينا، حياةً إثرَ حياةٍ، فتُلْقِيْ، بدورِها، على مسارِحِ وجُودِنا، أحداثاً مماثلةً لما سبقها هي مُحصّلةَ مناقِصنا تلكَ أو افتقارنا لسلامةِ الحُكم:- ذاكَ الزّهوُ، شهوةُ القتلِ تلكَ، ذاكَ الإعتزازُ الذّاتيُّ رُبّما أو الأَنَوِيَّة. أحياناً يستطيعُ المرءُ أن يرى كيف أنّ محاسنَ شخصيّةٍ ما تنفُذُ، مُشعّةً، من بينِ مثالبِها. فالشّجاعةُ ونُبلُ الهدفِ يحملان الرّوحَ قُدُمَاً عبرَ مصاعبِها الكبيرةِ فتتحوّلُ أخطاؤُها ذاتُها إلى قُوى بفعلِ حاجةِ الظّرفِ الزّمانِيْ. وتدريجيّاً تُعدِّلُ وتُوَائِمُ التّجربةُ الحياتيّةُ أيَّ عدمِ توازُنٍ للطّاقاتِ في الرّوحْ.
نحنُ ندركُ كيفَ أنّه إذا سارت كُلُّ الأُمُورِ كما يهوى إنسانٌ ما في جِماعِ ذلكَ الزّمنِ الحَياتِيِّ الطويلِ، وأنّه إن لم يكن هنالك ثمةُ تحدٍّ يُجابهُهُ ولا إخفاقات فسوف ينتشرُ في حنايا نفسه الباطنةِ "فائضُ قيمةِ" عواملِ سايكولوجيّةٍ معيّنةٍ، ثمّ تتّخذُ تلكَ لنفسها موقعاً حصيناً في دخيلتِهِ. إنّنا نرى كيفَ أنّ "ضَرَبَاتِ عَصَى" الحياةِ التي انهالتْ عليهِ بسببِ مثالبِ طبيعتِهِ إنّما هُنَّ مثَّلْنَ فُرصاً لهُ كي يُعدّلَ ويُعيدَ مُمازجَةَ جَواهرِهِ النّفسيّةِ عساهُ يُطوّعُ أولئكَ تطويعاً يأتي بهِ على زمنٍ ينتصرُ فيهِ على ذاكَ الذي كانَ، في نفسهِ، سبباً لمعظمِ متاعبِهِ وشقائهِ في ماضيهِ العريقِ الطّويلْ. ونحنُ، كذلكَ، نرى كيفَ أنَّ "الكارما" هي بركةُ ورحمةُ فعاليّاتِ القوانين الكونيّةْ. فبدونَ تسلسُلِ ردُودِ الأفعالِ المُعاوِضَةِ ستظلُّ الطّاقاتُ التي نُصاغُ منها على وضعيّةٍ سِكُونيّةٍ، وبالتّالي نبقى نحنُ، إلى الأبدِ، أسرى طبائعنا المِزاجِيّةِ وسائرِ مُحدّداتِنا.
هذا من ناحيةٍ. أما من الناحيةِ الأخرى فإننا، أحياناً، نكونُ محظوظينَ إذ نلحظُ، أثناءَ دراسالتنا هذه، كيف أنَّ الخصائصَ اللّطيفةَ التي طوّرتها رُوحٌ ما في ذاتِها خلال القرونِ الماضيةِ تجذُبُ إليها الحظَّ السّعيدَ الظّاهِرَ في حياتِها الحاضِرَةْ. فشجاعتُها، انشراحُها، انطباعُها الودودُ عن رِفاقِها من النّاسِ، تلهّفُها إلى فِعلِ الخيرِ، إلى النّجدةِ، كما ومثابرتُها وخُلُوُّها من الشّفقةِ الذّاتيّةِ في أيّامِ العُسرِ، كُلُّ هاتيكَ الصّفاتِ تجذبُ إليها عونَ وعطفَ أولئكَ الذين انسحروا بطبيعتِها. وهكذا- إذاً- "تُزيِّتُ" لها صفاتُها الخيّرةُ عجلاتِ الحياةِ ويبدو التّوفيقُ مُفضّلاً لها، ولصيغةِ وجُودِها، على الآخرينْ.
كي نُوسّعُ هذه النقاط سنُجري الآنَ دراسةً مقارنةً عن رُوحٍ واحدةٍ وهي في حالِ توالي ثلاث حيوات عليها "كُشِفَ" لي النّقابُ عنهُنَّ وعن صلاتِهُنَّ ببعضِهُنَّ. في هذه الثلاثةِ إمتداداتٍ لوجودٍ حيويٍّ ورُوحيٍّ واحدٍ نرى بياناً لكيفَ أنَّ المواهبَ والمَلَكَاتِ الخاصّةَ بتلكَ الرُّوحِ تجلبُ، في كلِّ حياةٍ مُفردةٍ لها، إلى مُقدّمةِ وعيِها، اهتمامها ومسلكها بفعل الظروف التي تضعها الحياةُ فيها أو، بالأحرى، التي تضعُ هِيَ فيها نفسَها.
إنَّ تِلكَ الرّوحَ التي سوفَ نتحدّثُ عنها، بتشخُّصاتٍ ثلاثةٍ لها في أزمانٍ مُختلفَةٍ، هي رُوحٌ جلبَ لها امتِيازُها الشّخصيُّ النّجاحَ والسُّمعَةَ، فيما حَوَّلَتْ مثالِبُها النّاسَ عنها فانقلبُوا عليها وسِيقَتْ إلى مصاعبٍ وخيباتْ. تلكَ الرّوحُ هي الرّوحُ الواحدةُ لكُلٍّ من كوندِي العظيم، العاهل النّمساويِّ العريق جوزيف الثّاني والرئيس الفِرنسيِّ الأسبقْ الجنرال ديجول؛ كلُّ هذه هي أسماءٌ لإنسانٍ واحدٍ تجسّدتْ فيهِ قُوى باطنةٌ كبيرةٌ وعظيمةٌ كامنةٌ، كما ومثالبٌ بارزةْ.
ونحنُ نُقدّمُ مُلخّصاتَنا لتواريخِ الحَيَوَاتِ إيّاها يجدُرُ بنا أن نذكُرَ كيفَ أنَّ التّاريخَ، حقّاً وصِدقاً، يُكرّرُ نفسَهُ، خاصّةً في الحَيَوَاتِ العديدةِ لكائنٍ إنسانيٍّ واحدْ. فحتّى يُغيّرُ ذلكَ الكائنُ الإنسانيُّ نفسهُ سيظلُّ ذلك الأمرُ، حتماً، قائماً كما هُوَ. وكما قُلنا سابقاً، نحنُ ننحتُ أشكالَ حيواتِنا الخاصّةِ وِفقاً لعاداتنا الفكريّةِ الذّاتيّةِ وصيغِ ردودِ أفعالِنا تجاه الظّرُوفِ المُحيطَةِ بِنا.
ووصلاً على كلِّ ما ذكرنا يظلُّ الأمرُ الأكثرَ روعةً في ما نحنُ، الآنَ، خائضُونَ فيهِ هو تعرّفنا على كيفَ أنّ رُوحاً ما تتحوّلُ، في ثلاثةِ قرونٍ، إلى كينونةٍ ذاتِ رغبةٍ مُتناميةٍ تدريجيّاً في أن تكُونَ خادمةً لجنسها البشرِيْ. ثمةُ استنارةٍ عقليّةٍ وشعوريّةٍ تدريجيّةٍ تجعلُ صاحبَ الرّوحِ إيّاها يستخدمُ ليس فقط مواهبه العريقة العهد، كقائدٍ عسكريٍّ، لحمايةِ وصونِ وتمجيدِ بلادِهِ وإنّما، فضلاً عن ذلكَ، يُحفّزُهُ تطوّرُهُ الشّخصيُّ واهتمامُهُ المُتناميين على العملِ في سبيلِ تحسينِ الأوضاعِ الإجتماعيّةِ لأولئكَ الذين استدعاهُ "الظّرفُ التّاريخيُّ" واقتضاهُ حاكماً عليهُمْ.
نحنُ نرى، في هاتيكَ الحَيَواتِ الثّلاث، كيف أنَّ التّناقُضاتَ المعقّدة لشخصيّةِ إنسانِها قد دفعتْهُ، في كلّ حياةٍ، "لتغييرِ مواقفِهِ". فهو، حينما كان "كوندي العظيم"، تحالفَ أوّلاً مع فصيلٍ عسكريٍّ ضمَّ نَفَرَاً من بنِي بلادِهِ، ثمّ مارسَ، هو والحزب المدعُوُّ بحزبِ "الفَرَونديّين"، حرباً ضدّ الملكِ الفِرنسيْ. ثمّ هو، بعد أن صار جوزيف الثّاني، تحالفَ مع عدوِّ بلادهِ الملك البروسيِّ فريدريك وأرغم أُمّهُ على إعطاءِ موافقتِها على تقسيمِ بولندا. وأخيراً، في شخصِ الجنرال ديجول، كان ذلك الإنسانُ بين ولاءاتِهِ لإيمانِهِ القديم، للمارشال بيتان وإدارته ولحركة المقاومة الفِرنسيّة الحُرّةِ وبين ميلِهِ إمّا إلى الإنعِطافِ نحو حلفاء روسيا أو تحقيق رغبته الخاصّة في الإرتِقاءِ بفرنسا إلى وضعيّةِ أُمّةٍ مجيدةٍ مُعتزلةٍ ومُستقِلّةْ. كلّ العالمِ يُدرِكُ أيَّ عذاباتٍ دفعها ثمناُ لذلكْ. إنّ تاريخه الخاص العريق أعطاهُ إحساساً بالحوزةِ على قوّةٍ فوقَ-إنسانيّةٍ، فهو قد شعر، عميقاً في دخيلةِ نفسِهِ، بنداءٍ يدعُوهُ إلى بلُوغِ العظمةِ القوميّةْ.
سنلحظُ، كذلكَ، تشابُهاتَ أخرى ما بينَ الحيَواتِ إيّاها في الطّبائعِ والأمزجةِ وفي كيفَ أنَّ حوادثاً هازّةً وذاتَ أهمّيّةٍ أساسيّةٍ بالنّسبةِ للرّوحِ الكامنةِ وراءها حدثتْ في نفس المواقع الجّغرافيّة:- آراس، تريفاس، دنكيرك، بوردوكس وبوّابات باريس.
عطفاً على ما سبق سنشهدُ، في ذاك الإنسان، وعياً بالعبقريّةِ، حسّاً بالقُوّةِ الشّخصيّةِ المستبطنة ذاته، ثمّ ثقةً ستتخطّى وتُذلّل جميعَ العقبات. فهو قد تعلّمَ كيف يتنفّس، عميقاً في حنايا روحه، القوى الكونيّة. إنّه قد بنى، في دخيلةِ نفسِهِ، لا ريبَ خلالَ حَيَواتٍ عديدةٍ، القُدرةَ على الإمتصاصِ النّافذِ لقُوى "اللاّمرئي". ثم هو قد استدعى إليهِ، غريزيّاً وعبر سلسلةِ ديمومةِ حيَواتِهِ المُتّصِلةِ، "قُدرَةَ الرّبِّ" ؛(كما قد تكونُ سُمِّيَتْ في مُصْطَلَحِيَّةِ العهدِ القديم)، الشيء الذي وهبَهُ قامةَ "مجدٍ" مخصُوصةً وصِفاتٍ بِطُوليّةً خَتَمضتْ بِخاتَمِها على كُلِّ فِعْلٍ صَدَرَ عنهُ.
2
دعنا أوّلاً نعرفُ شيئاً عن حياة "كوندي العظيم". سأستعينُ في حديثي هذا بمُقتبساتٍ من القاموس الإمبراطوريِّ للبيوغرافيا العالميّة ومن سيرةٍ ذاتيّةٍ كتبهاعن "كوندي العظيم" السيّد ف. ستيقملر.
لنُثبِتُ، أوّلاً، ما هو جَلِيٌّ:- نحنُ لا نبدأ دربَ عيشِنا الإنسانيِّ بـ"قُوّةِ حُصانٍ" فائقةِ العلُوِّ. فلكي يصلُ "كوندي العظيم" إلى درجةٍ من الحياةِ الديناميكيّةِ مثل التي بلغها كان ينبغي لروحهِ أن تُغامِرَ، مرّاتَ عديدة، فوقَ سماواتِ وأعماقِ الحياةِ الأرضيّةِ التي تجني، في مسارها ذاكَ، ما جنتهُ من قُدرةٍ وخشبرةٍ معاشيّةْ.
وُلد لويس دي بوربون، الذي غدا- لاحقاً- الأمير كوندي وعُرِفَ بين عمُومِ النّاسِ باسم "كوندي العظيم"، في باريس في سبتمبر 1621، وكان الإبنَ الرّابعَ لهنري دي بوربون الثّاني.
تعهّدتْ المدرسةُ اليسوعيّةُ في بورجيس بتدريسِ لويس دي بوربون المقرّر التّعليمي المعتاد في تلك الأيام فتفوّق، في تمارينه الفيزيائية ودراساته كذلك، على كلّ أقرانِهِ. وفي سنّه الثانية عشر أكمل مقرّر الفلسفة واقام مناظرات عامّة كثيرة. ولتكملةِ تربيتِهِ أرسل الأبُ الأميرَ الشابَّ إلى بورقندِي كي يتولّى مسؤوليّة الحكم هناك. في بورقندي اكتسبَ لويس دي بوربون معرفةً بكلِّ الأشياءِ المُتعلّقةِ بالإدارةِ العسكريّةِ والقضائيّةِ المحلّيِّةِ، كما وتعلّمَ، بِدأبٍ، الهندسةَ، التّحصينَ وكلَّ فنِّ الحرب. وفي عام 1940 اشتركَ، وهو ابنُ التّاسعة عشر، في حصارِ منطقةِ آراس والإستيلاء عليها فلفَتَ الأنظارَ إليهِ ببسالتِهِ الشّديدةْ.
وحتّى يعلو الأبُ بالمركزِ الإجتماعيِّ والسّياسيِّ لابنهِ الشابِّ رتّبَ له زواجاً من حفيدةِ ريشيلُو الأثرياء والمنيعين. "أعربَ الأميرُ عن نفوره القويِّ جداً من ذلك الزذواج، لكنّهُ أُلزِمَ بالإستِسلامِ لهُ" (لأسبابٍ "كارميَّةٍ" سنرى، لاحقاً، كيف أنّ هذه الصّيغة قد كُرّرتْ في حياةِ "كوندي العظيم" القادمة حيثُ غدا العاهلَ النّمساويَّ جوزيف الثّاني).
"في العام التالي سُمّي الأميرُ الشابُّ جنرالاً وقائداً عامّاً للجّيشِ الذي أُرسِلَ لحمايةِ مشارفِ شامبين وبيكاردي من الأسبان". وإثرَ سلسلةِ مناوراتٍ حربيّةٍ (في عام (1645 "أحرزَ نصراً كبيراً وتامّاً على الأسبانْ... ثمّ صارَ، بذلكَ الظّفرِ وخلافهِ من انتصاراتٍ ثانويّةِ الاهميّةِ، سيّداً على كلِّ مدى منطقةِ الموسيلي الشاسع، موغلاً، بذلكَ، بعيداً حتّى تريفاس ومُنهياً أعظمَ حملةٍ مجيدةٍ قامَ بها، أبداً، جنرالٌ في الثانيةِ والعشرينَ من عُمرِهِ..." في العامين التّاليين استلم الأميرُ الشابُّ قيادةَ الجّيشِ في الاقاليمِ الواقعةِ بينَ فرنسا وألمانيا، ثمّ "هاجمَ، في عام 1646، دُنكيرك واستولى عليها بعدَ مقاومةٍ مُستميتَةْ".
بعد موتِ أبيهِ حازَ على لقبِ "الأميرِ كوندي"، لكنّه عُرفَ، عادةً، باسمِ "السيّد الأمير". ثم خوّلتْهُ الملكةُ-الأمُّ جميع السّلطات والمناصب الحكوميّة التي سبقَ وأن تقلّدها الأمير الراحل. بيد أنّ ذلكَ ما كانَ مرضيّاً لكوندي فتقدّم، عند تنصيبِ مازارِن أدميرالاً أعلى للجّيشِ، بدعوى زعم فيها أنّهُ أحقَّ بذاكَ المنصبِ، إلا أنّ تلك الدّعوى رُفِضَتْ. أشعرَهُ ذلك النّكرانُ بحنقٍ شديدٍ ضدَّ الكاردينالِ الذي اعترتْهُ، في مُقابلِ ذلكَ، أحاسيسُ غيرةٍ مُتناميةٍ وخوفٌ من قُوّةِ، طموحِ ونفوذِ الأميرِ الشّابْ.
كانت فرنسا، في تلك الأيام، تمرّ باضطراباتٍ في منطقة فِروندي هزّتها هزّاً عظيماً وألقتْ بها في حالةِ حربٍ أهليّةٍ بين البرلمان، السّلطات المدنيّة والتّاج المَلَكي. بعثت الملكة رسولاً إلى كوندي يدعوهُ إلى سندها باستشاراته وسيفه. أجابها الأمير الشاب إلى ذلكَ وهو يشعر بالندمِ إذ أحسَّ نُذُرَاً بكوارثٍ حتميّةٍ سيسُوقُهُ إليها مسارٌ كان الإعتدالُ فيهِ، بالكادِ، مستحيلاً، فيما النّجاح والفشل متماثلان في عواقبهما المدمرة. إستمرّ النزاعُ بين حزب الملكة، المدعوم من قِبل كوندي، وبين مواطني باريس حتى ربيع 1649 حين غُزِلَتْ خيوطُ تسويةٍ لهُ. إلاّ أنّ هاتيكَ الخيُوطِ ما لبثتْ أن تناثرتْ مُزُقَاً قبلَ نهايةِ العامِ الذي نُسِجَتْ فيهِ. ولمّا كان الأميرُ، في معمعةِ هاتيكَ الأحداثِ، "مُتذبذباً ومتردداً ما بين ميله إلى العرشِن كراهيّته لمازاران (الأدميرال الأعلى للجيش) وحقده على البورجوازيّة" فإنّه أصغى، بين الفينةِ والأخرى، للجميع، لكنّه ما عامل أيّاً منهم بعدالةٍ وصراحةٍ ثمّ، من بعدِ ذلكَ، أسخطهُم كلّهُم، واحداً بعد الآخر".
ضاق مازاران رعاً بشعورِ كوندي اللامحتمل بأهميّته الشخصيّةِ وامتلائهِ بالطّموحِ السّياسيِّ فأمر باعتقاله وإرساله إلى سجن فِيْنْسَيْنَسْ.
"بعد ثلاثةِ عشرةِ شهراً من البقاءِ في الأسرِ تبدّلَ حظّهُ. فالكاردينال دي ريتز نحّى مازاران عن منصبه وأطلق سراحهُ. كان الأميرُ، إلى حينٍ، سيّداً وصاحبَ مكانةٍ عظيمةٍ، ولربّما تسنّى لهُ، وقتذاكَ، استخدامَ المكانةِ تلكَ في سبيلِ خيرِ وبركةِ بلادِهِ إن كانتْ مواهبه في الشؤونِ المدنيّةِ على ذاتِ المستوى العَلِيِّ الذي كانت عليهِ ملكاتُهُ العسكريّة. لكنّهُ، بتيهِهِ في معمعانِ الدّسائسِ "الفِرونديّةِ" [نسبة إلى "فِروندي"- المترجم] الدنيئةِ والمتشابكةِ سمحَ لنفسهِ بأن يكونَ مشوّش الخاطر خوفاً وريبةً من خيانةٍ تتهدّدُ حُريّتَهُ، بل وحتّى حياتَهُ". على كلِّ حالٍ "كان امرهُ قد بُتَّ فيهِ بالفِعلِ فأقدمَ على حملِ السّلاحِ، ثمّ نشدَ عونَ ملك إسبانيا واتّخذ مقرّ قيادةٍ في بوردوكس.
هكذا تحالف كوندي مع إسبانيا وفروندي ضدّ الملك الفرنسي لويس السادس عشر (الذي كان، حينذاكَ، في الثانيةِ عشرةِ فقط من عمرِهِ، الشّيء الذي جعل الملكةَ تتولّى منصب وليّ العهد منذ موت لويس اثالث عشر). "رأسَ حزب الملك السيّد يُوريني الذي كان، عموماً، ناجحاً حيثُما حلَّ". بعد لأيٍ، أحرز كوندي، الذي نظّم طلعةً عسكريّةً قادها بنفسه، نصراً هامّاً على حزبِ الملك.. ثمّ زحفَ إلى باريس التي أغلقتْ أبوابها في وجهِ جنوده. ثمّ تصدّتْ له، عند حاجزِ سينت آنتوين، القوّات الملكيّة فنشب نزاعٌ رهيبٌ دُمّرتْ فيهِ كتائبُهُ تماماً. كان رجالُهُ يُقاتلونَ وظهورُهُم قُبالةَ حوائطِ باريس، فيما احتشدَ جيشُ الملكِ، بقيادةِ تِيوريني، على جبلٍ مُواجهٍ لهم فحازوا، بفضل ذاك الموقع، على قصبِ سبقٍ استراتيجيٍّ (ولوجستِيٍّ) كبيرْ. كان تيوريني متقدّماً إلى موقعٍ يشنُّ منهُ هجومه الحاسم الأخير ضدَّ كوندي ورفاقهُ حينَ، بإيعازٍ من الآنسةِ المُعظّمةِ ابنةِ عمِّ كوندي، التي كانتْ تُراقبُ المعركةَ من وراءِ حجابِ الحوائطْ، "حَوَّلتْ بنادقُ الباستيل نيرانها نحو جيش الملك وأُرغِمَتْ بوابّاتُ باريس على الإنفتاحِ على مِصراعيها. تراجعَ كوندي إلى داخلِ المدينةِ وهو محميٌّ بذاتِ نيرانِ المدافعِ التي كان ينبغي لها أن تُدافعَ عن باريس ضدّهُ".
سُرعانَ ما تداعتْ أطرافُ ذلك النّزاعِ "الفِرونديِّ" اللامُجدي واستسلم قُوّادُهُ لسُلطةِ الملكْ. كانتْ الطّبقةُ البُرجوازيّةُ السّاخطةُ تُقاتِلُ، في ذلك الصّراعِ العقيم، المَلِكْ.
قرّر كوندي، الذي وقف في النّزاعِ إيّاهُ بجانبِ "الشّعبْ"، بعدَ تردّدٍ طويلٍ، أن يُغادرَ المملكة. عليهِ جَمَعَ من تبقّوا من مُواليِيْهِ وانسحب بهم من باريس، ثمّ زحفوا، بكلّيّتِهم، إلى مقرِّ قيادةِ ملكِ إسبانيا في الفلاندرز. يُعلّقُ استيقملر، في مؤلّفِهِ عن كوندي، على ذلك فيقُولُ إنّه دالٌّ على أنّ هنالكَ واحدةً من صفاتِ الفرونديّين العقيمة لم يبالغ الناس في الحديثِ عنها، وتلكَ هيَ، في اعتبارِهِ، "ادّعاءُ أيِّ فردٍ منهم أنّ له الحقَّ في الإنفرادِ بكلِّ سُلطةٍ، فقط لكونِهِ فِرونديّاً نبيلاً"... "فجميعُ أولئك القوم"، يُمضي استيقملر قائلاً، "مُنصبغِينَ بذاتِ إحساسِ العظمةِ الفرديّةِ الذي انصبغَتْ به العائلة الملكيّة نفسها. وبما أنّ كوندي كان متطرّفاً في إحساسه بمجده الشّخصيِّ أكثرَ من غالبيّةِ الفِرونديّين الآخرين فإنّه فضّل أن يدخُلَ في خدمةِ ملكِ إسبانيا وعرشِها قبلَ أن يستسلم لسُلطةِ ملكِ فرنسا".
لسبعِ سنينٍ قاتل كوندي مع ملكِ إسبانيا ضدّ بلادهِ. وآخر الحروباتِ التّي شاركَ فيها، حينذاكَ، كانت موقعةً عُرِفتْ باسمِ "موقعةِ المُنحدراتْ" غصبتهُ هيئةُ الجنرالاتِ الإسبانيّةِ على خوضِها رُغم تقديرِهِ الحسَنِ الذي أوصى بخلافِ ذلكْ. أسفرتْ تلك المعركةُ عن استسلامِ إقليمِ الدَّنكيركْ لفرنسا والإذلال التام لإسبانيا. وفي المعاهدةِ السِّلميّةِ التي تلت ذلك تمّ العفوُ عن كوندي وإعادةُ كلِّ عقاراتِهِ إليهِ. كذلكَ تمّ ردُّ الإعتبارِ والممتلكاتِ لكلِّ مناصريهِ اللذينَ تبعوهُ إلى خارجِ فرنسا. وفي مقابلةٍ مع الملكِ لويس السادس عشر وعد العاهل الفرنسي بأن لا يُشيرَ، أبداً، ثانيةً، إلى الحادثةِ التي كانتْ مؤذيةً فقط للأميرِ نفسِهِ".
إنصرفَ كوندي، من بعد ذلك، عن باريس إلى منزله الرّيفيِّ الفخمِ في شانتلِي حيثُ سرَّى عن نفسِهِ بإدخالِ تحسيناتٍ عليهِ.
في السّنينِ التي تبِعَتْ تلك الاحداث قاد كوندي، مرّةً أخرى، كتائبَ الملكِ في حملاتٍ على إقليمِ الفلاندرز الإسبانيِّ وهولندا. "ومُظهِرَاً، كالمعتادِ، درجةً عاليةً من القدرةِ والشَّجاعةِ، خاصّةً في استغلالهِ الذّكيِّ لمعبرِ نهرِ الرّاين في مواجهةِ العدُوِّ حيثُ تلقّى رُصاصةً مزّقَتْ رِسغَهُ. أدّتْ بهِ تلكَ الإصابةُ إلى الإعتذارِ عن قبُولِ قيادةِ الجّيشِ، التي منحها لهُ الملكُ في العامِ التّالي، وقضاءِ أيّامِ اعتزالِهِ الحياةَ العامّةَ في شانتلِي حيثُ استمدَّ أعظمَ مُتعةٍ له من تزيينِ أوقاتِ تقاعُدِهِ المليحةِ مُبتهجَاً بصُحبةِ رجالاتِ الأدبْ".
تُوفّي "الأمير كوندي" في عام 1686.
هكذا مُكّنّا من دراسةِ كيفَ أنَّ القُدراتِ الواسعةَ لتلك الرّوحِ قد أُضعِفَتْ بإحساسِ شرفٍ شخصيٍّ وعظمةٍ مُبالغٍ فيهِ هو كفيلٌ بتضخيمِ ذاتِ الفردِ الإنسانيِّ منذُ شبابهِ وما بعدِهِ، الشّيءُ الذي يطبعُ بطابِعِهِ على روحهِ حتّى في عهودِ شَتّى حيواتِهِ المُستقبليّةْ.
يجبُ عليَّ أن أردّدَ هنا أنّني، لكوني لستُ طالبةَ تاريخ، لا أحوزُ على معرفةٍ بقصصِ حَيَواتِ تلكَ تلكَ الشّخصيّاتِ التي أُعْطِيَتْ لي أسماؤُها للدّرْسِ والمُقارنةْ. فأنا ما علمتُ شيئاً عنهُم إلاّ بعد أن أُخْطِرْتُ بأسمائِهم.
3
أُعلِمتُ أنَّ تلكَ الرّوحَ عينَها قد انتسختْ، في القرنِ الثامن عشر، في شخص الإبنِ الأكبرِ لماريا تيريزا، إمبراطور النّمسا. في هذه الدراسةِ سأقتبسُ تفاصيلَ خاصّة بسيرةِ الشّخصيّةِ المعنيّةِ عن كتابٍ عنوانه ماريا تيريزا ألّفهُ إدوارد قِرانشكو، وعن القاموس الإمبراطوري العالمي للبيوغرافيا، وعن كتابٍ آخرٍ عنوانه جوزيف الثّاني ألّفهُ س. ك. رادوفا.
كان جوزيف هو الإبن (الطفل المثالي) الذي طالما تاقتْ أمه ماريا تيريزا، إمبراطورة النّمسا، لمجيئهِ إلى الدّنيا. وُلِدَ ذاكَ الإنسانُ المُنتظرُ في فينّا في الثامن عشر من مارس 1741.
قِيلَ أنّ ماريا تيريزا قد حملتْهُ، وهو طفلٌ رضيعٌ، على ذراعيها حتّى يُعينُها في التماسٍ عاطفيٍّ لدي المجريّين المتعصّبين في بريسبيرق عساهم يُساعدوها في حمايةِ حقوقها الوراثيّةْ. (أكّد جوزيف، فيما بعد، أنّ أمّهُ قد قرصتْ مؤخّرتهُ، حينذاكَ، حتّى تجعلهُ يُبكي في اللحظةِ المناسبةْ- كانتْ تاكتيكات الملكة ناجحةْ). تلقّى جوزيف الصّبيُّ تعليماً وعنايةً تربويّةً حريصةً على أيدي عددٍ من المُدرّسينَ الخُصوصيّين، كما وتعهّدَ اليسوعيّونَ بتعليمهِ الدّينِيْ.
"تفوّقَ في التمارينِ الرياضيّة وكان، في شبابه، متحرّقاً إلى أن يُشاركَ في التدريباتِ العسكريّة... في سنّ السّادسةِ عُهِدَ لهُ بإمرةِ لواءٍ حربيٍّ خاصٍّ بهِ فانبرى منذراً القيادة العليا للجّيشِ "الهاوقفتس" حينَ تناقشتْ في أمرِ إجراءِ إصلاحاتٍ كبيرةٍ على هيئةِ لوائهِ ذاك. قال، وقتذاك، مخاطباً، بعجرفةٍ، "الهاوقفتس":- "أحّذّركم من أن تَمَسّوا لوائيَ الخاصَّ بأيٍّ من إصلاحاتِكم تلكَ، فأنا لن أسمحَ بها".
هذا الحادثُ الباكرُ الصّغيرُ يؤشّرُ لنا على "القاعدةِ المفتاحيّةِ" التي صِيغتْ، على مِنوالِها، شخصيّةُ الأميرِ الشابِّ الصّاخبة. قال قِراشِنكو معقّباً عليهِ:- "إنّ إلقاءَ التّبعةِ واللّومِ، عند استجلاءِ مثالبِ طبيعةِ جوزيف، على تنشئةٍ خاطئةٍ، كما حدثَ معهُ بتواتُرٍ، ليس من الإنصافِ في شيء. فأخواه شارلس وليوبولد قد أنشآ، بالضّبطِ، على ذاتِ النّهجِ، إلاّ أنّهما اختلفا في طبائعهما عنهُ. الشّاهدُ على ما نذهبُ إليهِ هو أنّ شارلس قد انطوى على طبعٍ هيّنٍ وسطحيْ. أمّا ليوبولد، رُغم أنّه ما كان واعداً في صباهِ، فقد تحوّلَ، في شبابِهِ، إلى إنسانٍ مُتميّزِ الشّخصيّةِ تطوّرَ، لاحقاً، إلى شخصٍ أحكَمَ، أرأفَ وأثرى الحُكّامِ خيالاً في عهدِهِ.
"نظر جوزيف إلى مجرياتِ أحوالِ أُمّهِ، أبيهِ، أخويهِ وإخواتِهِ، في البدءِ، بتحفّظٍ سئِمْ، ثمّ سُرعانَ ما تنامى فيهِ ذلكَ إلى ازدراءٍ مُفْتَرٍ"... "مع جوزيف ما كان لنظام تنشئةٍ ما أن يثبتَ فعاليّتَهُ. ذلكَ لأنَّهُ لا قلبَ لديهِ. وحتّى لو أخذنا علاقته العاطفيّة المتأخّرة مع إيزابيلاّ المسكينة في الحُسبان فلن يُغيّرُ ذلك من أمرِهِ شيئاً. فهو على أتمِّ ما يمكنُ للإنسانِ الأنويِّ القَحْ. وما عاطفتُهُ المعتزلةُ سوى، ببساطةٍ، وجهٌ آخرٌ من وجوهِ أنويّتِهِ. إنّه ما كان شاعراً بحضورِ إيزابيلاّ فيهِ كإنسانٍ حيٍّ، فهي قد كانتْ، باختصارْ، "شيئاً" غذّى فيهِ حُبّهُ لذاتِهِ". تلكُم كانتْ ملاحظةً عبّر بها قِراشِنكثو عن طرفٍ من مُلاحظاتِهِ حولَ طبيعةِ شخصيّةِ جوزيف الثّاني.
جُلِبَتْ إيزابيلاّ البارميّة [نسبةً إلى "بارما"] من إيطاليا في سبيلِ مصاهرةٍ ذاتِ أهمّيّةٍ سياسيّةٍ لعائلةِ آلِ هابسبيرق المالكة وابتداراً لخطوةٍ نحو تعزيزِ الرّوابطِ بينَ مارسيليا وفينّا عبرَ تزويجِ جوزيف الثاني لامرأةٍ من آلِ بوربون، رُغم أنّ الشّابيّنَ إيّاهما ما التقيا أبداً. وعندما ماتت إيزابيلاّ، بعد ثلاث سنوات من عقد قرانها وجوزيف، غُصبَ جوزيف، عُنوةً واقتداراً، على أن "يَعقدَ"، مرة ثانيةً، تحالفاً سياسيّاً وامرأةً أخرى هي جوزيفا. كانتْ جوزيفا تلك "بغيضةً إلى نفسِهِ"، الشيء الذي دفعَهُ إلى معاملتِها بـ"برودةٍ تامّة" .
ليس لجوزيف أبداً أن يُستَمَالْ. فالإستِمالةُ تعني، ضمنيّاً، قبُولَ المرءِ لوجهاتِ نظرٍ أخرى، وهو لا يستطيعُ شيئاً في هذه الدّنيا سوى أن يقودَ ويأمُرْ. كانتْ العثرةُ الوحيدةُ في دربِ مرتقاهِ السّياسيِّ هي وصيّة أمّهِ، ولكنَّ حتّى تلك كانتْ، بالكادِ، أكبرَ مما يستطيعُ احتمالَهُ. كان، بالطّبعِ، محتشداً بالأفكارِ التي ما جانبَ العديدُ منها السّداد. لكنّ إصلاحاتُهُ ما نبعتْ من حبّهِ لشعبِهِ، أو حتّى شفقتِهِ عليهِ- يقفُ شاهداً على ذلك المسغبةُ التي أصابتْ فلاّحِي بوهيميا- وإنّما من حُبٍّ للذّاتِ مُطوَّعٍ بِمُثِلِ عدالةٍ مجرّدةٍ ومن ازدراءٍ لكلِّ من اختلفَ معهُ. كان مستيقناً من أنَّ عائلةَ آلِ هايبسبيرق المالكة يجب أن تُساقَ، بالسّياطِ، إلى ان تتّخذَ شكلاً يكونُ جديراً بامتيازه الفرديِّ كأوتوقراطيٍّ "أصيلْ". أمّا ما فهمهُ من معنى تحسينِ الظّروفِ المعاشيّةِ لشعبِهِ وناسهِ فما تعدّى سحقَهُ، بغامرِ الشّغفِ والبهجةِ، لليسوعيّين وضبطه وربطه لأرستقراطيّةٍ ممقوتة. مرّةً أخرى اتّخذَ (على طريقتِهِ الخاصّة) ذلكَ الإنسان الذي صارَ
" جوزيف الثاني" في القرن الثامن عشر الميلادي جانب الشّعب والعامّة ضدّ النّبلاءْ.
كان جوزيف ليس سوى طفلٍ في السادسةِ من عمره حين كتب عنهُ بوديولس، وزير فريديك الأكبر، إلى سيّدهِ قائلاً:- "إنّ مُحيّاهُ يعكسُ الكِبَرَ والعجرفةَ، كذلك سلوكه... فهو له أرفع تصوّرٍ عن مقامهِ الإجتماعيِّ-السّياسيْ.. حاول الإمبراطور أن أن يُخلّصهُ من أمثالِ تِلكَ الإنطباعاتِ المزهُوّة، لكن حبّه العظيم للصبِيِّ أضعفَ سلطتهُ عليهِ... في السادسةِ كان، بالفعلِ، قد صار ذا سُمعةٍ شُهِرَتْ بتجاهلها الصّارخِ لكلِّ أولئكَ الذين حوله ممن لم يكونوا على أرفعِ الدّرجاتِ اجتماعيّاً (وسياسيّاً)، ثمَّ هو سخر، كذلكَ، أمام الملأ، من المقام الإجتماعيِّ- السّياسيِّ لعائلةِ أبيهِ"... "كانتْ ماريا تيريزا مصمّمةً على وضع نهايةٍ لهذا النوع من الإنتفاخِ الفارغ" فكتبت إلى مدرّسيهِ الخُصوصيّين، كما روى لنا عنها قِراشنكو، عن "أولئكَ الذين دلّلوهُ كثيراً وسمحوا له بأن يُنمّي في ذاتِهِ تصَوّراً فجّاً عن مكانته الرفيعة. إنّه يتوقّع أن يُشرّف ويُطاع ويجدُ أيَّ انتقادٍ له غير لطيفٍ، بل ليس مسموحاً بهِ تقريباً... هو يسلُكُ دائماً بطريقةٍ خاليةٍ من التّهذيب، بل فظّة. هذا ينبغي له أن يُوقفْ".... "لكنّه كان شخصاً صلداً أصمّاً، وكلّ الصّفاتِ التي آيستْ أمّه منهُ وهو لمّا يزلُ في روضةِ الأطفالِ بقيَتْ معهُ طوالَ أيّامِ حياتِهِ فظلّ، دوماً، مُتحرّشاً، فظّاً، هلوعاً ومُرّاً... إعترضتْ أمّه على سوءِ معاملته اليسوعيين وتحرّشه بالنّبلاء... ثم هي، أيضاً، اعترضت، أشدّ كثيراً من ذلكَ، على الطّريقةِ المتعجرفةِ المتعالية التي هاجمهم بها. كانت عالمةً، كذلك، بكلّ شيءٍ عن طموحِهِ، فوق كلِّ شيءٍ آخرٍ، إلى الفخامةِ الشّخصيّةِ والمجدِ الحربيْ. وعندما أنبئَتْ، في مرّةٍ من المرّاتِ، أنّ ابنها، مهما غدا على أشدِّ ما يكونُهُ من غلظةٍ وقسوةٍ، هو في جانب الملائكة ما دام مهتمّاَ بشؤونِ المغلوبين والمسحوقين لابدَّ أنّها تساءلتْ
- إبراهيم جعفر
- مشاركات: 1948
- اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am
، كثيراً وطويلاً، عن الكيفيّة التي صالح بها ذودَهُ عن قضايا الفلاحين واعتزامه المُستخفُّ بأن يستخدمهم علفاً للمدافعِ في حروبٍ لا غناءَ فيها، بل ومُشينةْ".
تُوّج جوزيف، في الثانيةِ والعشرينِ من عمرهِ، ملكاً على الرّومان الذين كان أبُوهُ امبراطورهم المقدّسْ. وفي عام 1765 تُوفّيَ أبوهُ فصار امبراطوراً وقائداً أعلى للجّيشِ وشريكاً لأمّهِ في ولايةِ عهدِ الإمبراطوريّة النّمساويّة-المَجَرِيَّة.
ولقنوطِ أمّهِ العظيم انساق جوزيف الثاني لتأثيرِ فريدريك الأعظم، ملك بروسيا، الذي كان هو مُعجباً به إعجاباً عظيماً. زار جوزيف الثاني فريدريك الأعظم في قصرهِ في بوتسدام حيث صار متورّطاً في خُططه للتحالف مع روسيا والغلبة على بولندا وتقسيمها. وفي ذلك السبيل الأخير اتّخذ وسيلةً لبلوغِ غاياتِهِ تمثّلتْ في "ممارسةِ ضغطٍ لا يُطاق على أمّهِ حتّى تنصاع لهُ". ولعلّهُ من الشّواهدِ على حبِّ جوزيف الثاني للعظمةِ ما كتبهُ عنهُ الشّاعر كُلوبِستوكْ حيثُ قال إنّهُ "ميّتٌ من الجّوعِ إلى المجدِ، صخّاباً على دربِهِ، تائقاً إليهِ وباكياً من أجلِهِ".
إِختُتِمَتْ محاولةٌ فاشلةٌ قام بها جوزيف الثاني لضمِّ بافاريا إلى امبراطوريّته بكارثةٍ أدّتْ " ليس فقط إلى فقدانهِ لهيبته وإنما، لكونها مُجسّدةٍ لأوّلِ خُذلانٍ عسكريٍّ-دبلوماسيٍّ يُواجَهُ بهِ في أوّلِ مخاطرةٍ لهُ من نوعِها، تعدّتْ ذلكَ إلى طبعِ أثرٍ خطيرٍ على شخصيّتهِ. ومُجهضَاً في مغامرتِهِ الإفتتاحيّةِ استغرقَ جوزيف الثاني في نرجسيّته التي دفعتْ بهِ- في ردِّ فعلٍ على خُذلانِهِ ذاك- إلى أن يُؤكّدَ، بتشديدٍ، في سنينٍ تاليةٍ، حسّه بالتّفوّقْ". سافر جوزيف الثاني كثيراً، وهو مُتّخذٌ- ببساطةٍ- من لقب الكونت فولكنشتاين اسماً له، في أرجاءِ فرنسا، إيطاليا، ألمانيا وروسيا حيثُ تفحّص القوانين والأعراف السّائدة في كلٍّ من تلك البلاد، على حِدةْ. ثمَ فرضَ، إثرَ ذلكَ، إصلاحات اجتماعيّة (وسياسيّة) على السكان المحليين في شتى بقاع امبراطوريته أثار بها حفيظتهم، إلا أنه أُجبرَ، لاحقاً، على نقضها وتبديلها.
"كانت مشاريع هذا الإمبراطور القومي لتمجيد وتعظيم شأن امبراطوريّته كبيرة بما يُكفي، بيد أنه فعل شيئاً أفضلَ من مجرّد الغلبة على الأقاليم. فلقد أجرى إصلاحات في بلده (النّمسا) مضت بعيداً في عصريّتها إلىحدِّ إلغاءِ أسوءِ أوجه النظام الإقطاعي، تحويل مؤسسة الرّقّ على مؤسسةٍ تدفع أجوراً محددةً لمُسخَّرِيْهَا، وتعديل القانون بما يتّفق ومُقتضى العدل. كذلكَ أرسى جوزيف الثاني قواعد حريّة الفكر والضّمير- ما دامت تلك الحريّة كافّةً نفسها عن التّعدّي على الدّين، الأخلاق والقوانين. جليٌّ أنّ مستجِدّات سريعة كتلك ما كان لها أن تمر دون معارضة... فذلك المُضِيُّ العجُولُ على دربِ إصلاحاتٍ رئيسةٍ كتلكَ ألّبَ على جوزيف ذاتَ النّفرِ من النّاسِ اللذين حاول عونهم فانقلبوا أعداءاً لهُ... كان ناجحاً باعتباره مُقضّاَ لمضاجعِ المؤسسات الرّاسخة، لكنّه ما كان مُبتدعاً لأسس دستورٍ جديد. أُلزمَ الإمبراطور جوزيف الثاني، لاحقاً، بالتراجع عن بعض الإجراءات السابقة، فيما تُرِكَتْ بقيّتُها كإرثٍ ستنجمُ عنهُ، مستقبلاً، نكباتٌ أُخَرْ. إنّ الخطأ الذي ارتكبه جوزيف هو توقّعه أنّ رعاياهُ، اللذين كُبّلوا بقرونٍ من الخِضُوعِ، سيُحبّونه امتناناً للمنافعِ التي غصبهُم على "قذفها" في أجوافِ حلوقهم".
بعكس تلك الإصلاحات الداخليّة كانتْ سياسة جوزيف الخارجية "عنيفة وفظّة"، كما وكانت، كذلك، غير موفّقة. في عام 1787 جهّز جيشاً ضخماً انهمكَ بهِ في حربٍ، مستنزفةٍ للطاقاتِ ولا غناءَ فيها، ضدّ تركيا. ذلك في محاولةٍ لتمزيقِ وحدة تراب ذلك البلد وتقاسمه مع روسيا. \
في القاموس العالمي للبيوغرافيا نجد توصيفاً موغلاً في المدحِ لشخصية جوزيف الثاني يقول عنه إنّه "كان مواطناً صالحاً لامبراطوريته، فلقد خفف عن الناس البؤس وبذل جهوداً لإزالةِ المجاعةِ، كما وأدخلَ نظامَ التّجنيدِ بالقُرعةِ وشاركَ في حظرِ التعذيبِ ثم هو، أيضاً، كان بعيداً جداً من أن يكونَ معارضاً لنشاطِ اليسُوعيّين".
يستمر ذلك القاموس في مدحه لجوزيف الثاني فيقول عنه إنه، عند موتِ أبيهِ، وهبَ ثروةَ أبيهِ الخاصّة للدولة وإنه، أيضاً، "إنسانُ حشمةٍ ومبادئٍ بقدرِ ما هو بعيد النّظر وليبراليّاً في العديدِ من أفكارِهِ الإصلاحيّةْ".
ثم يحكي لنا المصدر المذكور آنفاً حكايةً نبتْ إلى علمه عن جوزيف الثاني. يقولُ في تلك الحكاية- بعد أن يصفَ بطلها بأنه "ذاكَ الإمبراطور الدّيمقراطيّ، بغرابة، مع أنّه راديكالي"- إنّ جوزيف قد أحبَّ التّمشّي منفرداً في وسطِ عامّةِ النّاسِ وهو مُتخَفٍّ في الهيئة. مع ذلك فهو ما استطاعَ، في أحدِ الأيّامِ، صبراً على إأفشاءِ حقيقتِهِ لبائعةٍ عجوزٍ رآها في جولةٍ بالسّوقِ فصاح فيها قائلاً:- "لن تُخمّني أبداً من أنا. أنا الإمبراطور".
"كان شعاره هو الخير الأعظم للعدد الأعظم". ولكنّه كان مُستبدّاً، استبداداً مُفرطاً، في الطّريقةِ التي يُنزِلُ بها ما يعتبرُهُ خيراً للنّاسِ على أرضِ الواقعْ". أعطى، ذات حين، الغابة الشاسعة في فينّا المعروفة باسم "البريتر"، التي كانت حتى ذلك الأوان مخصصة للطبقة الأرستقراطيّة فحسب، إلى شعب فينّا كي يستجمَّ فيها. مع ذلكَ هو كان كثيراً ما ينقلبُ "وقحاً إلى حدّ الوحشيّةِ، خصوصاً في مسلكِهِ مع النّبلاء".
عمل جوزيف الثاني، دون توقف، على استجلابِ الخيرِ لشعبهِ- وفقَ أفكاره الخاصّة عن ذلك الخير- وركبَ مَركِبَاً صَعْبَاً في سبيلِهِ إلى غاياتِهِ. وفي الأسابيعِ الأخيرةِ لحياته قال عنه وزيره العجوز المجرِّب كاونتز، في حينٍ كانت فيهِ النِّمسا تتخبّطُ في الإنهيارِ الكارثيِّ لخططهِ (التي رسمها للتنفيذ في البلاد وفي خارج البلاد معاً):- "إنّ الإمبراطورَ قد أبدى ميزات عظيمة ومثيرة للإعجاب. بيدَ أنه من المفزع للمرءِ أن يتصوّرَ كيف ردَّ "هذا" العنادُ الإستبداديُّ السّلطةَ الملكيّةَ الحَسَنَةَ إلى حالةٍ كحالتِهِ الحاليّةْ".
تُوفّيَ جوزيف الثاني في عام 1790 بفعلِ حُمّى ووهنٍ في العافيةِ أَصاباهُ نتيجةً لحملاتِهِ على تركيا... كتبَ- أثناءَ أيّامِ مرضِهِ- إلى وزيرِهِ ما يأتِي:- "عجِّلْ بكلِّ شيءٍ يُقرِّبُنِي من إتمامِ خُطَطِي لإسعادِ شعبِيْ".
4
والآنَ، بفضلِ مهارةِ من هو متمكّنٌ من قراءةِ سِيرِ حيواتِ الرّجالِ والنّساءِ من السّجِلاتِ الخفيّةِ، نستطيعُ أن نطّلعَ على آخرِ أخبارِ حياةٍ لهذه الكينونةِ الدّيناميكيّةِ على كوكبِ الارضْ. سنأخذ مقتبساتنا هنا من بيوغرافيا كتبها آيدن كراولي. ومن نروي عنهُ الحكاية الحاليّة هو، بالطّبعِ، الجنرال ديجول، فهو قد "سلّمَ بمنصبِهِ الرّفيعِ كحقٍّ شخصيٍْ".
وُلدَ شارلس ديجول في 22 نوفمبر 1890. ويبدأ تاريخُ عائلتهِ الحقيقيُّ بالسّيّد ريتشارد ديجول الذي تسلّم العقار الإقطاعي في إلبوف بنورماندي في القرن الثالث عشر. أما بطل العائلة فهو السّير جيهان ديجول الذي شارك في آخرِ كرٍّ عظيمٍ قام به الفرسان الإقطاعيّون ضدّ رماةِ السّهامِ الإنجليزِ في أقِنْكَورتْ.
كان هنري، والد شارلس، إنساناً "متدبّراً، مهذّباً ومشذّباً وتقليديّاً" ومُفعماً بشعورِ الكرامةِ القوميّةِ الفرنسيّة. صيّر حبّه للتّاريخ ابنه (شارلس) مُلمّاً بأصولِ عائلتِهِ الخاصّةِ وبـ"مجدِ" الماضي الفرنسي. أمّا إنجلترا فقد مثّلتْ، دوماً، في واعيتِهِ، العدوَّ الرئيسيَّ (التّاريخيَّ) لبلادهِ، الشيء الذي دفعه إلى عدم السّماح لأطفالهِ بتعلّم اللغة الإنجليزيّة. غرستْ تنشئة شارلس فيهِ غيرةً كانتْ أقوى حتّى من خصومته لإنجلترا. كان أبوه وأمّه يعبدان فرنسا كوثنٍ، كصنمٍ مُقدّسْ. وعن أمّه هو قال- لاحقاً- إنّها قد انطوتْ على "عاطفةٍ لا هوادةَ فيها تجاه بلادها استوتْ وتقواها المسيحيّةْ". لم تستطع أبداً أن تتعافَى من صدمةِ هزيمةِ فرنسا في عام 1870. فقبل تلك الهزيمة كانتْ فرنسا هي القوّة الطّاغية في القارّة لأكثر من قرنينِ من الزّمانْ.
"ما كان آل ديجول بونابرتيّين. فالإمبراطور الأوّل قد أنهكَ فرنسا.. لكن في غيابِ الصّولجانِ الملكيِّ نصّبوا الجّيشَ في المقامِ المقدَّسِ فجسّدَ، في عيونِهم، كلَّ "عظمةِ" فرنسا. لكن حينَ هُزِمَ ذاكَ الجَّيشُ هزيمةً فاضحةً في عام 1870 ذهب النّورُ عن عيُونهم". كان والد شارلس قد شارك في مقاومة حصار باريس فتحرّق ابنه شارلس، فيما بعد، إلى الإنتقامِ من ذلك الحصار.
"ورُغمَ أنّ أخاهُ الأكبرَ كان، ثقافيّاً، هو الألمع إلا أنّ شارلس هو الذي كان زعيم الأطفال الخمسة. كان حصيفاً ومتسلّطاً وولعاً بتدبير المقالب المازحة لعائلته، لأصدقاءِ عائلته وللخدم... كثيراً ما كان بارداً ومُمتنعاً إلى حدِّ أنَّ عائلتَهُ اعتادتْ على القولِ إنّه ينبغي لهُ أن يكونَ قد وُلِدَ في "بيتِ ثلج"...."
كان شارلس أكاديمياً جيّداً. ولقد أحبَّ الموسيقى- وفِرويسارت. كما وأنّه أحبَّ الإطّلاع على الفلسفة وشرع، كذلك، في قراءةِ الشّعر.
أحرز شارلس المرتبة الأولى في فصلٍ دراسيٍّ عُقِدَ في سينت سير وفي أكاديميّةٍ عسكريّةٍ في باريس. كان، حينذاكَ، "في التاسعةِ عشرةِ من عمرهِ، قويَّ البنيةِ وذا طبيعةٍ تميلُ إلى الغرابة. كان طويلاً، بمقدارِ رأسٍ، عن معظمِ الفتيان، وبأنَفِهِ العريضةِ البوربونيّة [نسبةً لآلِ بوربون- المترجم] تقريباً. وذقنه الضعيف تبدّى مظهرُهُ آمراً، لكن ليس أخّاذاً..... حتّى آنذاك عاش ذلك الرجل المعتزل المؤكّد لذاتِهِ حياةً مخفيّةً، بل ورهبانيّةً تقريباً. كانتْ عائلتُهُ وأقرباؤُهُ منتمينَ إلى شريحةٍ صغيرةٍ ومُحافظةٍ من الحياةِ الإجتماعيّةِ الفرنسيّة. وكان والداهُ تقليديّين وعلى خلافٍ مع البورجوازيّة- الرّوح الثوريّة كانت، وقتذاكَ، قد سُحقَتْ بفعلِ القمعِ الوحشيِّ للكوميون، أمّا الإشتراكيّةُ فهي لمّا تستحوذُ بعدَ على الحشودِ البشريّة...
في الحقِّ، كان شارلس، من النّاحيةِ الثقافيّةِ، غشيماً. كان واضحَ الرّؤيةِ الذّهنيّةِ بما يُكفِي لأن يرى أنَّ المَلَكِيَّةَ قد ماتت لكنّهُ، في ذاتِ الوقتِ، افتتنَ بموراس الذي كان فيلسوف الملكِيّة... وتعاطف مع الآمالِ الإشتراكيّة، لكنّه ما انضمّ أبداً إلى الحزبِ الإشتراكي.. ثمةُ شيءٍ واحدٍ كان يثيرُهُ:- الولاءُ القوميْ. فحبُّ فرنسا، كما شعر، يجب أن يُوحّدَ الرّجالَ (والنّساءَ) ويمحو كلّ الفروقات بينهم. ومثل الشاعر بِيْقْوَي هو، أيضاً، "قدّس فرنسا والفرنسيّين ومجّد مهنة السّلاحْ".
في الجّيشِ صفع شارلس أوّل ضابطٍ أصدرَ أوامرَ لهُ على ذاتِ النّحوِ الذي صفعَ به السّير ونستون تشرشل بعد ثلاثينَ عاماً من ذلك الحادث. "هل ستراني أُرشِّحُل لرتبةِ سيرجنت صبيّاً سوف يكونُ على راحتِهِ فقط إن رُشِّحَ لرتبةِ "الكونستابل العظيم؟"..." قال، آنذاكَ، مُخاطباً من أمرهُ. كتب ونستون تشرشل، في استذكارٍ مُتفكّرٍ لحادثةِ لقائهِ وديجول في عام 1940:- "شعرتُ [حينذاك] بأنّ ما جرى هو المؤشّرُ لما سيؤولُ إليهِ الأمرُ وكونستابل فرنسا".
في أكاديميّة سينت سير أعطى ديجول معاصريه الإنطباع الذي ربما كانوا يتوقعونه. فمظهرهُ هناكَ أكسبَهُ لقب "شارلس العظيم" أو "آسبيرق العظيم". وبسببِ طبيعته الإنفراديّةِ وسلوكه المائل إلى العجرفةِ عُرِفَ أيضاً باسمِ "الدّيكْ" أو "الطّاؤوس".
أُرسلَ شارلس ديجول، في سنّهِ التّاسعة عشر، إلى آراس حيثُ بقيَ ولواؤُهُ فيما بين 1909 و1910، ثم فيما بين 1912 و1914. قالت سيرته الذاتية، بتعبيرٍ دالٍّ، أنّهُ قد"شعرَ، في آراس، بأنه في بلدهِ". بعد الحرب شاركَ في تحريرِ آراس.
"كانتْ الرؤوسُ تستديرُ على الشوارعِ حينما يمرُّ بها، وأولئكَ اللذينَ أقاموا صلةً قريبةً معهُ كانوا مقتنعينَ بأنَّ ذلكَ الليفتنات الشابَّ سيصيرُ، ذاتَ يومٍ، رئيس فرنسا..... في سنينِ حياتِهِ الأخيرةِ ما رُبِطَ اسمُهُ أبداً بأيِّ امرأةٍ سوى زوجتِهِ. كان متحفّظاً تجاه النّساء حتّى حينَ كانَ شابّاً".
عند نشوبِ حرب 1914-18 قاتل فيها ببسالةٍ جسورة:- "غامرَ بالمُضيِّ بعيداً عن التّحصيناتِ ورفضَ بتاتاً أن ينحني، حتّى وهو في خطِّ المقدّمة. مع ذلك ما أصابتْهُ أيُّ شظيّةٍ. في ذلكَ الوقْتِ نُودِيَ، مرّةً أخرى، باسم "كونستابل فرنسا"..."
على كُلِّ حالٍ، لم يسلم ديجول من انتقادٍ موجّهٍ لهُ (في الجّيشِ) بسببِ خُيّلائِهِ التي استعدتهُم عليهِ وأثارتهم ضدّه. من الشّواهدِ على ذلكَ احتواءُ ملفّهِ الشّخصيِّ، عندَ نهايةِ فصلٍ من فصولِ دراساتِهِ العسكريّةِ، على ما يأتي:- "إنّه شخصيّةٌ متطوّرةٌ جداً وذاتُ ثقةٍ عظيمةٍ بنفسها وباستطاعتها تحقيقَ نتائجٍ ممتازةٍ إن هيَ قَبِلَتْ الأخطاءَ بسماحةٍ أفضلَ قليلاً وإن هي، كذلكَ، رضِيَتْ، بسهولةٍ أكثرَ، بالسّماحِ لوجهةِ نظرِها بأن تكونَ محلَّ نقاشْ"... أيضاً جاءَ في ذلكَ الملف:- "أنّه (شارلس ديجول) ضابطٌ ذكيٌّ جداً، متحضّرٌ وجادٌّ، ذو ألمعيّةٍ ووُسْعٍ، عظيمُ الموهبةِ ومُتّسِمٌ بميزاتٍ أُخَرٍ عديدةْ... لكن، لسوءِ الحظِّ، هو يفسدُ فضلَ ما لديهِ بتأكيدهِ المتطرّفِ لذاتِهِ، شراستِهِ تجاهَ آراءِ الآخرين وتصوّرهِ لنفسِهِ على أنّهُ مَلِكٌ في المنفَىْ". يُمضي الملفُّ في الحديثِ عن ديجول فيقولُ عنهُ إنّهُ "أظهرَ حسماً في مهمّتهِ ورصانةٍ والقُدرةَ على القيادةِ لكنَّهُ، أيضاً، أبدى، أحياناً، فشلاً في الحُكم". ثمّ يستطردُ مشيراً إلى أنّ ديجول هو "شخصٌ مثيرٌ للإهتمام، إلا أنّهُ، أيضاً، حالةٌ حسّاسةٌ وصعبةٌ"، وأنّهُ، "ذو مزايا عظيمة، بيدَ أنّهُ أنَوِيٌّ جدّاً ولا يُخالطُ الطّلابَ الآخرينَ إلاّ قليلاً، ممّا جعلهُ مكروهاً بسببِ غرورهِ الصّريح. لكن، عندَ معرفتي به معرفة أفضل، وجدتهُ ليس مفترياً ولا متعجرفاً وإنّما أصيلاً وذا روحٍ مرحةٍ، بل وانشراحيّة"... كان صُحبتُهُ- كما يُوردُ التّقريرُ إيّاه- "يجدونَ حسّهُ الغير مستحٍ بالتّفوّقِ صعباً على أن يُبتلع... قال أحدهم لهُ، ذاتَ يومٍ:- "أنا لديّض شعورٌ غريبٌ بأنّكَ مثوثَقُ العهدِ بمصيرٍ عظيمْ". وأجابهُ ديجول، ببطءٍ وبتوكيدٍ:- "بلى، أنا أعتقدُ ذلكَ أيضاً"...."
عند تخرّجِهِ من الكلّيّةِ العسكريّةِ المسمّاةِ "إيكول سيوبيريوغ" بالدرجةِ الثانيةِ أضحى حانقاً:- "إنّه ما فهم أبداً البغضاء التي سبّبها صلفهُ وتهكّمهُ"..... "ثمّ بعد زمانينَ من ذلك التّخرّجِ وفي حينٍ كان فيهِ يُحاضرُ، بوصفه كابتناً، جمعاً من الطُّلاّبِ قال لهم حديثاً مقتبساً استدعاهُ من الذاكرة:- "إنّ رجالَ الحربِ العظيمين كانوا دوماً واعينَ بدورِ وقيمةِ الغريزة. هل ذلكَ الذي سمّاهُ الإسكندر "رجاءَهُ" ودعاهُ قيصر "حظّهُ" ونابوليون "نجمَهُ" ليس هو، ببساطةٍ، إلا اليقين بأنّ موهبَةً خاصّةً قد وضعتْهمْ في علاقةٍ مع الواقعِ هي من الإستثنائيّةِ بحيثُ أنّهُم مُلِّكُوا، بفضْلِها، القُدرةُ على أن يسيطِرُوا، دوماً، على الأحداث؟" أيضاً اقتبسَ شارلس ديجول، في حديثِهِ ذاك، عن فلوبير تصوّرهُ لهانيبال الشّابِّ وهو مُكتَسٍ، بالفعلِ بـ"الألقِ الذي يستعصِي على التّعريفِ لأولئكَ اللذينَ اختارهم المصيرُ لجلائلِ الأعمالْ"...."
قال رفاقُ شارلس ديجول الضّبّاطُ ذاتَ مرّةٍ:- "إنّهُ فاقدٌ لعقلِهِ. فهو يعتقدُ، بجلاءٍ، أنّه نابوليون!" لكنّ آخرينَ من أُولئَكَ قَبِلُوا بهِ وفقَ تقييمِهِ الخاصِّ لنفسِهِ. "في عامِ 1927 صدرَ أمرٌ في غازيتةِ الدّولةِ الرّسميّةِ بتعيينهِ ميجوراً آمراً على كتيبةٍ كانتْ تشكّلُ جُزءاً من القُوّةِ المُحتلّةِ لبلادِ نهرِ الرّايِنْ. عند التّعيينِ عبّر الجّنرالُ الذي أحلّهُ بالمنصِِبِ عن الملاحظةِ الآتية:- "أنا- الآنَ- أُنصِّبُ قائداً مستقبليّاً أعلى للجّيش"....."
مع ذلكَ عامَلَ الرّجُلُ إيّاهُ وزوجتُهُ طفلةً لهما كانت مصابةً بالكآبة، خِلالَ كلَّ سِنّي حياتِها الخمسة عشر، بفائقِ الصّبرِ والعِناية (هل هي جوزيفا؟ هل هو- إذاَ- يقومُ بمُعاوضةٍ لتجاهلهِ لزوجتِهِ عندما كان جوزيف الثّاني؟)
كان لديجول يقينٌ مطلقٌ بأنه سيكونُ هنالكَ، ذاتَ يومٍ، صدامٌ رأسيٌّ مباشرٌ بين بلادهِ وألمانيا. لذا هو قد درس شؤون ألمانيا عن كثبْ:- سياستها، خصائصها الإجتماعيّة وجيشها. "إنّ المواجهةَ لَقَرِيبةٌ ولائحةٌ في الأفُقِ"، قالَ مرّةً، "وعندها سوفَ تستعيدُ ألمانيا، بالقوّةِ أو بالإتّفاقِ، ما فقدتْهُ. ذلك يبدو لي أنّهُ مكتُوبٌ على النّجومْ".
ساعد المارشال بيتان ديجول مرات عديدة، فهو قد أحسَّ بين جنبيهِ إيماناً بهِ كقائدٍ مثستقبليٍّ ذي وُسْعٍ عظيمٍ في الإمكاناتِ والرّؤيةْ.
مضتْ الأيّامُ وانقضى رُبعُ قرنٍ ربّما يكونُ المارشال قد توقّع، بعده، أن يُدفعَ دينُهُ المُستحقُّ على شارلس ديجول. إلاّ أنّ ديجول بدا وكأنّهُ قد نَسِيَ ما كان مَديناً بهِ لرئيسِهِ السّابق. مع ذلكَ ما كان مشهوداً لديجول بطبيعةٍ ناكرةٍ للجّميلْ.
في السنينِ العشرِ السابقةِ لنشوبِ الحربِ أدّى ديجول دوراً قيّماً بمحاضرتِهِ للجّيشِ حولَ أفكارِهِ عن "فنِّ" المحاربةِ والدّور الرئيس الذي تُؤدّيهِ الدّبّابةُ فيهِ والحاجةُ إلى جيشٍ مُمتهنٍ (الأمر الذي ما استطاعَ إقناعَ رؤسائهِ بأنّهُ صحيح).
"في تلكَ الأيّامِ كان الإشتراكيّون خائفينَ من أنَّ جيشاً نظاميّاً عالي التدريب قد يصيرُ أداةً لأولئكَ الذين كانوا راغبينَ في إقامةِ حكمٍ ديكتاتوريٍّ في فرنسا. أمّا كثيرونَ من ممثّلي الجّناح اليميني في السياسة الفرنسية، آنذاكَ، فقد كانوا أكثرَ خوفاً من الشّيوعيّةِ ممّا هم من الألمان، الأمر الذي هيّأهم (نفسيّاً) إلى أن يتوصّلُوا إلى صيغ اتّفاقٍ ما مع هتلر. كان الفرنسيّون، وقتذاكَ، شديدي الحبِّ للسّلام، أو ربّما كانوا ما يزالوا- آنها- منهكينَ جداً من حروبهم الفائتة. لذلك ما هان على ممثليهم الرسميين أن يتأمّلوا في إمكانِ حدوثِ تغييرٍ في مجرى الأحداثِ بدا، حينذاكَ، لا يعني شيئاً سوى قبول حتميّة الحرب..... "وعندما أجرى ضبّاطٌ فرنسيّون مقابلةً مع الجنرال الألماني جوديريان بعد انتهاءِ الحربِ أعربَ عن الملاحظةِ التالية:- "إن كنتُم، أيّها الفرنسيّون، قد تدخّلتُم في حربِ بلادِ الرّاين في عام 6193 لكنّا قد "أُغرِقْنا" في الهزيمةِ ولسقط هتلر ربّما". وفي نفسِ السياق قال ديجول:- "كان ينبغي علينا أن نتصرّفَ بمباغتةٍ، وحشيّةٍ وسُرعةْ".
"حين بدأ الفرنسيّون يشعرون بدنُوِّ الواقعةِ أرسلُوا ديجول مُوفداً إلى المارشال بِلَمْ الذي قال عنهُ:- "إنّ الشّخصَ الذي مثلَ أمامي اليومَ، ذلك الإنسان الذي نظرَ إليَّ بهدوءٍ شديدٍ، والذي تحدّثَ في عباراتٍ رزينةٍ كتِلْكَ، لن يكونَ، من تلقاءِ اختياره الخاص، معنيّاً بأكثرِ من فكرةٍ واحدةٍ في وقتٍ واحدْ". وبالفعلِ قال ديجول، في مفاوضات ميونخ:- "إنّ الإجابة الوحيدة (على ما تفاقمَ من خلافٍ) هي خوض الحرب".
"لمّا وقعت الكارثة، بأعجلِ مما هو متصوّرٌ، كانتْ فرنسا على حافّةِ الإنهيار. وكان ديجول، بلوائه المُدرّعِ، بالكادِ وراءَ الخطوط حيثُ الهجومُ الألمانيُّ كان مرتقباً أن يندفعَ، عاصفاً، في اكتساحهِ العظيمِ للبلادِ الفرنسيّةْ. في تلكَ اللحظةِ عيّن رينود، رئيسُ الوزراءِ الفِرنسيِّ، ديجول وزيرَ دولةٍ بوزارةِ الدّفاع. غادر ديجول موقعهُ الحربيَّ، في الحالِ، إلى باريس. ثمّ أجرى مقابلةً مع القائدِ الأعلى للقوّات المُسلّحةِ الفرنسيّةِ الذي خاطبهُ قائلاً:- "أنتَ ترى أنّني ما كنتُ مُخطئاً حين أخبرتُكَ، قبلَ أيّامٍ قليلةٍ مضتْ، أنّ الألمانَ سيهاجموننا عندَ السَّومِي في السادس من يونيو. إنّهم، في الواقع، شارعون- الآنَ- في الهجوم. وفي هذه اللحظةِ بالذات هم يعبرون النّهر. أنا لستُ بقادرٍ على إيقافهم". كانت استجابة ديجول لذلك الحديث قولَتَهُ:- "ثمّ ماذا بعد؟" "ماذا بعد؟"، ردّ عليهِ ويجاند (القائد الاعلى للجيش الفرنسي)، "ليس من ثمةِ "بعدٍ" سوى النّهاية!"... "ماذا تعني بقولِكَ إنّها النّهاية؟ ماذا عن العالم؟ ماذا عن الإمبراطوريّة؟" ساءلهُ ديجول فأجابهُ ويجاند قائلاً:- "الإمبراطوريّة؟ ذلكَ شيءٌ طفوليٌّ! أمّا عن العالم فإنّني ما أن أُهزَمَ هنا سوف لا تنتظر إنجلترا، حتّى ولو لأسبوعٍ، قبل أن تتفاوض والرّايخ"....."
"بين أفرادِ هيئةِ ضبّاطِ ويجاند لمس ديجول ذات الرّوح الإنهزاميّة. وعند عودته إلى باريس أخبر رينود بأنّ ويجاند يجب أن يُعفَى من منصبِهِ القياديِّ في الحال. وافق رينود على ذلك، لكنّهُ اعترفَ بأنّه ليس، بعد، في موقعِ نفوذٍ كافٍ لإصدار الأوامرِ الضروريّةِ لتنفيذهِ. فهو إن فعلَ ذلكَ قد تنهار الحكومةْ".
في اليومِ التالي لذاكَ الحديثِ غادر ديجول باريس إلى لندن.
"التقاني السيّد تشرشل في داوننج استريت"، كتب ديجول في مُذكّراتِهِ، "وكان ذلكَ أوّلُ اتّصالٍ لي بهِ. الإنطباعاتُ التي ابتعثها فيَّ أكّدتْ لي قناعتي الخاصّة بأنّ بريطانيا العظمى، ما دامتْ مُقادةً بمحاربٍ كذاكَ، سوف لن ترتعد فرقاً أبداً. بدا لي السيّد تشرشل كفؤاً لأشقِّ وأعسرِ مهمّةٍ، سيّما إن كانت تلك المهمّةُ، أيضاً، ذاتَ هيبةٍ وجلالْ. فوثُوقِيّةُ تقييمهِ، ثقافتُهُ العظيمةُ، المعرفةُ التي اتّصف بها حول معظم المواضيع، غالب البلدان وغالب الرّجال القائمين على شؤونها، وأخيراً حماسهُ العاطفيُّ للتَّعامُلِ مع المشاكلِ الحربيّةِ الخالصةِ تجعلُ منهُ، جميعاً، إنساناً يجدُ في الحربِ مجالهُ الكامل. وفوقَ كلِّ شيءٍ آخرٍ هُوَ لائقٌ بطبيعتِهِ للفعلِ، لركوبِ المخاطرِ وأداءِ دورِهِ المُناطِ بهِ بنفاذٍ جليٍّ لا يشُوبُهُ شائبٌ من تهيّبٍ أو تحفّظْ. باختصارٍ، وجدتُهُ حسناً على "السّرجِ" كمرشدٍ وقائدْ".
في مقابلِ ذلك أشار تشرشل إلى ديجول، في مجلسِ الحربِ البريطانيِّ، على أنّهُ "وزيرٌ شابٌّ وزخرٌ بالطّاقةِ" وقعَ في انطباعهِ موقعاً حسناً. ثم أردفَ قائلاً:- "أعتقدُ أنّهُ من المحتمل، في حالِ انهيارِ الخطِّ السياسيِّ الحاضر، أن يلجأ رينود إليهِ كي يستلم القيادة".
"في أثناءِ التّردّي الذّريعِ النّهائيِّ وجد ديجول نفسهُ في بوردوكس وفي معمعةِ انهيارِ الحكومةِ الفرنسيّة" (حيثُ ثلاثمائة عامٍ خلتْ كان قد سلّم سيفهُ إلى القوى الإسبانيّة). ثمّ طلبَ من المارشال بيتان، الذي عرفَ برغبتِهِ في التّسليمِ المشروط، بتشكيلِ إدارةٍ سياسيّةٍ جديدةْ. وخوفاً من مواطني بلادهِ الذين ما صدّقوا برغبتهِ في إبقاءِ العلمِ الفرنسيِّ مرفرفاً في شمال أفريقيا تخفّى ديجول في تلك الليلةِ ثمّ، في الصباحِ التالي، قفزَ في بطنِ طائرةٍ كان تشرشل قد أرسلها لهُ تحسّباً لحاجته للعودة إلى لندن حتّى يُرتّبُ لإجلاءِ الحكومةِ الفرنسيّةِ إلى الشّمال الأفريقيْ. خلال تلك الليلةِ الأخيرةِ في فرنسا، وفيما هو جالسٌ في مكانٍ ما في بوردوكس منتظراً طلوعَ الفجرِ، وُلِدَتْ الدّيجوليّةْ. كان مخاضُها شاقّاً ومن بينَ آلافِ الرّجالِ والنّساءِ الفرنسيّين اللذين كانوا غارقينَ في الدّموع. في تلكَ الليلةِ ما شعرَ أحدٌ بذُلِّ الهزيمةِ بحدّةٍ أكثرَ من ديجول. فرؤيتُهُ "الصُّوفيّةُ" لفرنسا كبلدٍ اصطفاهُ اللهُ وإيمانُهُ بالجّيشِ بوصفِهِ أدقَّ وأروعَ تعبيرٍ عن قوميّةِ فرنسا قد نُوثِرَا، كِلاهُما، شذَرَ مُذَرْ..... رأى نفسهُ وفرنسا، في تلكَ الليلةِ، هويّةً واحدةْ".
حين وصل ديجول إلى لندن ورأى، بالفعلِ، تشرشل علّق الأخيرُ على حاله قائلاً:- "إنّ الجّنرال الفرنسيَّ الشابَّ يبدو منطوياً على قدرةٍ متميّزةٍ على الشّعورِ بالألم..."، "فعلائم المعاناة التي قاساها ديجول في تلك الليلةِ في بوردوكس قد راوحنَ على وجهه لشهورٍ عديدةْ".
تهبنا بيوغرافيا آيدن كراولي الرائعة الوثوق (أو التّمكّن) عن ذلك الرّجل اليُشارُ إليهِ بالبنان، بالتفصيلِ، صورةً عن الأحداثِ- المؤرّقةِ والمُعذّبَةِ- التي أدّت لتسلّم ديجول مقاليد فرنسا خلالَ أيّامِ "غزوِ" قوّاتِ الحلفاء لها [والذي بدأ في السادس من يونيو 1944] بهدفِ تحريرِها من الإحتلالِ الألمانيْ. تعاقبت، حينذاكَ، في نفسِ ديجول (وفي أنفسِ كلّ مواطني ومواطنات فرنسا) مشاعر النجاح والخيبة اللذين كانا متمازجين ومُتباريين حتّى حلّتْ تلك اللّحظة الفائقة حين "رُغمَ القتالِ الذي كان ما يزالُ جارياً في كلّ أنحاءِ مدينةِ باريس تداعتْ حشودٌ ضخمةٌ من كلِّ فجٍّ مُرحّبَةً بديجول. ومأخوذاً بالعاطفةِ، ملآناً بالصّفاءِ، عبرَ هو ميناء أورليانز..... ثمّ أغرقت تهاليلُ الجّماهيرِ، فيها، أصواتِ الطَّلَقَاتْ".
كانتْ مسيرةُ ديجول إلى قصرِ الأليزيه (التي نشدَ فيها معارفه المقرّبين أن يسيروا على مبعدةٍ وخطواتٍ قليلةٍ خلفهُ) مشهداً رائعاً، فلقد تبعهُ فيها نصفُ مليون باريسيٍّ طروبْ. ثمّ أتى، أخيراً، دخولُهُ إلى كنيسةِ نورتردام حتّى يُصَلّي صلاةَ الشّكرِ على خلاصِ باريس وزحفه، الثابت والمستقيم الخُطى والغير هيّابٍ ولا وجلٍ، عبرَ دروبِ تلك الجزيرةِ (أي نورتردام) فيما تطايرت الرّصاصاتُ المنهمرةُ حولَهُ وبقيّةُ الجّمعِ استترَ منها وراءَ مقاعدِ الكنيسةِ ليُشكّلا أزهى زمانينَ في حياتِهِ. وحقّاً صدقَ آيدن كراولي حينما سمّى ذلكم الآنَ الدذيجوليَّ الزّاهي بزمانِ "تأليهِ ديجول".
العالمُ يعرفُ ما حدثَ من بعدِ ذلك. فذلك الرّجل االبطوليُّ، الديكتاتوريُّ- الديمقراطيُّ (فهو قد كان مزيجاً دقيقاً من هذين المَُتنَاقِضَينْ) قد جذبَ فرنسا(هُ) التي أحبّها حبّاً شديداً خارجَ الحمأةِ التي طُمِرَتْ فيها، ثمَّ أبدلَ ما كانَ من حالها بحالِ أمّةٍ مُشرّفةٍ من أممِ العالمِ العظيمةْ. مع ذلكَ، هنالكَ وقتٌ، خلال الحربِ، خشيَ فيهِ حلفاءُ فرنسا، وأمريكا خاصّةً- بل وحتّى بريطانيا، في بعضِ الأحيان- من أنّ ديجول ما عادَ "ديمقراطيّاً، بل هو في سبيلهِ إلى أن يجعلَ من نفسهِ سيّدَ فرنسا....." وفي الحقِّ كان إيمانُ ديجول بنفسهِ ذائداً أوحداً عن شرفِ فرنسا قد تنامى في ذاتِهِ إلى مستوىً "يكادُ يكونُ دينيّاً". "كلُّ شيءٍ"، كما قال آيدن كراولي في البيوغرافيا التي ألّفها عن ديجول، "كانَ مُتهَدّداً بخُيّلاءِ ديجول وطموحهِ". فذلك "اللا إعتبارُ التَّامُّ من قبَلِ ديجولِ لزملائهِ كان يُسبّبُ، تدريجيّاً، بغضاء متزايدة لهُ. فكلُّ اللوائح المسنونة والأوامر الرّسميّة (منذُ عام 1941) ما خلتْ من أن تُبتدر بالكلمات التالية:- "نحنُ، الجّنرال ديجول، قائد الفرنسيّين الأحرار....."، ثمّ هي، في ختامها، كانت لا تفتأ تُوَقَّعُ بإمضاءِ ديجول وحدِهِ".
بعد صلاة الشكر القصيرة والرصينة، برغم ما أثقلها من تقاذف الرصاص، في كنيسة نورتردام مشى "منقذ فرنسا"، متمهلاً، من بين جموع المواطنين، إلى فندق دي فيلي. "كانت تلك لحظةٌ مكثّفةْ. وفيما هو مشرفٌ على المبنى رأى السيّد بيدولت منتظراً إيّاه أسفل السلّم المدرّج الكبير. ثمّ سار اثنتاهما، ببطءٍ، صاعدينَ على المدرّجاتِ بينما حرسُ المقاومةِ كان مُستعرِضاً لسلاحهِ. جنباً إلى جنبٍ- إذاً- ارتقى الرّجلان السّلّمَ المدرّجَ حتّى بلغا مركزَ الصّالونِ الفخيمِ حيثُ حُيِّيَا "بزخمٍ من الطّلقاتِ المُهنّئاتْ"....."
من هنا فصاعداً تُنبؤُنا فصولُ كتابِ آيدن كراولي الطّريفِ، بغَنَاءٍ، عن تداعياتِ الحكاية:- "القوّةُ والمجدُ"- "القممُ الدَّوَّارةُ"- "ملِكٌ أخيراً"- "وحدُهُ على مشارفِ القِمّةْ"، ثمّ "الفقّاعةُ تنفجرْ". نحنُ نعرفُ الحكايةْ.
في ما بين صفحاتِ الفصلِ الأخيرِ من كتابِ آيدنْ كراولي نجد الكلمات التّالية:- "حتّى الصّيف (في عام 1968) كان ديجول قادراً على استمالةِ غالبيّةِ آلِ بلادهِ إلى الإعتقادِ بأنّ هنالكَ شيئاً أساسيّاً ومُعتبراً في رؤيتِهِ لفرنسا كأمّةٍ مستقلّةٍ عن كلِّ التّنظيماتِ الأجنبيّة، مُسنِّنَةً لِخِلاقِ الأممِ الحضاريّةِ وراعيةً للدّولِ الأقلَّ نمُوّاً. الآنَ معظمُ النَّاسِ في فرنسا يدركونَ أنّهم كانوا معتمدينَ على قوى العالمِ السياسيّةِ والإقتصاديّة، شأنَهُم في ذلكَ شأنَ بقيّةِ أوربّا الغربيّةْ. إنتخابيّاً كانت قوّة ديجول لا تُزعزعْ. مع ذلك هو قد حازَ على انتصاره في انتخابات يونيو ليس على أساسِ أنّهُ المُخلّصُ الطذبيعيُّ للأمّةِ الفِرنسيّة، بل لكونهِ القائد القادر على مجابهةِ الشّيوعيّةْ. على كلِّ حالٍ، كان العديدُ من تجديداتِهِ الإجتماعيّةِ متفوّقاً على برنامجِ "حزب العمّال" في ذلك الزمانْ.
"ليس كلُّ سياساتِ ديجول صارتْ، في النّهاية، حسنةَ الآثارِ على فرنسا. لكنّهُ، في كلّ قضيّةٍ حاربَ من أجلها، كان صادقاً مع نفسه ورؤيته الخاصّةِ للأشياءْ. ما من نَفَسِ فضيحةٍ، ولا من إشارةٍ إلى مصلحةٍ خاصّةٍ، قد مسّتا، ابداً، اسمَهُ..... وليس هنالكَ من رجُلٍ سعى ناشداً غايتَهُ، بصبرٍ ومصابرةٍ، مثْلُهُ. مع ذلك هو قد رفض الدكتاتوريّة حينما كانت الدّكتاتوريّة مُيسّرةً لهُ ومُمكنةً ونشدَ، عسكريّاً وسياسيّاً معاً، إنقاذَ الحيَوَاتِ، بدلاً عن هدرها. ثمّ أنّهُ، كذلكَ، ما من رجلِ دولةٍ كان أقلَّ حرصاً على سلامتهِ الخاصّةِ من ديجول. لكلِّ ذلكَ نَحسبُ، وِفقَ أيِّ مقاييسٍ مُتصوَّرَةٍ، أنَّ ديجولَ إنسانٌ ذو عظمةْ".
ذلكم هو الرّجلُ الذي قضى أمدَ تلمذةٍ استغرقَ (على الأقلِّ) حياتينَ بتمامهما وكمالِهما كي يصلَ مَشْرَفَاً من مَشارِفِ قمّتِهِ الخاصّةِ في آنِ تجسّدِهِ (في القرنِ العشرينِ) كديجول. ورُغمَ أنَّ مكوّناتَ رُوحِهِ قد جعلتْهُ، في حيَوَاتِهِ الباكرةِ تلكَ، يتعثّرُ، بسوءٍ، على صخُورِ أُنموذجِ طموحهِ الخاصِّ إلاّ أنّه كانت فيهِ، دوماً، علائمُ عظمةْ. ثمةُ جانبينَ من حياتِهِ كانا، دائماً، على حربٍ. الأوّلُ منهما كان مُقاتلاً في سبيلِهِ الشّخصيِّ أو الذّاتِيِّ، والثّاني كان مُنافِحاً في سبيلِ شعبِ بلادهِ وعظمةِ كبريائهِ القومِيْ.
إنّ حقيقةَ كونِ الأممِ ليستْ، في كلِّ الآناءِ، مُتماثِلَةً تُعلّمُنا أنَّ القوميَّةَ هي من أضغاثِ خواطرِ ضيقِ أفقِ رؤيةِ الإنسانِ كما هو في الزّمانِ الحاضرْ. فالأمرُ هو كما وصفَهُ "المُعلِّمُ" قبلَ سنينٍ خَلَتْ:- "كُلُّ إنسانٍ مِنّا هو أُمّةٌ من الأفرادْ". ذلكَ يُظْهِرُنَا على أنَّ كلَّ إنسانٍ منّا (رجلاً كانَ أم امرأةً) لهُ ماضٍ مُتَميِّزٍ هو الّذي آلَ بهِ إلى من وما هوَ عليهِ في الزَّمانِ الحاضِرْ.
تُوّج جوزيف، في الثانيةِ والعشرينِ من عمرهِ، ملكاً على الرّومان الذين كان أبُوهُ امبراطورهم المقدّسْ. وفي عام 1765 تُوفّيَ أبوهُ فصار امبراطوراً وقائداً أعلى للجّيشِ وشريكاً لأمّهِ في ولايةِ عهدِ الإمبراطوريّة النّمساويّة-المَجَرِيَّة.
ولقنوطِ أمّهِ العظيم انساق جوزيف الثاني لتأثيرِ فريدريك الأعظم، ملك بروسيا، الذي كان هو مُعجباً به إعجاباً عظيماً. زار جوزيف الثاني فريدريك الأعظم في قصرهِ في بوتسدام حيث صار متورّطاً في خُططه للتحالف مع روسيا والغلبة على بولندا وتقسيمها. وفي ذلك السبيل الأخير اتّخذ وسيلةً لبلوغِ غاياتِهِ تمثّلتْ في "ممارسةِ ضغطٍ لا يُطاق على أمّهِ حتّى تنصاع لهُ". ولعلّهُ من الشّواهدِ على حبِّ جوزيف الثاني للعظمةِ ما كتبهُ عنهُ الشّاعر كُلوبِستوكْ حيثُ قال إنّهُ "ميّتٌ من الجّوعِ إلى المجدِ، صخّاباً على دربِهِ، تائقاً إليهِ وباكياً من أجلِهِ".
إِختُتِمَتْ محاولةٌ فاشلةٌ قام بها جوزيف الثاني لضمِّ بافاريا إلى امبراطوريّته بكارثةٍ أدّتْ " ليس فقط إلى فقدانهِ لهيبته وإنما، لكونها مُجسّدةٍ لأوّلِ خُذلانٍ عسكريٍّ-دبلوماسيٍّ يُواجَهُ بهِ في أوّلِ مخاطرةٍ لهُ من نوعِها، تعدّتْ ذلكَ إلى طبعِ أثرٍ خطيرٍ على شخصيّتهِ. ومُجهضَاً في مغامرتِهِ الإفتتاحيّةِ استغرقَ جوزيف الثاني في نرجسيّته التي دفعتْ بهِ- في ردِّ فعلٍ على خُذلانِهِ ذاك- إلى أن يُؤكّدَ، بتشديدٍ، في سنينٍ تاليةٍ، حسّه بالتّفوّقْ". سافر جوزيف الثاني كثيراً، وهو مُتّخذٌ- ببساطةٍ- من لقب الكونت فولكنشتاين اسماً له، في أرجاءِ فرنسا، إيطاليا، ألمانيا وروسيا حيثُ تفحّص القوانين والأعراف السّائدة في كلٍّ من تلك البلاد، على حِدةْ. ثمَ فرضَ، إثرَ ذلكَ، إصلاحات اجتماعيّة (وسياسيّة) على السكان المحليين في شتى بقاع امبراطوريته أثار بها حفيظتهم، إلا أنه أُجبرَ، لاحقاً، على نقضها وتبديلها.
"كانت مشاريع هذا الإمبراطور القومي لتمجيد وتعظيم شأن امبراطوريّته كبيرة بما يُكفي، بيد أنه فعل شيئاً أفضلَ من مجرّد الغلبة على الأقاليم. فلقد أجرى إصلاحات في بلده (النّمسا) مضت بعيداً في عصريّتها إلىحدِّ إلغاءِ أسوءِ أوجه النظام الإقطاعي، تحويل مؤسسة الرّقّ على مؤسسةٍ تدفع أجوراً محددةً لمُسخَّرِيْهَا، وتعديل القانون بما يتّفق ومُقتضى العدل. كذلكَ أرسى جوزيف الثاني قواعد حريّة الفكر والضّمير- ما دامت تلك الحريّة كافّةً نفسها عن التّعدّي على الدّين، الأخلاق والقوانين. جليٌّ أنّ مستجِدّات سريعة كتلك ما كان لها أن تمر دون معارضة... فذلك المُضِيُّ العجُولُ على دربِ إصلاحاتٍ رئيسةٍ كتلكَ ألّبَ على جوزيف ذاتَ النّفرِ من النّاسِ اللذين حاول عونهم فانقلبوا أعداءاً لهُ... كان ناجحاً باعتباره مُقضّاَ لمضاجعِ المؤسسات الرّاسخة، لكنّه ما كان مُبتدعاً لأسس دستورٍ جديد. أُلزمَ الإمبراطور جوزيف الثاني، لاحقاً، بالتراجع عن بعض الإجراءات السابقة، فيما تُرِكَتْ بقيّتُها كإرثٍ ستنجمُ عنهُ، مستقبلاً، نكباتٌ أُخَرْ. إنّ الخطأ الذي ارتكبه جوزيف هو توقّعه أنّ رعاياهُ، اللذين كُبّلوا بقرونٍ من الخِضُوعِ، سيُحبّونه امتناناً للمنافعِ التي غصبهُم على "قذفها" في أجوافِ حلوقهم".
بعكس تلك الإصلاحات الداخليّة كانتْ سياسة جوزيف الخارجية "عنيفة وفظّة"، كما وكانت، كذلك، غير موفّقة. في عام 1787 جهّز جيشاً ضخماً انهمكَ بهِ في حربٍ، مستنزفةٍ للطاقاتِ ولا غناءَ فيها، ضدّ تركيا. ذلك في محاولةٍ لتمزيقِ وحدة تراب ذلك البلد وتقاسمه مع روسيا. \
في القاموس العالمي للبيوغرافيا نجد توصيفاً موغلاً في المدحِ لشخصية جوزيف الثاني يقول عنه إنّه "كان مواطناً صالحاً لامبراطوريته، فلقد خفف عن الناس البؤس وبذل جهوداً لإزالةِ المجاعةِ، كما وأدخلَ نظامَ التّجنيدِ بالقُرعةِ وشاركَ في حظرِ التعذيبِ ثم هو، أيضاً، كان بعيداً جداً من أن يكونَ معارضاً لنشاطِ اليسُوعيّين".
يستمر ذلك القاموس في مدحه لجوزيف الثاني فيقول عنه إنه، عند موتِ أبيهِ، وهبَ ثروةَ أبيهِ الخاصّة للدولة وإنه، أيضاً، "إنسانُ حشمةٍ ومبادئٍ بقدرِ ما هو بعيد النّظر وليبراليّاً في العديدِ من أفكارِهِ الإصلاحيّةْ".
ثم يحكي لنا المصدر المذكور آنفاً حكايةً نبتْ إلى علمه عن جوزيف الثاني. يقولُ في تلك الحكاية- بعد أن يصفَ بطلها بأنه "ذاكَ الإمبراطور الدّيمقراطيّ، بغرابة، مع أنّه راديكالي"- إنّ جوزيف قد أحبَّ التّمشّي منفرداً في وسطِ عامّةِ النّاسِ وهو مُتخَفٍّ في الهيئة. مع ذلك فهو ما استطاعَ، في أحدِ الأيّامِ، صبراً على إأفشاءِ حقيقتِهِ لبائعةٍ عجوزٍ رآها في جولةٍ بالسّوقِ فصاح فيها قائلاً:- "لن تُخمّني أبداً من أنا. أنا الإمبراطور".
"كان شعاره هو الخير الأعظم للعدد الأعظم". ولكنّه كان مُستبدّاً، استبداداً مُفرطاً، في الطّريقةِ التي يُنزِلُ بها ما يعتبرُهُ خيراً للنّاسِ على أرضِ الواقعْ". أعطى، ذات حين، الغابة الشاسعة في فينّا المعروفة باسم "البريتر"، التي كانت حتى ذلك الأوان مخصصة للطبقة الأرستقراطيّة فحسب، إلى شعب فينّا كي يستجمَّ فيها. مع ذلكَ هو كان كثيراً ما ينقلبُ "وقحاً إلى حدّ الوحشيّةِ، خصوصاً في مسلكِهِ مع النّبلاء".
عمل جوزيف الثاني، دون توقف، على استجلابِ الخيرِ لشعبهِ- وفقَ أفكاره الخاصّة عن ذلك الخير- وركبَ مَركِبَاً صَعْبَاً في سبيلِهِ إلى غاياتِهِ. وفي الأسابيعِ الأخيرةِ لحياته قال عنه وزيره العجوز المجرِّب كاونتز، في حينٍ كانت فيهِ النِّمسا تتخبّطُ في الإنهيارِ الكارثيِّ لخططهِ (التي رسمها للتنفيذ في البلاد وفي خارج البلاد معاً):- "إنّ الإمبراطورَ قد أبدى ميزات عظيمة ومثيرة للإعجاب. بيدَ أنه من المفزع للمرءِ أن يتصوّرَ كيف ردَّ "هذا" العنادُ الإستبداديُّ السّلطةَ الملكيّةَ الحَسَنَةَ إلى حالةٍ كحالتِهِ الحاليّةْ".
تُوفّيَ جوزيف الثاني في عام 1790 بفعلِ حُمّى ووهنٍ في العافيةِ أَصاباهُ نتيجةً لحملاتِهِ على تركيا... كتبَ- أثناءَ أيّامِ مرضِهِ- إلى وزيرِهِ ما يأتِي:- "عجِّلْ بكلِّ شيءٍ يُقرِّبُنِي من إتمامِ خُطَطِي لإسعادِ شعبِيْ".
4
والآنَ، بفضلِ مهارةِ من هو متمكّنٌ من قراءةِ سِيرِ حيواتِ الرّجالِ والنّساءِ من السّجِلاتِ الخفيّةِ، نستطيعُ أن نطّلعَ على آخرِ أخبارِ حياةٍ لهذه الكينونةِ الدّيناميكيّةِ على كوكبِ الارضْ. سنأخذ مقتبساتنا هنا من بيوغرافيا كتبها آيدن كراولي. ومن نروي عنهُ الحكاية الحاليّة هو، بالطّبعِ، الجنرال ديجول، فهو قد "سلّمَ بمنصبِهِ الرّفيعِ كحقٍّ شخصيٍْ".
وُلدَ شارلس ديجول في 22 نوفمبر 1890. ويبدأ تاريخُ عائلتهِ الحقيقيُّ بالسّيّد ريتشارد ديجول الذي تسلّم العقار الإقطاعي في إلبوف بنورماندي في القرن الثالث عشر. أما بطل العائلة فهو السّير جيهان ديجول الذي شارك في آخرِ كرٍّ عظيمٍ قام به الفرسان الإقطاعيّون ضدّ رماةِ السّهامِ الإنجليزِ في أقِنْكَورتْ.
كان هنري، والد شارلس، إنساناً "متدبّراً، مهذّباً ومشذّباً وتقليديّاً" ومُفعماً بشعورِ الكرامةِ القوميّةِ الفرنسيّة. صيّر حبّه للتّاريخ ابنه (شارلس) مُلمّاً بأصولِ عائلتِهِ الخاصّةِ وبـ"مجدِ" الماضي الفرنسي. أمّا إنجلترا فقد مثّلتْ، دوماً، في واعيتِهِ، العدوَّ الرئيسيَّ (التّاريخيَّ) لبلادهِ، الشيء الذي دفعه إلى عدم السّماح لأطفالهِ بتعلّم اللغة الإنجليزيّة. غرستْ تنشئة شارلس فيهِ غيرةً كانتْ أقوى حتّى من خصومته لإنجلترا. كان أبوه وأمّه يعبدان فرنسا كوثنٍ، كصنمٍ مُقدّسْ. وعن أمّه هو قال- لاحقاً- إنّها قد انطوتْ على "عاطفةٍ لا هوادةَ فيها تجاه بلادها استوتْ وتقواها المسيحيّةْ". لم تستطع أبداً أن تتعافَى من صدمةِ هزيمةِ فرنسا في عام 1870. فقبل تلك الهزيمة كانتْ فرنسا هي القوّة الطّاغية في القارّة لأكثر من قرنينِ من الزّمانْ.
"ما كان آل ديجول بونابرتيّين. فالإمبراطور الأوّل قد أنهكَ فرنسا.. لكن في غيابِ الصّولجانِ الملكيِّ نصّبوا الجّيشَ في المقامِ المقدَّسِ فجسّدَ، في عيونِهم، كلَّ "عظمةِ" فرنسا. لكن حينَ هُزِمَ ذاكَ الجَّيشُ هزيمةً فاضحةً في عام 1870 ذهب النّورُ عن عيُونهم". كان والد شارلس قد شارك في مقاومة حصار باريس فتحرّق ابنه شارلس، فيما بعد، إلى الإنتقامِ من ذلك الحصار.
"ورُغمَ أنّ أخاهُ الأكبرَ كان، ثقافيّاً، هو الألمع إلا أنّ شارلس هو الذي كان زعيم الأطفال الخمسة. كان حصيفاً ومتسلّطاً وولعاً بتدبير المقالب المازحة لعائلته، لأصدقاءِ عائلته وللخدم... كثيراً ما كان بارداً ومُمتنعاً إلى حدِّ أنَّ عائلتَهُ اعتادتْ على القولِ إنّه ينبغي لهُ أن يكونَ قد وُلِدَ في "بيتِ ثلج"...."
كان شارلس أكاديمياً جيّداً. ولقد أحبَّ الموسيقى- وفِرويسارت. كما وأنّه أحبَّ الإطّلاع على الفلسفة وشرع، كذلك، في قراءةِ الشّعر.
أحرز شارلس المرتبة الأولى في فصلٍ دراسيٍّ عُقِدَ في سينت سير وفي أكاديميّةٍ عسكريّةٍ في باريس. كان، حينذاكَ، "في التاسعةِ عشرةِ من عمرهِ، قويَّ البنيةِ وذا طبيعةٍ تميلُ إلى الغرابة. كان طويلاً، بمقدارِ رأسٍ، عن معظمِ الفتيان، وبأنَفِهِ العريضةِ البوربونيّة [نسبةً لآلِ بوربون- المترجم] تقريباً. وذقنه الضعيف تبدّى مظهرُهُ آمراً، لكن ليس أخّاذاً..... حتّى آنذاك عاش ذلك الرجل المعتزل المؤكّد لذاتِهِ حياةً مخفيّةً، بل ورهبانيّةً تقريباً. كانتْ عائلتُهُ وأقرباؤُهُ منتمينَ إلى شريحةٍ صغيرةٍ ومُحافظةٍ من الحياةِ الإجتماعيّةِ الفرنسيّة. وكان والداهُ تقليديّين وعلى خلافٍ مع البورجوازيّة- الرّوح الثوريّة كانت، وقتذاكَ، قد سُحقَتْ بفعلِ القمعِ الوحشيِّ للكوميون، أمّا الإشتراكيّةُ فهي لمّا تستحوذُ بعدَ على الحشودِ البشريّة...
في الحقِّ، كان شارلس، من النّاحيةِ الثقافيّةِ، غشيماً. كان واضحَ الرّؤيةِ الذّهنيّةِ بما يُكفِي لأن يرى أنَّ المَلَكِيَّةَ قد ماتت لكنّهُ، في ذاتِ الوقتِ، افتتنَ بموراس الذي كان فيلسوف الملكِيّة... وتعاطف مع الآمالِ الإشتراكيّة، لكنّه ما انضمّ أبداً إلى الحزبِ الإشتراكي.. ثمةُ شيءٍ واحدٍ كان يثيرُهُ:- الولاءُ القوميْ. فحبُّ فرنسا، كما شعر، يجب أن يُوحّدَ الرّجالَ (والنّساءَ) ويمحو كلّ الفروقات بينهم. ومثل الشاعر بِيْقْوَي هو، أيضاً، "قدّس فرنسا والفرنسيّين ومجّد مهنة السّلاحْ".
في الجّيشِ صفع شارلس أوّل ضابطٍ أصدرَ أوامرَ لهُ على ذاتِ النّحوِ الذي صفعَ به السّير ونستون تشرشل بعد ثلاثينَ عاماً من ذلك الحادث. "هل ستراني أُرشِّحُل لرتبةِ سيرجنت صبيّاً سوف يكونُ على راحتِهِ فقط إن رُشِّحَ لرتبةِ "الكونستابل العظيم؟"..." قال، آنذاكَ، مُخاطباً من أمرهُ. كتب ونستون تشرشل، في استذكارٍ مُتفكّرٍ لحادثةِ لقائهِ وديجول في عام 1940:- "شعرتُ [حينذاك] بأنّ ما جرى هو المؤشّرُ لما سيؤولُ إليهِ الأمرُ وكونستابل فرنسا".
في أكاديميّة سينت سير أعطى ديجول معاصريه الإنطباع الذي ربما كانوا يتوقعونه. فمظهرهُ هناكَ أكسبَهُ لقب "شارلس العظيم" أو "آسبيرق العظيم". وبسببِ طبيعته الإنفراديّةِ وسلوكه المائل إلى العجرفةِ عُرِفَ أيضاً باسمِ "الدّيكْ" أو "الطّاؤوس".
أُرسلَ شارلس ديجول، في سنّهِ التّاسعة عشر، إلى آراس حيثُ بقيَ ولواؤُهُ فيما بين 1909 و1910، ثم فيما بين 1912 و1914. قالت سيرته الذاتية، بتعبيرٍ دالٍّ، أنّهُ قد"شعرَ، في آراس، بأنه في بلدهِ". بعد الحرب شاركَ في تحريرِ آراس.
"كانتْ الرؤوسُ تستديرُ على الشوارعِ حينما يمرُّ بها، وأولئكَ اللذينَ أقاموا صلةً قريبةً معهُ كانوا مقتنعينَ بأنَّ ذلكَ الليفتنات الشابَّ سيصيرُ، ذاتَ يومٍ، رئيس فرنسا..... في سنينِ حياتِهِ الأخيرةِ ما رُبِطَ اسمُهُ أبداً بأيِّ امرأةٍ سوى زوجتِهِ. كان متحفّظاً تجاه النّساء حتّى حينَ كانَ شابّاً".
عند نشوبِ حرب 1914-18 قاتل فيها ببسالةٍ جسورة:- "غامرَ بالمُضيِّ بعيداً عن التّحصيناتِ ورفضَ بتاتاً أن ينحني، حتّى وهو في خطِّ المقدّمة. مع ذلك ما أصابتْهُ أيُّ شظيّةٍ. في ذلكَ الوقْتِ نُودِيَ، مرّةً أخرى، باسم "كونستابل فرنسا"..."
على كُلِّ حالٍ، لم يسلم ديجول من انتقادٍ موجّهٍ لهُ (في الجّيشِ) بسببِ خُيّلائِهِ التي استعدتهُم عليهِ وأثارتهم ضدّه. من الشّواهدِ على ذلكَ احتواءُ ملفّهِ الشّخصيِّ، عندَ نهايةِ فصلٍ من فصولِ دراساتِهِ العسكريّةِ، على ما يأتي:- "إنّه شخصيّةٌ متطوّرةٌ جداً وذاتُ ثقةٍ عظيمةٍ بنفسها وباستطاعتها تحقيقَ نتائجٍ ممتازةٍ إن هيَ قَبِلَتْ الأخطاءَ بسماحةٍ أفضلَ قليلاً وإن هي، كذلكَ، رضِيَتْ، بسهولةٍ أكثرَ، بالسّماحِ لوجهةِ نظرِها بأن تكونَ محلَّ نقاشْ"... أيضاً جاءَ في ذلكَ الملف:- "أنّه (شارلس ديجول) ضابطٌ ذكيٌّ جداً، متحضّرٌ وجادٌّ، ذو ألمعيّةٍ ووُسْعٍ، عظيمُ الموهبةِ ومُتّسِمٌ بميزاتٍ أُخَرٍ عديدةْ... لكن، لسوءِ الحظِّ، هو يفسدُ فضلَ ما لديهِ بتأكيدهِ المتطرّفِ لذاتِهِ، شراستِهِ تجاهَ آراءِ الآخرين وتصوّرهِ لنفسِهِ على أنّهُ مَلِكٌ في المنفَىْ". يُمضي الملفُّ في الحديثِ عن ديجول فيقولُ عنهُ إنّهُ "أظهرَ حسماً في مهمّتهِ ورصانةٍ والقُدرةَ على القيادةِ لكنَّهُ، أيضاً، أبدى، أحياناً، فشلاً في الحُكم". ثمّ يستطردُ مشيراً إلى أنّ ديجول هو "شخصٌ مثيرٌ للإهتمام، إلا أنّهُ، أيضاً، حالةٌ حسّاسةٌ وصعبةٌ"، وأنّهُ، "ذو مزايا عظيمة، بيدَ أنّهُ أنَوِيٌّ جدّاً ولا يُخالطُ الطّلابَ الآخرينَ إلاّ قليلاً، ممّا جعلهُ مكروهاً بسببِ غرورهِ الصّريح. لكن، عندَ معرفتي به معرفة أفضل، وجدتهُ ليس مفترياً ولا متعجرفاً وإنّما أصيلاً وذا روحٍ مرحةٍ، بل وانشراحيّة"... كان صُحبتُهُ- كما يُوردُ التّقريرُ إيّاه- "يجدونَ حسّهُ الغير مستحٍ بالتّفوّقِ صعباً على أن يُبتلع... قال أحدهم لهُ، ذاتَ يومٍ:- "أنا لديّض شعورٌ غريبٌ بأنّكَ مثوثَقُ العهدِ بمصيرٍ عظيمْ". وأجابهُ ديجول، ببطءٍ وبتوكيدٍ:- "بلى، أنا أعتقدُ ذلكَ أيضاً"...."
عند تخرّجِهِ من الكلّيّةِ العسكريّةِ المسمّاةِ "إيكول سيوبيريوغ" بالدرجةِ الثانيةِ أضحى حانقاً:- "إنّه ما فهم أبداً البغضاء التي سبّبها صلفهُ وتهكّمهُ"..... "ثمّ بعد زمانينَ من ذلك التّخرّجِ وفي حينٍ كان فيهِ يُحاضرُ، بوصفه كابتناً، جمعاً من الطُّلاّبِ قال لهم حديثاً مقتبساً استدعاهُ من الذاكرة:- "إنّ رجالَ الحربِ العظيمين كانوا دوماً واعينَ بدورِ وقيمةِ الغريزة. هل ذلكَ الذي سمّاهُ الإسكندر "رجاءَهُ" ودعاهُ قيصر "حظّهُ" ونابوليون "نجمَهُ" ليس هو، ببساطةٍ، إلا اليقين بأنّ موهبَةً خاصّةً قد وضعتْهمْ في علاقةٍ مع الواقعِ هي من الإستثنائيّةِ بحيثُ أنّهُم مُلِّكُوا، بفضْلِها، القُدرةُ على أن يسيطِرُوا، دوماً، على الأحداث؟" أيضاً اقتبسَ شارلس ديجول، في حديثِهِ ذاك، عن فلوبير تصوّرهُ لهانيبال الشّابِّ وهو مُكتَسٍ، بالفعلِ بـ"الألقِ الذي يستعصِي على التّعريفِ لأولئكَ اللذينَ اختارهم المصيرُ لجلائلِ الأعمالْ"...."
قال رفاقُ شارلس ديجول الضّبّاطُ ذاتَ مرّةٍ:- "إنّهُ فاقدٌ لعقلِهِ. فهو يعتقدُ، بجلاءٍ، أنّه نابوليون!" لكنّ آخرينَ من أُولئَكَ قَبِلُوا بهِ وفقَ تقييمِهِ الخاصِّ لنفسِهِ. "في عامِ 1927 صدرَ أمرٌ في غازيتةِ الدّولةِ الرّسميّةِ بتعيينهِ ميجوراً آمراً على كتيبةٍ كانتْ تشكّلُ جُزءاً من القُوّةِ المُحتلّةِ لبلادِ نهرِ الرّايِنْ. عند التّعيينِ عبّر الجّنرالُ الذي أحلّهُ بالمنصِِبِ عن الملاحظةِ الآتية:- "أنا- الآنَ- أُنصِّبُ قائداً مستقبليّاً أعلى للجّيش"....."
مع ذلكَ عامَلَ الرّجُلُ إيّاهُ وزوجتُهُ طفلةً لهما كانت مصابةً بالكآبة، خِلالَ كلَّ سِنّي حياتِها الخمسة عشر، بفائقِ الصّبرِ والعِناية (هل هي جوزيفا؟ هل هو- إذاَ- يقومُ بمُعاوضةٍ لتجاهلهِ لزوجتِهِ عندما كان جوزيف الثّاني؟)
كان لديجول يقينٌ مطلقٌ بأنه سيكونُ هنالكَ، ذاتَ يومٍ، صدامٌ رأسيٌّ مباشرٌ بين بلادهِ وألمانيا. لذا هو قد درس شؤون ألمانيا عن كثبْ:- سياستها، خصائصها الإجتماعيّة وجيشها. "إنّ المواجهةَ لَقَرِيبةٌ ولائحةٌ في الأفُقِ"، قالَ مرّةً، "وعندها سوفَ تستعيدُ ألمانيا، بالقوّةِ أو بالإتّفاقِ، ما فقدتْهُ. ذلك يبدو لي أنّهُ مكتُوبٌ على النّجومْ".
ساعد المارشال بيتان ديجول مرات عديدة، فهو قد أحسَّ بين جنبيهِ إيماناً بهِ كقائدٍ مثستقبليٍّ ذي وُسْعٍ عظيمٍ في الإمكاناتِ والرّؤيةْ.
مضتْ الأيّامُ وانقضى رُبعُ قرنٍ ربّما يكونُ المارشال قد توقّع، بعده، أن يُدفعَ دينُهُ المُستحقُّ على شارلس ديجول. إلاّ أنّ ديجول بدا وكأنّهُ قد نَسِيَ ما كان مَديناً بهِ لرئيسِهِ السّابق. مع ذلكَ ما كان مشهوداً لديجول بطبيعةٍ ناكرةٍ للجّميلْ.
في السنينِ العشرِ السابقةِ لنشوبِ الحربِ أدّى ديجول دوراً قيّماً بمحاضرتِهِ للجّيشِ حولَ أفكارِهِ عن "فنِّ" المحاربةِ والدّور الرئيس الذي تُؤدّيهِ الدّبّابةُ فيهِ والحاجةُ إلى جيشٍ مُمتهنٍ (الأمر الذي ما استطاعَ إقناعَ رؤسائهِ بأنّهُ صحيح).
"في تلكَ الأيّامِ كان الإشتراكيّون خائفينَ من أنَّ جيشاً نظاميّاً عالي التدريب قد يصيرُ أداةً لأولئكَ الذين كانوا راغبينَ في إقامةِ حكمٍ ديكتاتوريٍّ في فرنسا. أمّا كثيرونَ من ممثّلي الجّناح اليميني في السياسة الفرنسية، آنذاكَ، فقد كانوا أكثرَ خوفاً من الشّيوعيّةِ ممّا هم من الألمان، الأمر الذي هيّأهم (نفسيّاً) إلى أن يتوصّلُوا إلى صيغ اتّفاقٍ ما مع هتلر. كان الفرنسيّون، وقتذاكَ، شديدي الحبِّ للسّلام، أو ربّما كانوا ما يزالوا- آنها- منهكينَ جداً من حروبهم الفائتة. لذلك ما هان على ممثليهم الرسميين أن يتأمّلوا في إمكانِ حدوثِ تغييرٍ في مجرى الأحداثِ بدا، حينذاكَ، لا يعني شيئاً سوى قبول حتميّة الحرب..... "وعندما أجرى ضبّاطٌ فرنسيّون مقابلةً مع الجنرال الألماني جوديريان بعد انتهاءِ الحربِ أعربَ عن الملاحظةِ التالية:- "إن كنتُم، أيّها الفرنسيّون، قد تدخّلتُم في حربِ بلادِ الرّاين في عام 6193 لكنّا قد "أُغرِقْنا" في الهزيمةِ ولسقط هتلر ربّما". وفي نفسِ السياق قال ديجول:- "كان ينبغي علينا أن نتصرّفَ بمباغتةٍ، وحشيّةٍ وسُرعةْ".
"حين بدأ الفرنسيّون يشعرون بدنُوِّ الواقعةِ أرسلُوا ديجول مُوفداً إلى المارشال بِلَمْ الذي قال عنهُ:- "إنّ الشّخصَ الذي مثلَ أمامي اليومَ، ذلك الإنسان الذي نظرَ إليَّ بهدوءٍ شديدٍ، والذي تحدّثَ في عباراتٍ رزينةٍ كتِلْكَ، لن يكونَ، من تلقاءِ اختياره الخاص، معنيّاً بأكثرِ من فكرةٍ واحدةٍ في وقتٍ واحدْ". وبالفعلِ قال ديجول، في مفاوضات ميونخ:- "إنّ الإجابة الوحيدة (على ما تفاقمَ من خلافٍ) هي خوض الحرب".
"لمّا وقعت الكارثة، بأعجلِ مما هو متصوّرٌ، كانتْ فرنسا على حافّةِ الإنهيار. وكان ديجول، بلوائه المُدرّعِ، بالكادِ وراءَ الخطوط حيثُ الهجومُ الألمانيُّ كان مرتقباً أن يندفعَ، عاصفاً، في اكتساحهِ العظيمِ للبلادِ الفرنسيّةْ. في تلكَ اللحظةِ عيّن رينود، رئيسُ الوزراءِ الفِرنسيِّ، ديجول وزيرَ دولةٍ بوزارةِ الدّفاع. غادر ديجول موقعهُ الحربيَّ، في الحالِ، إلى باريس. ثمّ أجرى مقابلةً مع القائدِ الأعلى للقوّات المُسلّحةِ الفرنسيّةِ الذي خاطبهُ قائلاً:- "أنتَ ترى أنّني ما كنتُ مُخطئاً حين أخبرتُكَ، قبلَ أيّامٍ قليلةٍ مضتْ، أنّ الألمانَ سيهاجموننا عندَ السَّومِي في السادس من يونيو. إنّهم، في الواقع، شارعون- الآنَ- في الهجوم. وفي هذه اللحظةِ بالذات هم يعبرون النّهر. أنا لستُ بقادرٍ على إيقافهم". كانت استجابة ديجول لذلك الحديث قولَتَهُ:- "ثمّ ماذا بعد؟" "ماذا بعد؟"، ردّ عليهِ ويجاند (القائد الاعلى للجيش الفرنسي)، "ليس من ثمةِ "بعدٍ" سوى النّهاية!"... "ماذا تعني بقولِكَ إنّها النّهاية؟ ماذا عن العالم؟ ماذا عن الإمبراطوريّة؟" ساءلهُ ديجول فأجابهُ ويجاند قائلاً:- "الإمبراطوريّة؟ ذلكَ شيءٌ طفوليٌّ! أمّا عن العالم فإنّني ما أن أُهزَمَ هنا سوف لا تنتظر إنجلترا، حتّى ولو لأسبوعٍ، قبل أن تتفاوض والرّايخ"....."
"بين أفرادِ هيئةِ ضبّاطِ ويجاند لمس ديجول ذات الرّوح الإنهزاميّة. وعند عودته إلى باريس أخبر رينود بأنّ ويجاند يجب أن يُعفَى من منصبِهِ القياديِّ في الحال. وافق رينود على ذلك، لكنّهُ اعترفَ بأنّه ليس، بعد، في موقعِ نفوذٍ كافٍ لإصدار الأوامرِ الضروريّةِ لتنفيذهِ. فهو إن فعلَ ذلكَ قد تنهار الحكومةْ".
في اليومِ التالي لذاكَ الحديثِ غادر ديجول باريس إلى لندن.
"التقاني السيّد تشرشل في داوننج استريت"، كتب ديجول في مُذكّراتِهِ، "وكان ذلكَ أوّلُ اتّصالٍ لي بهِ. الإنطباعاتُ التي ابتعثها فيَّ أكّدتْ لي قناعتي الخاصّة بأنّ بريطانيا العظمى، ما دامتْ مُقادةً بمحاربٍ كذاكَ، سوف لن ترتعد فرقاً أبداً. بدا لي السيّد تشرشل كفؤاً لأشقِّ وأعسرِ مهمّةٍ، سيّما إن كانت تلك المهمّةُ، أيضاً، ذاتَ هيبةٍ وجلالْ. فوثُوقِيّةُ تقييمهِ، ثقافتُهُ العظيمةُ، المعرفةُ التي اتّصف بها حول معظم المواضيع، غالب البلدان وغالب الرّجال القائمين على شؤونها، وأخيراً حماسهُ العاطفيُّ للتَّعامُلِ مع المشاكلِ الحربيّةِ الخالصةِ تجعلُ منهُ، جميعاً، إنساناً يجدُ في الحربِ مجالهُ الكامل. وفوقَ كلِّ شيءٍ آخرٍ هُوَ لائقٌ بطبيعتِهِ للفعلِ، لركوبِ المخاطرِ وأداءِ دورِهِ المُناطِ بهِ بنفاذٍ جليٍّ لا يشُوبُهُ شائبٌ من تهيّبٍ أو تحفّظْ. باختصارٍ، وجدتُهُ حسناً على "السّرجِ" كمرشدٍ وقائدْ".
في مقابلِ ذلك أشار تشرشل إلى ديجول، في مجلسِ الحربِ البريطانيِّ، على أنّهُ "وزيرٌ شابٌّ وزخرٌ بالطّاقةِ" وقعَ في انطباعهِ موقعاً حسناً. ثم أردفَ قائلاً:- "أعتقدُ أنّهُ من المحتمل، في حالِ انهيارِ الخطِّ السياسيِّ الحاضر، أن يلجأ رينود إليهِ كي يستلم القيادة".
"في أثناءِ التّردّي الذّريعِ النّهائيِّ وجد ديجول نفسهُ في بوردوكس وفي معمعةِ انهيارِ الحكومةِ الفرنسيّة" (حيثُ ثلاثمائة عامٍ خلتْ كان قد سلّم سيفهُ إلى القوى الإسبانيّة). ثمّ طلبَ من المارشال بيتان، الذي عرفَ برغبتِهِ في التّسليمِ المشروط، بتشكيلِ إدارةٍ سياسيّةٍ جديدةْ. وخوفاً من مواطني بلادهِ الذين ما صدّقوا برغبتهِ في إبقاءِ العلمِ الفرنسيِّ مرفرفاً في شمال أفريقيا تخفّى ديجول في تلك الليلةِ ثمّ، في الصباحِ التالي، قفزَ في بطنِ طائرةٍ كان تشرشل قد أرسلها لهُ تحسّباً لحاجته للعودة إلى لندن حتّى يُرتّبُ لإجلاءِ الحكومةِ الفرنسيّةِ إلى الشّمال الأفريقيْ. خلال تلك الليلةِ الأخيرةِ في فرنسا، وفيما هو جالسٌ في مكانٍ ما في بوردوكس منتظراً طلوعَ الفجرِ، وُلِدَتْ الدّيجوليّةْ. كان مخاضُها شاقّاً ومن بينَ آلافِ الرّجالِ والنّساءِ الفرنسيّين اللذين كانوا غارقينَ في الدّموع. في تلكَ الليلةِ ما شعرَ أحدٌ بذُلِّ الهزيمةِ بحدّةٍ أكثرَ من ديجول. فرؤيتُهُ "الصُّوفيّةُ" لفرنسا كبلدٍ اصطفاهُ اللهُ وإيمانُهُ بالجّيشِ بوصفِهِ أدقَّ وأروعَ تعبيرٍ عن قوميّةِ فرنسا قد نُوثِرَا، كِلاهُما، شذَرَ مُذَرْ..... رأى نفسهُ وفرنسا، في تلكَ الليلةِ، هويّةً واحدةْ".
حين وصل ديجول إلى لندن ورأى، بالفعلِ، تشرشل علّق الأخيرُ على حاله قائلاً:- "إنّ الجّنرال الفرنسيَّ الشابَّ يبدو منطوياً على قدرةٍ متميّزةٍ على الشّعورِ بالألم..."، "فعلائم المعاناة التي قاساها ديجول في تلك الليلةِ في بوردوكس قد راوحنَ على وجهه لشهورٍ عديدةْ".
تهبنا بيوغرافيا آيدن كراولي الرائعة الوثوق (أو التّمكّن) عن ذلك الرّجل اليُشارُ إليهِ بالبنان، بالتفصيلِ، صورةً عن الأحداثِ- المؤرّقةِ والمُعذّبَةِ- التي أدّت لتسلّم ديجول مقاليد فرنسا خلالَ أيّامِ "غزوِ" قوّاتِ الحلفاء لها [والذي بدأ في السادس من يونيو 1944] بهدفِ تحريرِها من الإحتلالِ الألمانيْ. تعاقبت، حينذاكَ، في نفسِ ديجول (وفي أنفسِ كلّ مواطني ومواطنات فرنسا) مشاعر النجاح والخيبة اللذين كانا متمازجين ومُتباريين حتّى حلّتْ تلك اللّحظة الفائقة حين "رُغمَ القتالِ الذي كان ما يزالُ جارياً في كلّ أنحاءِ مدينةِ باريس تداعتْ حشودٌ ضخمةٌ من كلِّ فجٍّ مُرحّبَةً بديجول. ومأخوذاً بالعاطفةِ، ملآناً بالصّفاءِ، عبرَ هو ميناء أورليانز..... ثمّ أغرقت تهاليلُ الجّماهيرِ، فيها، أصواتِ الطَّلَقَاتْ".
كانتْ مسيرةُ ديجول إلى قصرِ الأليزيه (التي نشدَ فيها معارفه المقرّبين أن يسيروا على مبعدةٍ وخطواتٍ قليلةٍ خلفهُ) مشهداً رائعاً، فلقد تبعهُ فيها نصفُ مليون باريسيٍّ طروبْ. ثمّ أتى، أخيراً، دخولُهُ إلى كنيسةِ نورتردام حتّى يُصَلّي صلاةَ الشّكرِ على خلاصِ باريس وزحفه، الثابت والمستقيم الخُطى والغير هيّابٍ ولا وجلٍ، عبرَ دروبِ تلك الجزيرةِ (أي نورتردام) فيما تطايرت الرّصاصاتُ المنهمرةُ حولَهُ وبقيّةُ الجّمعِ استترَ منها وراءَ مقاعدِ الكنيسةِ ليُشكّلا أزهى زمانينَ في حياتِهِ. وحقّاً صدقَ آيدن كراولي حينما سمّى ذلكم الآنَ الدذيجوليَّ الزّاهي بزمانِ "تأليهِ ديجول".
العالمُ يعرفُ ما حدثَ من بعدِ ذلك. فذلك الرّجل االبطوليُّ، الديكتاتوريُّ- الديمقراطيُّ (فهو قد كان مزيجاً دقيقاً من هذين المَُتنَاقِضَينْ) قد جذبَ فرنسا(هُ) التي أحبّها حبّاً شديداً خارجَ الحمأةِ التي طُمِرَتْ فيها، ثمَّ أبدلَ ما كانَ من حالها بحالِ أمّةٍ مُشرّفةٍ من أممِ العالمِ العظيمةْ. مع ذلكَ، هنالكَ وقتٌ، خلال الحربِ، خشيَ فيهِ حلفاءُ فرنسا، وأمريكا خاصّةً- بل وحتّى بريطانيا، في بعضِ الأحيان- من أنّ ديجول ما عادَ "ديمقراطيّاً، بل هو في سبيلهِ إلى أن يجعلَ من نفسهِ سيّدَ فرنسا....." وفي الحقِّ كان إيمانُ ديجول بنفسهِ ذائداً أوحداً عن شرفِ فرنسا قد تنامى في ذاتِهِ إلى مستوىً "يكادُ يكونُ دينيّاً". "كلُّ شيءٍ"، كما قال آيدن كراولي في البيوغرافيا التي ألّفها عن ديجول، "كانَ مُتهَدّداً بخُيّلاءِ ديجول وطموحهِ". فذلك "اللا إعتبارُ التَّامُّ من قبَلِ ديجولِ لزملائهِ كان يُسبّبُ، تدريجيّاً، بغضاء متزايدة لهُ. فكلُّ اللوائح المسنونة والأوامر الرّسميّة (منذُ عام 1941) ما خلتْ من أن تُبتدر بالكلمات التالية:- "نحنُ، الجّنرال ديجول، قائد الفرنسيّين الأحرار....."، ثمّ هي، في ختامها، كانت لا تفتأ تُوَقَّعُ بإمضاءِ ديجول وحدِهِ".
بعد صلاة الشكر القصيرة والرصينة، برغم ما أثقلها من تقاذف الرصاص، في كنيسة نورتردام مشى "منقذ فرنسا"، متمهلاً، من بين جموع المواطنين، إلى فندق دي فيلي. "كانت تلك لحظةٌ مكثّفةْ. وفيما هو مشرفٌ على المبنى رأى السيّد بيدولت منتظراً إيّاه أسفل السلّم المدرّج الكبير. ثمّ سار اثنتاهما، ببطءٍ، صاعدينَ على المدرّجاتِ بينما حرسُ المقاومةِ كان مُستعرِضاً لسلاحهِ. جنباً إلى جنبٍ- إذاً- ارتقى الرّجلان السّلّمَ المدرّجَ حتّى بلغا مركزَ الصّالونِ الفخيمِ حيثُ حُيِّيَا "بزخمٍ من الطّلقاتِ المُهنّئاتْ"....."
من هنا فصاعداً تُنبؤُنا فصولُ كتابِ آيدن كراولي الطّريفِ، بغَنَاءٍ، عن تداعياتِ الحكاية:- "القوّةُ والمجدُ"- "القممُ الدَّوَّارةُ"- "ملِكٌ أخيراً"- "وحدُهُ على مشارفِ القِمّةْ"، ثمّ "الفقّاعةُ تنفجرْ". نحنُ نعرفُ الحكايةْ.
في ما بين صفحاتِ الفصلِ الأخيرِ من كتابِ آيدنْ كراولي نجد الكلمات التّالية:- "حتّى الصّيف (في عام 1968) كان ديجول قادراً على استمالةِ غالبيّةِ آلِ بلادهِ إلى الإعتقادِ بأنّ هنالكَ شيئاً أساسيّاً ومُعتبراً في رؤيتِهِ لفرنسا كأمّةٍ مستقلّةٍ عن كلِّ التّنظيماتِ الأجنبيّة، مُسنِّنَةً لِخِلاقِ الأممِ الحضاريّةِ وراعيةً للدّولِ الأقلَّ نمُوّاً. الآنَ معظمُ النَّاسِ في فرنسا يدركونَ أنّهم كانوا معتمدينَ على قوى العالمِ السياسيّةِ والإقتصاديّة، شأنَهُم في ذلكَ شأنَ بقيّةِ أوربّا الغربيّةْ. إنتخابيّاً كانت قوّة ديجول لا تُزعزعْ. مع ذلك هو قد حازَ على انتصاره في انتخابات يونيو ليس على أساسِ أنّهُ المُخلّصُ الطذبيعيُّ للأمّةِ الفِرنسيّة، بل لكونهِ القائد القادر على مجابهةِ الشّيوعيّةْ. على كلِّ حالٍ، كان العديدُ من تجديداتِهِ الإجتماعيّةِ متفوّقاً على برنامجِ "حزب العمّال" في ذلك الزمانْ.
"ليس كلُّ سياساتِ ديجول صارتْ، في النّهاية، حسنةَ الآثارِ على فرنسا. لكنّهُ، في كلّ قضيّةٍ حاربَ من أجلها، كان صادقاً مع نفسه ورؤيته الخاصّةِ للأشياءْ. ما من نَفَسِ فضيحةٍ، ولا من إشارةٍ إلى مصلحةٍ خاصّةٍ، قد مسّتا، ابداً، اسمَهُ..... وليس هنالكَ من رجُلٍ سعى ناشداً غايتَهُ، بصبرٍ ومصابرةٍ، مثْلُهُ. مع ذلك هو قد رفض الدكتاتوريّة حينما كانت الدّكتاتوريّة مُيسّرةً لهُ ومُمكنةً ونشدَ، عسكريّاً وسياسيّاً معاً، إنقاذَ الحيَوَاتِ، بدلاً عن هدرها. ثمّ أنّهُ، كذلكَ، ما من رجلِ دولةٍ كان أقلَّ حرصاً على سلامتهِ الخاصّةِ من ديجول. لكلِّ ذلكَ نَحسبُ، وِفقَ أيِّ مقاييسٍ مُتصوَّرَةٍ، أنَّ ديجولَ إنسانٌ ذو عظمةْ".
ذلكم هو الرّجلُ الذي قضى أمدَ تلمذةٍ استغرقَ (على الأقلِّ) حياتينَ بتمامهما وكمالِهما كي يصلَ مَشْرَفَاً من مَشارِفِ قمّتِهِ الخاصّةِ في آنِ تجسّدِهِ (في القرنِ العشرينِ) كديجول. ورُغمَ أنَّ مكوّناتَ رُوحِهِ قد جعلتْهُ، في حيَوَاتِهِ الباكرةِ تلكَ، يتعثّرُ، بسوءٍ، على صخُورِ أُنموذجِ طموحهِ الخاصِّ إلاّ أنّه كانت فيهِ، دوماً، علائمُ عظمةْ. ثمةُ جانبينَ من حياتِهِ كانا، دائماً، على حربٍ. الأوّلُ منهما كان مُقاتلاً في سبيلِهِ الشّخصيِّ أو الذّاتِيِّ، والثّاني كان مُنافِحاً في سبيلِ شعبِ بلادهِ وعظمةِ كبريائهِ القومِيْ.
إنّ حقيقةَ كونِ الأممِ ليستْ، في كلِّ الآناءِ، مُتماثِلَةً تُعلّمُنا أنَّ القوميَّةَ هي من أضغاثِ خواطرِ ضيقِ أفقِ رؤيةِ الإنسانِ كما هو في الزّمانِ الحاضرْ. فالأمرُ هو كما وصفَهُ "المُعلِّمُ" قبلَ سنينٍ خَلَتْ:- "كُلُّ إنسانٍ مِنّا هو أُمّةٌ من الأفرادْ". ذلكَ يُظْهِرُنَا على أنَّ كلَّ إنسانٍ منّا (رجلاً كانَ أم امرأةً) لهُ ماضٍ مُتَميِّزٍ هو الّذي آلَ بهِ إلى من وما هوَ عليهِ في الزَّمانِ الحاضِرْ.
- إبراهيم جعفر
- مشاركات: 1948
- اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am
[color=brown]الفصل التّاسع
"ر".
1
في هذا الوصلِ للحياةِ بالحياةِ نرى كيف أنّ منازِعَاً بعينها تتكرر، زماناً بعد زمانٍ، حتّى يصهرُ المعملُ الكيميائيُّ للرّوحِ الذي "هو" الإنسان، بنارِهِ، جميع العناصر ذَهَبَا.
ذلك هو الذي نحنث بسبيلِهِ على هذه الأرضْ. وهو، في الواقع، الحقيقة المُسْتَبْطَنَةُ في أُسطورةِ حجرِ الفلاسفة. فالصّفاتُ الأرضيّةُ للكائنِ الإنسانيِّ ينبغي لها أن تُبدَّلَ [أو "تُنَاسَخَ"، بالأحرى- المترجم] إلى ذهبِ الرّوحِ قبلَ أن يتمكّنَ إنسانٌ مُفردٌ ما من تجاوزِ وضعيّتِهِ الإنسانيّة. إنّ تعقيداتَ التّجربةِ على كوكبِ الأرضِ تُنجبُ الإزميلَ والنّارَ اللذين يُطوّعان المِعدنَ ويُحدثانَ فيهِ توازُناً في المحتوى الرّوحيِّ-الكيميائيْ. آنذاكَ فقط نكونُ أحراراً في أن نُبْقِي فينا، أبداً، حالاتِ الكائنِ المُتحرّرِ الحيِّ في الأبعادِ العلويّةِ، في سماواتِ الحياةِ الآخرةْ.
لقد اقتُرِحَ لي أنَّ "البرزَخَ" المذكورَ في مُعتقدِ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ الرومانيّةِ يُستطاعُ أن يُرى ليس فقط على أنّهُ الفترةُ القريبةُ ممّا بعدِ موتِ الجّسدِ، بل أيضاً على أنّهُ ربّما يكونُ عانياً الحياةَ القادمةَ التّي "ستُنَادَى" الرّوحُ إلى عيشِها على كوكبِ الأرضْ. في الواقعِ إنّ الكثيرينَ منّا يحيُونَ، الآنَ، برزخَهُمْ. فنحنُ، وفقاً للشجاعةِ والحكمةِ اللّتين نستجلِبُهُما إلى أُفقِ تمعّننا الأسيانِ ومشاكلِ حيواتِنا، ندفعُ، الآنَ وبالفِعلِ، ديُوننا الكارمِيّةْ.
من الُممكنِ لهذا أن يُرى، بجلاءٍ شديدٍ، في ثنايا دراساتنا الحاليّةِ لحيواتٍ بعينها. ومن الشّواهدِ عليهِ هو تلكَ الحالة التي سبقَ وأن اقتبسناها وأوردنا فيها حكاية صبيٍّ صغيرٍ وُلِدَ بذراعٍ ويدٍ مُشوّهتينَ بعِلَّةِ الإغتيالِ الذي قد ارتكبهُ في وقتٍ مُشارفٍ لنهايةِ حياتِهِ السّالفةِ وبدءِ وجودهِ الحاضرْ. بل وذهبَتْ- كما رأينا- حكايةُ ذلك الطّفلِ اليافعِ بعيداً كي تُنبؤُنا بأنّهُ كان يبدو منطوياً على معرفةٍ قَبْلِيَّةٍ بأنّ تشوّهَهُ إنّما واتاهُ كمعلُولٍ عن عِلّةِ خُبْثِهِ في حياتِهِ الماضيَةِ، فهو أشارَ إلى ذلكَ على الدّوام، رُغم كونِهِ ما زال- وقتذاكَ- حديثاً جدّاً في السِّنْ.
إن قُيِّضَ لنا أن نكونَ مُستنيرينَ جدّاً بحيثُ يغدو بُمستطاعِنا أن نفهَمَ أنَّ بلاءاتنا ومتاعبنا، أسقامنا وتشوّهاتنا في حيواتنا الحاضرة هي آثارٌ لأفعالنا الماضيةِ وأنّها، كذلكَ، فعاليّاتٌ للقانونِ الذي نُسِجَتْ حيواتُنا على منوالهِ لربّما تيسّرَ لنا أن نحيا على صُورٍ أكثرَ تفلسُفَاً. وقد نكونُ، حينذاكَ، مُتعاطفينَ ومثالبَ الآخرينَ وأقلَّ تسامُحاً وانفُسنا. وبدلاً عن الهرجِ ضدَّ "قَدَرٍ" ابتلانا بهذا الضّعفِ أو ذاكَ، بنقصٍ في الثّروةِ الماديّةِ أو بظروفٍ ليستْ باسمةً ينبغي علينا أن نعرفَ أنَّ هذه الحياةَ هي تعبيرٌ عن سلوكنا الخاصِّ في الماضي. بل، وأكثرَ من ذلكَ، هي فُرصةٌ ذهبيّةٌ لنا كي نُعيدَ الأمورَ إلى استقامتِها في دخيلاتِ أنفُسنا هنا- و- الآن.
تستطيعُ الحياةُ أن تغدو مُماثِلَةً للمشيِ عبرَ حقلِ ألغامْ. فأيُّ خطوةٍ زائفةٍ فيها سننالُ منها عواقباً وخيمةْ. إنّنا سنُجنِي ثمارَ ما قد كنّا غرسناهُ حتّى يُوافينا زمانٌ نُمكَّنُ فيهِ من عكسِ سيرورةِ تسميمِ أنفُسِنا بالفعلِ الخاطئِ والحُكمِ اللا معصُومْ.
إننا نتعلّم أنَّ الخطيئةَ هي الجّهلْ. فإن عرفَ الإنسانُ فحسب، بدونَ أيِّ ظلٍّ للشّكِّ، أنّهُ، بأفعالِهِ وفكرِهِ، سوفَ يجلبُ إلى نفسهِ شرّاً مثيلاً لخطاياهُ السّالفةِ في زمنٍ مستقبليٍّ ما فإنّهُ، بالتّأكيدِ، سوف لا يُخاطِرُ بإلقاءِ نفسِهِ في معمعةِ مُغامرةٍ كتلك.
إنّ الأمثلَةَ الحيّةَ التي سلفتْ والآتيةَ تُرينا كيفَ أنّ القوانينَ "الكارميّةَ" تُحقَّقُ، بعُمقٍ وحساسيّةٍ، ما بينَ حياةٍ إنسانيّةٍ وأخرى. هذا ما سترويهُ، كذلك، قصّةُ روحٍ كانتْ تُسمّى، في القرنِ الماضي، بودلير. فذلكم الشاعرُ االفرنسيُّ المُنمازُ كان، في القرنِ الحالي (القرن العشرين)، قسِّيساً رومانيّاً كاثوليكيّاً ولاجئاً إلى فرنسا من دولةٍ أوربيّةٍ أخرىْ. ثمّ، من بعدِ ذاكَ، غدا الإنسانُ إيّاهُ قسّيساً مسيحيّاً لرفاقه الأهليّين في إنجلترا. إنّه هو الذي، في حياته السابقةِ في باريس، قد طمرهُ عيشٌ بلا عنايةٍ في أعماقِ الفقرْ. ثمّ وجد نفسهُ في حاضرِ الزّمانِ (أي في القرنِ العشرين) مُلزماً بعهدٍ وثّقَ بهِ نفسهُ في نُذْرٍ لتكريسها لحياةِ فقرٍ وسطِ اللاجئين الذينَ اعتنى بهم عنايةً رؤومْ. إنّ تلكَ الرّوحَ قد نالتْ، في آنٍ حديثٍ، حريّتها في الآمادِ الماورائيّةْ. فصاحبُها قد دفعَ، بالتَّأكيدِ، "دَيْنَهُ".
2
سأقتبسُ، في ما سأمسّهُ من إحدى الحكايتين المعنيّتين، عن سيرةٍ ذاتيّةٍ كتبها إينشيْدْ استاركِيْ.
وُلِدَ شارلس بودلير، الرّومانيُّ الكاثوليكيُّ، في باريس في التاسع من شهر أبريل من عام 1821. ماتَ أبوهُ وهو لمّا يزلْ صبيّاً يافعاً فتزوّجتْ أمّهُ الجّنرال أوبِكْ. كانتْ لبودلير عاطفةٌ عظيمةٌ وراسخةٌ تجاه أمّهِ. أمّا زوجُ أمّه (أو أباهُ العُرفيُّ) فهو، رُغم كونِهِ، نوعاً ما، شديدَ الصّرامةِ والبأسِ، قد فعلَ ما في وُسعِهِ من اجلِ الصّبِيْ.
"كان شابّاً عصيّاً... ولقد اعتورَهُ ما يعتورُ أيُّ شابٍّ فنّيِّ الطّبعِ ومتمركزاً حولَ ذاتِهِ من أحوالٍ دنيويّةٍ عاديّةٍ فشعرَ، مثل غالب المراهقين، بأنّه ليس على تناغُمٍ ومُحيطاتهِ ومُساءَاً فهمَهُ من جميعِ أفرادِ النّاسْ. كتب مُعاصرٌ لهُ عنهُ وهو في عهدهِ المدرسيِّ:- "كان، في المدرسةِ، ولداً صغيراً ومُبهِجَاً، متوقّدَ الذّكاءِ ومتطلّعاً، ذا وجلٍ لطيفٍ وحياءْ. لكنّهُ، على أيّةِ حالٍ، فقد معظم سعادتَهُ وحيويّتَهُ الزّاخمةَ مع تقدّمهش في السّنْ. فلقد صار، وقتذاكَ، عُرضةً لتلكَ المزاجاتِ المفعمةِ بالكآبةِ، تلكَ "السّوداويّة" المرضيّة التي قُيّضَ لها أن تكونَ، لاحقاً، ملمحاً لافتاً من ملامحِ كتاباتِهِ. ثمّ غدا، شيئاً فشيئاً، واعياً بالعزلةِ الجّوهريّةِ لنزوعِهِ، فهو قد شعر بأنّه وحيدٌ حتّى في وسطِ أصحابِهِ واصدقائهِ". ثمةُ "قناعةٍ بمصيرٍ أزليِّ العُزلةِ" كانت تستوطنُهُ.
هنالك صديقٌ قابلهُ بعد ثلاث سنوات من هجره للمدرسةِ فوجدهُ "متغيّراً كثيراً، بل وحاسّاً بالمرارةِ حتّى..... كان، على كلّ حالٍ، ما يزالُ، آنذاكَ، كاثوليكيّاً غيُوراً. لكنّه، في الحقِّ، ما فقد مطلقاً اهتمامه بالدّين. ولقد تحدّث هو ذاتُهُ عن "جنوحهِ نحو الصّوفيّة منذُ الطّفُولة".
"على أيّ حالٍ، بدأ بودلير، سريعاً، يحيا حياةَ "الحيِّ اللاتينيِّ" ويُناثِرُ وقتهُ بعيداً في التّسكّعِ في المقاهي وشرب الخمر في الباراتِ السّفليّةِ الوضيعة... كان تدخين الأفيون والحشيش أحدث وأجرأ رذيلة لهم. ما عرف بودلير، في ذلك الأوان، أنه، بعد عشرين عاماً آتيةً، سوف يكونُ نادباً عدم قدرته على فِصالِ نفسِهِ من هذا الإدمان".
صار جليّاً لوالديهِ أنّ ابنهما غيرُ قادرٍ تماماً على حسن التصرّف في المال. فبطريقته الباذخة في الحياةِ، بردائهِ النّاعمِ الوثيرِ، بالصّحبةِ التي اتّخذها، وبالدّيونِ التي راكمها وما استطاعَ، إلاّ قليلاً، أن يُسدّدها سبّب بودلير لأمّهِ ولزوجِ أمّهِ مقداراً كبيراً من الجّزعْ. أخيراً قرّرا أن يُرحّلاهُ، في سفينةٍ، إلى ما وراءِ البحارِ لحينٍ من الزّمانِ عساهُ يلقى في ذلكَ مغامرةً ووقتاً يستوى فيهِ عُودُهُ (الفيزيائيُّ والشّعوريُّ) بعيداً عن الأصدقاء الباريسيين والحياة الباريسيّة. على كلّ حالٍ هو ما قطع منتصف الطريق إلى الهند حين قرر الكف عن مواصلة بقية الرحلة والعودة إلى بلاده. لكنّ ذلك السفر الرومانتيكيَّ حفّز رغبتهُ في أن يُصيرَ شاعراً فبدأ في كتابةِ بعضِ قصائدٍ متميّزةْ.
عندما بلغ الحادية والعشرين من عمره حاز على حقّ التصرّف في ميراثه الخاص عن أبيهِ. أنشأ منزلاً في "فندق لاوزَنْ" وزيّنَ حجراتهُ بمبالغةٍ مُفرطة. سرعان ما صار بيتُهُ ملتقى الحياةِ البوهيميّةِ للمدينةْ. قيلَ عنهُ، في ذلك الوقت، إنّه "كان أحد أعاظم المحاورين الرائعين في جيلهِ... كان يستطيع التحدّث، بشغفٍ متساوٍ، عن الشؤون الجّماليّة، السياسيّة أو الميتافيزيقيّة"... "المحاورةُ، تلك المتعةُ الوحيدةُ العظيمةُ، الوحيدةُ لأيِّ كائنٍ إنسانيٍّ رُوحيْ". هكذا كتب بودلير.
لقد سحر بودلير الرجال والنساء معاً:- "إنّه، خلال تلك السنوات وفي "فندق لاوزان"، إكتسبَ بودلير سمعته كرجلٍ غريبِ الأطوارِ، مُتصنّعاً ولا أخلاقيّاً". نسي كاتب سيرته الذاتيّة أنّه كان، حينذاكَ، على أيّةِ حالٍ، في الحاديةِ والعشرينَ من عمرهِ فحسبْ.
أخيراً شكّلتْ عائلتُهُ، في بُرهاتِ يأسٍ، نوعاً من المجلسِ العائليِّ وعهدت إليهِ بإدارةِ عقاره ومنحه علاوة موقوتةْ. غير أنّ ذلك لم يمنع الرّجلَ الفتيَّ من تجاوزِ الحدِّ، إلى مدىً منذرٍ، في سحبه الماليْ. في الحقّ كان الدّينُ، لبقيّة حياتِه، خليله الدّائم. "لهذه المرحلة تنتمي، أيضاً، قصائد التّمرّد والثّورة ضدّ الله، القصائد التي عبّرت عن إعجابها بالشَّيطان والرغبة في أن تسود الوجود قوى الظّلام بدلاً عن قوى النّور... مثّلتْ "الشّيطانيّةْ"، في منتصف القرن التاسع عشر، بصورةٍ أبعدَ غوراً من الإلحاد، التّمرّد ضدَّ الأفكار والقيم النموذجيّة المقبولةْ... إنّ التعبيرَ عن انفعالاتٍ لاأدريّةٍ وعن مقتِ المثلِ المسيحيّةِ، خاصّةً في مجتمعٍ كانت فيه الكاثوليكيّةُ رامزةً لكريمِ المُعتقدِ (أو مُحترمَهِ) قد اعتُبرَ، آنذاكَ، أكثرَ جرأةً مما هو يُحسبُ اليوم... من الممكن لنا أن نُصدّق بأنّ كلّ قصائد بودلير التّجديفيّة قد أُنشِأتْ في الفترةِ الأولى من مساره الأدبيِّ وقبل أن يبلغَ عمره الخامسةَ والعشرين.. ذلك في عصرٍ كان التّجديفُ فيهِ جُرأةً وطرافةً، كما وكانت كذلك مُعاظَلَةُ (معاندةُ) القوّةِ التي استشهد بها، سابقاً، كبارُ القومِ حتّى يُخمدُوا الإستقلالَ الشّبابيْ... منذُ مراهقته غدا الشاعرُ منكشفاً لنفاذ مزاجاتٍ كآبيّةٍ وتشاؤميّةٍ دوريّةْ. لقد اعتقدَ، في البدءِ، أنَّ حياة اللهو والطيش ستجلب له الرضا والبهجة. لكنه اكتشف، سريعاً، أنّ التّرخّصَ والإنغماسِ في المُلِذِّ ما وافياهُ بالسعادةِ التي أمِلَها. ثمّ أنّه، أيضاً، كان صافيَ الرؤيةِ وناقداً لذاتهِ بحيثُ تعيّن عليهِ ألاّ يُغفلَ عن تقديرِ القيمةِ الحقيقيّةِ للحياةِ التي كان عائشاً لها، حتّى ولو كان- كما هو في الواقع- قد اختارها لنفسه بنفسهِ". على كُلٍّ، "كانت السّنوات التي قضاها في "هوتيل دي لاوزن"، في مجملها، بالنسبة له سنواتِ لذَّةٍ وتحقيقِ ذاتٍ طبعتها الثقة في النفس والإستمتاع بالصّداقاتِ القريبةِ، التّمهّلِ والدّراسة. فهُنَّ- كما رآهُنَّ- كنَّ السّنوات الوحيدة السعيدة حقّاً من حياته الراشدة".
فقط بعد تعيين محامٍ أنقذَ "حُثالةَ" عقارِه حتّى تُدفعُ لهُ علاوةٌ شهريّةٌ عيّرَ بودلير أسلوبهُ الملبسيَّ:- "لقد ذهبتْ المعاطف البهيجةَ الألوان والصّديريّات، الأحزمة المُجوهرة واتّخذ بودلير، عِوضاً عنها، لنفسه زيّاً أسوداً بسيطاً، ثمّ حلق لحيته وقصّ ضفائره المتموّجة الطويلة. سُرعان ما اختفى، من بعد ذلك، عن مُحيّاهِ ذلك التعبير الخفيف الرّوح والخليّ وانطبعت على وجهه خطوطٌ قاسيةٌ ومريرةٌ هي التي يراها الناظرُ إلى صوره الفوتوغرافيّة الأخيرة... صار سلوكه واعياً بذاته وبعيداً عن العفويّة والطّبيعيّة فاعتوره، تبعاً لذلك، عدم الوثوق في نفسه والخوف من الفشل... وفي كتاباته غدا، في تلك الأيام، ناقداً فنيّاً (وأدبيّاً) قديراً، كما وشاعراً. ولقد طُبعتْ لهُ، وقتذاكَ، شتّى المواد الإبداعيّة في مختلف المجلات وواتتهُ، بين الفينة والأخرى، بدفعيّات ماليّة صغيرة. بيد أنّهُ، على كلّ حالٍ، غرقَ في حالةٍ من الكآبةِ واللا إكتراث طمرتهُ في حواشيها ودفعته، كما يبدو، إلى محاولة الإنتحار. ثم أخذتهُ أمّه، مرّةً أخرى، إلى البيتِ العائليِّ القديمِ حتّى تستطيعُ رعايتهُ وتُمكّنُ علاوتهُ الصغيرةَ من قضاءِ حاجاته بصورةٍ أوفى. كتب، آنذاكَ، رسالةً إلى صديقٍ قال فيها إنه قد شعرَ بالحاجةِ إلى "كثيرٍ من العُزلةِ كي يتعافَى ويستعيدَ قوّته الأخلاقيّة".
مضى حينٌ من الزمان وعاد بودلير، ثانيةً، إلى العيش وحده ونشر مقالاته النقدية الفنية والأدبية على نحوٍ حسن التواتر. في تلك المقالات نجد "الإيماءة الأولى لنظريته المتأخرة عن التطابقات في الفن والحياة... لقد ناقش فيها رأي هوفمان أنّ الألوان تُنشئُ اهتزازات معيّنة أو انطباعات مباشرة على العقل (الوعي) ليس لها أن تُفَرّق عن تلك التي يُبدعها الصوت. زعم هوفمان أنّ الرّسم، مثل الموسيقى، له هارمونيّةٌ خاصّةٌ (أو انسجامٌ خاصُّ)، وتلك هي هارمونيّةُ (أو توافُقِيّةُ) الصّوتِ والظّل... ثمّ هو، كذلك، وصف نغميّة اللون في الطبيعةْ".
وإذ مرّت السنوات غرق بودلير في حالةٍ من الفقرِ أودت به، من فرط قساوتها، إلى أن يُرافق فقط البوهيميّين والإشتراكيّين في باريس... الآن هو قد عرف مصاعب أولئك الذين يكافحون لانتشالِ أنفسهم من أكثر أوضاع الفقر تهلكةً. نشأ كلٌّ أصدقائه في الطبقات الإجتماعية الدنيا، ومن الحميميّةِ معهم بدأ بودلير في تصوّرِ مثالٍ آخرٍ غير ذلك الذي التمسهُ في اللّذّة الحسيّةْ- تلك التي كانت كلّ ما شغل أيّامه في عهد مجده الإجتماعيْ. كان في شبابه مزهوّاً ومتكبّراً، لكنّه استوى انساناً لطيفاً ورفيقاً ومشتملاً على فهمٍ عميقْ. فمنذ أن عرف، بنفسه، الحاجة فهم ما الذي تعنيه الأشياء الموصولة بها وعانى من الكآبة العميقة وشعور المهانة الذي يحسّه من هو ذو حاجة.
"إنّ بودلير، أكثرَ من أيِّ شاعرٍ فرنسيٍّ آخرٍ، تفهّم وتعاطفَ، بحسٍّ حيٍّ، مع الجماهير المدنيّة الفقيرة. لقد اعتاد على أن يطوفَ الشوارع ليلاً ويُراقب النّاس. وقد يتحدّثُ، حينها، معهم ويحاول أن ينفذ إلى أسرارهم....
بدتْ حياتُهُ الخاصّةُ عسيرة الإحتمال، كما وأنّ حيواتِ المعدمين من أقرانه لم تبدُو أقلَّ عسراً واحتمالاً منها. ما الذي جعل أولئك المُسغبين راغبينَ في الوجود؟ لقد عبّر بودلير، في شعره، عن جِماعِ حياةِ المدينةِ الحديثةِ، عن الرّزيلةِ، الشّقاءِ، الأحلامِ البَوارِ واليأسْ. فمعهُ الخطيئةُ والإفراطُ ليس لهما ألاّ يكونا، أبداً، بدونَ رفيقيهما الحتميّين:- القرف من الذّاتِ والنّدمْ. هو قد أحبَّ أن يهبَ أولئكَ المُعسرينَ شيئاً أفضلَ من الموتِ كي يتُوقُوا إليهِ. إنّه، في أسمى تجلّياتهِ، رجلٌ هزّهُ انشغالٌ رُوحيٌّ عميقْ".
في عام 2518 قرأ بودلير، للمرةِ الاولى، كتابات إدجار الان بو فأحسَّ إعجاباً مُتَحَمّسَ الشّعورِ تجاهَهُ.
وُلِدَتْ أمُّ بودلير في إنجلترا. وهو، نفسه، قد تحدّث الإنجليزيّة عندما كان طفلاً (لاحظ أساس علاقته مع ذلك البلد في حياته القادمة في هذه الدنيا). عليه فهو الآنَ قد انصرفَ، مرّةً أخرى، إلى العملِ على تعلّمِ اللغةِ الإنجليزيّةِ حتّى يكونُ قادراً على ترجمةِ كتاباتِ بو إلى الفرنسيّة.
كان عقل بودلير "منساقاً، بتنامٍ، نحو الفلسفة والتّصوّفْ. ولقد عجذل اهتمامهُ بإدجار ألان بو بنضجه في مرحلةٍ حرجةٍ من تطوّرهِ الشّخصيْ... إنعطف نحو الفكر الدّيني وتأمّلَ الأزليّةْ. بحثَ عن تفسيرِ سرِّ الحياةِ، خاصّةً ما اتّصلَ منهُ بالحياةِ الرّوحيّةِ الأخرويّةْ". الآنَ نرى تأثير سويدنبورق مُلوّناً لنظريّاتِهِ. لقد أمسى شاعراً روحيّاً وفلسفيّاً منشغلاً بالتّصوّفِ ومسألةِ الخطيئةْ. ثمّ استغرقَ في تأمّلِ العالمِ بعينين جديدتين فرأى انَّ الأشياءَ الماديّةَ تُوجدُ في هذا العالمِ فقط لأنَّ لها اصلاً في عالم الرّوح، وأنَّ الصّلةَ الخفيّةَ بين الأشياءِ هنا، في هذا العالمِ التّحتِيِّ، وبينها في العالمِ اللامرئي قد كانت- وما تزالُ- صلةُ "تماثُلاتْ". فنحنُ- كما استبصرَ بودلير- لا نستطيع رؤية الأشياء والأحياء في عالم الرّوح إلا على هيئةٍ غيرِ مباشرةٍ وخلل "تماثلاتها" الدّنيويّةِ، خللِ رموزها... "آمنَ السويدنبورقيين بأننا، إن استطعنا قراءة الرموز المنبثّة قبالتنا فسيكون بمستطاعنا أن نأتي إلى حالِ وصلٍ مباشرٍ مع الأُلُوهيّةِ فيصيرُ الكونُ، من بعدِ ذلكَ، فجأةً جَلِيَّ المعانيَ لنا ونتعرّفُ على الوحدةِ في تصميمهِ، ما دمنا قد حُظينا بعلاقةٍ حميمةٍ بالوعيِ (بالشّعورِ) الامرئي الكامن وراءه... ذلكَ، مُصاغاً في عباراتٍ وجيزةٍ، هو المُعتقد الرّوحي الذي ألهم بودلير في تلك الفترة فصار مقتنعاً بأنّ الخطوةَ الأولى نحو الوصل المباشر والعقل اللامرئي هي الصّبوةُ إلى الكمالِ الرُّوحيِّ والتّنميةِ الواعيةِ للرّوحانيّةِ في النّفسْ. إنّ إمكانَ قيامِ تلكَ الصّبوةِ الرّوحيّةِ في ذاتِ الإنسانِ المُفردِ هو البُرهانُ له على الرّوحِ الإلهيّةِ الفاعلة خلاله... يصيرُ الشاعرُ- إذاً- عبر النَّسَيانِ المُطلقِ للنّفسِ قناةً لـ"صوتِ الأزليِّ" فيستطيعُ، على مستوىً ما، أن يصِلَ فعلهُ الإبداعيَّ بفعلِ الخالقْ... عرف بودلير أنَّ المعاناةَ هي متعهّدةُ المهمّاتِ الصّواعبِ التي حرثتْ طبيعتَهُ حتّى تُغنيها وتُحوّلُ خواطره إلى الحقائق الرّوحيّة التي ربّما تظلُّ خارجَ مجالِ تجربتِهِ إن لم تَجْرْ شؤونُهُ على ذاك السبيل. فالمعاناةُ هي العملةُ الوحيدةُ التي يملكها الإنسان ويدفعُها معاوضةً للخطيئةِ والرَّزيلةْ. وهو- في كَبَدِهِ هذا- ينبغي أن يكونَ شاعراً بالعرفانِ لتهيئةِ وسائلها هاتيكَ لهُ حتّى يُصفّي حسابَهُ الدّنيوِيْ".
"وفي زمانٍ باكرٍ هو العام 6184 أُخذَتْ نفسُ بودلير بطموحٍ لإثراءِ الفنِّ بنظريّاتِ الكاتبِ الألمانيِّ هوفمان. لقد أعلن هوفمان، فيما بين طيّاتِ نظريّاتهِ تلكَ، أنّه آنما سمع الموسيقى قد صُعِقَ بوجودِ اتّصالٍ عميقٍ وخفيٍّ بين الألوانِ والأصواتِ والرّوائح العطريّةْ. كان مقتنعاً بأنَّ كلَّ تلك الأشياءِ قد "صدرَتْ" إلى الوجُودِ عن ذاتِ شُعاعِ الضِّياءِ الواحدِ، وأنّها- لذلك- منصهرةً معاً، في حيِّثٍ (أو أُقنومٍ) لانهائيٍّ ما، كي تصوغَ الإنسجامَ الكونيَّ الأكملْ... (هذه الأفكارُ (والخواطرُ) قد وُضعتْ- فيما بعد- في حيّزِ التّطبيقِ في باريس حين أُقيمَتْ ما دُعِيَتْ "الحفلاتُ العِطريّةْ"). اتّخذتْ هذه الرؤية الهوفمانيّة في نفس بودلير هيئةً ذاتَ طبيعةٍ كشفيّةٍ-رُوحيّةْ. ثم هو، في حينٍ آتٍ كتب فيه مؤلّفه الموسوم Exposition Universelle (أي كشفٌ كونيٌّ)، وسّع، أخيراً، مُعتقدَهُ هذا ومثّلَ نظريّتَهُ في قصيدةٍ سمّاها تماثُلات قُيّضَ لها أن تصيرَ، مُستقبلاً، مانيفستو الحركة الرّمزيّة في الأدبْ".
"لكنَّ قصائدَ بودلير الرّوحيّة ما تمَِّ تذوُّقُها. فهو قد اعتُبرَ، من قِبلِ معظمِ الشّعراءِ والجُّمهورِ العام في القرنِ التّاسع عشر، شاعراً شَهَوِيَّاً وشيطانيّاً مُنجذباً بالعناصرِ الفظائعيّةِ والموتِيَّةِ في كتابات بَو".
عندما حظرتْ السّلطات كتاب بودلير الشّعري الموسوم أزهار الشّر شعر الكثيرون من النّاسِ بأنّ قرارَ الحظرِ ذاكَ كانَ غيرَ مُنصفْ. (رُفِعَ الحظرُ إيّاهُ في هذا القرنِ العشرين). شعرَ بودلير بأنّه قد أطلقَ العنانَ، في قصائده، لقرفِهِ وفَزَعِهِ من رذائلِ وخطايا العالمِ التّحتِيِّ وأنّهُ، بفعلِهِ ذاكَ، ينبغي لعمله الشّعريِّ أن يُعدَّ ذا نفعٍ للمجتمعْ. بيدَ أنَّ المحكمةَ- على خلافٍ معهُ في ذلكَ- استمسكتْ برأيها القائلِ إنَّ أوصافَ الرّذيلةِ هي أميلُ إلى أن تُشجِّعَ على اقترافِها عبر وضعها، في ذهنِ قارئها، "ما قد لا يكون، في غيابها، وارداً عندهُ". على كلٍّ، ظلّ بودلير، دوماً، على دعواهِ بأنَّ "عَمَلَهُ هذا مؤسّسٌ على النّظريّةِ الكاثوليكيّةِ عن أنّ الإنسانَ خطّاءٌ ما تُرِكَ لنفسِهِ دونَ لُطفٍ إلهيٍّ وعن مساعي الإنسانِ اليائسةِ إلى أن يصلَ- بكفاحِهِ الفرديِّ وحدِهِ- إلى مقامٍ وجُوديٍّ أعلى. فهو (أي العملُ إيّاهُ) ينطوي- في اعتبارِ بودلير الخاصِّ- على تصويرٍ تمثيليٍّ للكفاحِ الإنسانيِّ المشدودِ بينَ طرفَي الصّبواتِ إلى الخيرِ والإنسياقِ إلى الرّذيلةْ".
غدت حالةُ بودلير بائسةً بفعلِ ذلك الحظرْ. فحالةُ عُسرِهِ الماليِّ المعهودةِ التفّتْ حولَهُ كالسّلاسلِ وشَلّتْ حياتَهُ. كان يكسبُ القليلَ جدّاً من المالِ لأنَّ العديدَ من الدَّوريّاتِ كانتْ خائفةً من أن تُخدّمَهُ منذُ قضيّتِهِ القانونيّةْ. ثمّ مضى في سبيلِ هذه الحياةِ خائفاً من أن يُعتقلَ بسببِ دينِهِ. ذلك، بالإشتراكِ مع كأبةٍ مستمرّةٍ وصحّةٍ عليلةٍ، شكّلَ نمطَ حياتِهِ حتّى نهايتِها. كانتْ أمّهُ مستميتةً من أجلِ مساعدتِهِ، لكنَّ ظروفها الخاصّةَ كانت قد ضاقتْ بعد موتِ زوجِها فلم يَبْقَ لها إلا القليلُ الذي تستطيعُ فعلَهُ. وعندما دنا أجلُهُ سافر بودلير إلى بروكسل لتقديم سلسلةٍ من المحاضراتِ عساهُ يستعيدُ، بذلكَ، ما ضاع منهُ من حظٍّ قديمْ. لكنّ تلكَ أيضاً انتهتْ بخسارةٍ ماليّةٍ فادحةْ. في عام 1947 سقط بودلير صريعاً للمرضِ الفاتِكِ فتدبّرَ طريقَهُ إلى بيتِ أمّهِ في هونفلير حيثُ مات بين ذراعيها. تقولُ الرّواياتُ عنهُ إنّهُ قد تُوفّيَ مبتسماً، وأنّ تلك الإبتسامةَ ارتسمتْ على وجهِهِ الخَرِبِ وعَلِقَتْ بهِ، مثلُ الشّعاعاتِ الأخيرةِ لشمسٍ غائبةٍ، حتّى بعدَ موتِهِ، الشّيءُ الذّي صيّرَ أمّهُ ليستْ قادرةً إطلاقاً على نَسَيَانِها.
ما حاز بودلير، تدريجيّاً، على شهرته الحاليّةِ إلا بعدَ وفاتِهِ. فلقد أساءَ جياُهُ فهمَ الأفكارِ التي عانى في سبيلِ صياغتها. تتلخّصُ الفكرةُ الأساسيّةُ لكلِّ عملِ بودلير الإبداعيِّ في تقصِّي وتصويرِ الصّراعِ بين الإنسانِ ومصيرِهِ، بين نُشْدَانَاتِهِ المِثاليّةِ، من جِهَةٍ، وحقيقتِهِ الوضيعةِ (أو القاعديّةِ) التي تتهدّدُ، دوماً، هاتيكَ بالتّعديمِ والنّفْيِ، من جهةٍ أخرى، ثمّ- أخيراً- بين نزُوعهِ الشّعوريِّ نحو اللهِ وأيضَاً نحو الشّيطانْ- ذلك التّملمُلُ بين الخسيسِ والمِثالِيْ. "كثيرٌ من أولئكَ الذين يجدُ فيهم بودلير، اليومَ، صدىً يرونَ في تشوّقِهِ الشّعوريِّ إلى "مجالٍ رُوحيّةٍ جديدةٍ" ذاتَ صبوتِهِم إلى شيءٍ يتجاوزُ ذواتَهُم الخاصّةَ وسعيَهُم، المثيرَ للرِّثاءِ، إلى الرّاحةِ الماديّةِ والسّعادةِ، إلى تجربةٍ يفنونَ فيها أنفُسَهُم:- عودةٌ إلى فلسفةٍ روحيّةٍ للحياةِ، إلى دينٍ صعبٍ يُلقِي على الإنسانِ بأعباءِ جُهْدٍ وتضحيةٍ، ثمَّ لا يُكْذِبْ وعدَهُ معهُ.
هل هُنالكَ، أبداً، صراعٌ كذاكَ بين جانبينَ مفترقينَ من كينونةِ الإنسانْ؟ سنرى كيفَ أنَّ ذلك الإنفِصامَ (أو الفِصَالَ) قد حُلَّ في "فُرصَةِ" بودلير الحياتيّةِ القادمةِ على كوكبِ الأرضْ.
3
تِلكَ الرّوحُ التي سوف نسمّيها، الآنَ، "ر" قد تُوُفِّيَ صاحبُها في زمانٍ قريبْ (نوفمبر 1973). لهذا السبب ليس هنالك سوى القليل الذي يُستطاعُ أن يُقالَ عنهُ لكن، بإذنٍ مُنِحنَاهُ، قد ندرُس، على نحوٍ سطحيٍّ نوعاً ما، حياةَ الرّجلِ كما جرتْ في قرننا العشرينِ هذا.
كان صاحبنا هذا قِسّيساً كاثوليكيّاً رومانيَّاً من أصلٍ أورُبّيْ. ولقد ذهبَ إلى إنجلترا في بدءِ الحربِ الهتلريّةِ، ثمّ وجد نفسهُ، بتوالي الزّمانِ، قسّاً مسيحيّاً، فيلسوفاً وصديقاً للاجئينَ من بنِي أمّتِهِ. كان مفكّراً أصيلاً ومهتمّاً، اهتماماً عميقاً، بالميتافيزيقيا. وهو قد حازَ على قدرةٍ صوفيّةٍ على تذوّقِ الصّلةِ- "التّماثُلات"- بين قوى النّور الطبيعيّة والإلهيّة، الألوان، الموسيقى، الأنغام واالهارمونيّات ورأى أنّها ينبغي لها أن تُصهَرَ في كُلٍّ واحدٍ هو التّعبيرُ التّمثيليُّ عن ما هو إلهيٌّ على الأرضْ. درس الرّجل ما يُدعى "الفكر الجّديد" وحاضرَ عن الإلكترونيّاتِ وآثارِها على عافيةِ الإنسانِ الفيزيائيّةِ والشّعوريّةِ وعن كونِ تلكَ مُتّصِلةً بوسائلِ تشخيصِ نفسانيّةٍ- إِستبصاريّةٍ وتيليباثِيّةٍ، إلى جانبِ تقنياتٍ منبثقةٍ عن دراساتِ طبيعةِ الإشعاعْ. ثمّ علّمنا الإنسانُ إيّاهُ، كذلكَ، أنَّ الصّلاةَ هي وسيلةٌ لتخفيفِ جُرْمِ (أو وزنِ) الجّسدِ، لعونِ الرّوحِ على الإنطلاقِ ساميةً على هذا الكوكبِ الأرضِيْ.
هنالك الضّوءُ وهنالكَ الظّلامُ في هذا الرّجل. وإنّه لمن الممكنِ أن تُرى تلكَ التّدرُّجاتُ النّوريَّةُ-الظلاميَّةُ منبثّةً على طلعتِهِ الديناميكيّةْ. ضمَّ ذلكَ الإنسانُ بين جنبيهِ رُوحاً مُنشرِحَةً وحيويّةً لكنّهُ، في ذاتِ الوقتِ، شابَهُ شيءٌ من حسِّ "سوداويَّةِ وابتذاليّةِ" حياتِهِ الماضيةْ. ولقد ارتسمتْ هاتان السمتان الشعوريّتان معاً على وجهه. كان، أيضاً، ذا طبيعةٍ مرحةٍ وفهمٍ رزينٍ لأولئكَ اللذينَ يأتونَ إليهِ مُلتمِسِيْنَ عونَهُ كقِسِّيْسٍ ورغبةٍ مُتلهِّفَةٍ لدفعِ "الفكرِ الجَّدِيْدِ" قُدُمَاً على درُوبِ انتشارِهِ في أرجاءِ الدّنيا. إنّه قد وهبَ نفسَهُ مُحاضراً عن زوايا التّأمّلِ الفلسفيِّ الحديثِ التّي هي على قرابةٍ مع الثّيوصوفيّةِ و"الحكمةِ القديمةْ".
ولربّما تهيّجَ "ر" في مناسبةٍ ما، بعنفٍ مزاجيٍّ مُفاجئْ. فلقد أدخلَهُ تلاميذهُ الدينيّون، في الماضي، في تجاربٍ مريرةْ... مع ذلك فإنّ رُوحَهُ التي وجدت التعامل مع المالِ، في عهدها السالفِ، امتحاناً كبيراً قطعتْ على نفسها عهداً بالفقرْ. ما كان لدى صاحبها مالاً يدعوهُ "مالَهُ". فليس هُنَالِكَ ممّا ملَكَهُ سوى علاوةٍ شحيحةٍ خُصّصتْ لهُ كقِسّيسٍ لاجئْ. وعهدُ العِفّةِ قد ألزمَهُ بهِ، كذلكَ، اختيارُهُ الحُرُّ أو، كما قد يقُولُ المرءُ، "الكارما" الخاصّةُ به.
في الحياةِ الحاليّةِ (أي القرنِ-عشرينيّةْ) لهذه الرّوح يستطيعُ المرءُ أن يتتبَّعَ ليس فقط فعاليّاتِ الكارما بل، كذلكَ، تطوُّرَ مَنَازِعٍ فيها كانتْ أوَّلِيَّةً في حياتِها السَّابقةِ وتحقيقَ الأوجُهِ الأعمقِ والألطفِ من طبيعتِها:- تعاطُفُها مع اللّقطاءِ على دروبِ الحياةِ، الفقراءِ، الوحيدينَ والمُهملِينَ- ذلكَ التّعاطُفُ الرّؤُومُ الّذي اسْتُدْعِيَ، في حياةِ صاحبِها في القرنِ العشرينَ، كي يَزْدَهِرَ، في أوساطِ اللاجئينَ من بنِي وطنِهِ، خدمةً وغوثَاً. فَتَحَتْ التأمّلاتِ الصّوفيّةِ لقسّيسنا هذا بابَ صلةٍ والتّفكيرِ الأعظمِ حُرّيّةً في هذا العصرْ. ثمّ هو قَدْ طوّرَ اهتمامَهُ بعلومِ السّحرِ عبرَ دراستِهِ لعلومِ الطّاقاتِ الإشعاعيّةِ، التّشخيصِ، المعالجةِ الرّوحيّةِ وما مَتَّ إلى ذلكَ بِصِلَةْ.
كانتْ حياةُ ذاكَ الإنسانِ، كقِسّيسٍ وخادمٍ للإنسانيّةِ، بَلْسَمَاً وقُرَّةَ عينٍ لرُوحِهِ (نفسِهِ) السِّرِّيَّةِ والتَّحْتِ-شعُوريَّةْ. وفي نَذْرِ نفسِهِ للعِفَّةِ والفقرِ أوفى الإنسانُ إيَّاهُ، كذلكَ، الدَّيْنَ المُستَحَقَّ على مثالبِ حياتِهِ الماضيةْ.
هُنا حالةٌ بشريّةٌ تَسَنَّى فيها للحياةِ اللاّحقَةِ لإنسانِهَا الفَرْدِ أن تَجِدَ سانِحَةً للإِنعِتَاقِ والتَّحَرُّرِ من أخطاءِ الماضِيْ.
4
مع تنامي إلفتي وهذه الفكرة عن صعود النّفسِ-الرّوحِ من درجةٍ إلى أخرى في ديمومةٍ شعوريّةٍ متّصِلَةٍ ابتدأتُ أفهمُ أنّ النّفسَ-الرّوحَ تنمو على ذاتِ الطريقةِ التي تنمو بها معرفةُ الطّفلِ حين يتدرّجُ، في مدرسةٍ ما، مُترقّياً من فصلٍ دراسيٍّ إلى آخرْ. فبينما هي صاعدةٌ في مسارها هذا هناكَ، أو ينبغي أن يكونَ هُنالكَ، تطوّرٌ مكينٌ، ولو أنّهُ كثيراً ما يبدو بطيئاً جدّاً، للرّوح، للنّفسِ العُليا.
تعلّمتُ، بُناءاً على ذاك الفهم، أنّ أنظُرَ إلى النّاسِ بعينٍ جديدةْ. فعنهُ قد صدر فهمنا أنّ أيَّ واحدٍ منّا مُترَقٍّ، على دربهِ الشّعوريِّ-الرّوحيِّ، من روضةِ الأطفالِ إلى الأشكالِ الإنسانيّةِ العُلىْ. ذلك حتّى يأتي حينٌ من الدّهرِ نتخرّجُ فيهِ- فرداً فرداً- نهائيّاً من "مدرسةِ" الدّنيا ونندغمُ في المجالي الكونيّةِ الأخرويّةِ الساميةِ والأبعدِ غوراً وكُنهَاً.
إن أردنا أن نتخيّلَ هذه السيرورة كما يجب أن تبدو لـ"القوى العليا" فإننا نستطيعُ أن نُخمّنَ، خبطَ عشواءٍ، كيف أنّ ذلكَ "الشّاهد-فوق-التّلال" ينظُر أسفلاً إلى "مَوَالِيْهِ"، أولئكَ الذينَ يُحبّهم ويُهديهُم ويتهنّى بهم على كوكبِ الأرضِ، وأنَّ ذاتَ "المُشاهِدَ" الولوع يرى، والعقودُ والقرونُ تترى، تغيّراً يحلُّ، تدريجيّاً، بهيئاتِ مُنْبَثَّاتِهِ من شحناتِ الطّاقةِ الرّوحيّةْ.
له ينبغي أن يبدو الأمرُ وكأنَّ الرّوحَ الجّنينيّةَ مثل بذرةٍ وضعها الجّنائِنِيُّ في التّربةِ فإذا بهِ، بِمُضِيِّ الزّمانِ، يُشاهدُ، برِضَىً، تفتُّقَها، نمُوَّها، ثمّ ازدهارَها رُوحاً خلالَ عهودٍ طويلةٍ من الزّمانْ. هو يستطيعُ تقييمَ ذاكَ الإرتقاء بمُعايَنَةِ نمُوِّ النّورِ في كلِّ رُوحٍ مُفردةٍ صائرةٍ، مع فيضِ الجّواهر الكونيّةِ عليها في كلّ حياةٍ، أكثرَ تعقيداً.
الرّوح-البذرةُ الإبتدائيّةُ تصيرُ، مع توالي الزّمان، مشحونةً بالذّبذباتِ الشّعشاعةِ لطاقاتِ الكونْ. إنّها تنمو، من باطنِ التّربةِ الغميقةِ، متصاعدةً نحو الشّمسِ ومُنسربةً في شِغافِ بهاءِ الزّهرةِ، في الكَرْمَةِ، في سوسنةِ الماءِ وزهرةِ اللّوتسْ... وفي العبارةِ الإنسانيّةِ نقولُ إنّ طفلَ الغابةِ والصّحراءِ البَدْئيِّ يُثْرِي ذاتَهُ بشحناتِ التّجربةِ ومن ثمّ، خلال بهجاتِهِ وأحزانِهِ، ينضجُ تدريجيّاً. درسٌ إثرَ درسٍ هو يتعلّمُ في مدرسةِ الحياةِ الخشنةِ فتغدو جواهرُ رُوحهِ أكثرَ اغتناءاً، توازُناً وصفاءاً مع مُضيِّ كُلِّ قرنْ.
أنا- إذاً- قد توصّلتُ إلى التحقّقِ من شيءٍ من جسامةِ المهمّة التي شئتُ الإضِّطلاع بها، فهي ليستْ دون محاولة التّعليق على تقدّم الرّوحِ التّصاعُدِيِّ عبرَ قرونٍ من دهرها الحياتيِّ على الأرضْ. لا شكَّ أنّهُ، في دراسةٍ دقيقةٍ كهذهِ، سنجنحُ إلى اقترافِ أخطاءٍ في التّفصيلْ. بيدَ أنّ الأُسُسَ تظلُّ أزليّةْ.
ولأنَّ كلَّ واحدٍ منَّا يُولدُ بنعمةِ شرارتي الحياة و الوعي الألوهيّتين فهو يُنشئُ نفسَهُ معتمداً على اللهِ، على انبثاثاتِ الحياةِ الألوهيّةْ.
نحنُ، في الواقع، نُراقبُ سيرورةَ التّعابيرِ المُتناميةِ عن العقل الألوهيِّ على الأرضْ. ففي هذا الركن الكروي الصغير من الفضاء الكوني هنالك تعبير جديد متنامٍ عن القوّة الألوهيّةْ. ذلكم هو "إنسان الأرض"، اللّوغوس الكوكبيُّ المُحْيَى بقوى المسيحِ الخلاّقة الذي يتّخذُ، ببطءٍ لكن برسوخٍ، هيئتَهُ المتكاملة. ذلك مثل حديقةٍ تُغرَسُ بشتّى أشكالِ الزّهورِ فتُصيرُ، تدريجيّاً، "شيئاً مُفرداً مُتعدّدَ الآفاقْ".
كلُّ حيوانٍ، كلُّ كائنٍ إنسانيٍّ هو روحٌ- خليةٌ في كينونةِ اللّوغوس، لذا فأيُّ سوءٍ يلحقُ بأحدِ هؤلاء هو سوءٌ أُلحقَ باللّوغوس، فنحنُ جزءٌ منهُ وهو فينا، بل "هو" ونحنُ كلّنا جزءٌ من الواحد المتعالْ.
أنا أرى- إذاً- أنَّ كلَّ شيءٍ حيٍّ له أهميّةٌ أعظمَ بكثيرٍ مما نتصوّر عند الوهلةِ الأولى. فأيُّ حيوانٍ، أيُّ إنسانٍ هو نجمةٌ صغيرةٌ في مجرّةٍ هائلةٍ من النّجومْ. وكلٌّ من هؤلاء هو فردٌ في تكوينِهِ صِيْغَ بجهودِهِ الخاصّةِ وخلَّقَ مستقبلهُ الذّاتيَّ مُساهماً، بذلكَ، في جماليّةِ الكُلِّ الكونِيْ.
إنّ تطوّرَ كلِّ الأشياءِ على الأرضِ، من الذّرّةِ إلى الإنسانِ، إلى القدّيسِ والحكيمِ هو السّيرورةُ الخلاّقةُ المبدعةُ لنجمٍ جديدٍ في السّماواتِ، لكوكبٍ يبدأُ في إشعاعِ مَعِيْنِ نُورِهِ الخاصِّ على المجالي الباطنة- ذلك النّور الذي استقاهُ من مَجمَعِ نُورِ الوعيِ الكونِيْ.
نحنُ نرى أننا لا نستطيع شيئاً إزاءَ ذلكَ سوى الشّعورِ بإحساسِ تقديرٍ لكوننا مُعتَنَىً بنا، لكوننا نُعانُ على سعينا في دربِ ارتقائنا بكلِّ وسيلةٍ ممكنةْ. عليهِ فعندما نتمعّنُ في حياةِ كائنٍ إنسانيٍّ ما، حينما نتأمّلُ في مسارِهِ ا لرّوحيِّ الإرتقائيِّ، نحنُ لا نفعلُ ذلكَ من بابِ الفضولِ المبتذلِ أو الإثارةِ الحسيّةِ الإنفعاليّةِ بل نحنُ، على سبيلنا ذاكَ، نكونُ مُقبلينَ، بتواضُعٍ، على دراسةِ وجهٍ من جوهِ الكينونةِ الألوهيّةْ.
لا عجبَ- إذاً- في أنَّ الأغاريقَ أوصُوا كلَّ إنسانٍ بمعرفةِ نفسِهِ! فحينذاكَ فقط سيتمُّ الإلتقاءُ بالحقيقةْ. وحينذاكَ، أيضاً، نكتشفُ، كما قال "المُعلّمُ" ذاتَ مرّةٍ، أنّ ما هو حقيقةٌ بالنّسبةِ لإنسانٍ ما في إحدى مراحلِ تطوّرهِ الشّخصيِّ هو ليس حقيقةً بالنّسبةِ لهُ في مرحلةٍ أخرىْ. فتوسّعُ الإدراكِ والشّعورِ يجلبُ معهُ أوجُهَاً جديدةً إلى باحةِ رؤيةِ الحقيقةِ الأصليّة.
في محاولتنا لفهمِ وتقييمِ كلّ تجربةٍ فرديّةٍ، في شكلها الأعظمَ تجلّياً في الخارج، نحنُ ننشدُ، كذلكَ، أن نرى، نحسُّ ونفهمُ تلكَ المستويات الكينونيّة الباطنة الثّاوية في الهيكلِ الفيزيائيْ. وفي مُجملِ فِعلنا هذا إنّما نحنُ مُكابدُونَ في سبيلِ أن ننفذَ إلى قلبِ الحياةِ ونتعلّمَ مسالكَ فعاليّاتِها.
حتّى في دراسةِ اللّوحاتِ الشّخصيّةِ (البورتريهات) هنالكَ شيءٌ كثيرٌ يمكنُ تعلّمُهُ عن الصّفاتِ المنبثقةِ عن النّفسِ الجُّوّانيّةْ.
كثيراً ما تكشفُ الرّوحُ عن نفسها، بجلاءٍ، في طلعتِها المعبّرةْ. وفي البورتريهات الجيّدة، الصّور الفوتوغرافيّة، بل وحتّى على شاشةِ التلفزيونِ قد نشهد، كما يبدو، على وجودِ وسائلٍ لإبرازِ تصاويرٍ معيّنةٍ لجوهرِ الرّوحِ الأثيريِّ "تُلهِمُ" بها الرّسّامَ أو المُصوّرَ المُبدعَ المُستوياتُ الباطنةُ للكينونةْ. ذلك لأن هنالك ثمةُ هالةٍ تُحيطُ بالجّالسِ، المرسومِ أو المُصوّرِ، مثل عطرِ زهرةٍ فائحةٍ بشميمِ سِمتها المُميَّزْ.
العينُ المُدرّبةُ تشرعُ- إذاً- في أن ترى وتُترجمُ ما ترى على نحوٍ أكثرَ عمقاً من المُراقِبِ الغِرْ.
كثيراً ما تُحدّقُ سيماءُ الرّوحِ إلينا خلَلِ الكانفاسِ، حتّى ولو أنّ هنالكَ فروقاً معيّنةً في الملامحِ المرسومةِ والتّلوينْ. فسيماءُ الرّوحِ وانبثاثاتُها الشّعوريّةُ الدقيقةُ هي، في العادةِ، متماثلةٌ وجليّةٌ بحيثُ أنَّ صفاتٍ فيزيائيّةٍ كطولِ الأنفِ الشّديدِ أو قصرها، اختلافِ الفمِ قليلاً في مَيَلانِهِ أو تعبيرهِ لا تُغيّر من ذلك التماثلِ والجّلاءِ شيئاً. وفي هذا المضمارِ نلحظُ أنّ هيئةَ "جلسةِ" الرّأسِ على الكتفين- بكلّ أوصافِها التّفصيليّةِ مثل الطّريقةِ التي يرتسمُ بها الذّقنُ على الوجهِ، كيفيّةِ انحدارِ الكتفين والنّظرةِ الموحيةِ بالمرحِ أو بالرّصانةِ، بالصّراحةِ أو بالحياءِ، بالتّصميمِ، بالتّكبّرِ أو بالتّواضُعِ، بالإزدواجيّةِ أو بحُسنِ السّريرةِ- هي ما ينمُّ، في أكثريّةِ الأحوالِ، عن سيماءِ (أو سِمتِ) النّفسِ السّابقةِ للإنسانِ المرسومِ أو المُصوّرْ.
هذه الأشياءُ تُعبّرُ عن دخيلةِ الرّوحْ. وهي سهلةُ التّعرّفِ عليها في بعضِ أفرادِ النّاسِ دونَ البعضِ الآخرْ.
تأسيساً على هذا لا ينبغي علينا أن نتوقّع، عند النّظرِ إلى مجموعةٍ ما من البورتريهات، رؤيةَ ملامحٍ متطابقةٍ، فتلك ستكونُ متماثلةً بما يُكفِيْ. أنا قد تعلّمتُ أن أبحثَ، في اللّوحةِ أو في الصّورةِ، عن "فيضِ" رُوحِ من رُسِمَ أو صُوِّرَ على جسدِ اللّوحةِ أو الصُّورَةْ. فذلكَ "الفيضُ" هو، في خاطِرِيْ، شيءٌ ليس لهُ أن ينِدَّ عن مقدرةِ الفشرشاةِ ا لمُبدعةِ، أو المُصوّرِ الفوتوغرافيِّ الذّكِيِّ، على "رَوْحَنَةِ" لوحتِهِ، أو صُورتِهِ، بهِ.
5
أحياناً نجد فرقاً مدهشاً في الأداءِ في نمط معاشِ رُوحٍ ما في حياتين متتاليتين. وعلى النقيضِ من ذلك نحن ربما نكونُ، أحياناً، مُجفَلِيْنَ بتشابُهِ أداءِ رُوحٍ ما في الفصلين (أو الوجودين) السّابق واللاّحق من مسرحيّةِ معاشِها المُتّصِلْ.
يبدو أنّ هنالكَ عدداً من الأسبابِ لذلكْ. أحدُها هو أنّه حيثما يحوز الإنسانُ على موهبةٍ مُنمازةٍ، في الموسيقى أو الكتابةِ مثلاً، فإنّ تلك الموهبةَ القديرةَ تكونُ، طبيعيّاً، مؤهّلةً لتجاوزِ الوسائلِ الآنيّةِ لتجلّيها. على كلٍّ، ليس ذلكَ هو، على الدّوامِ، ما يحدُثْ. أنا قد أُطلعْتُ على بحّارِ ذائعِ الصّيتِ صار ممثّلاً شهيراً في حياتِهِ اللاحقةْ. لا شكَّ في أنّهُ شعرَ بضرورةِ التّعبيرِ عن شخصيّتهِ المتعدّدةِ الجّوانبِ بطريقةٍ تمنحُ لها خشبةُ المسرحِ فُرصةً للتّجسّدِ واسعةً ومُنفتِحَةً على التَّنُوّعْ.
والرّجلُ الذي كان موسيقيّاً في عددٍ من شتّى حيواتِهِ يكونُ قد رسّخَ، في صميمِ تكوينِ طاقاتِهِ الشّعوريّةِ، القُدرةَ على أن يُفكّرَ موسيقيّاً. لذا فهو قد يُولدُ، مرّةً أخرى، طفلاً-مُعجزةً. وموتسارت، بالطّبعِ، هو مثالٌ أساسيٌّ على ذلكْ.
هنالكَ عاملٌ آخرٌ يدخُلُ في هذا الموضوع، ألا وهو مدى قوّةِ روحِ الإنسانِ المعنِيْ. فإن كانَ ذلك الإنسانُ قويّاً جدّاً في روحهِ، صافياً وسامياً فهو سيُمثّلُ واسطةً نموذجيّةً لاستخداماتِ "القوى الكينُونيّةِ القيُّوْمَةِ"، ومن ثمَّ سيُنتَقَى كصاحبِ رسالةٍ مخصُوصةٍ للإنسانيّةْ. فلرُبَّ مَكِيْنٍ ما في المجالِي الماورائيّةِ يبتهجُ- إذ هو أيضاً ذو فكرٍ موسيقِي- الرّوحِ الموسيقيّةِ ويستخدمها، تدريجيّاً، كواسطةٍ للأُلُوهِيِّ فينفعُ، بذلكَ، الإنسانيّةَ جمعاءْ. إنّ هاندل، باخ، بيتهوفن وآخرين عديدين من الموسيقيّين هم نماذجٌ ممتازةٌ لذلكْ. وموسيقاهم هي غذاءٌ شعوريٌّ ورُوحيٌّ للجّنسِ البشرِيْ.
إنّ الموسيقِيَّ أو الفنّانَ المُلهمَ لا يستقبلُ فقط وحياً خاطريّاً (فكريّاً) موسيقيّاً أو فنيّاً فحسبْ، وإنّما هو أيضاً لهُ من السّمُوِّ الرّوحيِّ ما يُمكّنُهُ من قبُولِ صورِ (رسُومِ) الفِكرِ المبثوثةِ إليهِ وفيهِ من "مُعلّمهِ الرّوحيِّ" في الآمادِ الماورائيّةْ. عليهِ فإنّ الأفكارَ التي تنثالُ بين أجوازِهِ الدّاخليّةِ هي تعبيراتٌ عن "صُورِ الفِكرِ" الرّفيعةِ لذلكَ "المُرشِدِ" في الأبعادِ العَلِيّةْ. خلال هذه اللّغةِ العالميّةِ يُقيَّضُ لقيم المجالي العلويّةِ الذّوبَانُ في الشّعورِ (العقلِ) الإنسانيِّ الحسّاسِ، ومن ثمَّ الطّلُوعُ، من هناكَ، إلى العالمِ الخارجيِّ في لُغةٍ عالميّةْ. بهذه الوسيلةِ تُهدِى العقولُ العَلِيَّةُ وتُصعِّدُ رُوحيّاً أجناسَ النَّاسِ على الأرضْ.
نحنُ قرأنا عن الصّلواتِ الحارّةِ والتأمّلاتِ التي يستغرقُ فيها كثيرٌ من الفنّانينِ والموسيقيّينِ قبلَ أن يُمسكُوا بالفرشاةِ، أو بالقلمْ. أولئكَ القومُ هم مُختارُو المُوحِيين الماورائيّينْ. إنّهم من يعينوا على الإرتقاءِ بالإنسانيَّةِ عبرَ تأمّلِ أعمالهم المُبدِعَةْ. إنّ موهوبينَ مثلَ فِرَا أنجيليكو، ويردزويرث وآخرينَ كثيرينَ ممّن كانُوا مجبُولينَ من إيمانٍ حارٍّ بالكينُونةِ الألوهيّةِ قد ذوّبُوا، في نسيجِ أعمالهم، أفكاراً مُمْسَكَاً بها من الأقانيمِ الأسمىْ. لذلكَ هم وسائلٌ إلى اللهِ، والدّنيا تكتسي بالسّناءِ بفِعْلِ كونِهِمْ قنواتِ وصلٍ لبرُوقِ الرُّوحِ القُدْسْ.
قال أفلاطون:- "إنْ رَغِبْتَ في أن تُغيّرَ حكومةً غيِّرْ الموسيقى التي يعرفُها النّاسْ".
ذلكَ ما يزالُ صحيحاً. فالموسيقى، أكثرَ من أيِّ فنٍّ آخرٍ، تُخاطِبُ المستوياتَ الباطنةَ من الإنسانِ وتنفَذُ إلى صميمِ المجالِ الذي يحيا فيهِ.
عندما سُئلَ هاندل عن كيفَ كان قادراً على مُعايشةٍ تامّةٍ كتِلكَ التي واءَمَتْهُ كُلّيَّاً والكلماتِ الإنجليزيّةَ لأوبراهُ المُسمّاه المَسِيْحْ أجاب قائلاً لسائلتِهِ:- "أيّتُها السّيّدة، أنا أشكُرَ اللهَ على ما انطويتُ عليهِ تديُّنٍ قليلْ".
6
أنا علمتُ، كما أوردتُ في السّابق، أنّ علاقات الحبِّ لا تنفصِمُ عُراها أبداً.
الحبُّ والكرهُ شعوران مغناطيسيّان وقوّتان ديناميّتان.
في معاودةِ الحيواتِ المختلفةِ الظّهورَ على الأرضِ رأيتُ أنَّ الحُبَّ، الحنانَ، العلاقات الودودة بين الأقرباء والأصدقاء قد تشتغلُ كقوّةٍ مِغناطيسيّةٍ دائمةِ الحضورِ في أوساطِ الأحياءِ في كلّ المجالي، كما وفي القوى المتلاحمة للذّرّةْ.
إنّ حبَّ إنسانينَ لبعضهما البعضِ يُطلِقُ سيرورةَ قانونٍ يُوثّقُ ويربطْ. فهؤلاء الإثنان سيجدان واحدهما الآخرَ، حياةً إثرَ حياةْ. ثم هما سيعيشانَ في كَنَفِ علاقاتٍ شخصيّةٍ مُتميّزةٍ بينهما. ذلكَ هو العاملُ الذي يُنشئُ في النّفسِ حسَّ إلفةٍ حينما يُلاقي الإنسانُ، لأوّلِ مرّةٍ، إنساناً آخراً مُعيّناً. ففي هذا الوجودِ ثمةُ شعورِ حميميّةٍ وحنانٍ بينَ أفرادٍ من النّاسِ (والكائناتِ الأُخَرِ) ليس لهُ أن يُعزَىْ إلى مجرّدِ المظهرِ الخارجيِّ للأشياءْ.
هاتيكَ صلاتٌ قديمةْ.
"ما أن يرى فردانٌ من النّاسِ، في بعضهما البعضِ، أشياءاً أكبرَ قليلاً، في قيمتِها، من اليوميِّ والعامِّ فإنَّهما يكونانَ قد التقيَا من قبلْ"، قال "المُعلّمُ"، "فالحبُّ يجذبُ ويُماسِكْ".
من الحِكمةِ هنا ان يتّخذ المرءُ جانبَ الحذر. فأحياناً يُفهمُ ذلكَ الإحساسُ بالإلفةِ، حيثُ الفردان المعنيّان منتميان لجنسين مختلفين، فهماً خاطئاً فيُأَوَّلُ على أنّهُ "حبٌّ من أوّلِ نظرةٍ" رُغمَ أنّهُ، في الحقِّ، قد يكونُ شيئاً مختلفاً عن ذلكْ. الشّاهدُ على ما نقولُ هو أنَّ حسَّ الإلفةِ الدّافئَةِ تلكَ قد يُعلّلُ بكونِ الإنسانَيْنَ إيّاهُما كانا، في حياةٍ ماضيةٍ عاشاها معاً، أخاً وأُختَاً، أباً وإبنةً، أو صديقين عزيزين. ذلكَ ما أظهرتنا عليهِ بعضٌ من الحالاتِ التي أوردها د. ستيفينسون.
حيثما يَصِلُ ذاكَ الدّفءُ بين العفويُّ بينَ فردينَ من النّاسِ ويُفهمُ، خطأً، على أنّهُ حُبُّ زوجٍ وزوجةٍ ومن ثمَّ يُشرَعُ في توثيقِهِ كعلاقةِ زواجٍ تكتنفُهُ، بعد حينٍ، أشياءٌ قد تؤدّي إلى صعابٍ عديدةْ. فمن كانا، ذاتَ عهدٍ سالفٍ، أخاً وأختاً لا يُشكّلانَ، بالضّرورةِ، زوجاً وزوجةً مِثاليّينَ، رُغمَ أنّهما، على مستوىً آخرٍ، قد يكونا على مودّةٍ ومحبّةٍ حقيقيّينْ. إنّ البحثَ عن الحُبِّ في كلِّ قلبٍ إنسانيٍّ هو البحثُ عن أليفِ الرّوحِ أو سميرِها. فـ"الرّوحان التّوأمُ" هما اكتمالُ الذّاتِ الشّاعرةْ. إنّ النّصفَ المُوجِبَ ينشُدُ النّصفَ السّالبَ من روحِهِ. والإثنانُ معاً جُزءٌ من الكُلِّ الكونِيْ. ورُغمَ أنّهُ، أحياناً، تمُرُّ حياةٌ كاملةٌ دونَ أن يلتقي المُوادِدَانِ، إلاّ أنّ ذلكَ، عادةً، ما يكونُ بغرضِ منحِ الذّاتِ الشّاعرةِ فُرصةَ العملِ من خلالِ أوجهٍ أخرى من طبيعتِها- أو علاقاتٍ أخرى تستلزِمُ إيفاءَ دينٍ مُستحقٍّ ما.
غريبٌ القولُ إنّ أولئكَ اللذينَ كانتْ بينهم عداوةٌ سيمارسونَ، أيضاً، تأثيراً إنجذابيّاً، حياةً إثرَ حياةْ. يبدو أنّ حسَّ المُضادَّةِ ذلك ينبغي لهُ أن يُعَانَىْ حتّى مُجِيءِ عهدٍ تُذَوَّبُ فيهِ العداوةُ إيّاها وتُحوَّلُ إلى تناغُمٍ رؤومْ.
من الحِكمةِ، إذاً، أن نكونَ انتقائيّينَ في أمرِ من نستجمعهُم في مجالِ حقلِنا المغناطيسيِّ ما دامُوا سوفَ يبقُونَ معنا في حياتِنا الحاضرةِ، أو في حَيَواتٍ قادمةٍ كذلكَ، حتّى يحلُّ، بيننا وبينهم، انسجامٌ وتوافُقْ.
7
أخيراً نقولُ إنّ نفراً معيّناً من الأفرادِ الذينَ ندرسهم كانوا شخصيّاتٍ ملكيّةٍ في حيواتٍ عديدةْ.
"ذلكَ الذي اعتادَ على المَلَكيّةِ يسهُلُ عليهِ، أكثرَ من أيِّ شخصٍ سواه، أن يدّعِي حقّهُ في العرشْ". هكذا قال "المُعلّم".
إنّ مَن أخذَ بأعنّةِ الأمورِ على يديهِ في الماضي سوفَ يجدُ في ادّعاءِ السّلطةِ في حياةٍ لاحقةٍ تعبيراً طبيعيّاً عن نفسهِ الباطنة. إنّهُ مُتطبِّعٌ على تولّي المنصبِ المهيب، كما وهو مُعتادٌ على المسؤوليّةِ وعلى حسٍّ عتيدٍ بالسّلطانْ.
في الحياةِ الحيوانيّةِ يُعدُّ ذلكَ جزءٌ من النّاموسِ الطّبيعيِّ للحياةْ. فالأسودُ، رُغم كبريائها، لها قائدْ. كذلكَ قطيعُ الأفيالِ وقبيلةُ القرودِ، كُلٌّ منهما لهُ صاحبُ عرشْ. فثمةُ تسليمٍ ضمنِيٍّ بينهم بسلطةِ القائدِ القَبَلِيِّ، "رجُلِ" الدّولةِ الكبيرِ السّنِّ، المَلِكْ. فأيٌّ من أولئكَ قد برهنَ على جدارتهِ بقُوّتهِ، بشجاعتِهِ، بسُلطانِهِ وبإحساسِ قدرةٍ يشعُّ منهُ، الشّيءُ الذي جعلَ كلَّ حيوانٍ ينحني تقديراً لقوّةِ رُوحِهِ المتفوّقَةْ.
ذلكَ النّمطُ من السّلوكِ يضمنُ النّظامَ في القبيلةْ. إنّهُ وسيلةُ الطَّبيعةِ لإحداثِ سلوكٍ مُتوازنٍ وسطَ فتياتِ القبيلةْ. فإن أساءَ، مثلاً، دُبٌّ شبلٌ السّلُوكَ يلقى صفعةً جَزَاءٍ تُعيدُهُ، على عقبيهِ، إلى سواءِ السّبيلْ.
إنّ صيغةَ النّظامِ ينبغي أن تُصانْ. والإقرارُ بالنّظامِ الإجتماعيِّ، فيما بين الحيواناتِ، يُظهرُ نفسهُ على هيئةِ توقيرٍ لكبارِ القطيعِ، السّربِ، القبيلةِ أو العِرقْ (الجّنسْ). ذلكَ لأنّهُ إذا انهارَ النّظامُ الإجتماعيُّ ينهارُ معهُ، كذلك، المجتمع.
إنّ خبرةَ الرّوحِ وقُوّتَها هما الخصيصتان اللتان تستجلبان القيادةَ فيما بينَ الحيوانات، وجمعُهُم يقرُّ بذلكْ.
وإن انتقلنا إلى أوساطِ الكائناتِ البشريّةِ نجدَ أنّهُ، منذُ العهودِ البدائيّةِ، انطبقتْ ذاتُ القوانينِ (أو القواعدِ) السّالفةْ. إنّ النَّاسَ فرديّون، مُحبّونَ للسّلطانِ، ذوي كِبَرٍ وطموحٍ وكلٌّ منهم يودُّ القيادةَ ويرغبُ في نيلِ الحُظوةِ والإحتفاءْ. لكنّه، مادام ليس في إمكانِ الجّميعِ أن يكونُوا شيوخَ قبائلٍ، تمّت الغَلَبَةُ، فيما بينَ أوساطِ النّاسِ في الأزمانِ الباكرةِ، لقانونِ الغابةِ فأسّس من صاروا شيوخاً لقبائلهم مكاناتهم الإجتماعيّةَ (والسّياسيّةَ) انطلاقاً من صلابةِ مِعدنِهم، بأسِهم الشّخصيِّ وتجربتهم الحياتيّة.
أولئكَ الذين مارسوا اللّعبةَ لفترةٍ أطولٍ تعلّموا قواعدها. ذلكَ لأنّهُ من الطّبيعيِّ أن يُظهِرَ بعضُ الأفرادِ، عبرَ القرونِ، حساسيَّتَهُم وبراعتَهم المتفوّقتَين، على أقرانهم، في التّعامُلِ مع مشاكلِ الحياةْ. فهم قد مضوا، خلال عهودٍ حضاريّةٍ ماضيةٍ وعديدةٍ، على هذا السّبيلِ مكافحينَ ومُتعلّمينْ. إنّهم طلاّبُ الصّفِّ المتقدّمِ والعتيدِ من مدرسةِ الدّنيا أو خرّيجُوها اللذين عمّقُوا فِطنتَهُم بمعاناةِ النّضجِ في الحُكمِ، تدريجيّاً، جُزءاً من تكوينهم.
عليهِ نحنُ نرى، في النّظامِ الطبيعيِّ للأشياء، أنَّ في كلّ مجتمعٍ بشريٍّ هنالكَ درجاتٌ من النّضجِ عديدةٌ ومُتراوحةٌ ما بينَ البدائيّةِ والرُّقِيِّ العظيمْ... التّجربةُ تُكسبُ الإنسانَ الفردَ حِكمةً.
كم من المرّاتِ تأمّلنا كلّنا في الفُقدانِ الظّاهريِّ لمعرفةٍ اكتُسِبَتْ من خلالِ التّجربةِ وفي كيفَ أنّنا، في ذاتِ الوقتِ الذي نبدو فيهِ واصلينَ عهداً تغدو فيهِ أحكامُنا أكثرَ سَدادةً- عهدَ ميلادٍ جديدٍ، نتحقّقُ من أنّ ما نكتسبَهُ في كلّ حياةٍ ينضافُ إلى مستودعِ معرفتِنا المركوزِ في الرّوحْ. إنَّ الحكمةَ مُتراكمَةٌ حياةً إثرَ حياةْ. مع ذلكَ، كما علمتُ باكراً، ليس من الضّروريِّ لرجُلِ الدّولةِ الكهلِ، من هو قديرٌ على شؤونِ العيشِ، أن يكونَ، دوماً، عُرْضَةً لمخاطرِ موقعِ الشّهرةْ.
على كلٍّ، هنالكَ أرواحٌ ذاتُ "وحداتِ دفعٍ" كهربائيّةٍ معتبرةٍ آبتْ، مرّاتٍ عديدةٍ، إلى مواقعِ سُلطةٍ على ظهرِ هذي البسيطةْ. أحياناً هم يكونونَ قد وُلِدُوا في فرعِ نَسَبٍ مُلُوكِيْ. وفي أحيانٍ أخرى يكونوا قد بلغُوا تلكَ القِمَّةَ (الإجتماعيّةَ والسّياسيّةَ) بوسيلةِ خواصّهم القياديّةْ. إنّ أولئكَ النّاسَ هم من بين من حملُوا شُعلة الحضارةِ الإنسانيّةِ قُدُمَاً. ففي مصرَ، في الهندِ وفي فِلسطينَ، في اليونان، في روما وفي أورُبّا هم قد انطووا، في دواخِلِ ذواتِهم العُليا، على الدّروسِ المستفادةِ في أزمانٍ سالفةْ. إنّ الحياةَ المتحضّرَةََ مُنطَبِعَةٌ على ذواتِهم الشّاعرةْ. فهم قد أتُوا إلى مقاعدِ الحُكمِ ومعهم الفِطنةُ التي قد صارتْ جُزءَاً من تكوينِهم الأزلِيْ.
وصف فيلسوف عهد النّهضة القانونَ الخاصَّ بهذا الأمرِ حينما قالَ عن بيكو دَيل ميراندولا إنّهُ "قد فُطِرَ على الحِكمةِ منذُ ميلادِهِ ولم يكتَسِبْهُمَا، في الغالبِ، بالتَّعَلُّمْ".
الفصل العاشر
السيّدة إثَيْل اسمث
1
إن "المُعلّمَ" لا يُقارن في مقدرتهِ على توصيفِ المادّةِ الرّوحيّةِ التي جُبِلَ منها فردٌ ما. وأنا دائماً أُذهلُ من كيفيّةِ قيامِهِ بذاك الفعل. "أنا أنسرِبُ ما بينَ نُسجِهِمْ"، قال بلُغزيَّةٍ.
إنّ امتيازَ الإشتراكِ معهُ في بعضِ بحوثه الآتيةِ جعلني، وجهاً لوجهِ، في حضرةِ امرأتين آسرتين للإهتمام. كلتاهُما متمرّدتان ذائعتا الصّيتِ في الأوساطِ الأنيسةِ المهذّبةْ. ثمّ هما شخصيّتان حيّتا الشّعورِ، ذكيّتان ذكاءاً ساطعاً ومُفعمتَا بعقلين حيويّين ولا مُحافظينْ. ولقد عملتْ هاتان المرأتان، بمعنىً ما، من أجلِ الحريّةِ، عامّةٍ، ومن أجلِ حريّةِ جنسهما الأنثويِّ، خاصّةْ.
"إنّ السيّدة دي استيل كانت، بالتأكيدِ ورُغمَ كلّ مسالكها الجّامحة، منافحةً من أجل الحريّةْ. كما وأنّ عقلها لم يكنْ مسكوناً بعقمِ المُحافظةِ المُفرطةْ.
بعد قرنٍ من الزّمانِ أتت (تلك الرّوحُ الواحدةُ ذاتُ الإسمين المختلفين) إلى ساحةِ الدّنيا تحت اسم "إثيل اسمث"، المؤلفة الموسيقيّة المُحتفى بها، الكاتبة، المكافحة الصّلدة عن حقوقِ النّساءِ الإنتخابيّةِ والفردانيّةِ العظيمةْ.
كانت تلكما الشخصيّتان غريبتي الأطوارِ على نحوٍ لافتٍ فنفحتَا، بما هما عليهِ، مسرح الشؤونِ الإنسانيّةِ بنسيمٍ طريٍّ جديدْ.
اتّسمتْ هاتان الإمرأتان معاً بالنّزوعِ إلى "العيشِ الخطرِ"، فما كان الحذرُ داخلاً في تكوينِ ذاتيّتيهُما. فاثنتاهما عاشتا بحماسةٍ عاطفيّةٍ، بحرارةٍ وحميةٍ وتوقْ. ثمّ أنّ كلتيهما أحبّتا حبّاً عظيماً وعانتا كثيراً. كما وكانتا، كذلك، فائقتَي الذكاءِ وعاطفيّتينَ، في ذاتِ الوقتْ. ولقد نشدتا معاً استخدامَ ذهنيهما المرهفين وحريِّتِهِما العقليةِ في سبيلِ فتحِ المصاريعِ على الدّنيا.
مالتْ الإمرأتانُ معاً إلى أن تكونا ثوريّتين في الرّوحْ. لكن السيّدة دي استيل، التي شهدتْ عهد الثورة الفرنسيّة، "أُفزعتْ باكتشافِ مدى الوحشيّةِ الذي قد يبلغُهُ جُمهُورُ النّاسِ حينما يُطلقُ فيهُم عنانُ الرّوحِ المتمرّدةْ".
أثناءَ انهماكي في قراءةِ سيرَةِ السيّدةِ استيل الذّاتيّةِ وجدتُها شخصيّةً دون كيشوتيّةً ذاتَ خصائصٍ عقليّةٍ وقلبيّةٍ (شعوريّةٍ) قويّةٍ، شجاعةً واقتحاميّةً في كثيرٍ من الاحوالِ، ومع ذلكَ لها وزنٌ في العالمِ السِّياسيِّ هو من الكِبَرِ بحيثُ أنّ نابوليون حظّرَ عليها، ابتداءاً، المثُولَ عندَ حضرتِهِ، ثمّ وسّعَ، أخيراً، نطاقَ ذاكَ الحظرِ ليشمل كلَّ مدينةِ باريس.
"كانتْ امرأةً كريمةً تندهشُ، يوميّاً، من حسدِ العقولِ الصّغيرةِ لها. ولقد اندفعتْ، كالعاصفةِ، إلى أبهاءِ حجراتِ استقبالٍ ما جَرُأَ الوَجِلُونَ، أبداً، على دخولها. كما وأنَّ هنالكَ من كانوا يفزعونَ من الإيماءاتِ التي تتضمّنُ إقراراً بأنّها المرأة الاولى في أورُبّا".
وُلدتْ السيّدة دي استيل في أبريل من العام 1716 في منزل أبيها الرّيفيّ المسمّى "كوبيتْ" والكائن بقربِ بحيرة جنيف. كان والداها حفيدَيْ أسلافٍ فرنسيّين، سويسريّين وألمان. وأمّها، التي كانتْ على مودّةٍ مع جيبون، قِيل عنها إنّها "امرأةٌ "كفؤةٌ في العلومِ واللّغاتِ وذاتُ فِطنةٍ وجمالٍ ومعرفةٍ غزيرةٍ كانوا موضِعَ إطراءٍ عالمِيْ"..." أمّا أباها فهو كان موظّفاً في أحدِ البِنُوكْ.
شكتْ أمّها منها مرّةً قائلةً إنّ جرمين [وهذا هو اسمها الأوّلُ والأصليُّ- المترجم] كانتْ "لا شيء، لا شيءَ مطلقاً بالمقارنةِ بما أردتُ أن أجعَلَهَا". ذلك كان صحيحاً... وبما أنّها كانتْ نَزِقَةً بذاتِ القدرِ الذي كانتْ به أمُّها حصيفةً فإنّها، بما هي عليهِ، شكّلتْ تهديداً دائماً للصّورةِ المستقبليّةِ الرّفيعةِ التي رسمتها لها أمّها بعناءٍ لانهائيْ.
ما كانتْ السيّدةُ دي استيل طفلةً جميلةً، كما وكذلكَ لم تكنْ امرأةً جميلةْ. ومعظم مُحبّيها سلّمُوا بأنَّ قوامَها كان مُفتقِرَاً إلى الحُسنِ وأنّها كانتْ واقعيّةً أكثرَ من كونِها رقيقةْ... كانتْ ذاتَ عينين جميلتين كعينَي أمّها، لكن باراس قال عنها، في مُذكّراتِهِ، إنّه قد وجدها "رجُوليّةً بصورةٍ لا تُطاقْ". أمّا آخرونَ سواهُ فقد قالوا عن ملامحها إنّها "حازمةٌ أكثرَ من كونها دقيقةْ". لكنّنا هنا بصددِ امرأةٍ استطاعتْ أن تعلُو على قدرِ بناتِ جنسِها.
عندما بدأ والداها التّخطيطَ لزواجِها واجها صعوباتٍ جمّةْ. فهي قد كانتْ عديدةَ المُتطلّباتِ وغيرَ سهلةِ الإرضاءْ. "أنا ما أُحْبُبْتُ، أبداً، بعاطفةٍ مُقاربةٍ لعاطفتِي الخاصّةْ"، لاحظَتْ هي ذاتَ مرّةْ.
أخيراً تزوّجتْ دي استيل سويديّاً اختارها قرينةً لهُ بسببِ ثروتِها، في الأساسْ. كان سفيراً لبلادهِ لدى البلاطِ الفرِنسيْ. ولقد أضجرَها ذلك الرّجلُ لحدِّ الموتْ.
في المجالِ الثّقافيِّ الباريسيِّ شعرتْ السيّدةُ دي استيل بأنّها في بيتِها وبينَ أهلِها. ثمّ قالتْ، في زمانٍ لاحقٍ، كلاماً مُوجّهاً إلى آلِ ذاكَ المجالِ يُفيدُ بخوفِها من أن يؤدّي الصّراعُ العنيفُ من أجلِ الحريّةِ إلى غايةٍ نقيضةٍ وهي قيامُ سلطةٍ ديكتاتوريّةْ. ولقد عبّر ما قالتْهُ عن حرصها على مصيرِ الثّورةِ الفِرنسيّةْ.
عُيِّنَ أبوها، موظّفُ البنْكِ والعبقريُّ الماليُّ، وزيرأً للماليّةِ في "كوميون" باريس إثرَ اقتحامِ سجنِ الباستيلْ.
"ما تخلّتْ مدام دي استيل، أبداً، عن رجائها في أن تُقادَ الثّورةُ بواسطةِ أناسٍ معقُولينْ..."...
خبّاتْ جيرمين، مستفيدةً من وضعِها كزوجةٍ للسّفيرِ السّويديِّ، كثيرينَ من المهاجرينَ في بيتِها وساعدتهُم على الهروبِ إلى إنجلترا. اعتقلتها سُلطاتُ الكوميون، ثمّ ما كان لها أن تهرُبَ من معتقلِها لولا عونُ أحدِ المتعاطفينَ معها من أصحابِ النّفوذْ. حُبِسَتْ مدام دي استيل ستَّ ساعاتٍ انتظرتْ فيها حكمَ الكوميون عليها وهي، كما كتبتْ، "ميِّتَةً من الجّوعِ والعطشِ والخوفِ ومُشاهِدَةً، من خلالِ نافذةِ المُعتقَلِ المُطِلّةِ على البِليس دي قريفي، الدَّهْمَاءَ مُنشَغِلَةً بنهبِ مركِبَتِها..."
هربتْ، من هُناكَ،إلى إنجلترا عبر سويسرا.
فقط قبلَ وقتٍ وجيزٍ من إعدامِ لويس السّادس عشر بالمِقصلةِ وصلتْ إلى "قاعةِ جوبيتر" في منطقة سَرِيْ حيثُ تجمّعَ عددٌ من أصدقائها المهاجرينْ. هنا التقتْ فانِي بيرني التي كتبتْ عنها:- "إنّها امرأةٌ لها قُدراتٌ هي، على ما أعتقد، الأجودَ بينَ كلِّ ماشَهِدْتْ. إنّ أسلوبَها السّلوكيَّ أشبَهَ بأسلوبِ السيّدةِ ثِرَيْلْ أكثرَ منهُ بأيِّ شخصيّةٍ أخرى ذائعةِ الصّيتِ، لكنّها متفوّقةٌ على تلكَ بعمقٍ فكريٍّ ينأى بها، على نحوٍ لانهائيٍّ، عن أن تُقارَنَ بها، بل وهي، فوقَ ذلكَ، تبدُو أبعدَ غورَاً في فهمِها للسّياسةِ والميتافيزيقيا من السيّدةِ الأخيرةْ".
وصفتْ مدام دي استيل، في بعضِ كتاباتِها وأحاديثِها، كيفَ أنّ صداقةً مُفعمةً بالعاطفةِ قد نَشأتْ بينها وفاني بيرني فقالتْ، مُسطِّرَةً خواطِرَها بالقلمْ:- "إنّني قد شعرتُ نحو فاني بإحساسِ صداقةٍ هو من اللّطفِ بحيثُ أنّهُ غدا مُذوِّبَاً لمشاعري المُعجَبَةِ، مُلهماً لقلبي برجاءٍ في الإستمتاعِ المتلذّذِ بصحبتِها وخاتماً له بفكرةٍ مؤثّرةٍ عن كيف أنّني، في لسانٍ أجهلُهُ كثيراً، استطعتُ التّعبيرَ عن أحاسيسٍ عميقةِ الغورِ كهذه".
إقشعَرَّ بدنُ د. بيرني والد فاني والموسيقيُّ ذائعُ الصّيتِ، من ثِقَلِ التّفكيرِ في أنَّ "فَانِيْهُ الحبيبةَ "دارجةٌ، شيئاً فشيئاً، على الصّحبةِ الحميمةِ واللّقاءاتِ المتتاليةِ مع تلكَ الشّخصيّةِ المُدمّرةِ المدعُوّةِ "مدام دي استيل" التي شُهِرَتْ بدورٍ ديمقراطيٍّ خبيثٍ وجَرَتْ، في انسياقٍ فاجرٍ، وراءَ من سُمِّيَ "السيّد دي ناربون". مضى الأبُ في حديثِهِ هذا فأشارَ إلى قدراتِ مدام دي استيل الثقافيّة والأدبيّة العالية التي يشهدُ عليها- من بينَ أشياءٍ أخُرْ- مؤلّفُها الرّائع المُسمّى اعتذارٌ لروسو الذي سبقَ وأن اطَّلَعَ عليهِ. بيدَ أنَّ الوالدَ، الخائفَ على إبنتِهِ من تأثيرِ المدامِ إيّاهان ختم إشادتَهُ الاخيرةَ بها قائلاً إنّها، كايِّ إنسانٍ آخرٍ، "ما سُمِحَ لها بحوزةِ الكمالِ، لذا فهي ما خلتْ من مثالبٍ بشريّةٍ بائنةٍ تُؤخذُ عليها".
كانتْ لجيرمينَ صلاتٌ عديدةْ. قال عنها بنجامين كونستانت:- "إنّها حركيّةٌ جدّاً، متهوّرةٌ جدّاً، ثرثارةٌ جدّاً، لكن جيّدةً جدّاً وأمينةً جدّاً".
كرّستْ جيرمين أوقاتَ فراغها في سويسرا لتأليفِ كتابٍ عن "أثرِ العاطفةِ في سعادةِ الأفرادِ والأممْ"... "كانتْ مسرورةً بأن تُبرهِنَ أنّها ما زالتْ تلميذةً لرُوسو".
في البدءِ كانتْ مدام استيلْ معجبةً، إعجاباً شديداً، بنابوليون فتاقتْ إلى أن تُلاقيهِ... وبعد أن سُمِحَ لها بالعودةِ إلى فرنسا وصل نابوليون إلى باريس (في عام 1917) ودُعِيَتْ هي إلى شهودِ حفلِ استقبالِهِ. "كلّما رأيتُ بونابرتْ أكثرَ كلّما صرتُ منزعجةْ. فلقد أحسستُ، على نحوٍ غامضٍ، أنّهُ رجُلٌ بلا عواطفْ. فالكائنُ الإنسانيُّ، بالنّسبةِ لهُ، إما واقعةٌ أو شيءٌ، لكن ليس شخصاً عينيّاً جديراً بالمعاملةِ العادلةْ. كان لاعبَ شطرنجَ بارعاً وضع نُصبَ عينيهِ أن يُحرّكَ الجّنسَ البشرِيَّ كما يُحرّكُ لاعبُ الشّطَرَنْجْ قِطَعَ لَعِبِهِ. وانتصاراتُهُ ما كانتْ معزُوّةً إلى مقدراته الحقيقيّةِ بقدرِ ما هي معزوّةً إلى مناقصهِ. فالتّعاطفُ الإنسانيُّ ما كان لهُ أبداً أن يُحيدَ بهِ عن مسارِهِ، كما وليسَ، كذلكَ، لأيِّ خِصالٍ ساحرةٍ لفردٍ إنسانيٍّ ما، اعتباراتٍ دينيّةٍ ما أو الإيمان بأيِّ فكرةٍ ما أن تُميلَ به إلى فِعلِ ذلكْ... لا شيءَ استطاعَ أن يُخلّصَنِي من عدمِ استساغتِي لذاكَ الرّجُلْ... إنّهُ قد احتقَرَ النّاسَ الذينَ اعتمدَ على تأييدهم، كما ولم يعرفْ معنىً لكلمةِ "حماسةٍ"، حتّى ولو أنّهُ سعى على دربِ إدهاشِ الجّنسِ البشرِيْ"... كانتْ تلكَ عباراتٌ مُجسّدةٌ لانطباعِ مدام دي استيل عن بونابرت بعد أن عرفتهُ. ذاكَ الإنطباعُ غيرُ الحميدِ عن بونابرت ترسّخَ في نفسِها عندما تناولتْ معهُ طعامَ الغداءِ في "الأَبِيْ سِيْجَسْ"... فيومذاكَ وجدتْ نفسها، أخيراً، في خِضمِّ مُحاجّةٍ جادّةٍ مع الغازي حول موضوعِ حقِّ النّساءِ في الإقتِراعِ في المقاطعىِ السّويسريّةِ التي نشأتْ بها.
رُغمَ كلِّ ذلكَ قرأ نابوليون آخرَ مؤلّفٍ كتبتهُ حينما كان في قمّةِ انهماكِهِ في حملتِهِ على مِصرْ.
إفتتنُ العديدُ من الرّجالِ والنّساءِ بها افتتاناً عظيما. قالتْ جولييت ريكامير إنّها قد "وقَعَتْ تحتَ تأثيرِ طبيعتِها العاطفيّةِ وشخصيّتِها القويّةْ". ثمّ تقولُ مدام ريكامير إنّها منذُ اليومِ الذي التقتْ فيهِ بها "ما استطاعتْ أن تُفكّرَ في شيءٍ آخرٍ غيرِ مدام استيلْ". قامتْ جولييت، منذُ ذلك الزّمانِ، بزياراتٍ طويلةٍ عديدةٍ لجيرمينْ في "كوبَيتْ"، ثمّ ظلّتْ مُخلِصةً لصديقتِها تلكَ حتّى النّهايةْ.
في عام 1800 نشرت جيرمين أوّل أعمالِها المهمّةْ:- "الأدب منظوراً إليهِ من زاويةِ علاقتِهِ بالمؤسّساتِ الإجتماعيّةْ".
والآنَ أنا قد اطّلعْتُ، للمَرّةِ الأُولى، على حقيقةِ أنَّ مؤلَّفَها ذلك، كما قالَ عنهُ أحدُ كاتِبِيْ سيرتها الذّاتيّةِ، "كان أكثرَ من مُناشدةٍ في سبيلِ تحريرِ النّساءْ... فهو قد كانَ، أيضاً، أكثرَ من ملحمةٍ ضدَّ نابوليون... إنّهُ، في جوهرِهِ، كان بياناً للحركةِ الرّومانسيّةِ في فرنسا". في ذلكَ الكتاب أكّدَتْ مدام دي استيل على كناليّةِ الجّنسِ البشرِيْ.
بَغُضَ نابوليون جيرمين، بَغُضَ أفكارَها، كتُبَها ثمّ بَغُضَ، أخيراً، إعجابَها بكلِّ شيءٍ إنجليزِيْ. وانتهى بهِ كلُّ ذلكَ البُغضُ إلى رفضِ السّماحِ لها بالعيشِ في باريس وإصدارِ جوازِ سفرٍ، باسمها، إلى ألمانيا.
إلتقتْ جيرمين، في ألمانيا، شِيلَرْ وقَوْتَه وكتبتْ انطباعات عنها وعن إقامتها هناكْ.
قال عنها قَوْتَه، الذي كان مُتوتّر الأعصابِ حين أزِفَ موعدُ لقائها معهُ:- "ينبغي علينا أن نعرفَ أنّها امرأةٌ ذاتُ تأثيرٍ ضخمْ. فهي قد أحدثتْ شرخاً في سورِ الصّينِ المُقامِ من التّحيّزِ المُغرِضِ الذي فَصَلَنا عن فرنسا فغدونا، من بعْدِ، مُقدَّرِيْنَ ومفهُومِيْنَ ليس فقط في أرجاءِ منطقةِ الرّايِنْ بل، فضلاً عن ذلكَ، في ما بعدِ معبرِ القناةِ الإنجليزيّةِ من بِلادْ".
سافرتْ مدام دي استيل كثيراً عبرَ ألمانيا وإيطاليا واستمتعَتْ برفقةِ كُتَّابٍ ومفكّرينَ ذوي شَهرةٍ وشخصيّاتٍ بارزةٍ أخرى تحاورَتْ معهُم، بلا انقطاعٍ، حولَ الفلسفةِ والأدبْ.
حينما استقرّتْ، مرّةً أخرى، في منزلِ عائلتها الرّيفيِّ "كوبيتْ" نصبتْ، هناكَ، هي ومعجبوها، خشبَةَ مسرحٍ خاصّةْ. قِيل عنها إنّها، آنذاكَ، أدّتْ أدوارَاً تمثيليّةً "بأُسلُوبٍ فخيمْ"... "في زمانٍ خاطفٍ جمعتْ حولها مجموعةً من أفرادِ النّاسِ الموهوبين. فكانَ أن عُرِضَتْ، على خشبةِ مسرَحِ دارِها الخاصّةِ، مسرحيّاتٌ لفولتيرَ وكُتّابٍ آخرِيْنَ من الكلاسيكيّين المُحدَثِيْنْ".
إلتَقَتْ مدام دي ستيل الشّاعرَ بايرون الّذي قال عنها إنّها، بالتّأكيدِ، "الأذكَىْ من بينَ النّساءِ"، بيدَ أنّهُ استطردَ في هذا السّبيلِ ووصفَهَا بأنّها "ليستْ بالمرأةِ الأَعْظَمَ سماحةً من بينَ كلِّ النّساءِ اللّواتِي التقاهُنَّ، أبداً، في حياتِهِ"، وبأنّها، كذلكَ، "فكّرَتْ كرجُلٍ وشعرتْ كإمراةْ".
مثّلتْ مدام دي ستيلْ توجُّهَاتَ مُعَيّنَةَ في القرنِ الثّامن عشرْ. فتيّاراتُ الفكرِ الأُورُبِّيَّةِ الرئيسَةِ، حينذاكَ، تأثّرَتْ بفِعلِ اتّصالاتٍ ثقافيّةٍ عُقِدَتْ في منزِلِ آلِها الرّيفِيِّ الموسوم "كوبيت"... شاركتْ مدام دي ستيلْ القرن الثامن عشر ثقتَهُ بالعقلْ... ولقد تجلّى جوهَرُ فِكْرِها في آرائِها حولَ كماليّةِ الإنسانِ من حيثُ هو كائنٌ ذو عقلْ... آمنَتْ مدام دي ستيلْ، كذلكَ، بأنَّ "زحفَ" الرّوحِ الإنسانيّةِ التّصاعُدِيَّ التّدريجِيَّ ما انقطَعَ أبداً". كانتْ مُحبّةً ذاتَ عهدٍ للثقافةِ والفِكرِ الإنجليزيّينْ. وفي كتابِها المُسمّى اعتبارات قارنتْ أوضاعَ المجتمعِ في فرنسا وألمانيا بمُوازِيَتِها في إنجلترا. كانتْ معجبَةً بالحُرّيّةِ الإنجليزيّةِ المحميّةِ بالقانونِ الدّيمقراطيْ. فهي ما كانتْ واحدةً من أولئكَ الرومانتيكيّين الممجّدِيْنَ لمُثُلِ الفوضويَّةِ الفلسفيّةْ. على كُلٍّ حالٍ، هي قد شعرتْ بأنَّ "نوعيّةَ الحكومةِ الحُرّةِ التي تملُكُها إنجلترا جلبتْ معها، إلى السّاحةِ السّياسيّةِ-الإجتماعيّةِ، وضعيّةً غيرَ مُنصِفَةٍ للنّساءْ. ففي دولةٍ حرّةٍ ادّعى الرّجالُ فيها لأنفسهم كرامةً طبيعيّةً وجدتْ هي أنَّ النِّساءَ، بالضَّرُورَةِ، تابعاتْ".
لا يحتاجُ المرءُ إلى شيءٍ سوى لمحةٍ خاطفةٍ عبر تاريخِ الإمرأتين إيّاهما، المدام دي ستيل والسيّدة إثيل سمثْ، كي يُصعَقَ بالتّماثُلاتِ في شخصيّتيهِما (ومن ثمَّ في سلوكيهِما النّاجمينَ عن ذينكُما). نحنُ نستطيعُ أن نرى هنا أنَّ الشّخصيّةَ اللاّحقةَ هي، في أوجُهٍ عديدةٍ، انعكاسٌ مُتميّزٌ لجِمَاعِ خِصالِ الشّخصيّةِ السّابقَةِ، باستثناءِ تعديلاتٍ (أو تحويراتٍ) بعينِها.
2
وُلِدتْ السيّدة إثيل اسمث (وأنا هنا أقتبسُ عن مذكّراتها الخاصّةِ، عن قاموس قِرَوفْ للموسيقيّين، وعن السيرة الذاتيّة التي كتبها عنها كريستوفر سينت جون)، في لندن وفي أبريل من العام 1856. كانت ابنةُ جنرالٍ في المّدفعيّة المَلَكيّة اشتغل أباهُ وجدّهُ في مهنةِ الصّرافةِ البنكيّة (لاحظ كيف أنّ الأشياءَ تُعيدُ نفسها هنا، بغرابةْ! فكما علمنا، في السّابقِ، كان والد مدام دي استيل موظّفاً بنكيّاً أيضاً. السّببُ في ذلك هو، بالطّبعِ، أنّ خاصيّةَ وميزَاتِ خلفيّةِ العائلةِ الإجتماعيّةِ تهبُ الرّوحَ نسيجَ طاقةٍ مثناسبٍ لتمكينِها من أن تُولَدَ في تلكَ العائلةِ بالذّاتْ).
عاشتْ جدّةُ السيّدةِ إثيل اسمث الأُمَوِيَّةُ (التي كانتْ والدتُها فِرنسيّة) في باريس حيثُ كانتْ "شخصيّةً شهيرةً تماماً في الدّوائرِ الموسيقيّةِ الباريسيّةِ ولها صالونٌ يرتادُهُ معظمُ المُحتفَى بهم من موسيقيّي ذلك الزّمانْ". رُبّيَتْ أمُّ إثيل في ذلك المُناخْ. ولقد وصفتها اللّيدي سيدني، التي عرفتها في تلك الأيام، بأنّها "مخلوقةٌ ما التقتْ بأحدٍ أكثرَ منها ذكاءاً". ثمّ أردفتْ، على ذلكَ الوصفِ، قولها إنّها- أي السيّدة إثيل اسمث- "لو تزوّجتْ دبلوماسيّاً لأضحتْ معروفةً ولأُشِيرَ إليها بالبنانِ في كلّ أرجاءِ أورُبّا".
هذه التفاصيلُ ملفِتَةٌ للنّظرْ. فنحنُ نرى، من خلالها، كيف أنَّهُ، في أمرِ الميلادِ، الشّبيهُ يميلُ إلى الإنجذابِ نحوَ الشّبيهْ.
هنالكَ أدبيّاتٌ عظيمةُ العددِ (والعُدّةِ) تتناولُ موضوعَ حياةِ إثيل اسمثْ. تضمُّ هاتيكَ ليس فقط المُجلّدات السّبعةَ المحتويةَ عليها سيرتُها الذّاتيّةُ الخاصّةْ. ذلكَ لأنّ القواميسَ الموسيقيّةَ المختلفةَ تعطينا تفاصيلَ كاملةً عنها، كما وأنّ شخصيّتَها، بكلِّ ذيُوعِ صيتِها المشهود، حفّزتْ آخرينَ من النّاسِ على تحبيرِ مؤلّفاتٍ عنها. ثم تصبُّ في بحرِ ذلكَ كُلِّهِ مُجلّداتٌ من الرسائلِ المُتبادَلَةِ بينها وبين الكثيرينَ من مشاهيرِ ذلكَ العهدْ.
كانتْ السيّدة إثيل اسمث مفكّرةً أوربيّةً حرّةً وطليقةً ومُشاداً بها. كما وكانتْ، أيضاً، عائشةً حياةً حرذةً وطليقةً من إسارِ أعرافِ أيّامها أو خلفيّتها الإجتماعيّة. ولقد قدذمتْ لنا تعبيراً مُصمّماً وشجاعاً عن فرديّتها الخاصّةِ ارتسمتْ لنا فيهِ انساناً وهبَ قلبهُ ورُوحهُ لكلِّ شيءٍ فعلَهُ في هذه الدّنيا. ما استرضتْ السيّدةُ إثيل اسمثْ، في سبيلِ الإخلاصِ لفكرِها وسلوكِها الخاصّين، أيَّ سُلطةٍ أبويّةٍ- رُغمَ أنّها كانتْ وفيّةً لكلِّ عائلتِها- وما عنتْ لها آراءُ الآخرينَ فيها وتحيّزاتهُم ضدّها شيئاً. كانتْ لا تُطقْ صبراً على كِتمانِ آرائها الصّريحةِ في مُختلفِ الشّؤونْ. إنّها واحدةٌ من أولئكَ النّاسِ النَّادرينَ اللّذينَ يُواجهونَ الحياةَ بانفتاحٍ ومن الرّوحِ مباشرةً، دونَ أن يَلبَسُوا أيَّ قِناعٍ من عُرفٍ مُتصنّعٍ أو تقليدِيْ. فهي قد وهبتْ كلَّ العالمِ العريضِ ما فكّرتْ فيهِ وما كانتْهُ بالضّبط:- مادّةَ ذاتِها الباطنةِ، صافيةً ومُباشِرَةْ.
كثيراً ما بدتْ تِلكَ المُباشَرَةُ سيّئةَ الأدبِ أو مُتهوّرَةْ. وبعضُ النّاسِ قد بُهِتُوا ونفرُوا عنها، في البدءِ، بسببها، إلا أنّهم تراجعُوا جميعَهُم، فيما بعد، عن ذلكَ الموقفِ وأحبّوها حُبّاً عظيماً.
قطعاً ليس هُنالكَ امرأةٌ سُرّتْ بصداقاتٍ حميمةٍ وعظيمةِ العددِ، مع رجالٍ ونساءٍ معاً، أكثرَ منها. ذلكَ رُغمَ أنّهُ كثيراً ما تخلّلتْ تِلكَ الصّلات المشوبة بالعاطفة مُحاجّاتٌ ومُشاجراتْ!
عندا بلغتْ الثامنةَ عشرَةَ من العُمرِ صَدمتْ إثيل والديها بإعلانِها أنّها ستذهبُ إلى لايبزِجْ لدراسة الموسيقىْ. حتّىْ ذلك الحين كانتْ هي شيئاً من فتاةٍ مُسترجِلَةٍ مُنشغِلَةٍ بركُوبِ الخيلِ، الصَّيدِ ومُسْتَمْتِعَةٍ بالقنصِ والألعابْ- ولو أنّها حاولتْ، حين "شبّتْ عن الطّوقِ"، أن تتوافقَ والتّقليدَ الإجتِماعيَّ فأسلمتْ نَفْسَهَا لارتِداءِ ملابسٍ احْتِفاليّةٍ ومُتمشِّيَةٍ والموضةِ، بل وتلقَّتْ، كذلكَ، بعضَ العِرُوضِ بالزَّواجْ.
لكنَّ خاطِرَ تِلكَ الفتاةِ المُختَلِفَةِ كان مُتعلّقاً بالموسيقى، ممّا أدّى بها إلى معاركٍ طويلةٍ وشرسةٍ مع أبيها أسفَرَتْ، أخيراً، عن نجاحِها في إقناعِ عائلتِها بأن تسمِحَ لها باتِّخاذِ تلك الخطوةِ الغيرِ مسبوقةٍ، إمّا في التّصوّرِ أو في الفِعلِ، نحو تعلّم الموسيقى. كتَبَتْ، لاحِقاً، مُعلِّقَةً على هذه الحكاية:- "أنا ما سُمِّيْتُ "طائرُ عاصفةٍ بحرِيٍّ" من أجلِ لا شيء...!" [المعنيُّ هنا هو طائرٌ بحريٌّ صغيرُ الحجمِ وطويلِ الجّناحينِ ومجبُولٌ على التّحليقِ عالياً عن اليابسة- المُترجم]... ما كانتْ الفتياتُ، في العهدِ الفيكتوريِّ الوسيطِ بإنجلترا، يُسَافِرْنَ لوحدَهِنَِّ ودونَ مُرَافِقَةٍ، قريبةٍ أو وصيَّةْ. عليهِ فقد صُحبَتْ في رحلتِها إلى ألمانيا وتُرِكَتْ في لايبزج في فندُقٍ مخصّصٍ للطّلاّبِ حيثُ لا أحدٌ يهتمُّ، إلاّ هامشيّاً، بالتّفاصيلِ الخاصّةِ لحياةِ سِوَاهُ من النّاسْ.
لقد حازتْ السيّدَةُ إثيل اسمثْ، حقّاً وصِدقاً، على موهبةِ جذبِ النّاسِ إليها. فكم من ألمانٍ كثيرين ذوي صيتٍ وشَهرةٍ خصّصُوا لها مقاماتَ في قلُوبِهِمْ. والإنطباعُ الذي خلّفتْهُ على أصدقائها الألمان الجّددِ يُستطاعُ لمحُهُ في وصفِ الموسيقيِّ الألمانيِّ المُحْتَفَى بهِ هينسشيلْ لها حينما تقابلا للمرّةِ الأولى. كانتْ، آنذاكَ، في التّاسعةِ عشرةِ من عُمرِها.
"إن أنسَ لا أنسى ذلكَ اليوم الجّميل من شهرِ أغُسطُس من العامِ 1877 حينَ أُضيئَتْ حلقتُنا الصّغيرةُ الأنيسةُ، فجأةً، بالحضُورِ الدّيناميكيِّ الصّخّاب لسيّدةٍ شابّةٍ فائقةِ الجاذبيّةِ بين ظهرانينا هي، كما أُفْهِمْنَا، ابنةُ جنرالٍ إنجليزِيْ. لا أحدٌ فينا عرفَ ما الذي فيها ممّا يُعجبُ الإنسانَ أكثرَ من سِواه:- مَلَكَتُها الموسيقيّةُ المُدهشةُ التي أطلعتنا عليها، بامتيازٍ متكافئٍ، كعازفةٍ على البيانو وكذلكَ كمُغنّيَةٍ ذاتِ صوتٍ لافتِ الإنسجامِ والتّناغُمِ في أدائهِ لتأليفٍ موسيقيٍّ-غنائيٍّ من إبداعها الخاص؟ أو توثُّبُها المُدهشُ في استعراضاتٍ رياضيّةٍ مُعجِزَةٍ ومُفعمةٍ بالخفّةِ والقُوّةْ؟ أو الطّريقةُ التي تلعبُ بها التِّنس على الساحاتِ الخضراء؟ أو الكيفيّةُ التي تقفزُ بها فوقَ الأسوارِ، الكراسي، بل وحتّى الطّاولات وأسلوبُها في ذاكَ الفعلِ الذي حيّرتْ به الفتيات الألمانيّات اليافعات بذاتِ القدرِ الذي أذهلَتْ بهِ، كذلكَ، الفتيان الألمان اليافعين؟... إنّها، لَعَمْرِيْ، قد جعلتنا جميعاً مصعُوقِيْنَ تماماً بكُهرباءِ عرُوضِها البارعةْ. لقد اتذفقنا، فيما بيننا، على أنّنا حُظينَا، بيننا، بشخصيّةٍ أخّاذةٍ على نحوٍ فوقَ عاديٍّ، بامرأةٍ قُيّضَ لها، قطعاً، أن تكونَ، ذاتَ يومٍ، شهيرةْ. إنّ إثيل اسمثْ مُقدَّرٌ لها أن تُصيرَ أكثرَ المؤلّفين الموسيقيّينَ انميازاً وأصالةً في تاريخِ الموسيقى".
أبهجتْ حيويّةُ إثيل اسمث النّزِقَةُ الجّميعْ. ثمّ سُرعانَ ما أضحتْ مُقيمةً في صميمِ مركزِ مجتمعِ مدينةِ لايبزجْ. لقد رُحِّبَ بها هُناكَ وأُحِبَّتْ ليس فقط من قِبَلِ العالمِ الموسيقيِّ، بل من قِبَلِ النّبلاءِ وذائعي الصّيتِ في المجالِ الأدبيِّ كذلكْ.
كتبتْ إثيل اسمثْ في سيرتِها الذاتيّةِ الشّخصيّةِ، حينَ لاحظتْ أنَّ صديقاً مُعيّناً لهُ "نُقطةُ ضعفٍ تجاه الأُمراءْ":- "إنّ حالَ ذاكَ الصّديقِ قد علّقَ عليها، بتهكّمٍ، بعضُ أبناءِ هذا العالمِ الدُّنيويِّ... لكن أينَ مبعثَ الأذى فيها؟ هلاّ ما قدّمتْ تلكَ السّلالةُ الرّفيعةُ المنشأ مُساهمةً مُتميّزةً تماماً إلى معمعانِ الحياةْ؟ وهلاّ عدمُ الإهتمامِ بذلكَ ليس علامةً أكيدةً على الخِلُوِّ من حِسِّ التّفُوّق؟ في الحقِّ، يستطيعُ المرءُ القولَ عن المَلَكِيَّةِ ما قِيلَ عن اللهِ وعن وجودهِ الذي قد يشأُ النّاسُ اختراعَهُ من بناتِ خواطِرهم إن ما كانَ حقيقةً واقعةْ. بُرهانُ ذلكَ هو أنّها قد أُزِيْحَتْ، كرّةً فكرّةً، عن عرشها السّلطانيِّ لا لشيءٍ سوى أن يُعادَ تأسيسُها في موقعِ السّلطةِ من قِبَلِ أجيالٍ لاحقةْ. عليهِ أنا آملةٌ ومؤمنةٌ بأنّها ستكونُ قائمةً في الدّنيا إلى نهايةِ الزّمانْ".
"كانتْ صداقاتُها العميقةُ هي نَفَسَ الحياةِ بالنّسبةِ لها ولا غِنَىً لِمَلَكَتِها الإبداعيّةِ عنها". ذلكَ رُغمَ أنَّ هاتيكَ الصّداقاتِ قد سبّبتْ لها، كذلكَ، معاناةَ عظيمةْ.
كانتْ إليزابيث فون هيرتسوقينسبيرق- أو "لِزْ"- واحدةً من صديقاتِها المُبجّلاتِ، ولقد صارتْ، بالكادِ، أّمّاً لها لسبعِ سنينْ. تِلكَ الصّلةُ المُفعمةُ بالشّعورِ حملتْهَا إلى قلبِ مجتمعِ لايبزج الموسيقيِّ، فالكونتْ فون عيرتسوقينسبيرق (والد إليزابيث) كان موسيقيّاً متميّزاً. تحدّثتْ لِزْ، في رسائلها إلى إثيل، عن طبيعةِ إثيل "المائلةِ للجِّمُوحْ". ثمّ قالتْ إنّها رأتْ علائماًن في تلكَ الطّبيعةِ، على ما سمّتْهُ "شخصيّةً ذاتَ خِلاقٍ بذخيّةٍ وجوعٍ مُفرطٍ للحياةِ وصلاتٍ عديدةٍ جدّاً". ولقد ساءلتْ إليزابيث "مَحميّتَها" اليافعة:- "هل سيكونُ الامرُ معَكِ دوماً هكذا:- تسمُقينَ إلى السماواتِ، ثّمَّ تُلفَّعِيْنَ بالحُزنِ على حدِّ الموتْ؟"
أحسّتْ كلارا شُومان وُدّاً قلبيّاً كبيراً لإثيل، كذلك قِرَيْقْ. ثم هناكَ، أيضاً، برامز الذي اتّخذتْ، أخيراً، مكاناً في قلبِهِ رُغم أنّها، في البدءِ، تشاجرتْ معهُ لغيظِها الشّديدِ من وِصايتِهِ الأبويّةِ على النّساءْ. سقطتْ إبنةُ ميندلسون، كذلكَ، صريعةً لسحرها. كما وأحبّها، فضلاً عن كلِّ أولئكَ، تشايكوفسكي ودفوراكْ وآخرون كثيرون.
وقعتْ إثيل، أخيراً، في حبٍّ عميقٍ لهنري بروستار، زوجِ أختِ لِزْ، الذي التقتْهُ أثناءَ الزّمانِ الذي عاشتهُ في إيطاليا.
كان بروستار كوزموبولوتانيّاً حقيقيّاً، فهو انجليزيٌّ جُزئيّاً، وُلِدَ في فرنسا وعاش في القارّةِ الأوربيّةِ طيلةَ أيّامِ حياتِهِ. اتّسمَ ذاكَ الرّجلُ بصفاتٍ جاذبةٍ شتّى إذ كانَ كاتباً وفيلسوفاً، إنساناً مُتواضعاً، ذوذاقةً، ذا حساسيّةٍ ولطافةْ. ولو كان منها السّماحُ لأصبحَ مبعثَ تأثيرٍ إنسجاميٍّ على طبيعتِها النّزِقَة. غيرَ أنّهُ، رُغم كلّ شيءٍ جرى لاحقاً، ما توانى عن عونها، عوناً كبيراً، على كتابةِ مُسودّاتِ نصُوصِ مسرحيّاتِها الغنائيّةْ.
"لا تخافِي من أيِّ شيءٍ قد تأتي بهِ الحياةُ، بل واجهِيهِ، شَرِّبِيْ به ذاتَكِ ووقتذاكَ سترعاكِ الآلهةُ على سبيلِكْ".
كتبتْ إثيل عن هنري بروستار أنّهُ "كان أكثرَ رجُلٍ عميقِ التّديّنِ صادفتْهُ في حياتِها، كما وهو، في ذاتِ الوقتِ، أعظمَ عدُوٍّ عتيدٍ للفِرَقِ والطّوائفْ".
إنّ ما جمعَ بينَ إثيل وهنري بروستار كان أغنى صداقةٍ وأثرى علاقةِ حُبٍّ عاشتهُما في حياتِها. ولرُبّما ملأتْ الرّسائلُ بينهُما مُجلدات. مع ذلك حينما تُوفّيَتْ زوجةُ هنري رفضتْ إثيل أن تتزوّجَهُ.
أجدُ الآنَ، إذ أقلّبُ صفحاتِ تلالِ تلك الكُتُبِ المؤلّفةِ عن هذه السيّدةِ المتفرّدةِ، خطاباً أرسلهُ إليها مسطوراً- ويا للغرابةِ!- من فندقِ دي لاكْ، في "كوبيتْ" حيثُ أقامتْ، في الماضي، مدام دي ستيلْ... (هل كان هِنري، في هيئتِهِ الحياتيّةِ السّالفةِ، واحداً من الكواكبِ الّتِي دارتْ حولَ شمسِ جيرمين دي استيل في "كوبيت"؟)... كان الخطابُ بتاريخِ الرابع من اكتوبر 6189.
"أوضحتُ لـ"ر"- معتمداً على سَماحَكِ بذلكَ إن شِئْتِهِ- أنَّ ما حفّزَنِي على أن أعرضَ عليكِ الزَّواجَ منّي كان رغبةً في إتمامِ وإكمالِ عملِ سنينٍ عديدةٍ، تتويجاً عُرفيّاً نَسِمُ بهِ أنفُسَنَا إرضاءاً لنداءِ الفنِّ الأسمىْ. لقد اخْتَبَرْتِ أنتِ الشّخصين الحقيقيّين- أنا وأنتِ- عِوضاً عن الإكتفاءِ بالنّظرِ إلى القِناعينِ النَّمَطِيّينِ للسيّدةِ والعاشقِ، فغريزتُكِ الدّراميّةُ جيّدةْ".
ظلاّ صديقينَ حميمينَ ورفيقينَ متواصلينَ حتّى يومَ وفاةِ هنري بروستار في عام 1908.
سافرتْ إثيل اسمثْ كثيراً في أرجاءِ إيطاليا، سويسرا، غفرنسا وألمانيا. ولقد لاقتْ عبقريّتُها الموسيقيّةُ وشخصيذتُها النّادرةُ قبُولاً في البِلاطِ في كلِّ من فايمر وبراين، فينّا ومراكزِ ثقافةٍ موسيقيّةٍ أخرى عديدة.
تُعطينا مُذكّراتُها أوصافاً حيّةً للمشهدِ الألمانيِّ ولمحاتٍ نافذةً (كما فعلتْ مدام دي استيل سابقاً) عن الخواصِّ المختلفةِ للبروسيّين، البافاريّين والسّاكسونْ. "أقولُ لكِ"، ضجّتْ بالكلامِ عبرَ مائدةِ الغداءِ في "اميل لُدفيج"، "إنّ الألمانَ كانوا أكثرَ سعادةً تحتَ حكمِ أمرائهم الصّغارِ عمّا هم الآن!"
في خلالِ عهدِ استجمامٍ في سويسرا، حيثُ كانت ترتاحُ إثرَ حادثةٍ ألمّتْ بها وهي تتسلّقُ جبلاً، قرأتْ اثنينَ وأربعينَ كتاباً عن نابوليون- ذلكَ، لا شكَّ، هو أوبةٌ لاشعوريّةٌ إلى انشغالٍ عظيمٍ لها في ماضيها الرّوحيِّ الخاصْ.
بِمُضيِّ الزّمانِ زارتْ إثيل اسمثْ، مرّةً أخرى، كلَّ المراكزِ الموسيقيّةِ في ألمانيا في مُحاولةٍ لجعلِ مسرحيّاتِها الغنائيّةِ (أوبراتِها) تُقبلُ (ومن ثمّ تُعرَضُ) هناكْ. ولقد نجحتْ، نجاحاً بالغاً، في ذلكْ. ومؤخّراً صارتْ معرُوفةً في انجلترا "رُغمَ أنّ المُناخَ السّياسيَّ المُعقّدَ، آنذاكَ، كان ضدّها".
صارتْ صديقةً مُقرّبةً للإمبراطورةِ إيُوجِيْنِيْ، أرملة نابوليون الثّالث التي كانتْ تعيشُ، حينذاكَ، على مسافةِ أميالٍ قليلةٍ فحسبْ من منزلِ عائلتِها في سَرِيْ.
ذهبتْ إثيل، في علاقتها والإمبراطورة إيوجيني، بعيداً فغدتْ زائرةً مألوفةً جدّاً ومُرحّباً بها في منزلِ الإمبراطورةِ الإنجليزيِّ في فارنبورو هِلْ وفي وسطِ المهاجرين الفرنسيّين هناكْ. ولقد لاقتْ، في ذلكَ العهدِ وفي ذلك المكان، من الإحتفاءِ ما فاقَ ذلك الذي لاقتْهُ مدام دي استيل (قبلَ مائة عامٍ بالضّبطِ، أو بالكادِ، من ذلكَ الزّمان) في جونيبر هَوْلْ وفي وسطِ المهاجرين اللذينَ هرعوا إلى إنجلترا بعدَ سقوطِ العرشِ الفِرِنْسِيْ. هذه المُشابهاتُ بين السيّدتين ليس لهما، كما قد يبدو من الوهلةِ الأولى، أن تُدهشَنا، سيّما في حالِ وضعِنا في الإعتبارِ ذاتَ مِزاجِ المزايا والخصالِ في "نسيجِ" الشّخصيّتين الذي صيغَ على "مِنوالِ" روحٍ واحدةٍ (بالطّبعِ لنا أن نتوسّعَ في هذا المجالِ فنُشيرُ إلى صِلاتِ الصّداقةِ والإهتماماتِ المتشابهةِ بين الشخصيّتينِ إيّاهما في الماضي والحاضرْ).
عند زيارةِ إثيل اسمث للإمبراطورةِ الأرملةِ كانتْ معتادةً على أن تسوقَ درّاجتها على طولِ الطّريقِ إلى فارنبورو، ثمّ تُغيّر ملابسها إلى زيِّ المساءِ تحتَ شجرةٍ في حديقةِ الدّارِ المُزارةْ. وقتذاكَ ع
غالباً ما كانتْ تُشعِرُ صديقتَها الإمبراطورةَ بحضورِها في المكانِ فتُهيّئُ لها غُرفةً في بيتِها.
أصبحتْ الإمبراطورةُ إيوجيني صديقةً وفيّةً، وذاتَ نفوذٍ، لإثيل. ثمّ نصّبَتْ، هي وأميراتُ البِلاطِ الإنجليزيِّ الأُخريات، من أنفُسِهُنَّ راعياتٍ جيّاشاتٍ بالطّاقةِ لفنِّها يَسْتَحثَنَّها قُدُماً ويدفعنَ تكاليفَ إنفاذِ عروضها الاوبراليّةِ ثمّ، من بعدِ ذلكَ، يُلطّفْنَ ويُبارِكْنَ هاتيكَ العروضِ بحضُورِهِنَّ. إنّ أوبراها المّسمّاةَ "قُدّاسٌ على المقام
"ر".
1
في هذا الوصلِ للحياةِ بالحياةِ نرى كيف أنّ منازِعَاً بعينها تتكرر، زماناً بعد زمانٍ، حتّى يصهرُ المعملُ الكيميائيُّ للرّوحِ الذي "هو" الإنسان، بنارِهِ، جميع العناصر ذَهَبَا.
ذلك هو الذي نحنث بسبيلِهِ على هذه الأرضْ. وهو، في الواقع، الحقيقة المُسْتَبْطَنَةُ في أُسطورةِ حجرِ الفلاسفة. فالصّفاتُ الأرضيّةُ للكائنِ الإنسانيِّ ينبغي لها أن تُبدَّلَ [أو "تُنَاسَخَ"، بالأحرى- المترجم] إلى ذهبِ الرّوحِ قبلَ أن يتمكّنَ إنسانٌ مُفردٌ ما من تجاوزِ وضعيّتِهِ الإنسانيّة. إنّ تعقيداتَ التّجربةِ على كوكبِ الأرضِ تُنجبُ الإزميلَ والنّارَ اللذين يُطوّعان المِعدنَ ويُحدثانَ فيهِ توازُناً في المحتوى الرّوحيِّ-الكيميائيْ. آنذاكَ فقط نكونُ أحراراً في أن نُبْقِي فينا، أبداً، حالاتِ الكائنِ المُتحرّرِ الحيِّ في الأبعادِ العلويّةِ، في سماواتِ الحياةِ الآخرةْ.
لقد اقتُرِحَ لي أنَّ "البرزَخَ" المذكورَ في مُعتقدِ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ الرومانيّةِ يُستطاعُ أن يُرى ليس فقط على أنّهُ الفترةُ القريبةُ ممّا بعدِ موتِ الجّسدِ، بل أيضاً على أنّهُ ربّما يكونُ عانياً الحياةَ القادمةَ التّي "ستُنَادَى" الرّوحُ إلى عيشِها على كوكبِ الأرضْ. في الواقعِ إنّ الكثيرينَ منّا يحيُونَ، الآنَ، برزخَهُمْ. فنحنُ، وفقاً للشجاعةِ والحكمةِ اللّتين نستجلِبُهُما إلى أُفقِ تمعّننا الأسيانِ ومشاكلِ حيواتِنا، ندفعُ، الآنَ وبالفِعلِ، ديُوننا الكارمِيّةْ.
من الُممكنِ لهذا أن يُرى، بجلاءٍ شديدٍ، في ثنايا دراساتنا الحاليّةِ لحيواتٍ بعينها. ومن الشّواهدِ عليهِ هو تلكَ الحالة التي سبقَ وأن اقتبسناها وأوردنا فيها حكاية صبيٍّ صغيرٍ وُلِدَ بذراعٍ ويدٍ مُشوّهتينَ بعِلَّةِ الإغتيالِ الذي قد ارتكبهُ في وقتٍ مُشارفٍ لنهايةِ حياتِهِ السّالفةِ وبدءِ وجودهِ الحاضرْ. بل وذهبَتْ- كما رأينا- حكايةُ ذلك الطّفلِ اليافعِ بعيداً كي تُنبؤُنا بأنّهُ كان يبدو منطوياً على معرفةٍ قَبْلِيَّةٍ بأنّ تشوّهَهُ إنّما واتاهُ كمعلُولٍ عن عِلّةِ خُبْثِهِ في حياتِهِ الماضيَةِ، فهو أشارَ إلى ذلكَ على الدّوام، رُغم كونِهِ ما زال- وقتذاكَ- حديثاً جدّاً في السِّنْ.
إن قُيِّضَ لنا أن نكونَ مُستنيرينَ جدّاً بحيثُ يغدو بُمستطاعِنا أن نفهَمَ أنَّ بلاءاتنا ومتاعبنا، أسقامنا وتشوّهاتنا في حيواتنا الحاضرة هي آثارٌ لأفعالنا الماضيةِ وأنّها، كذلكَ، فعاليّاتٌ للقانونِ الذي نُسِجَتْ حيواتُنا على منوالهِ لربّما تيسّرَ لنا أن نحيا على صُورٍ أكثرَ تفلسُفَاً. وقد نكونُ، حينذاكَ، مُتعاطفينَ ومثالبَ الآخرينَ وأقلَّ تسامُحاً وانفُسنا. وبدلاً عن الهرجِ ضدَّ "قَدَرٍ" ابتلانا بهذا الضّعفِ أو ذاكَ، بنقصٍ في الثّروةِ الماديّةِ أو بظروفٍ ليستْ باسمةً ينبغي علينا أن نعرفَ أنَّ هذه الحياةَ هي تعبيرٌ عن سلوكنا الخاصِّ في الماضي. بل، وأكثرَ من ذلكَ، هي فُرصةٌ ذهبيّةٌ لنا كي نُعيدَ الأمورَ إلى استقامتِها في دخيلاتِ أنفُسنا هنا- و- الآن.
تستطيعُ الحياةُ أن تغدو مُماثِلَةً للمشيِ عبرَ حقلِ ألغامْ. فأيُّ خطوةٍ زائفةٍ فيها سننالُ منها عواقباً وخيمةْ. إنّنا سنُجنِي ثمارَ ما قد كنّا غرسناهُ حتّى يُوافينا زمانٌ نُمكَّنُ فيهِ من عكسِ سيرورةِ تسميمِ أنفُسِنا بالفعلِ الخاطئِ والحُكمِ اللا معصُومْ.
إننا نتعلّم أنَّ الخطيئةَ هي الجّهلْ. فإن عرفَ الإنسانُ فحسب، بدونَ أيِّ ظلٍّ للشّكِّ، أنّهُ، بأفعالِهِ وفكرِهِ، سوفَ يجلبُ إلى نفسهِ شرّاً مثيلاً لخطاياهُ السّالفةِ في زمنٍ مستقبليٍّ ما فإنّهُ، بالتّأكيدِ، سوف لا يُخاطِرُ بإلقاءِ نفسِهِ في معمعةِ مُغامرةٍ كتلك.
إنّ الأمثلَةَ الحيّةَ التي سلفتْ والآتيةَ تُرينا كيفَ أنّ القوانينَ "الكارميّةَ" تُحقَّقُ، بعُمقٍ وحساسيّةٍ، ما بينَ حياةٍ إنسانيّةٍ وأخرى. هذا ما سترويهُ، كذلك، قصّةُ روحٍ كانتْ تُسمّى، في القرنِ الماضي، بودلير. فذلكم الشاعرُ االفرنسيُّ المُنمازُ كان، في القرنِ الحالي (القرن العشرين)، قسِّيساً رومانيّاً كاثوليكيّاً ولاجئاً إلى فرنسا من دولةٍ أوربيّةٍ أخرىْ. ثمّ، من بعدِ ذاكَ، غدا الإنسانُ إيّاهُ قسّيساً مسيحيّاً لرفاقه الأهليّين في إنجلترا. إنّه هو الذي، في حياته السابقةِ في باريس، قد طمرهُ عيشٌ بلا عنايةٍ في أعماقِ الفقرْ. ثمّ وجد نفسهُ في حاضرِ الزّمانِ (أي في القرنِ العشرين) مُلزماً بعهدٍ وثّقَ بهِ نفسهُ في نُذْرٍ لتكريسها لحياةِ فقرٍ وسطِ اللاجئين الذينَ اعتنى بهم عنايةً رؤومْ. إنّ تلكَ الرّوحَ قد نالتْ، في آنٍ حديثٍ، حريّتها في الآمادِ الماورائيّةْ. فصاحبُها قد دفعَ، بالتَّأكيدِ، "دَيْنَهُ".
2
سأقتبسُ، في ما سأمسّهُ من إحدى الحكايتين المعنيّتين، عن سيرةٍ ذاتيّةٍ كتبها إينشيْدْ استاركِيْ.
وُلِدَ شارلس بودلير، الرّومانيُّ الكاثوليكيُّ، في باريس في التاسع من شهر أبريل من عام 1821. ماتَ أبوهُ وهو لمّا يزلْ صبيّاً يافعاً فتزوّجتْ أمّهُ الجّنرال أوبِكْ. كانتْ لبودلير عاطفةٌ عظيمةٌ وراسخةٌ تجاه أمّهِ. أمّا زوجُ أمّه (أو أباهُ العُرفيُّ) فهو، رُغم كونِهِ، نوعاً ما، شديدَ الصّرامةِ والبأسِ، قد فعلَ ما في وُسعِهِ من اجلِ الصّبِيْ.
"كان شابّاً عصيّاً... ولقد اعتورَهُ ما يعتورُ أيُّ شابٍّ فنّيِّ الطّبعِ ومتمركزاً حولَ ذاتِهِ من أحوالٍ دنيويّةٍ عاديّةٍ فشعرَ، مثل غالب المراهقين، بأنّه ليس على تناغُمٍ ومُحيطاتهِ ومُساءَاً فهمَهُ من جميعِ أفرادِ النّاسْ. كتب مُعاصرٌ لهُ عنهُ وهو في عهدهِ المدرسيِّ:- "كان، في المدرسةِ، ولداً صغيراً ومُبهِجَاً، متوقّدَ الذّكاءِ ومتطلّعاً، ذا وجلٍ لطيفٍ وحياءْ. لكنّهُ، على أيّةِ حالٍ، فقد معظم سعادتَهُ وحيويّتَهُ الزّاخمةَ مع تقدّمهش في السّنْ. فلقد صار، وقتذاكَ، عُرضةً لتلكَ المزاجاتِ المفعمةِ بالكآبةِ، تلكَ "السّوداويّة" المرضيّة التي قُيّضَ لها أن تكونَ، لاحقاً، ملمحاً لافتاً من ملامحِ كتاباتِهِ. ثمّ غدا، شيئاً فشيئاً، واعياً بالعزلةِ الجّوهريّةِ لنزوعِهِ، فهو قد شعر بأنّه وحيدٌ حتّى في وسطِ أصحابِهِ واصدقائهِ". ثمةُ "قناعةٍ بمصيرٍ أزليِّ العُزلةِ" كانت تستوطنُهُ.
هنالك صديقٌ قابلهُ بعد ثلاث سنوات من هجره للمدرسةِ فوجدهُ "متغيّراً كثيراً، بل وحاسّاً بالمرارةِ حتّى..... كان، على كلّ حالٍ، ما يزالُ، آنذاكَ، كاثوليكيّاً غيُوراً. لكنّه، في الحقِّ، ما فقد مطلقاً اهتمامه بالدّين. ولقد تحدّث هو ذاتُهُ عن "جنوحهِ نحو الصّوفيّة منذُ الطّفُولة".
"على أيّ حالٍ، بدأ بودلير، سريعاً، يحيا حياةَ "الحيِّ اللاتينيِّ" ويُناثِرُ وقتهُ بعيداً في التّسكّعِ في المقاهي وشرب الخمر في الباراتِ السّفليّةِ الوضيعة... كان تدخين الأفيون والحشيش أحدث وأجرأ رذيلة لهم. ما عرف بودلير، في ذلك الأوان، أنه، بعد عشرين عاماً آتيةً، سوف يكونُ نادباً عدم قدرته على فِصالِ نفسِهِ من هذا الإدمان".
صار جليّاً لوالديهِ أنّ ابنهما غيرُ قادرٍ تماماً على حسن التصرّف في المال. فبطريقته الباذخة في الحياةِ، بردائهِ النّاعمِ الوثيرِ، بالصّحبةِ التي اتّخذها، وبالدّيونِ التي راكمها وما استطاعَ، إلاّ قليلاً، أن يُسدّدها سبّب بودلير لأمّهِ ولزوجِ أمّهِ مقداراً كبيراً من الجّزعْ. أخيراً قرّرا أن يُرحّلاهُ، في سفينةٍ، إلى ما وراءِ البحارِ لحينٍ من الزّمانِ عساهُ يلقى في ذلكَ مغامرةً ووقتاً يستوى فيهِ عُودُهُ (الفيزيائيُّ والشّعوريُّ) بعيداً عن الأصدقاء الباريسيين والحياة الباريسيّة. على كلّ حالٍ هو ما قطع منتصف الطريق إلى الهند حين قرر الكف عن مواصلة بقية الرحلة والعودة إلى بلاده. لكنّ ذلك السفر الرومانتيكيَّ حفّز رغبتهُ في أن يُصيرَ شاعراً فبدأ في كتابةِ بعضِ قصائدٍ متميّزةْ.
عندما بلغ الحادية والعشرين من عمره حاز على حقّ التصرّف في ميراثه الخاص عن أبيهِ. أنشأ منزلاً في "فندق لاوزَنْ" وزيّنَ حجراتهُ بمبالغةٍ مُفرطة. سرعان ما صار بيتُهُ ملتقى الحياةِ البوهيميّةِ للمدينةْ. قيلَ عنهُ، في ذلك الوقت، إنّه "كان أحد أعاظم المحاورين الرائعين في جيلهِ... كان يستطيع التحدّث، بشغفٍ متساوٍ، عن الشؤون الجّماليّة، السياسيّة أو الميتافيزيقيّة"... "المحاورةُ، تلك المتعةُ الوحيدةُ العظيمةُ، الوحيدةُ لأيِّ كائنٍ إنسانيٍّ رُوحيْ". هكذا كتب بودلير.
لقد سحر بودلير الرجال والنساء معاً:- "إنّه، خلال تلك السنوات وفي "فندق لاوزان"، إكتسبَ بودلير سمعته كرجلٍ غريبِ الأطوارِ، مُتصنّعاً ولا أخلاقيّاً". نسي كاتب سيرته الذاتيّة أنّه كان، حينذاكَ، على أيّةِ حالٍ، في الحاديةِ والعشرينَ من عمرهِ فحسبْ.
أخيراً شكّلتْ عائلتُهُ، في بُرهاتِ يأسٍ، نوعاً من المجلسِ العائليِّ وعهدت إليهِ بإدارةِ عقاره ومنحه علاوة موقوتةْ. غير أنّ ذلك لم يمنع الرّجلَ الفتيَّ من تجاوزِ الحدِّ، إلى مدىً منذرٍ، في سحبه الماليْ. في الحقّ كان الدّينُ، لبقيّة حياتِه، خليله الدّائم. "لهذه المرحلة تنتمي، أيضاً، قصائد التّمرّد والثّورة ضدّ الله، القصائد التي عبّرت عن إعجابها بالشَّيطان والرغبة في أن تسود الوجود قوى الظّلام بدلاً عن قوى النّور... مثّلتْ "الشّيطانيّةْ"، في منتصف القرن التاسع عشر، بصورةٍ أبعدَ غوراً من الإلحاد، التّمرّد ضدَّ الأفكار والقيم النموذجيّة المقبولةْ... إنّ التعبيرَ عن انفعالاتٍ لاأدريّةٍ وعن مقتِ المثلِ المسيحيّةِ، خاصّةً في مجتمعٍ كانت فيه الكاثوليكيّةُ رامزةً لكريمِ المُعتقدِ (أو مُحترمَهِ) قد اعتُبرَ، آنذاكَ، أكثرَ جرأةً مما هو يُحسبُ اليوم... من الممكن لنا أن نُصدّق بأنّ كلّ قصائد بودلير التّجديفيّة قد أُنشِأتْ في الفترةِ الأولى من مساره الأدبيِّ وقبل أن يبلغَ عمره الخامسةَ والعشرين.. ذلك في عصرٍ كان التّجديفُ فيهِ جُرأةً وطرافةً، كما وكانت كذلك مُعاظَلَةُ (معاندةُ) القوّةِ التي استشهد بها، سابقاً، كبارُ القومِ حتّى يُخمدُوا الإستقلالَ الشّبابيْ... منذُ مراهقته غدا الشاعرُ منكشفاً لنفاذ مزاجاتٍ كآبيّةٍ وتشاؤميّةٍ دوريّةْ. لقد اعتقدَ، في البدءِ، أنَّ حياة اللهو والطيش ستجلب له الرضا والبهجة. لكنه اكتشف، سريعاً، أنّ التّرخّصَ والإنغماسِ في المُلِذِّ ما وافياهُ بالسعادةِ التي أمِلَها. ثمّ أنّه، أيضاً، كان صافيَ الرؤيةِ وناقداً لذاتهِ بحيثُ تعيّن عليهِ ألاّ يُغفلَ عن تقديرِ القيمةِ الحقيقيّةِ للحياةِ التي كان عائشاً لها، حتّى ولو كان- كما هو في الواقع- قد اختارها لنفسه بنفسهِ". على كُلٍّ، "كانت السّنوات التي قضاها في "هوتيل دي لاوزن"، في مجملها، بالنسبة له سنواتِ لذَّةٍ وتحقيقِ ذاتٍ طبعتها الثقة في النفس والإستمتاع بالصّداقاتِ القريبةِ، التّمهّلِ والدّراسة. فهُنَّ- كما رآهُنَّ- كنَّ السّنوات الوحيدة السعيدة حقّاً من حياته الراشدة".
فقط بعد تعيين محامٍ أنقذَ "حُثالةَ" عقارِه حتّى تُدفعُ لهُ علاوةٌ شهريّةٌ عيّرَ بودلير أسلوبهُ الملبسيَّ:- "لقد ذهبتْ المعاطف البهيجةَ الألوان والصّديريّات، الأحزمة المُجوهرة واتّخذ بودلير، عِوضاً عنها، لنفسه زيّاً أسوداً بسيطاً، ثمّ حلق لحيته وقصّ ضفائره المتموّجة الطويلة. سُرعان ما اختفى، من بعد ذلك، عن مُحيّاهِ ذلك التعبير الخفيف الرّوح والخليّ وانطبعت على وجهه خطوطٌ قاسيةٌ ومريرةٌ هي التي يراها الناظرُ إلى صوره الفوتوغرافيّة الأخيرة... صار سلوكه واعياً بذاته وبعيداً عن العفويّة والطّبيعيّة فاعتوره، تبعاً لذلك، عدم الوثوق في نفسه والخوف من الفشل... وفي كتاباته غدا، في تلك الأيام، ناقداً فنيّاً (وأدبيّاً) قديراً، كما وشاعراً. ولقد طُبعتْ لهُ، وقتذاكَ، شتّى المواد الإبداعيّة في مختلف المجلات وواتتهُ، بين الفينة والأخرى، بدفعيّات ماليّة صغيرة. بيد أنّهُ، على كلّ حالٍ، غرقَ في حالةٍ من الكآبةِ واللا إكتراث طمرتهُ في حواشيها ودفعته، كما يبدو، إلى محاولة الإنتحار. ثم أخذتهُ أمّه، مرّةً أخرى، إلى البيتِ العائليِّ القديمِ حتّى تستطيعُ رعايتهُ وتُمكّنُ علاوتهُ الصغيرةَ من قضاءِ حاجاته بصورةٍ أوفى. كتب، آنذاكَ، رسالةً إلى صديقٍ قال فيها إنه قد شعرَ بالحاجةِ إلى "كثيرٍ من العُزلةِ كي يتعافَى ويستعيدَ قوّته الأخلاقيّة".
مضى حينٌ من الزمان وعاد بودلير، ثانيةً، إلى العيش وحده ونشر مقالاته النقدية الفنية والأدبية على نحوٍ حسن التواتر. في تلك المقالات نجد "الإيماءة الأولى لنظريته المتأخرة عن التطابقات في الفن والحياة... لقد ناقش فيها رأي هوفمان أنّ الألوان تُنشئُ اهتزازات معيّنة أو انطباعات مباشرة على العقل (الوعي) ليس لها أن تُفَرّق عن تلك التي يُبدعها الصوت. زعم هوفمان أنّ الرّسم، مثل الموسيقى، له هارمونيّةٌ خاصّةٌ (أو انسجامٌ خاصُّ)، وتلك هي هارمونيّةُ (أو توافُقِيّةُ) الصّوتِ والظّل... ثمّ هو، كذلك، وصف نغميّة اللون في الطبيعةْ".
وإذ مرّت السنوات غرق بودلير في حالةٍ من الفقرِ أودت به، من فرط قساوتها، إلى أن يُرافق فقط البوهيميّين والإشتراكيّين في باريس... الآن هو قد عرف مصاعب أولئك الذين يكافحون لانتشالِ أنفسهم من أكثر أوضاع الفقر تهلكةً. نشأ كلٌّ أصدقائه في الطبقات الإجتماعية الدنيا، ومن الحميميّةِ معهم بدأ بودلير في تصوّرِ مثالٍ آخرٍ غير ذلك الذي التمسهُ في اللّذّة الحسيّةْ- تلك التي كانت كلّ ما شغل أيّامه في عهد مجده الإجتماعيْ. كان في شبابه مزهوّاً ومتكبّراً، لكنّه استوى انساناً لطيفاً ورفيقاً ومشتملاً على فهمٍ عميقْ. فمنذ أن عرف، بنفسه، الحاجة فهم ما الذي تعنيه الأشياء الموصولة بها وعانى من الكآبة العميقة وشعور المهانة الذي يحسّه من هو ذو حاجة.
"إنّ بودلير، أكثرَ من أيِّ شاعرٍ فرنسيٍّ آخرٍ، تفهّم وتعاطفَ، بحسٍّ حيٍّ، مع الجماهير المدنيّة الفقيرة. لقد اعتاد على أن يطوفَ الشوارع ليلاً ويُراقب النّاس. وقد يتحدّثُ، حينها، معهم ويحاول أن ينفذ إلى أسرارهم....
بدتْ حياتُهُ الخاصّةُ عسيرة الإحتمال، كما وأنّ حيواتِ المعدمين من أقرانه لم تبدُو أقلَّ عسراً واحتمالاً منها. ما الذي جعل أولئك المُسغبين راغبينَ في الوجود؟ لقد عبّر بودلير، في شعره، عن جِماعِ حياةِ المدينةِ الحديثةِ، عن الرّزيلةِ، الشّقاءِ، الأحلامِ البَوارِ واليأسْ. فمعهُ الخطيئةُ والإفراطُ ليس لهما ألاّ يكونا، أبداً، بدونَ رفيقيهما الحتميّين:- القرف من الذّاتِ والنّدمْ. هو قد أحبَّ أن يهبَ أولئكَ المُعسرينَ شيئاً أفضلَ من الموتِ كي يتُوقُوا إليهِ. إنّه، في أسمى تجلّياتهِ، رجلٌ هزّهُ انشغالٌ رُوحيٌّ عميقْ".
في عام 2518 قرأ بودلير، للمرةِ الاولى، كتابات إدجار الان بو فأحسَّ إعجاباً مُتَحَمّسَ الشّعورِ تجاهَهُ.
وُلِدَتْ أمُّ بودلير في إنجلترا. وهو، نفسه، قد تحدّث الإنجليزيّة عندما كان طفلاً (لاحظ أساس علاقته مع ذلك البلد في حياته القادمة في هذه الدنيا). عليه فهو الآنَ قد انصرفَ، مرّةً أخرى، إلى العملِ على تعلّمِ اللغةِ الإنجليزيّةِ حتّى يكونُ قادراً على ترجمةِ كتاباتِ بو إلى الفرنسيّة.
كان عقل بودلير "منساقاً، بتنامٍ، نحو الفلسفة والتّصوّفْ. ولقد عجذل اهتمامهُ بإدجار ألان بو بنضجه في مرحلةٍ حرجةٍ من تطوّرهِ الشّخصيْ... إنعطف نحو الفكر الدّيني وتأمّلَ الأزليّةْ. بحثَ عن تفسيرِ سرِّ الحياةِ، خاصّةً ما اتّصلَ منهُ بالحياةِ الرّوحيّةِ الأخرويّةْ". الآنَ نرى تأثير سويدنبورق مُلوّناً لنظريّاتِهِ. لقد أمسى شاعراً روحيّاً وفلسفيّاً منشغلاً بالتّصوّفِ ومسألةِ الخطيئةْ. ثمّ استغرقَ في تأمّلِ العالمِ بعينين جديدتين فرأى انَّ الأشياءَ الماديّةَ تُوجدُ في هذا العالمِ فقط لأنَّ لها اصلاً في عالم الرّوح، وأنَّ الصّلةَ الخفيّةَ بين الأشياءِ هنا، في هذا العالمِ التّحتِيِّ، وبينها في العالمِ اللامرئي قد كانت- وما تزالُ- صلةُ "تماثُلاتْ". فنحنُ- كما استبصرَ بودلير- لا نستطيع رؤية الأشياء والأحياء في عالم الرّوح إلا على هيئةٍ غيرِ مباشرةٍ وخلل "تماثلاتها" الدّنيويّةِ، خللِ رموزها... "آمنَ السويدنبورقيين بأننا، إن استطعنا قراءة الرموز المنبثّة قبالتنا فسيكون بمستطاعنا أن نأتي إلى حالِ وصلٍ مباشرٍ مع الأُلُوهيّةِ فيصيرُ الكونُ، من بعدِ ذلكَ، فجأةً جَلِيَّ المعانيَ لنا ونتعرّفُ على الوحدةِ في تصميمهِ، ما دمنا قد حُظينا بعلاقةٍ حميمةٍ بالوعيِ (بالشّعورِ) الامرئي الكامن وراءه... ذلكَ، مُصاغاً في عباراتٍ وجيزةٍ، هو المُعتقد الرّوحي الذي ألهم بودلير في تلك الفترة فصار مقتنعاً بأنّ الخطوةَ الأولى نحو الوصل المباشر والعقل اللامرئي هي الصّبوةُ إلى الكمالِ الرُّوحيِّ والتّنميةِ الواعيةِ للرّوحانيّةِ في النّفسْ. إنّ إمكانَ قيامِ تلكَ الصّبوةِ الرّوحيّةِ في ذاتِ الإنسانِ المُفردِ هو البُرهانُ له على الرّوحِ الإلهيّةِ الفاعلة خلاله... يصيرُ الشاعرُ- إذاً- عبر النَّسَيانِ المُطلقِ للنّفسِ قناةً لـ"صوتِ الأزليِّ" فيستطيعُ، على مستوىً ما، أن يصِلَ فعلهُ الإبداعيَّ بفعلِ الخالقْ... عرف بودلير أنَّ المعاناةَ هي متعهّدةُ المهمّاتِ الصّواعبِ التي حرثتْ طبيعتَهُ حتّى تُغنيها وتُحوّلُ خواطره إلى الحقائق الرّوحيّة التي ربّما تظلُّ خارجَ مجالِ تجربتِهِ إن لم تَجْرْ شؤونُهُ على ذاك السبيل. فالمعاناةُ هي العملةُ الوحيدةُ التي يملكها الإنسان ويدفعُها معاوضةً للخطيئةِ والرَّزيلةْ. وهو- في كَبَدِهِ هذا- ينبغي أن يكونَ شاعراً بالعرفانِ لتهيئةِ وسائلها هاتيكَ لهُ حتّى يُصفّي حسابَهُ الدّنيوِيْ".
"وفي زمانٍ باكرٍ هو العام 6184 أُخذَتْ نفسُ بودلير بطموحٍ لإثراءِ الفنِّ بنظريّاتِ الكاتبِ الألمانيِّ هوفمان. لقد أعلن هوفمان، فيما بين طيّاتِ نظريّاتهِ تلكَ، أنّه آنما سمع الموسيقى قد صُعِقَ بوجودِ اتّصالٍ عميقٍ وخفيٍّ بين الألوانِ والأصواتِ والرّوائح العطريّةْ. كان مقتنعاً بأنَّ كلَّ تلك الأشياءِ قد "صدرَتْ" إلى الوجُودِ عن ذاتِ شُعاعِ الضِّياءِ الواحدِ، وأنّها- لذلك- منصهرةً معاً، في حيِّثٍ (أو أُقنومٍ) لانهائيٍّ ما، كي تصوغَ الإنسجامَ الكونيَّ الأكملْ... (هذه الأفكارُ (والخواطرُ) قد وُضعتْ- فيما بعد- في حيّزِ التّطبيقِ في باريس حين أُقيمَتْ ما دُعِيَتْ "الحفلاتُ العِطريّةْ"). اتّخذتْ هذه الرؤية الهوفمانيّة في نفس بودلير هيئةً ذاتَ طبيعةٍ كشفيّةٍ-رُوحيّةْ. ثم هو، في حينٍ آتٍ كتب فيه مؤلّفه الموسوم Exposition Universelle (أي كشفٌ كونيٌّ)، وسّع، أخيراً، مُعتقدَهُ هذا ومثّلَ نظريّتَهُ في قصيدةٍ سمّاها تماثُلات قُيّضَ لها أن تصيرَ، مُستقبلاً، مانيفستو الحركة الرّمزيّة في الأدبْ".
"لكنَّ قصائدَ بودلير الرّوحيّة ما تمَِّ تذوُّقُها. فهو قد اعتُبرَ، من قِبلِ معظمِ الشّعراءِ والجُّمهورِ العام في القرنِ التّاسع عشر، شاعراً شَهَوِيَّاً وشيطانيّاً مُنجذباً بالعناصرِ الفظائعيّةِ والموتِيَّةِ في كتابات بَو".
عندما حظرتْ السّلطات كتاب بودلير الشّعري الموسوم أزهار الشّر شعر الكثيرون من النّاسِ بأنّ قرارَ الحظرِ ذاكَ كانَ غيرَ مُنصفْ. (رُفِعَ الحظرُ إيّاهُ في هذا القرنِ العشرين). شعرَ بودلير بأنّه قد أطلقَ العنانَ، في قصائده، لقرفِهِ وفَزَعِهِ من رذائلِ وخطايا العالمِ التّحتِيِّ وأنّهُ، بفعلِهِ ذاكَ، ينبغي لعمله الشّعريِّ أن يُعدَّ ذا نفعٍ للمجتمعْ. بيدَ أنَّ المحكمةَ- على خلافٍ معهُ في ذلكَ- استمسكتْ برأيها القائلِ إنَّ أوصافَ الرّذيلةِ هي أميلُ إلى أن تُشجِّعَ على اقترافِها عبر وضعها، في ذهنِ قارئها، "ما قد لا يكون، في غيابها، وارداً عندهُ". على كلٍّ، ظلّ بودلير، دوماً، على دعواهِ بأنَّ "عَمَلَهُ هذا مؤسّسٌ على النّظريّةِ الكاثوليكيّةِ عن أنّ الإنسانَ خطّاءٌ ما تُرِكَ لنفسِهِ دونَ لُطفٍ إلهيٍّ وعن مساعي الإنسانِ اليائسةِ إلى أن يصلَ- بكفاحِهِ الفرديِّ وحدِهِ- إلى مقامٍ وجُوديٍّ أعلى. فهو (أي العملُ إيّاهُ) ينطوي- في اعتبارِ بودلير الخاصِّ- على تصويرٍ تمثيليٍّ للكفاحِ الإنسانيِّ المشدودِ بينَ طرفَي الصّبواتِ إلى الخيرِ والإنسياقِ إلى الرّذيلةْ".
غدت حالةُ بودلير بائسةً بفعلِ ذلك الحظرْ. فحالةُ عُسرِهِ الماليِّ المعهودةِ التفّتْ حولَهُ كالسّلاسلِ وشَلّتْ حياتَهُ. كان يكسبُ القليلَ جدّاً من المالِ لأنَّ العديدَ من الدَّوريّاتِ كانتْ خائفةً من أن تُخدّمَهُ منذُ قضيّتِهِ القانونيّةْ. ثمّ مضى في سبيلِ هذه الحياةِ خائفاً من أن يُعتقلَ بسببِ دينِهِ. ذلك، بالإشتراكِ مع كأبةٍ مستمرّةٍ وصحّةٍ عليلةٍ، شكّلَ نمطَ حياتِهِ حتّى نهايتِها. كانتْ أمّهُ مستميتةً من أجلِ مساعدتِهِ، لكنَّ ظروفها الخاصّةَ كانت قد ضاقتْ بعد موتِ زوجِها فلم يَبْقَ لها إلا القليلُ الذي تستطيعُ فعلَهُ. وعندما دنا أجلُهُ سافر بودلير إلى بروكسل لتقديم سلسلةٍ من المحاضراتِ عساهُ يستعيدُ، بذلكَ، ما ضاع منهُ من حظٍّ قديمْ. لكنّ تلكَ أيضاً انتهتْ بخسارةٍ ماليّةٍ فادحةْ. في عام 1947 سقط بودلير صريعاً للمرضِ الفاتِكِ فتدبّرَ طريقَهُ إلى بيتِ أمّهِ في هونفلير حيثُ مات بين ذراعيها. تقولُ الرّواياتُ عنهُ إنّهُ قد تُوفّيَ مبتسماً، وأنّ تلك الإبتسامةَ ارتسمتْ على وجهِهِ الخَرِبِ وعَلِقَتْ بهِ، مثلُ الشّعاعاتِ الأخيرةِ لشمسٍ غائبةٍ، حتّى بعدَ موتِهِ، الشّيءُ الذّي صيّرَ أمّهُ ليستْ قادرةً إطلاقاً على نَسَيَانِها.
ما حاز بودلير، تدريجيّاً، على شهرته الحاليّةِ إلا بعدَ وفاتِهِ. فلقد أساءَ جياُهُ فهمَ الأفكارِ التي عانى في سبيلِ صياغتها. تتلخّصُ الفكرةُ الأساسيّةُ لكلِّ عملِ بودلير الإبداعيِّ في تقصِّي وتصويرِ الصّراعِ بين الإنسانِ ومصيرِهِ، بين نُشْدَانَاتِهِ المِثاليّةِ، من جِهَةٍ، وحقيقتِهِ الوضيعةِ (أو القاعديّةِ) التي تتهدّدُ، دوماً، هاتيكَ بالتّعديمِ والنّفْيِ، من جهةٍ أخرى، ثمّ- أخيراً- بين نزُوعهِ الشّعوريِّ نحو اللهِ وأيضَاً نحو الشّيطانْ- ذلك التّملمُلُ بين الخسيسِ والمِثالِيْ. "كثيرٌ من أولئكَ الذين يجدُ فيهم بودلير، اليومَ، صدىً يرونَ في تشوّقِهِ الشّعوريِّ إلى "مجالٍ رُوحيّةٍ جديدةٍ" ذاتَ صبوتِهِم إلى شيءٍ يتجاوزُ ذواتَهُم الخاصّةَ وسعيَهُم، المثيرَ للرِّثاءِ، إلى الرّاحةِ الماديّةِ والسّعادةِ، إلى تجربةٍ يفنونَ فيها أنفُسَهُم:- عودةٌ إلى فلسفةٍ روحيّةٍ للحياةِ، إلى دينٍ صعبٍ يُلقِي على الإنسانِ بأعباءِ جُهْدٍ وتضحيةٍ، ثمَّ لا يُكْذِبْ وعدَهُ معهُ.
هل هُنالكَ، أبداً، صراعٌ كذاكَ بين جانبينَ مفترقينَ من كينونةِ الإنسانْ؟ سنرى كيفَ أنَّ ذلك الإنفِصامَ (أو الفِصَالَ) قد حُلَّ في "فُرصَةِ" بودلير الحياتيّةِ القادمةِ على كوكبِ الأرضْ.
3
تِلكَ الرّوحُ التي سوف نسمّيها، الآنَ، "ر" قد تُوُفِّيَ صاحبُها في زمانٍ قريبْ (نوفمبر 1973). لهذا السبب ليس هنالك سوى القليل الذي يُستطاعُ أن يُقالَ عنهُ لكن، بإذنٍ مُنِحنَاهُ، قد ندرُس، على نحوٍ سطحيٍّ نوعاً ما، حياةَ الرّجلِ كما جرتْ في قرننا العشرينِ هذا.
كان صاحبنا هذا قِسّيساً كاثوليكيّاً رومانيَّاً من أصلٍ أورُبّيْ. ولقد ذهبَ إلى إنجلترا في بدءِ الحربِ الهتلريّةِ، ثمّ وجد نفسهُ، بتوالي الزّمانِ، قسّاً مسيحيّاً، فيلسوفاً وصديقاً للاجئينَ من بنِي أمّتِهِ. كان مفكّراً أصيلاً ومهتمّاً، اهتماماً عميقاً، بالميتافيزيقيا. وهو قد حازَ على قدرةٍ صوفيّةٍ على تذوّقِ الصّلةِ- "التّماثُلات"- بين قوى النّور الطبيعيّة والإلهيّة، الألوان، الموسيقى، الأنغام واالهارمونيّات ورأى أنّها ينبغي لها أن تُصهَرَ في كُلٍّ واحدٍ هو التّعبيرُ التّمثيليُّ عن ما هو إلهيٌّ على الأرضْ. درس الرّجل ما يُدعى "الفكر الجّديد" وحاضرَ عن الإلكترونيّاتِ وآثارِها على عافيةِ الإنسانِ الفيزيائيّةِ والشّعوريّةِ وعن كونِ تلكَ مُتّصِلةً بوسائلِ تشخيصِ نفسانيّةٍ- إِستبصاريّةٍ وتيليباثِيّةٍ، إلى جانبِ تقنياتٍ منبثقةٍ عن دراساتِ طبيعةِ الإشعاعْ. ثمّ علّمنا الإنسانُ إيّاهُ، كذلكَ، أنَّ الصّلاةَ هي وسيلةٌ لتخفيفِ جُرْمِ (أو وزنِ) الجّسدِ، لعونِ الرّوحِ على الإنطلاقِ ساميةً على هذا الكوكبِ الأرضِيْ.
هنالك الضّوءُ وهنالكَ الظّلامُ في هذا الرّجل. وإنّه لمن الممكنِ أن تُرى تلكَ التّدرُّجاتُ النّوريَّةُ-الظلاميَّةُ منبثّةً على طلعتِهِ الديناميكيّةْ. ضمَّ ذلكَ الإنسانُ بين جنبيهِ رُوحاً مُنشرِحَةً وحيويّةً لكنّهُ، في ذاتِ الوقتِ، شابَهُ شيءٌ من حسِّ "سوداويَّةِ وابتذاليّةِ" حياتِهِ الماضيةْ. ولقد ارتسمتْ هاتان السمتان الشعوريّتان معاً على وجهه. كان، أيضاً، ذا طبيعةٍ مرحةٍ وفهمٍ رزينٍ لأولئكَ اللذينَ يأتونَ إليهِ مُلتمِسِيْنَ عونَهُ كقِسِّيْسٍ ورغبةٍ مُتلهِّفَةٍ لدفعِ "الفكرِ الجَّدِيْدِ" قُدُمَاً على درُوبِ انتشارِهِ في أرجاءِ الدّنيا. إنّه قد وهبَ نفسَهُ مُحاضراً عن زوايا التّأمّلِ الفلسفيِّ الحديثِ التّي هي على قرابةٍ مع الثّيوصوفيّةِ و"الحكمةِ القديمةْ".
ولربّما تهيّجَ "ر" في مناسبةٍ ما، بعنفٍ مزاجيٍّ مُفاجئْ. فلقد أدخلَهُ تلاميذهُ الدينيّون، في الماضي، في تجاربٍ مريرةْ... مع ذلك فإنّ رُوحَهُ التي وجدت التعامل مع المالِ، في عهدها السالفِ، امتحاناً كبيراً قطعتْ على نفسها عهداً بالفقرْ. ما كان لدى صاحبها مالاً يدعوهُ "مالَهُ". فليس هُنَالِكَ ممّا ملَكَهُ سوى علاوةٍ شحيحةٍ خُصّصتْ لهُ كقِسّيسٍ لاجئْ. وعهدُ العِفّةِ قد ألزمَهُ بهِ، كذلكَ، اختيارُهُ الحُرُّ أو، كما قد يقُولُ المرءُ، "الكارما" الخاصّةُ به.
في الحياةِ الحاليّةِ (أي القرنِ-عشرينيّةْ) لهذه الرّوح يستطيعُ المرءُ أن يتتبَّعَ ليس فقط فعاليّاتِ الكارما بل، كذلكَ، تطوُّرَ مَنَازِعٍ فيها كانتْ أوَّلِيَّةً في حياتِها السَّابقةِ وتحقيقَ الأوجُهِ الأعمقِ والألطفِ من طبيعتِها:- تعاطُفُها مع اللّقطاءِ على دروبِ الحياةِ، الفقراءِ، الوحيدينَ والمُهملِينَ- ذلكَ التّعاطُفُ الرّؤُومُ الّذي اسْتُدْعِيَ، في حياةِ صاحبِها في القرنِ العشرينَ، كي يَزْدَهِرَ، في أوساطِ اللاجئينَ من بنِي وطنِهِ، خدمةً وغوثَاً. فَتَحَتْ التأمّلاتِ الصّوفيّةِ لقسّيسنا هذا بابَ صلةٍ والتّفكيرِ الأعظمِ حُرّيّةً في هذا العصرْ. ثمّ هو قَدْ طوّرَ اهتمامَهُ بعلومِ السّحرِ عبرَ دراستِهِ لعلومِ الطّاقاتِ الإشعاعيّةِ، التّشخيصِ، المعالجةِ الرّوحيّةِ وما مَتَّ إلى ذلكَ بِصِلَةْ.
كانتْ حياةُ ذاكَ الإنسانِ، كقِسّيسٍ وخادمٍ للإنسانيّةِ، بَلْسَمَاً وقُرَّةَ عينٍ لرُوحِهِ (نفسِهِ) السِّرِّيَّةِ والتَّحْتِ-شعُوريَّةْ. وفي نَذْرِ نفسِهِ للعِفَّةِ والفقرِ أوفى الإنسانُ إيَّاهُ، كذلكَ، الدَّيْنَ المُستَحَقَّ على مثالبِ حياتِهِ الماضيةْ.
هُنا حالةٌ بشريّةٌ تَسَنَّى فيها للحياةِ اللاّحقَةِ لإنسانِهَا الفَرْدِ أن تَجِدَ سانِحَةً للإِنعِتَاقِ والتَّحَرُّرِ من أخطاءِ الماضِيْ.
4
مع تنامي إلفتي وهذه الفكرة عن صعود النّفسِ-الرّوحِ من درجةٍ إلى أخرى في ديمومةٍ شعوريّةٍ متّصِلَةٍ ابتدأتُ أفهمُ أنّ النّفسَ-الرّوحَ تنمو على ذاتِ الطريقةِ التي تنمو بها معرفةُ الطّفلِ حين يتدرّجُ، في مدرسةٍ ما، مُترقّياً من فصلٍ دراسيٍّ إلى آخرْ. فبينما هي صاعدةٌ في مسارها هذا هناكَ، أو ينبغي أن يكونَ هُنالكَ، تطوّرٌ مكينٌ، ولو أنّهُ كثيراً ما يبدو بطيئاً جدّاً، للرّوح، للنّفسِ العُليا.
تعلّمتُ، بُناءاً على ذاك الفهم، أنّ أنظُرَ إلى النّاسِ بعينٍ جديدةْ. فعنهُ قد صدر فهمنا أنّ أيَّ واحدٍ منّا مُترَقٍّ، على دربهِ الشّعوريِّ-الرّوحيِّ، من روضةِ الأطفالِ إلى الأشكالِ الإنسانيّةِ العُلىْ. ذلك حتّى يأتي حينٌ من الدّهرِ نتخرّجُ فيهِ- فرداً فرداً- نهائيّاً من "مدرسةِ" الدّنيا ونندغمُ في المجالي الكونيّةِ الأخرويّةِ الساميةِ والأبعدِ غوراً وكُنهَاً.
إن أردنا أن نتخيّلَ هذه السيرورة كما يجب أن تبدو لـ"القوى العليا" فإننا نستطيعُ أن نُخمّنَ، خبطَ عشواءٍ، كيف أنّ ذلكَ "الشّاهد-فوق-التّلال" ينظُر أسفلاً إلى "مَوَالِيْهِ"، أولئكَ الذينَ يُحبّهم ويُهديهُم ويتهنّى بهم على كوكبِ الأرضِ، وأنَّ ذاتَ "المُشاهِدَ" الولوع يرى، والعقودُ والقرونُ تترى، تغيّراً يحلُّ، تدريجيّاً، بهيئاتِ مُنْبَثَّاتِهِ من شحناتِ الطّاقةِ الرّوحيّةْ.
له ينبغي أن يبدو الأمرُ وكأنَّ الرّوحَ الجّنينيّةَ مثل بذرةٍ وضعها الجّنائِنِيُّ في التّربةِ فإذا بهِ، بِمُضِيِّ الزّمانِ، يُشاهدُ، برِضَىً، تفتُّقَها، نمُوَّها، ثمّ ازدهارَها رُوحاً خلالَ عهودٍ طويلةٍ من الزّمانْ. هو يستطيعُ تقييمَ ذاكَ الإرتقاء بمُعايَنَةِ نمُوِّ النّورِ في كلِّ رُوحٍ مُفردةٍ صائرةٍ، مع فيضِ الجّواهر الكونيّةِ عليها في كلّ حياةٍ، أكثرَ تعقيداً.
الرّوح-البذرةُ الإبتدائيّةُ تصيرُ، مع توالي الزّمان، مشحونةً بالذّبذباتِ الشّعشاعةِ لطاقاتِ الكونْ. إنّها تنمو، من باطنِ التّربةِ الغميقةِ، متصاعدةً نحو الشّمسِ ومُنسربةً في شِغافِ بهاءِ الزّهرةِ، في الكَرْمَةِ، في سوسنةِ الماءِ وزهرةِ اللّوتسْ... وفي العبارةِ الإنسانيّةِ نقولُ إنّ طفلَ الغابةِ والصّحراءِ البَدْئيِّ يُثْرِي ذاتَهُ بشحناتِ التّجربةِ ومن ثمّ، خلال بهجاتِهِ وأحزانِهِ، ينضجُ تدريجيّاً. درسٌ إثرَ درسٍ هو يتعلّمُ في مدرسةِ الحياةِ الخشنةِ فتغدو جواهرُ رُوحهِ أكثرَ اغتناءاً، توازُناً وصفاءاً مع مُضيِّ كُلِّ قرنْ.
أنا- إذاً- قد توصّلتُ إلى التحقّقِ من شيءٍ من جسامةِ المهمّة التي شئتُ الإضِّطلاع بها، فهي ليستْ دون محاولة التّعليق على تقدّم الرّوحِ التّصاعُدِيِّ عبرَ قرونٍ من دهرها الحياتيِّ على الأرضْ. لا شكَّ أنّهُ، في دراسةٍ دقيقةٍ كهذهِ، سنجنحُ إلى اقترافِ أخطاءٍ في التّفصيلْ. بيدَ أنّ الأُسُسَ تظلُّ أزليّةْ.
ولأنَّ كلَّ واحدٍ منَّا يُولدُ بنعمةِ شرارتي الحياة و الوعي الألوهيّتين فهو يُنشئُ نفسَهُ معتمداً على اللهِ، على انبثاثاتِ الحياةِ الألوهيّةْ.
نحنُ، في الواقع، نُراقبُ سيرورةَ التّعابيرِ المُتناميةِ عن العقل الألوهيِّ على الأرضْ. ففي هذا الركن الكروي الصغير من الفضاء الكوني هنالك تعبير جديد متنامٍ عن القوّة الألوهيّةْ. ذلكم هو "إنسان الأرض"، اللّوغوس الكوكبيُّ المُحْيَى بقوى المسيحِ الخلاّقة الذي يتّخذُ، ببطءٍ لكن برسوخٍ، هيئتَهُ المتكاملة. ذلك مثل حديقةٍ تُغرَسُ بشتّى أشكالِ الزّهورِ فتُصيرُ، تدريجيّاً، "شيئاً مُفرداً مُتعدّدَ الآفاقْ".
كلُّ حيوانٍ، كلُّ كائنٍ إنسانيٍّ هو روحٌ- خليةٌ في كينونةِ اللّوغوس، لذا فأيُّ سوءٍ يلحقُ بأحدِ هؤلاء هو سوءٌ أُلحقَ باللّوغوس، فنحنُ جزءٌ منهُ وهو فينا، بل "هو" ونحنُ كلّنا جزءٌ من الواحد المتعالْ.
أنا أرى- إذاً- أنَّ كلَّ شيءٍ حيٍّ له أهميّةٌ أعظمَ بكثيرٍ مما نتصوّر عند الوهلةِ الأولى. فأيُّ حيوانٍ، أيُّ إنسانٍ هو نجمةٌ صغيرةٌ في مجرّةٍ هائلةٍ من النّجومْ. وكلٌّ من هؤلاء هو فردٌ في تكوينِهِ صِيْغَ بجهودِهِ الخاصّةِ وخلَّقَ مستقبلهُ الذّاتيَّ مُساهماً، بذلكَ، في جماليّةِ الكُلِّ الكونِيْ.
إنّ تطوّرَ كلِّ الأشياءِ على الأرضِ، من الذّرّةِ إلى الإنسانِ، إلى القدّيسِ والحكيمِ هو السّيرورةُ الخلاّقةُ المبدعةُ لنجمٍ جديدٍ في السّماواتِ، لكوكبٍ يبدأُ في إشعاعِ مَعِيْنِ نُورِهِ الخاصِّ على المجالي الباطنة- ذلك النّور الذي استقاهُ من مَجمَعِ نُورِ الوعيِ الكونِيْ.
نحنُ نرى أننا لا نستطيع شيئاً إزاءَ ذلكَ سوى الشّعورِ بإحساسِ تقديرٍ لكوننا مُعتَنَىً بنا، لكوننا نُعانُ على سعينا في دربِ ارتقائنا بكلِّ وسيلةٍ ممكنةْ. عليهِ فعندما نتمعّنُ في حياةِ كائنٍ إنسانيٍّ ما، حينما نتأمّلُ في مسارِهِ ا لرّوحيِّ الإرتقائيِّ، نحنُ لا نفعلُ ذلكَ من بابِ الفضولِ المبتذلِ أو الإثارةِ الحسيّةِ الإنفعاليّةِ بل نحنُ، على سبيلنا ذاكَ، نكونُ مُقبلينَ، بتواضُعٍ، على دراسةِ وجهٍ من جوهِ الكينونةِ الألوهيّةْ.
لا عجبَ- إذاً- في أنَّ الأغاريقَ أوصُوا كلَّ إنسانٍ بمعرفةِ نفسِهِ! فحينذاكَ فقط سيتمُّ الإلتقاءُ بالحقيقةْ. وحينذاكَ، أيضاً، نكتشفُ، كما قال "المُعلّمُ" ذاتَ مرّةٍ، أنّ ما هو حقيقةٌ بالنّسبةِ لإنسانٍ ما في إحدى مراحلِ تطوّرهِ الشّخصيِّ هو ليس حقيقةً بالنّسبةِ لهُ في مرحلةٍ أخرىْ. فتوسّعُ الإدراكِ والشّعورِ يجلبُ معهُ أوجُهَاً جديدةً إلى باحةِ رؤيةِ الحقيقةِ الأصليّة.
في محاولتنا لفهمِ وتقييمِ كلّ تجربةٍ فرديّةٍ، في شكلها الأعظمَ تجلّياً في الخارج، نحنُ ننشدُ، كذلكَ، أن نرى، نحسُّ ونفهمُ تلكَ المستويات الكينونيّة الباطنة الثّاوية في الهيكلِ الفيزيائيْ. وفي مُجملِ فِعلنا هذا إنّما نحنُ مُكابدُونَ في سبيلِ أن ننفذَ إلى قلبِ الحياةِ ونتعلّمَ مسالكَ فعاليّاتِها.
حتّى في دراسةِ اللّوحاتِ الشّخصيّةِ (البورتريهات) هنالكَ شيءٌ كثيرٌ يمكنُ تعلّمُهُ عن الصّفاتِ المنبثقةِ عن النّفسِ الجُّوّانيّةْ.
كثيراً ما تكشفُ الرّوحُ عن نفسها، بجلاءٍ، في طلعتِها المعبّرةْ. وفي البورتريهات الجيّدة، الصّور الفوتوغرافيّة، بل وحتّى على شاشةِ التلفزيونِ قد نشهد، كما يبدو، على وجودِ وسائلٍ لإبرازِ تصاويرٍ معيّنةٍ لجوهرِ الرّوحِ الأثيريِّ "تُلهِمُ" بها الرّسّامَ أو المُصوّرَ المُبدعَ المُستوياتُ الباطنةُ للكينونةْ. ذلك لأن هنالك ثمةُ هالةٍ تُحيطُ بالجّالسِ، المرسومِ أو المُصوّرِ، مثل عطرِ زهرةٍ فائحةٍ بشميمِ سِمتها المُميَّزْ.
العينُ المُدرّبةُ تشرعُ- إذاً- في أن ترى وتُترجمُ ما ترى على نحوٍ أكثرَ عمقاً من المُراقِبِ الغِرْ.
كثيراً ما تُحدّقُ سيماءُ الرّوحِ إلينا خلَلِ الكانفاسِ، حتّى ولو أنّ هنالكَ فروقاً معيّنةً في الملامحِ المرسومةِ والتّلوينْ. فسيماءُ الرّوحِ وانبثاثاتُها الشّعوريّةُ الدقيقةُ هي، في العادةِ، متماثلةٌ وجليّةٌ بحيثُ أنَّ صفاتٍ فيزيائيّةٍ كطولِ الأنفِ الشّديدِ أو قصرها، اختلافِ الفمِ قليلاً في مَيَلانِهِ أو تعبيرهِ لا تُغيّر من ذلك التماثلِ والجّلاءِ شيئاً. وفي هذا المضمارِ نلحظُ أنّ هيئةَ "جلسةِ" الرّأسِ على الكتفين- بكلّ أوصافِها التّفصيليّةِ مثل الطّريقةِ التي يرتسمُ بها الذّقنُ على الوجهِ، كيفيّةِ انحدارِ الكتفين والنّظرةِ الموحيةِ بالمرحِ أو بالرّصانةِ، بالصّراحةِ أو بالحياءِ، بالتّصميمِ، بالتّكبّرِ أو بالتّواضُعِ، بالإزدواجيّةِ أو بحُسنِ السّريرةِ- هي ما ينمُّ، في أكثريّةِ الأحوالِ، عن سيماءِ (أو سِمتِ) النّفسِ السّابقةِ للإنسانِ المرسومِ أو المُصوّرْ.
هذه الأشياءُ تُعبّرُ عن دخيلةِ الرّوحْ. وهي سهلةُ التّعرّفِ عليها في بعضِ أفرادِ النّاسِ دونَ البعضِ الآخرْ.
تأسيساً على هذا لا ينبغي علينا أن نتوقّع، عند النّظرِ إلى مجموعةٍ ما من البورتريهات، رؤيةَ ملامحٍ متطابقةٍ، فتلك ستكونُ متماثلةً بما يُكفِيْ. أنا قد تعلّمتُ أن أبحثَ، في اللّوحةِ أو في الصّورةِ، عن "فيضِ" رُوحِ من رُسِمَ أو صُوِّرَ على جسدِ اللّوحةِ أو الصُّورَةْ. فذلكَ "الفيضُ" هو، في خاطِرِيْ، شيءٌ ليس لهُ أن ينِدَّ عن مقدرةِ الفشرشاةِ ا لمُبدعةِ، أو المُصوّرِ الفوتوغرافيِّ الذّكِيِّ، على "رَوْحَنَةِ" لوحتِهِ، أو صُورتِهِ، بهِ.
5
أحياناً نجد فرقاً مدهشاً في الأداءِ في نمط معاشِ رُوحٍ ما في حياتين متتاليتين. وعلى النقيضِ من ذلك نحن ربما نكونُ، أحياناً، مُجفَلِيْنَ بتشابُهِ أداءِ رُوحٍ ما في الفصلين (أو الوجودين) السّابق واللاّحق من مسرحيّةِ معاشِها المُتّصِلْ.
يبدو أنّ هنالكَ عدداً من الأسبابِ لذلكْ. أحدُها هو أنّه حيثما يحوز الإنسانُ على موهبةٍ مُنمازةٍ، في الموسيقى أو الكتابةِ مثلاً، فإنّ تلك الموهبةَ القديرةَ تكونُ، طبيعيّاً، مؤهّلةً لتجاوزِ الوسائلِ الآنيّةِ لتجلّيها. على كلٍّ، ليس ذلكَ هو، على الدّوامِ، ما يحدُثْ. أنا قد أُطلعْتُ على بحّارِ ذائعِ الصّيتِ صار ممثّلاً شهيراً في حياتِهِ اللاحقةْ. لا شكَّ في أنّهُ شعرَ بضرورةِ التّعبيرِ عن شخصيّتهِ المتعدّدةِ الجّوانبِ بطريقةٍ تمنحُ لها خشبةُ المسرحِ فُرصةً للتّجسّدِ واسعةً ومُنفتِحَةً على التَّنُوّعْ.
والرّجلُ الذي كان موسيقيّاً في عددٍ من شتّى حيواتِهِ يكونُ قد رسّخَ، في صميمِ تكوينِ طاقاتِهِ الشّعوريّةِ، القُدرةَ على أن يُفكّرَ موسيقيّاً. لذا فهو قد يُولدُ، مرّةً أخرى، طفلاً-مُعجزةً. وموتسارت، بالطّبعِ، هو مثالٌ أساسيٌّ على ذلكْ.
هنالكَ عاملٌ آخرٌ يدخُلُ في هذا الموضوع، ألا وهو مدى قوّةِ روحِ الإنسانِ المعنِيْ. فإن كانَ ذلك الإنسانُ قويّاً جدّاً في روحهِ، صافياً وسامياً فهو سيُمثّلُ واسطةً نموذجيّةً لاستخداماتِ "القوى الكينُونيّةِ القيُّوْمَةِ"، ومن ثمَّ سيُنتَقَى كصاحبِ رسالةٍ مخصُوصةٍ للإنسانيّةْ. فلرُبَّ مَكِيْنٍ ما في المجالِي الماورائيّةِ يبتهجُ- إذ هو أيضاً ذو فكرٍ موسيقِي- الرّوحِ الموسيقيّةِ ويستخدمها، تدريجيّاً، كواسطةٍ للأُلُوهِيِّ فينفعُ، بذلكَ، الإنسانيّةَ جمعاءْ. إنّ هاندل، باخ، بيتهوفن وآخرين عديدين من الموسيقيّين هم نماذجٌ ممتازةٌ لذلكْ. وموسيقاهم هي غذاءٌ شعوريٌّ ورُوحيٌّ للجّنسِ البشرِيْ.
إنّ الموسيقِيَّ أو الفنّانَ المُلهمَ لا يستقبلُ فقط وحياً خاطريّاً (فكريّاً) موسيقيّاً أو فنيّاً فحسبْ، وإنّما هو أيضاً لهُ من السّمُوِّ الرّوحيِّ ما يُمكّنُهُ من قبُولِ صورِ (رسُومِ) الفِكرِ المبثوثةِ إليهِ وفيهِ من "مُعلّمهِ الرّوحيِّ" في الآمادِ الماورائيّةْ. عليهِ فإنّ الأفكارَ التي تنثالُ بين أجوازِهِ الدّاخليّةِ هي تعبيراتٌ عن "صُورِ الفِكرِ" الرّفيعةِ لذلكَ "المُرشِدِ" في الأبعادِ العَلِيّةْ. خلال هذه اللّغةِ العالميّةِ يُقيَّضُ لقيم المجالي العلويّةِ الذّوبَانُ في الشّعورِ (العقلِ) الإنسانيِّ الحسّاسِ، ومن ثمَّ الطّلُوعُ، من هناكَ، إلى العالمِ الخارجيِّ في لُغةٍ عالميّةْ. بهذه الوسيلةِ تُهدِى العقولُ العَلِيَّةُ وتُصعِّدُ رُوحيّاً أجناسَ النَّاسِ على الأرضْ.
نحنُ قرأنا عن الصّلواتِ الحارّةِ والتأمّلاتِ التي يستغرقُ فيها كثيرٌ من الفنّانينِ والموسيقيّينِ قبلَ أن يُمسكُوا بالفرشاةِ، أو بالقلمْ. أولئكَ القومُ هم مُختارُو المُوحِيين الماورائيّينْ. إنّهم من يعينوا على الإرتقاءِ بالإنسانيَّةِ عبرَ تأمّلِ أعمالهم المُبدِعَةْ. إنّ موهوبينَ مثلَ فِرَا أنجيليكو، ويردزويرث وآخرينَ كثيرينَ ممّن كانُوا مجبُولينَ من إيمانٍ حارٍّ بالكينُونةِ الألوهيّةِ قد ذوّبُوا، في نسيجِ أعمالهم، أفكاراً مُمْسَكَاً بها من الأقانيمِ الأسمىْ. لذلكَ هم وسائلٌ إلى اللهِ، والدّنيا تكتسي بالسّناءِ بفِعْلِ كونِهِمْ قنواتِ وصلٍ لبرُوقِ الرُّوحِ القُدْسْ.
قال أفلاطون:- "إنْ رَغِبْتَ في أن تُغيّرَ حكومةً غيِّرْ الموسيقى التي يعرفُها النّاسْ".
ذلكَ ما يزالُ صحيحاً. فالموسيقى، أكثرَ من أيِّ فنٍّ آخرٍ، تُخاطِبُ المستوياتَ الباطنةَ من الإنسانِ وتنفَذُ إلى صميمِ المجالِ الذي يحيا فيهِ.
عندما سُئلَ هاندل عن كيفَ كان قادراً على مُعايشةٍ تامّةٍ كتِلكَ التي واءَمَتْهُ كُلّيَّاً والكلماتِ الإنجليزيّةَ لأوبراهُ المُسمّاه المَسِيْحْ أجاب قائلاً لسائلتِهِ:- "أيّتُها السّيّدة، أنا أشكُرَ اللهَ على ما انطويتُ عليهِ تديُّنٍ قليلْ".
6
أنا علمتُ، كما أوردتُ في السّابق، أنّ علاقات الحبِّ لا تنفصِمُ عُراها أبداً.
الحبُّ والكرهُ شعوران مغناطيسيّان وقوّتان ديناميّتان.
في معاودةِ الحيواتِ المختلفةِ الظّهورَ على الأرضِ رأيتُ أنَّ الحُبَّ، الحنانَ، العلاقات الودودة بين الأقرباء والأصدقاء قد تشتغلُ كقوّةٍ مِغناطيسيّةٍ دائمةِ الحضورِ في أوساطِ الأحياءِ في كلّ المجالي، كما وفي القوى المتلاحمة للذّرّةْ.
إنّ حبَّ إنسانينَ لبعضهما البعضِ يُطلِقُ سيرورةَ قانونٍ يُوثّقُ ويربطْ. فهؤلاء الإثنان سيجدان واحدهما الآخرَ، حياةً إثرَ حياةْ. ثم هما سيعيشانَ في كَنَفِ علاقاتٍ شخصيّةٍ مُتميّزةٍ بينهما. ذلكَ هو العاملُ الذي يُنشئُ في النّفسِ حسَّ إلفةٍ حينما يُلاقي الإنسانُ، لأوّلِ مرّةٍ، إنساناً آخراً مُعيّناً. ففي هذا الوجودِ ثمةُ شعورِ حميميّةٍ وحنانٍ بينَ أفرادٍ من النّاسِ (والكائناتِ الأُخَرِ) ليس لهُ أن يُعزَىْ إلى مجرّدِ المظهرِ الخارجيِّ للأشياءْ.
هاتيكَ صلاتٌ قديمةْ.
"ما أن يرى فردانٌ من النّاسِ، في بعضهما البعضِ، أشياءاً أكبرَ قليلاً، في قيمتِها، من اليوميِّ والعامِّ فإنَّهما يكونانَ قد التقيَا من قبلْ"، قال "المُعلّمُ"، "فالحبُّ يجذبُ ويُماسِكْ".
من الحِكمةِ هنا ان يتّخذ المرءُ جانبَ الحذر. فأحياناً يُفهمُ ذلكَ الإحساسُ بالإلفةِ، حيثُ الفردان المعنيّان منتميان لجنسين مختلفين، فهماً خاطئاً فيُأَوَّلُ على أنّهُ "حبٌّ من أوّلِ نظرةٍ" رُغمَ أنّهُ، في الحقِّ، قد يكونُ شيئاً مختلفاً عن ذلكْ. الشّاهدُ على ما نقولُ هو أنَّ حسَّ الإلفةِ الدّافئَةِ تلكَ قد يُعلّلُ بكونِ الإنسانَيْنَ إيّاهُما كانا، في حياةٍ ماضيةٍ عاشاها معاً، أخاً وأُختَاً، أباً وإبنةً، أو صديقين عزيزين. ذلكَ ما أظهرتنا عليهِ بعضٌ من الحالاتِ التي أوردها د. ستيفينسون.
حيثما يَصِلُ ذاكَ الدّفءُ بين العفويُّ بينَ فردينَ من النّاسِ ويُفهمُ، خطأً، على أنّهُ حُبُّ زوجٍ وزوجةٍ ومن ثمَّ يُشرَعُ في توثيقِهِ كعلاقةِ زواجٍ تكتنفُهُ، بعد حينٍ، أشياءٌ قد تؤدّي إلى صعابٍ عديدةْ. فمن كانا، ذاتَ عهدٍ سالفٍ، أخاً وأختاً لا يُشكّلانَ، بالضّرورةِ، زوجاً وزوجةً مِثاليّينَ، رُغمَ أنّهما، على مستوىً آخرٍ، قد يكونا على مودّةٍ ومحبّةٍ حقيقيّينْ. إنّ البحثَ عن الحُبِّ في كلِّ قلبٍ إنسانيٍّ هو البحثُ عن أليفِ الرّوحِ أو سميرِها. فـ"الرّوحان التّوأمُ" هما اكتمالُ الذّاتِ الشّاعرةْ. إنّ النّصفَ المُوجِبَ ينشُدُ النّصفَ السّالبَ من روحِهِ. والإثنانُ معاً جُزءٌ من الكُلِّ الكونِيْ. ورُغمَ أنّهُ، أحياناً، تمُرُّ حياةٌ كاملةٌ دونَ أن يلتقي المُوادِدَانِ، إلاّ أنّ ذلكَ، عادةً، ما يكونُ بغرضِ منحِ الذّاتِ الشّاعرةِ فُرصةَ العملِ من خلالِ أوجهٍ أخرى من طبيعتِها- أو علاقاتٍ أخرى تستلزِمُ إيفاءَ دينٍ مُستحقٍّ ما.
غريبٌ القولُ إنّ أولئكَ اللذينَ كانتْ بينهم عداوةٌ سيمارسونَ، أيضاً، تأثيراً إنجذابيّاً، حياةً إثرَ حياةْ. يبدو أنّ حسَّ المُضادَّةِ ذلك ينبغي لهُ أن يُعَانَىْ حتّى مُجِيءِ عهدٍ تُذَوَّبُ فيهِ العداوةُ إيّاها وتُحوَّلُ إلى تناغُمٍ رؤومْ.
من الحِكمةِ، إذاً، أن نكونَ انتقائيّينَ في أمرِ من نستجمعهُم في مجالِ حقلِنا المغناطيسيِّ ما دامُوا سوفَ يبقُونَ معنا في حياتِنا الحاضرةِ، أو في حَيَواتٍ قادمةٍ كذلكَ، حتّى يحلُّ، بيننا وبينهم، انسجامٌ وتوافُقْ.
7
أخيراً نقولُ إنّ نفراً معيّناً من الأفرادِ الذينَ ندرسهم كانوا شخصيّاتٍ ملكيّةٍ في حيواتٍ عديدةْ.
"ذلكَ الذي اعتادَ على المَلَكيّةِ يسهُلُ عليهِ، أكثرَ من أيِّ شخصٍ سواه، أن يدّعِي حقّهُ في العرشْ". هكذا قال "المُعلّم".
إنّ مَن أخذَ بأعنّةِ الأمورِ على يديهِ في الماضي سوفَ يجدُ في ادّعاءِ السّلطةِ في حياةٍ لاحقةٍ تعبيراً طبيعيّاً عن نفسهِ الباطنة. إنّهُ مُتطبِّعٌ على تولّي المنصبِ المهيب، كما وهو مُعتادٌ على المسؤوليّةِ وعلى حسٍّ عتيدٍ بالسّلطانْ.
في الحياةِ الحيوانيّةِ يُعدُّ ذلكَ جزءٌ من النّاموسِ الطّبيعيِّ للحياةْ. فالأسودُ، رُغم كبريائها، لها قائدْ. كذلكَ قطيعُ الأفيالِ وقبيلةُ القرودِ، كُلٌّ منهما لهُ صاحبُ عرشْ. فثمةُ تسليمٍ ضمنِيٍّ بينهم بسلطةِ القائدِ القَبَلِيِّ، "رجُلِ" الدّولةِ الكبيرِ السّنِّ، المَلِكْ. فأيٌّ من أولئكَ قد برهنَ على جدارتهِ بقُوّتهِ، بشجاعتِهِ، بسُلطانِهِ وبإحساسِ قدرةٍ يشعُّ منهُ، الشّيءُ الذي جعلَ كلَّ حيوانٍ ينحني تقديراً لقوّةِ رُوحِهِ المتفوّقَةْ.
ذلكَ النّمطُ من السّلوكِ يضمنُ النّظامَ في القبيلةْ. إنّهُ وسيلةُ الطَّبيعةِ لإحداثِ سلوكٍ مُتوازنٍ وسطَ فتياتِ القبيلةْ. فإن أساءَ، مثلاً، دُبٌّ شبلٌ السّلُوكَ يلقى صفعةً جَزَاءٍ تُعيدُهُ، على عقبيهِ، إلى سواءِ السّبيلْ.
إنّ صيغةَ النّظامِ ينبغي أن تُصانْ. والإقرارُ بالنّظامِ الإجتماعيِّ، فيما بين الحيواناتِ، يُظهرُ نفسهُ على هيئةِ توقيرٍ لكبارِ القطيعِ، السّربِ، القبيلةِ أو العِرقْ (الجّنسْ). ذلكَ لأنّهُ إذا انهارَ النّظامُ الإجتماعيُّ ينهارُ معهُ، كذلك، المجتمع.
إنّ خبرةَ الرّوحِ وقُوّتَها هما الخصيصتان اللتان تستجلبان القيادةَ فيما بينَ الحيوانات، وجمعُهُم يقرُّ بذلكْ.
وإن انتقلنا إلى أوساطِ الكائناتِ البشريّةِ نجدَ أنّهُ، منذُ العهودِ البدائيّةِ، انطبقتْ ذاتُ القوانينِ (أو القواعدِ) السّالفةْ. إنّ النَّاسَ فرديّون، مُحبّونَ للسّلطانِ، ذوي كِبَرٍ وطموحٍ وكلٌّ منهم يودُّ القيادةَ ويرغبُ في نيلِ الحُظوةِ والإحتفاءْ. لكنّه، مادام ليس في إمكانِ الجّميعِ أن يكونُوا شيوخَ قبائلٍ، تمّت الغَلَبَةُ، فيما بينَ أوساطِ النّاسِ في الأزمانِ الباكرةِ، لقانونِ الغابةِ فأسّس من صاروا شيوخاً لقبائلهم مكاناتهم الإجتماعيّةَ (والسّياسيّةَ) انطلاقاً من صلابةِ مِعدنِهم، بأسِهم الشّخصيِّ وتجربتهم الحياتيّة.
أولئكَ الذين مارسوا اللّعبةَ لفترةٍ أطولٍ تعلّموا قواعدها. ذلكَ لأنّهُ من الطّبيعيِّ أن يُظهِرَ بعضُ الأفرادِ، عبرَ القرونِ، حساسيَّتَهُم وبراعتَهم المتفوّقتَين، على أقرانهم، في التّعامُلِ مع مشاكلِ الحياةْ. فهم قد مضوا، خلال عهودٍ حضاريّةٍ ماضيةٍ وعديدةٍ، على هذا السّبيلِ مكافحينَ ومُتعلّمينْ. إنّهم طلاّبُ الصّفِّ المتقدّمِ والعتيدِ من مدرسةِ الدّنيا أو خرّيجُوها اللذين عمّقُوا فِطنتَهُم بمعاناةِ النّضجِ في الحُكمِ، تدريجيّاً، جُزءاً من تكوينهم.
عليهِ نحنُ نرى، في النّظامِ الطبيعيِّ للأشياء، أنَّ في كلّ مجتمعٍ بشريٍّ هنالكَ درجاتٌ من النّضجِ عديدةٌ ومُتراوحةٌ ما بينَ البدائيّةِ والرُّقِيِّ العظيمْ... التّجربةُ تُكسبُ الإنسانَ الفردَ حِكمةً.
كم من المرّاتِ تأمّلنا كلّنا في الفُقدانِ الظّاهريِّ لمعرفةٍ اكتُسِبَتْ من خلالِ التّجربةِ وفي كيفَ أنّنا، في ذاتِ الوقتِ الذي نبدو فيهِ واصلينَ عهداً تغدو فيهِ أحكامُنا أكثرَ سَدادةً- عهدَ ميلادٍ جديدٍ، نتحقّقُ من أنّ ما نكتسبَهُ في كلّ حياةٍ ينضافُ إلى مستودعِ معرفتِنا المركوزِ في الرّوحْ. إنَّ الحكمةَ مُتراكمَةٌ حياةً إثرَ حياةْ. مع ذلكَ، كما علمتُ باكراً، ليس من الضّروريِّ لرجُلِ الدّولةِ الكهلِ، من هو قديرٌ على شؤونِ العيشِ، أن يكونَ، دوماً، عُرْضَةً لمخاطرِ موقعِ الشّهرةْ.
على كلٍّ، هنالكَ أرواحٌ ذاتُ "وحداتِ دفعٍ" كهربائيّةٍ معتبرةٍ آبتْ، مرّاتٍ عديدةٍ، إلى مواقعِ سُلطةٍ على ظهرِ هذي البسيطةْ. أحياناً هم يكونونَ قد وُلِدُوا في فرعِ نَسَبٍ مُلُوكِيْ. وفي أحيانٍ أخرى يكونوا قد بلغُوا تلكَ القِمَّةَ (الإجتماعيّةَ والسّياسيّةَ) بوسيلةِ خواصّهم القياديّةْ. إنّ أولئكَ النّاسَ هم من بين من حملُوا شُعلة الحضارةِ الإنسانيّةِ قُدُمَاً. ففي مصرَ، في الهندِ وفي فِلسطينَ، في اليونان، في روما وفي أورُبّا هم قد انطووا، في دواخِلِ ذواتِهم العُليا، على الدّروسِ المستفادةِ في أزمانٍ سالفةْ. إنّ الحياةَ المتحضّرَةََ مُنطَبِعَةٌ على ذواتِهم الشّاعرةْ. فهم قد أتُوا إلى مقاعدِ الحُكمِ ومعهم الفِطنةُ التي قد صارتْ جُزءَاً من تكوينِهم الأزلِيْ.
وصف فيلسوف عهد النّهضة القانونَ الخاصَّ بهذا الأمرِ حينما قالَ عن بيكو دَيل ميراندولا إنّهُ "قد فُطِرَ على الحِكمةِ منذُ ميلادِهِ ولم يكتَسِبْهُمَا، في الغالبِ، بالتَّعَلُّمْ".
الفصل العاشر
السيّدة إثَيْل اسمث
1
إن "المُعلّمَ" لا يُقارن في مقدرتهِ على توصيفِ المادّةِ الرّوحيّةِ التي جُبِلَ منها فردٌ ما. وأنا دائماً أُذهلُ من كيفيّةِ قيامِهِ بذاك الفعل. "أنا أنسرِبُ ما بينَ نُسجِهِمْ"، قال بلُغزيَّةٍ.
إنّ امتيازَ الإشتراكِ معهُ في بعضِ بحوثه الآتيةِ جعلني، وجهاً لوجهِ، في حضرةِ امرأتين آسرتين للإهتمام. كلتاهُما متمرّدتان ذائعتا الصّيتِ في الأوساطِ الأنيسةِ المهذّبةْ. ثمّ هما شخصيّتان حيّتا الشّعورِ، ذكيّتان ذكاءاً ساطعاً ومُفعمتَا بعقلين حيويّين ولا مُحافظينْ. ولقد عملتْ هاتان المرأتان، بمعنىً ما، من أجلِ الحريّةِ، عامّةٍ، ومن أجلِ حريّةِ جنسهما الأنثويِّ، خاصّةْ.
"إنّ السيّدة دي استيل كانت، بالتأكيدِ ورُغمَ كلّ مسالكها الجّامحة، منافحةً من أجل الحريّةْ. كما وأنّ عقلها لم يكنْ مسكوناً بعقمِ المُحافظةِ المُفرطةْ.
بعد قرنٍ من الزّمانِ أتت (تلك الرّوحُ الواحدةُ ذاتُ الإسمين المختلفين) إلى ساحةِ الدّنيا تحت اسم "إثيل اسمث"، المؤلفة الموسيقيّة المُحتفى بها، الكاتبة، المكافحة الصّلدة عن حقوقِ النّساءِ الإنتخابيّةِ والفردانيّةِ العظيمةْ.
كانت تلكما الشخصيّتان غريبتي الأطوارِ على نحوٍ لافتٍ فنفحتَا، بما هما عليهِ، مسرح الشؤونِ الإنسانيّةِ بنسيمٍ طريٍّ جديدْ.
اتّسمتْ هاتان الإمرأتان معاً بالنّزوعِ إلى "العيشِ الخطرِ"، فما كان الحذرُ داخلاً في تكوينِ ذاتيّتيهُما. فاثنتاهما عاشتا بحماسةٍ عاطفيّةٍ، بحرارةٍ وحميةٍ وتوقْ. ثمّ أنّ كلتيهما أحبّتا حبّاً عظيماً وعانتا كثيراً. كما وكانتا، كذلك، فائقتَي الذكاءِ وعاطفيّتينَ، في ذاتِ الوقتْ. ولقد نشدتا معاً استخدامَ ذهنيهما المرهفين وحريِّتِهِما العقليةِ في سبيلِ فتحِ المصاريعِ على الدّنيا.
مالتْ الإمرأتانُ معاً إلى أن تكونا ثوريّتين في الرّوحْ. لكن السيّدة دي استيل، التي شهدتْ عهد الثورة الفرنسيّة، "أُفزعتْ باكتشافِ مدى الوحشيّةِ الذي قد يبلغُهُ جُمهُورُ النّاسِ حينما يُطلقُ فيهُم عنانُ الرّوحِ المتمرّدةْ".
أثناءَ انهماكي في قراءةِ سيرَةِ السيّدةِ استيل الذّاتيّةِ وجدتُها شخصيّةً دون كيشوتيّةً ذاتَ خصائصٍ عقليّةٍ وقلبيّةٍ (شعوريّةٍ) قويّةٍ، شجاعةً واقتحاميّةً في كثيرٍ من الاحوالِ، ومع ذلكَ لها وزنٌ في العالمِ السِّياسيِّ هو من الكِبَرِ بحيثُ أنّ نابوليون حظّرَ عليها، ابتداءاً، المثُولَ عندَ حضرتِهِ، ثمّ وسّعَ، أخيراً، نطاقَ ذاكَ الحظرِ ليشمل كلَّ مدينةِ باريس.
"كانتْ امرأةً كريمةً تندهشُ، يوميّاً، من حسدِ العقولِ الصّغيرةِ لها. ولقد اندفعتْ، كالعاصفةِ، إلى أبهاءِ حجراتِ استقبالٍ ما جَرُأَ الوَجِلُونَ، أبداً، على دخولها. كما وأنَّ هنالكَ من كانوا يفزعونَ من الإيماءاتِ التي تتضمّنُ إقراراً بأنّها المرأة الاولى في أورُبّا".
وُلدتْ السيّدة دي استيل في أبريل من العام 1716 في منزل أبيها الرّيفيّ المسمّى "كوبيتْ" والكائن بقربِ بحيرة جنيف. كان والداها حفيدَيْ أسلافٍ فرنسيّين، سويسريّين وألمان. وأمّها، التي كانتْ على مودّةٍ مع جيبون، قِيل عنها إنّها "امرأةٌ "كفؤةٌ في العلومِ واللّغاتِ وذاتُ فِطنةٍ وجمالٍ ومعرفةٍ غزيرةٍ كانوا موضِعَ إطراءٍ عالمِيْ"..." أمّا أباها فهو كان موظّفاً في أحدِ البِنُوكْ.
شكتْ أمّها منها مرّةً قائلةً إنّ جرمين [وهذا هو اسمها الأوّلُ والأصليُّ- المترجم] كانتْ "لا شيء، لا شيءَ مطلقاً بالمقارنةِ بما أردتُ أن أجعَلَهَا". ذلك كان صحيحاً... وبما أنّها كانتْ نَزِقَةً بذاتِ القدرِ الذي كانتْ به أمُّها حصيفةً فإنّها، بما هي عليهِ، شكّلتْ تهديداً دائماً للصّورةِ المستقبليّةِ الرّفيعةِ التي رسمتها لها أمّها بعناءٍ لانهائيْ.
ما كانتْ السيّدةُ دي استيل طفلةً جميلةً، كما وكذلكَ لم تكنْ امرأةً جميلةْ. ومعظم مُحبّيها سلّمُوا بأنَّ قوامَها كان مُفتقِرَاً إلى الحُسنِ وأنّها كانتْ واقعيّةً أكثرَ من كونِها رقيقةْ... كانتْ ذاتَ عينين جميلتين كعينَي أمّها، لكن باراس قال عنها، في مُذكّراتِهِ، إنّه قد وجدها "رجُوليّةً بصورةٍ لا تُطاقْ". أمّا آخرونَ سواهُ فقد قالوا عن ملامحها إنّها "حازمةٌ أكثرَ من كونها دقيقةْ". لكنّنا هنا بصددِ امرأةٍ استطاعتْ أن تعلُو على قدرِ بناتِ جنسِها.
عندما بدأ والداها التّخطيطَ لزواجِها واجها صعوباتٍ جمّةْ. فهي قد كانتْ عديدةَ المُتطلّباتِ وغيرَ سهلةِ الإرضاءْ. "أنا ما أُحْبُبْتُ، أبداً، بعاطفةٍ مُقاربةٍ لعاطفتِي الخاصّةْ"، لاحظَتْ هي ذاتَ مرّةْ.
أخيراً تزوّجتْ دي استيل سويديّاً اختارها قرينةً لهُ بسببِ ثروتِها، في الأساسْ. كان سفيراً لبلادهِ لدى البلاطِ الفرِنسيْ. ولقد أضجرَها ذلك الرّجلُ لحدِّ الموتْ.
في المجالِ الثّقافيِّ الباريسيِّ شعرتْ السيّدةُ دي استيل بأنّها في بيتِها وبينَ أهلِها. ثمّ قالتْ، في زمانٍ لاحقٍ، كلاماً مُوجّهاً إلى آلِ ذاكَ المجالِ يُفيدُ بخوفِها من أن يؤدّي الصّراعُ العنيفُ من أجلِ الحريّةِ إلى غايةٍ نقيضةٍ وهي قيامُ سلطةٍ ديكتاتوريّةْ. ولقد عبّر ما قالتْهُ عن حرصها على مصيرِ الثّورةِ الفِرنسيّةْ.
عُيِّنَ أبوها، موظّفُ البنْكِ والعبقريُّ الماليُّ، وزيرأً للماليّةِ في "كوميون" باريس إثرَ اقتحامِ سجنِ الباستيلْ.
"ما تخلّتْ مدام دي استيل، أبداً، عن رجائها في أن تُقادَ الثّورةُ بواسطةِ أناسٍ معقُولينْ..."...
خبّاتْ جيرمين، مستفيدةً من وضعِها كزوجةٍ للسّفيرِ السّويديِّ، كثيرينَ من المهاجرينَ في بيتِها وساعدتهُم على الهروبِ إلى إنجلترا. اعتقلتها سُلطاتُ الكوميون، ثمّ ما كان لها أن تهرُبَ من معتقلِها لولا عونُ أحدِ المتعاطفينَ معها من أصحابِ النّفوذْ. حُبِسَتْ مدام دي استيل ستَّ ساعاتٍ انتظرتْ فيها حكمَ الكوميون عليها وهي، كما كتبتْ، "ميِّتَةً من الجّوعِ والعطشِ والخوفِ ومُشاهِدَةً، من خلالِ نافذةِ المُعتقَلِ المُطِلّةِ على البِليس دي قريفي، الدَّهْمَاءَ مُنشَغِلَةً بنهبِ مركِبَتِها..."
هربتْ، من هُناكَ،إلى إنجلترا عبر سويسرا.
فقط قبلَ وقتٍ وجيزٍ من إعدامِ لويس السّادس عشر بالمِقصلةِ وصلتْ إلى "قاعةِ جوبيتر" في منطقة سَرِيْ حيثُ تجمّعَ عددٌ من أصدقائها المهاجرينْ. هنا التقتْ فانِي بيرني التي كتبتْ عنها:- "إنّها امرأةٌ لها قُدراتٌ هي، على ما أعتقد، الأجودَ بينَ كلِّ ماشَهِدْتْ. إنّ أسلوبَها السّلوكيَّ أشبَهَ بأسلوبِ السيّدةِ ثِرَيْلْ أكثرَ منهُ بأيِّ شخصيّةٍ أخرى ذائعةِ الصّيتِ، لكنّها متفوّقةٌ على تلكَ بعمقٍ فكريٍّ ينأى بها، على نحوٍ لانهائيٍّ، عن أن تُقارَنَ بها، بل وهي، فوقَ ذلكَ، تبدُو أبعدَ غورَاً في فهمِها للسّياسةِ والميتافيزيقيا من السيّدةِ الأخيرةْ".
وصفتْ مدام دي استيل، في بعضِ كتاباتِها وأحاديثِها، كيفَ أنّ صداقةً مُفعمةً بالعاطفةِ قد نَشأتْ بينها وفاني بيرني فقالتْ، مُسطِّرَةً خواطِرَها بالقلمْ:- "إنّني قد شعرتُ نحو فاني بإحساسِ صداقةٍ هو من اللّطفِ بحيثُ أنّهُ غدا مُذوِّبَاً لمشاعري المُعجَبَةِ، مُلهماً لقلبي برجاءٍ في الإستمتاعِ المتلذّذِ بصحبتِها وخاتماً له بفكرةٍ مؤثّرةٍ عن كيف أنّني، في لسانٍ أجهلُهُ كثيراً، استطعتُ التّعبيرَ عن أحاسيسٍ عميقةِ الغورِ كهذه".
إقشعَرَّ بدنُ د. بيرني والد فاني والموسيقيُّ ذائعُ الصّيتِ، من ثِقَلِ التّفكيرِ في أنَّ "فَانِيْهُ الحبيبةَ "دارجةٌ، شيئاً فشيئاً، على الصّحبةِ الحميمةِ واللّقاءاتِ المتتاليةِ مع تلكَ الشّخصيّةِ المُدمّرةِ المدعُوّةِ "مدام دي استيل" التي شُهِرَتْ بدورٍ ديمقراطيٍّ خبيثٍ وجَرَتْ، في انسياقٍ فاجرٍ، وراءَ من سُمِّيَ "السيّد دي ناربون". مضى الأبُ في حديثِهِ هذا فأشارَ إلى قدراتِ مدام دي استيل الثقافيّة والأدبيّة العالية التي يشهدُ عليها- من بينَ أشياءٍ أخُرْ- مؤلّفُها الرّائع المُسمّى اعتذارٌ لروسو الذي سبقَ وأن اطَّلَعَ عليهِ. بيدَ أنَّ الوالدَ، الخائفَ على إبنتِهِ من تأثيرِ المدامِ إيّاهان ختم إشادتَهُ الاخيرةَ بها قائلاً إنّها، كايِّ إنسانٍ آخرٍ، "ما سُمِحَ لها بحوزةِ الكمالِ، لذا فهي ما خلتْ من مثالبٍ بشريّةٍ بائنةٍ تُؤخذُ عليها".
كانتْ لجيرمينَ صلاتٌ عديدةْ. قال عنها بنجامين كونستانت:- "إنّها حركيّةٌ جدّاً، متهوّرةٌ جدّاً، ثرثارةٌ جدّاً، لكن جيّدةً جدّاً وأمينةً جدّاً".
كرّستْ جيرمين أوقاتَ فراغها في سويسرا لتأليفِ كتابٍ عن "أثرِ العاطفةِ في سعادةِ الأفرادِ والأممْ"... "كانتْ مسرورةً بأن تُبرهِنَ أنّها ما زالتْ تلميذةً لرُوسو".
في البدءِ كانتْ مدام استيلْ معجبةً، إعجاباً شديداً، بنابوليون فتاقتْ إلى أن تُلاقيهِ... وبعد أن سُمِحَ لها بالعودةِ إلى فرنسا وصل نابوليون إلى باريس (في عام 1917) ودُعِيَتْ هي إلى شهودِ حفلِ استقبالِهِ. "كلّما رأيتُ بونابرتْ أكثرَ كلّما صرتُ منزعجةْ. فلقد أحسستُ، على نحوٍ غامضٍ، أنّهُ رجُلٌ بلا عواطفْ. فالكائنُ الإنسانيُّ، بالنّسبةِ لهُ، إما واقعةٌ أو شيءٌ، لكن ليس شخصاً عينيّاً جديراً بالمعاملةِ العادلةْ. كان لاعبَ شطرنجَ بارعاً وضع نُصبَ عينيهِ أن يُحرّكَ الجّنسَ البشرِيَّ كما يُحرّكُ لاعبُ الشّطَرَنْجْ قِطَعَ لَعِبِهِ. وانتصاراتُهُ ما كانتْ معزُوّةً إلى مقدراته الحقيقيّةِ بقدرِ ما هي معزوّةً إلى مناقصهِ. فالتّعاطفُ الإنسانيُّ ما كان لهُ أبداً أن يُحيدَ بهِ عن مسارِهِ، كما وليسَ، كذلكَ، لأيِّ خِصالٍ ساحرةٍ لفردٍ إنسانيٍّ ما، اعتباراتٍ دينيّةٍ ما أو الإيمان بأيِّ فكرةٍ ما أن تُميلَ به إلى فِعلِ ذلكْ... لا شيءَ استطاعَ أن يُخلّصَنِي من عدمِ استساغتِي لذاكَ الرّجُلْ... إنّهُ قد احتقَرَ النّاسَ الذينَ اعتمدَ على تأييدهم، كما ولم يعرفْ معنىً لكلمةِ "حماسةٍ"، حتّى ولو أنّهُ سعى على دربِ إدهاشِ الجّنسِ البشرِيْ"... كانتْ تلكَ عباراتٌ مُجسّدةٌ لانطباعِ مدام دي استيل عن بونابرت بعد أن عرفتهُ. ذاكَ الإنطباعُ غيرُ الحميدِ عن بونابرت ترسّخَ في نفسِها عندما تناولتْ معهُ طعامَ الغداءِ في "الأَبِيْ سِيْجَسْ"... فيومذاكَ وجدتْ نفسها، أخيراً، في خِضمِّ مُحاجّةٍ جادّةٍ مع الغازي حول موضوعِ حقِّ النّساءِ في الإقتِراعِ في المقاطعىِ السّويسريّةِ التي نشأتْ بها.
رُغمَ كلِّ ذلكَ قرأ نابوليون آخرَ مؤلّفٍ كتبتهُ حينما كان في قمّةِ انهماكِهِ في حملتِهِ على مِصرْ.
إفتتنُ العديدُ من الرّجالِ والنّساءِ بها افتتاناً عظيما. قالتْ جولييت ريكامير إنّها قد "وقَعَتْ تحتَ تأثيرِ طبيعتِها العاطفيّةِ وشخصيّتِها القويّةْ". ثمّ تقولُ مدام ريكامير إنّها منذُ اليومِ الذي التقتْ فيهِ بها "ما استطاعتْ أن تُفكّرَ في شيءٍ آخرٍ غيرِ مدام استيلْ". قامتْ جولييت، منذُ ذلك الزّمانِ، بزياراتٍ طويلةٍ عديدةٍ لجيرمينْ في "كوبَيتْ"، ثمّ ظلّتْ مُخلِصةً لصديقتِها تلكَ حتّى النّهايةْ.
في عام 1800 نشرت جيرمين أوّل أعمالِها المهمّةْ:- "الأدب منظوراً إليهِ من زاويةِ علاقتِهِ بالمؤسّساتِ الإجتماعيّةْ".
والآنَ أنا قد اطّلعْتُ، للمَرّةِ الأُولى، على حقيقةِ أنَّ مؤلَّفَها ذلك، كما قالَ عنهُ أحدُ كاتِبِيْ سيرتها الذّاتيّةِ، "كان أكثرَ من مُناشدةٍ في سبيلِ تحريرِ النّساءْ... فهو قد كانَ، أيضاً، أكثرَ من ملحمةٍ ضدَّ نابوليون... إنّهُ، في جوهرِهِ، كان بياناً للحركةِ الرّومانسيّةِ في فرنسا". في ذلكَ الكتاب أكّدَتْ مدام دي استيل على كناليّةِ الجّنسِ البشرِيْ.
بَغُضَ نابوليون جيرمين، بَغُضَ أفكارَها، كتُبَها ثمّ بَغُضَ، أخيراً، إعجابَها بكلِّ شيءٍ إنجليزِيْ. وانتهى بهِ كلُّ ذلكَ البُغضُ إلى رفضِ السّماحِ لها بالعيشِ في باريس وإصدارِ جوازِ سفرٍ، باسمها، إلى ألمانيا.
إلتقتْ جيرمين، في ألمانيا، شِيلَرْ وقَوْتَه وكتبتْ انطباعات عنها وعن إقامتها هناكْ.
قال عنها قَوْتَه، الذي كان مُتوتّر الأعصابِ حين أزِفَ موعدُ لقائها معهُ:- "ينبغي علينا أن نعرفَ أنّها امرأةٌ ذاتُ تأثيرٍ ضخمْ. فهي قد أحدثتْ شرخاً في سورِ الصّينِ المُقامِ من التّحيّزِ المُغرِضِ الذي فَصَلَنا عن فرنسا فغدونا، من بعْدِ، مُقدَّرِيْنَ ومفهُومِيْنَ ليس فقط في أرجاءِ منطقةِ الرّايِنْ بل، فضلاً عن ذلكَ، في ما بعدِ معبرِ القناةِ الإنجليزيّةِ من بِلادْ".
سافرتْ مدام دي استيل كثيراً عبرَ ألمانيا وإيطاليا واستمتعَتْ برفقةِ كُتَّابٍ ومفكّرينَ ذوي شَهرةٍ وشخصيّاتٍ بارزةٍ أخرى تحاورَتْ معهُم، بلا انقطاعٍ، حولَ الفلسفةِ والأدبْ.
حينما استقرّتْ، مرّةً أخرى، في منزلِ عائلتها الرّيفيِّ "كوبيتْ" نصبتْ، هناكَ، هي ومعجبوها، خشبَةَ مسرحٍ خاصّةْ. قِيل عنها إنّها، آنذاكَ، أدّتْ أدوارَاً تمثيليّةً "بأُسلُوبٍ فخيمْ"... "في زمانٍ خاطفٍ جمعتْ حولها مجموعةً من أفرادِ النّاسِ الموهوبين. فكانَ أن عُرِضَتْ، على خشبةِ مسرَحِ دارِها الخاصّةِ، مسرحيّاتٌ لفولتيرَ وكُتّابٍ آخرِيْنَ من الكلاسيكيّين المُحدَثِيْنْ".
إلتَقَتْ مدام دي ستيل الشّاعرَ بايرون الّذي قال عنها إنّها، بالتّأكيدِ، "الأذكَىْ من بينَ النّساءِ"، بيدَ أنّهُ استطردَ في هذا السّبيلِ ووصفَهَا بأنّها "ليستْ بالمرأةِ الأَعْظَمَ سماحةً من بينَ كلِّ النّساءِ اللّواتِي التقاهُنَّ، أبداً، في حياتِهِ"، وبأنّها، كذلكَ، "فكّرَتْ كرجُلٍ وشعرتْ كإمراةْ".
مثّلتْ مدام دي ستيلْ توجُّهَاتَ مُعَيّنَةَ في القرنِ الثّامن عشرْ. فتيّاراتُ الفكرِ الأُورُبِّيَّةِ الرئيسَةِ، حينذاكَ، تأثّرَتْ بفِعلِ اتّصالاتٍ ثقافيّةٍ عُقِدَتْ في منزِلِ آلِها الرّيفِيِّ الموسوم "كوبيت"... شاركتْ مدام دي ستيلْ القرن الثامن عشر ثقتَهُ بالعقلْ... ولقد تجلّى جوهَرُ فِكْرِها في آرائِها حولَ كماليّةِ الإنسانِ من حيثُ هو كائنٌ ذو عقلْ... آمنَتْ مدام دي ستيلْ، كذلكَ، بأنَّ "زحفَ" الرّوحِ الإنسانيّةِ التّصاعُدِيَّ التّدريجِيَّ ما انقطَعَ أبداً". كانتْ مُحبّةً ذاتَ عهدٍ للثقافةِ والفِكرِ الإنجليزيّينْ. وفي كتابِها المُسمّى اعتبارات قارنتْ أوضاعَ المجتمعِ في فرنسا وألمانيا بمُوازِيَتِها في إنجلترا. كانتْ معجبَةً بالحُرّيّةِ الإنجليزيّةِ المحميّةِ بالقانونِ الدّيمقراطيْ. فهي ما كانتْ واحدةً من أولئكَ الرومانتيكيّين الممجّدِيْنَ لمُثُلِ الفوضويَّةِ الفلسفيّةْ. على كُلٍّ حالٍ، هي قد شعرتْ بأنَّ "نوعيّةَ الحكومةِ الحُرّةِ التي تملُكُها إنجلترا جلبتْ معها، إلى السّاحةِ السّياسيّةِ-الإجتماعيّةِ، وضعيّةً غيرَ مُنصِفَةٍ للنّساءْ. ففي دولةٍ حرّةٍ ادّعى الرّجالُ فيها لأنفسهم كرامةً طبيعيّةً وجدتْ هي أنَّ النِّساءَ، بالضَّرُورَةِ، تابعاتْ".
لا يحتاجُ المرءُ إلى شيءٍ سوى لمحةٍ خاطفةٍ عبر تاريخِ الإمرأتين إيّاهما، المدام دي ستيل والسيّدة إثيل سمثْ، كي يُصعَقَ بالتّماثُلاتِ في شخصيّتيهِما (ومن ثمَّ في سلوكيهِما النّاجمينَ عن ذينكُما). نحنُ نستطيعُ أن نرى هنا أنَّ الشّخصيّةَ اللاّحقةَ هي، في أوجُهٍ عديدةٍ، انعكاسٌ مُتميّزٌ لجِمَاعِ خِصالِ الشّخصيّةِ السّابقَةِ، باستثناءِ تعديلاتٍ (أو تحويراتٍ) بعينِها.
2
وُلِدتْ السيّدة إثيل اسمث (وأنا هنا أقتبسُ عن مذكّراتها الخاصّةِ، عن قاموس قِرَوفْ للموسيقيّين، وعن السيرة الذاتيّة التي كتبها عنها كريستوفر سينت جون)، في لندن وفي أبريل من العام 1856. كانت ابنةُ جنرالٍ في المّدفعيّة المَلَكيّة اشتغل أباهُ وجدّهُ في مهنةِ الصّرافةِ البنكيّة (لاحظ كيف أنّ الأشياءَ تُعيدُ نفسها هنا، بغرابةْ! فكما علمنا، في السّابقِ، كان والد مدام دي استيل موظّفاً بنكيّاً أيضاً. السّببُ في ذلك هو، بالطّبعِ، أنّ خاصيّةَ وميزَاتِ خلفيّةِ العائلةِ الإجتماعيّةِ تهبُ الرّوحَ نسيجَ طاقةٍ مثناسبٍ لتمكينِها من أن تُولَدَ في تلكَ العائلةِ بالذّاتْ).
عاشتْ جدّةُ السيّدةِ إثيل اسمث الأُمَوِيَّةُ (التي كانتْ والدتُها فِرنسيّة) في باريس حيثُ كانتْ "شخصيّةً شهيرةً تماماً في الدّوائرِ الموسيقيّةِ الباريسيّةِ ولها صالونٌ يرتادُهُ معظمُ المُحتفَى بهم من موسيقيّي ذلك الزّمانْ". رُبّيَتْ أمُّ إثيل في ذلك المُناخْ. ولقد وصفتها اللّيدي سيدني، التي عرفتها في تلك الأيام، بأنّها "مخلوقةٌ ما التقتْ بأحدٍ أكثرَ منها ذكاءاً". ثمّ أردفتْ، على ذلكَ الوصفِ، قولها إنّها- أي السيّدة إثيل اسمث- "لو تزوّجتْ دبلوماسيّاً لأضحتْ معروفةً ولأُشِيرَ إليها بالبنانِ في كلّ أرجاءِ أورُبّا".
هذه التفاصيلُ ملفِتَةٌ للنّظرْ. فنحنُ نرى، من خلالها، كيف أنَّهُ، في أمرِ الميلادِ، الشّبيهُ يميلُ إلى الإنجذابِ نحوَ الشّبيهْ.
هنالكَ أدبيّاتٌ عظيمةُ العددِ (والعُدّةِ) تتناولُ موضوعَ حياةِ إثيل اسمثْ. تضمُّ هاتيكَ ليس فقط المُجلّدات السّبعةَ المحتويةَ عليها سيرتُها الذّاتيّةُ الخاصّةْ. ذلكَ لأنّ القواميسَ الموسيقيّةَ المختلفةَ تعطينا تفاصيلَ كاملةً عنها، كما وأنّ شخصيّتَها، بكلِّ ذيُوعِ صيتِها المشهود، حفّزتْ آخرينَ من النّاسِ على تحبيرِ مؤلّفاتٍ عنها. ثم تصبُّ في بحرِ ذلكَ كُلِّهِ مُجلّداتٌ من الرسائلِ المُتبادَلَةِ بينها وبين الكثيرينَ من مشاهيرِ ذلكَ العهدْ.
كانتْ السيّدة إثيل اسمث مفكّرةً أوربيّةً حرّةً وطليقةً ومُشاداً بها. كما وكانتْ، أيضاً، عائشةً حياةً حرذةً وطليقةً من إسارِ أعرافِ أيّامها أو خلفيّتها الإجتماعيّة. ولقد قدذمتْ لنا تعبيراً مُصمّماً وشجاعاً عن فرديّتها الخاصّةِ ارتسمتْ لنا فيهِ انساناً وهبَ قلبهُ ورُوحهُ لكلِّ شيءٍ فعلَهُ في هذه الدّنيا. ما استرضتْ السيّدةُ إثيل اسمثْ، في سبيلِ الإخلاصِ لفكرِها وسلوكِها الخاصّين، أيَّ سُلطةٍ أبويّةٍ- رُغمَ أنّها كانتْ وفيّةً لكلِّ عائلتِها- وما عنتْ لها آراءُ الآخرينَ فيها وتحيّزاتهُم ضدّها شيئاً. كانتْ لا تُطقْ صبراً على كِتمانِ آرائها الصّريحةِ في مُختلفِ الشّؤونْ. إنّها واحدةٌ من أولئكَ النّاسِ النَّادرينَ اللّذينَ يُواجهونَ الحياةَ بانفتاحٍ ومن الرّوحِ مباشرةً، دونَ أن يَلبَسُوا أيَّ قِناعٍ من عُرفٍ مُتصنّعٍ أو تقليدِيْ. فهي قد وهبتْ كلَّ العالمِ العريضِ ما فكّرتْ فيهِ وما كانتْهُ بالضّبط:- مادّةَ ذاتِها الباطنةِ، صافيةً ومُباشِرَةْ.
كثيراً ما بدتْ تِلكَ المُباشَرَةُ سيّئةَ الأدبِ أو مُتهوّرَةْ. وبعضُ النّاسِ قد بُهِتُوا ونفرُوا عنها، في البدءِ، بسببها، إلا أنّهم تراجعُوا جميعَهُم، فيما بعد، عن ذلكَ الموقفِ وأحبّوها حُبّاً عظيماً.
قطعاً ليس هُنالكَ امرأةٌ سُرّتْ بصداقاتٍ حميمةٍ وعظيمةِ العددِ، مع رجالٍ ونساءٍ معاً، أكثرَ منها. ذلكَ رُغمَ أنّهُ كثيراً ما تخلّلتْ تِلكَ الصّلات المشوبة بالعاطفة مُحاجّاتٌ ومُشاجراتْ!
عندا بلغتْ الثامنةَ عشرَةَ من العُمرِ صَدمتْ إثيل والديها بإعلانِها أنّها ستذهبُ إلى لايبزِجْ لدراسة الموسيقىْ. حتّىْ ذلك الحين كانتْ هي شيئاً من فتاةٍ مُسترجِلَةٍ مُنشغِلَةٍ بركُوبِ الخيلِ، الصَّيدِ ومُسْتَمْتِعَةٍ بالقنصِ والألعابْ- ولو أنّها حاولتْ، حين "شبّتْ عن الطّوقِ"، أن تتوافقَ والتّقليدَ الإجتِماعيَّ فأسلمتْ نَفْسَهَا لارتِداءِ ملابسٍ احْتِفاليّةٍ ومُتمشِّيَةٍ والموضةِ، بل وتلقَّتْ، كذلكَ، بعضَ العِرُوضِ بالزَّواجْ.
لكنَّ خاطِرَ تِلكَ الفتاةِ المُختَلِفَةِ كان مُتعلّقاً بالموسيقى، ممّا أدّى بها إلى معاركٍ طويلةٍ وشرسةٍ مع أبيها أسفَرَتْ، أخيراً، عن نجاحِها في إقناعِ عائلتِها بأن تسمِحَ لها باتِّخاذِ تلك الخطوةِ الغيرِ مسبوقةٍ، إمّا في التّصوّرِ أو في الفِعلِ، نحو تعلّم الموسيقى. كتَبَتْ، لاحِقاً، مُعلِّقَةً على هذه الحكاية:- "أنا ما سُمِّيْتُ "طائرُ عاصفةٍ بحرِيٍّ" من أجلِ لا شيء...!" [المعنيُّ هنا هو طائرٌ بحريٌّ صغيرُ الحجمِ وطويلِ الجّناحينِ ومجبُولٌ على التّحليقِ عالياً عن اليابسة- المُترجم]... ما كانتْ الفتياتُ، في العهدِ الفيكتوريِّ الوسيطِ بإنجلترا، يُسَافِرْنَ لوحدَهِنَِّ ودونَ مُرَافِقَةٍ، قريبةٍ أو وصيَّةْ. عليهِ فقد صُحبَتْ في رحلتِها إلى ألمانيا وتُرِكَتْ في لايبزج في فندُقٍ مخصّصٍ للطّلاّبِ حيثُ لا أحدٌ يهتمُّ، إلاّ هامشيّاً، بالتّفاصيلِ الخاصّةِ لحياةِ سِوَاهُ من النّاسْ.
لقد حازتْ السيّدَةُ إثيل اسمثْ، حقّاً وصِدقاً، على موهبةِ جذبِ النّاسِ إليها. فكم من ألمانٍ كثيرين ذوي صيتٍ وشَهرةٍ خصّصُوا لها مقاماتَ في قلُوبِهِمْ. والإنطباعُ الذي خلّفتْهُ على أصدقائها الألمان الجّددِ يُستطاعُ لمحُهُ في وصفِ الموسيقيِّ الألمانيِّ المُحْتَفَى بهِ هينسشيلْ لها حينما تقابلا للمرّةِ الأولى. كانتْ، آنذاكَ، في التّاسعةِ عشرةِ من عُمرِها.
"إن أنسَ لا أنسى ذلكَ اليوم الجّميل من شهرِ أغُسطُس من العامِ 1877 حينَ أُضيئَتْ حلقتُنا الصّغيرةُ الأنيسةُ، فجأةً، بالحضُورِ الدّيناميكيِّ الصّخّاب لسيّدةٍ شابّةٍ فائقةِ الجاذبيّةِ بين ظهرانينا هي، كما أُفْهِمْنَا، ابنةُ جنرالٍ إنجليزِيْ. لا أحدٌ فينا عرفَ ما الذي فيها ممّا يُعجبُ الإنسانَ أكثرَ من سِواه:- مَلَكَتُها الموسيقيّةُ المُدهشةُ التي أطلعتنا عليها، بامتيازٍ متكافئٍ، كعازفةٍ على البيانو وكذلكَ كمُغنّيَةٍ ذاتِ صوتٍ لافتِ الإنسجامِ والتّناغُمِ في أدائهِ لتأليفٍ موسيقيٍّ-غنائيٍّ من إبداعها الخاص؟ أو توثُّبُها المُدهشُ في استعراضاتٍ رياضيّةٍ مُعجِزَةٍ ومُفعمةٍ بالخفّةِ والقُوّةْ؟ أو الطّريقةُ التي تلعبُ بها التِّنس على الساحاتِ الخضراء؟ أو الكيفيّةُ التي تقفزُ بها فوقَ الأسوارِ، الكراسي، بل وحتّى الطّاولات وأسلوبُها في ذاكَ الفعلِ الذي حيّرتْ به الفتيات الألمانيّات اليافعات بذاتِ القدرِ الذي أذهلَتْ بهِ، كذلكَ، الفتيان الألمان اليافعين؟... إنّها، لَعَمْرِيْ، قد جعلتنا جميعاً مصعُوقِيْنَ تماماً بكُهرباءِ عرُوضِها البارعةْ. لقد اتذفقنا، فيما بيننا، على أنّنا حُظينَا، بيننا، بشخصيّةٍ أخّاذةٍ على نحوٍ فوقَ عاديٍّ، بامرأةٍ قُيّضَ لها، قطعاً، أن تكونَ، ذاتَ يومٍ، شهيرةْ. إنّ إثيل اسمثْ مُقدَّرٌ لها أن تُصيرَ أكثرَ المؤلّفين الموسيقيّينَ انميازاً وأصالةً في تاريخِ الموسيقى".
أبهجتْ حيويّةُ إثيل اسمث النّزِقَةُ الجّميعْ. ثمّ سُرعانَ ما أضحتْ مُقيمةً في صميمِ مركزِ مجتمعِ مدينةِ لايبزجْ. لقد رُحِّبَ بها هُناكَ وأُحِبَّتْ ليس فقط من قِبَلِ العالمِ الموسيقيِّ، بل من قِبَلِ النّبلاءِ وذائعي الصّيتِ في المجالِ الأدبيِّ كذلكْ.
كتبتْ إثيل اسمثْ في سيرتِها الذاتيّةِ الشّخصيّةِ، حينَ لاحظتْ أنَّ صديقاً مُعيّناً لهُ "نُقطةُ ضعفٍ تجاه الأُمراءْ":- "إنّ حالَ ذاكَ الصّديقِ قد علّقَ عليها، بتهكّمٍ، بعضُ أبناءِ هذا العالمِ الدُّنيويِّ... لكن أينَ مبعثَ الأذى فيها؟ هلاّ ما قدّمتْ تلكَ السّلالةُ الرّفيعةُ المنشأ مُساهمةً مُتميّزةً تماماً إلى معمعانِ الحياةْ؟ وهلاّ عدمُ الإهتمامِ بذلكَ ليس علامةً أكيدةً على الخِلُوِّ من حِسِّ التّفُوّق؟ في الحقِّ، يستطيعُ المرءُ القولَ عن المَلَكِيَّةِ ما قِيلَ عن اللهِ وعن وجودهِ الذي قد يشأُ النّاسُ اختراعَهُ من بناتِ خواطِرهم إن ما كانَ حقيقةً واقعةْ. بُرهانُ ذلكَ هو أنّها قد أُزِيْحَتْ، كرّةً فكرّةً، عن عرشها السّلطانيِّ لا لشيءٍ سوى أن يُعادَ تأسيسُها في موقعِ السّلطةِ من قِبَلِ أجيالٍ لاحقةْ. عليهِ أنا آملةٌ ومؤمنةٌ بأنّها ستكونُ قائمةً في الدّنيا إلى نهايةِ الزّمانْ".
"كانتْ صداقاتُها العميقةُ هي نَفَسَ الحياةِ بالنّسبةِ لها ولا غِنَىً لِمَلَكَتِها الإبداعيّةِ عنها". ذلكَ رُغمَ أنَّ هاتيكَ الصّداقاتِ قد سبّبتْ لها، كذلكَ، معاناةَ عظيمةْ.
كانتْ إليزابيث فون هيرتسوقينسبيرق- أو "لِزْ"- واحدةً من صديقاتِها المُبجّلاتِ، ولقد صارتْ، بالكادِ، أّمّاً لها لسبعِ سنينْ. تِلكَ الصّلةُ المُفعمةُ بالشّعورِ حملتْهَا إلى قلبِ مجتمعِ لايبزج الموسيقيِّ، فالكونتْ فون عيرتسوقينسبيرق (والد إليزابيث) كان موسيقيّاً متميّزاً. تحدّثتْ لِزْ، في رسائلها إلى إثيل، عن طبيعةِ إثيل "المائلةِ للجِّمُوحْ". ثمّ قالتْ إنّها رأتْ علائماًن في تلكَ الطّبيعةِ، على ما سمّتْهُ "شخصيّةً ذاتَ خِلاقٍ بذخيّةٍ وجوعٍ مُفرطٍ للحياةِ وصلاتٍ عديدةٍ جدّاً". ولقد ساءلتْ إليزابيث "مَحميّتَها" اليافعة:- "هل سيكونُ الامرُ معَكِ دوماً هكذا:- تسمُقينَ إلى السماواتِ، ثّمَّ تُلفَّعِيْنَ بالحُزنِ على حدِّ الموتْ؟"
أحسّتْ كلارا شُومان وُدّاً قلبيّاً كبيراً لإثيل، كذلك قِرَيْقْ. ثم هناكَ، أيضاً، برامز الذي اتّخذتْ، أخيراً، مكاناً في قلبِهِ رُغم أنّها، في البدءِ، تشاجرتْ معهُ لغيظِها الشّديدِ من وِصايتِهِ الأبويّةِ على النّساءْ. سقطتْ إبنةُ ميندلسون، كذلكَ، صريعةً لسحرها. كما وأحبّها، فضلاً عن كلِّ أولئكَ، تشايكوفسكي ودفوراكْ وآخرون كثيرون.
وقعتْ إثيل، أخيراً، في حبٍّ عميقٍ لهنري بروستار، زوجِ أختِ لِزْ، الذي التقتْهُ أثناءَ الزّمانِ الذي عاشتهُ في إيطاليا.
كان بروستار كوزموبولوتانيّاً حقيقيّاً، فهو انجليزيٌّ جُزئيّاً، وُلِدَ في فرنسا وعاش في القارّةِ الأوربيّةِ طيلةَ أيّامِ حياتِهِ. اتّسمَ ذاكَ الرّجلُ بصفاتٍ جاذبةٍ شتّى إذ كانَ كاتباً وفيلسوفاً، إنساناً مُتواضعاً، ذوذاقةً، ذا حساسيّةٍ ولطافةْ. ولو كان منها السّماحُ لأصبحَ مبعثَ تأثيرٍ إنسجاميٍّ على طبيعتِها النّزِقَة. غيرَ أنّهُ، رُغم كلّ شيءٍ جرى لاحقاً، ما توانى عن عونها، عوناً كبيراً، على كتابةِ مُسودّاتِ نصُوصِ مسرحيّاتِها الغنائيّةْ.
"لا تخافِي من أيِّ شيءٍ قد تأتي بهِ الحياةُ، بل واجهِيهِ، شَرِّبِيْ به ذاتَكِ ووقتذاكَ سترعاكِ الآلهةُ على سبيلِكْ".
كتبتْ إثيل عن هنري بروستار أنّهُ "كان أكثرَ رجُلٍ عميقِ التّديّنِ صادفتْهُ في حياتِها، كما وهو، في ذاتِ الوقتِ، أعظمَ عدُوٍّ عتيدٍ للفِرَقِ والطّوائفْ".
إنّ ما جمعَ بينَ إثيل وهنري بروستار كان أغنى صداقةٍ وأثرى علاقةِ حُبٍّ عاشتهُما في حياتِها. ولرُبّما ملأتْ الرّسائلُ بينهُما مُجلدات. مع ذلك حينما تُوفّيَتْ زوجةُ هنري رفضتْ إثيل أن تتزوّجَهُ.
أجدُ الآنَ، إذ أقلّبُ صفحاتِ تلالِ تلك الكُتُبِ المؤلّفةِ عن هذه السيّدةِ المتفرّدةِ، خطاباً أرسلهُ إليها مسطوراً- ويا للغرابةِ!- من فندقِ دي لاكْ، في "كوبيتْ" حيثُ أقامتْ، في الماضي، مدام دي ستيلْ... (هل كان هِنري، في هيئتِهِ الحياتيّةِ السّالفةِ، واحداً من الكواكبِ الّتِي دارتْ حولَ شمسِ جيرمين دي استيل في "كوبيت"؟)... كان الخطابُ بتاريخِ الرابع من اكتوبر 6189.
"أوضحتُ لـ"ر"- معتمداً على سَماحَكِ بذلكَ إن شِئْتِهِ- أنَّ ما حفّزَنِي على أن أعرضَ عليكِ الزَّواجَ منّي كان رغبةً في إتمامِ وإكمالِ عملِ سنينٍ عديدةٍ، تتويجاً عُرفيّاً نَسِمُ بهِ أنفُسَنَا إرضاءاً لنداءِ الفنِّ الأسمىْ. لقد اخْتَبَرْتِ أنتِ الشّخصين الحقيقيّين- أنا وأنتِ- عِوضاً عن الإكتفاءِ بالنّظرِ إلى القِناعينِ النَّمَطِيّينِ للسيّدةِ والعاشقِ، فغريزتُكِ الدّراميّةُ جيّدةْ".
ظلاّ صديقينَ حميمينَ ورفيقينَ متواصلينَ حتّى يومَ وفاةِ هنري بروستار في عام 1908.
سافرتْ إثيل اسمثْ كثيراً في أرجاءِ إيطاليا، سويسرا، غفرنسا وألمانيا. ولقد لاقتْ عبقريّتُها الموسيقيّةُ وشخصيذتُها النّادرةُ قبُولاً في البِلاطِ في كلِّ من فايمر وبراين، فينّا ومراكزِ ثقافةٍ موسيقيّةٍ أخرى عديدة.
تُعطينا مُذكّراتُها أوصافاً حيّةً للمشهدِ الألمانيِّ ولمحاتٍ نافذةً (كما فعلتْ مدام دي استيل سابقاً) عن الخواصِّ المختلفةِ للبروسيّين، البافاريّين والسّاكسونْ. "أقولُ لكِ"، ضجّتْ بالكلامِ عبرَ مائدةِ الغداءِ في "اميل لُدفيج"، "إنّ الألمانَ كانوا أكثرَ سعادةً تحتَ حكمِ أمرائهم الصّغارِ عمّا هم الآن!"
في خلالِ عهدِ استجمامٍ في سويسرا، حيثُ كانت ترتاحُ إثرَ حادثةٍ ألمّتْ بها وهي تتسلّقُ جبلاً، قرأتْ اثنينَ وأربعينَ كتاباً عن نابوليون- ذلكَ، لا شكَّ، هو أوبةٌ لاشعوريّةٌ إلى انشغالٍ عظيمٍ لها في ماضيها الرّوحيِّ الخاصْ.
بِمُضيِّ الزّمانِ زارتْ إثيل اسمثْ، مرّةً أخرى، كلَّ المراكزِ الموسيقيّةِ في ألمانيا في مُحاولةٍ لجعلِ مسرحيّاتِها الغنائيّةِ (أوبراتِها) تُقبلُ (ومن ثمّ تُعرَضُ) هناكْ. ولقد نجحتْ، نجاحاً بالغاً، في ذلكْ. ومؤخّراً صارتْ معرُوفةً في انجلترا "رُغمَ أنّ المُناخَ السّياسيَّ المُعقّدَ، آنذاكَ، كان ضدّها".
صارتْ صديقةً مُقرّبةً للإمبراطورةِ إيُوجِيْنِيْ، أرملة نابوليون الثّالث التي كانتْ تعيشُ، حينذاكَ، على مسافةِ أميالٍ قليلةٍ فحسبْ من منزلِ عائلتِها في سَرِيْ.
ذهبتْ إثيل، في علاقتها والإمبراطورة إيوجيني، بعيداً فغدتْ زائرةً مألوفةً جدّاً ومُرحّباً بها في منزلِ الإمبراطورةِ الإنجليزيِّ في فارنبورو هِلْ وفي وسطِ المهاجرين الفرنسيّين هناكْ. ولقد لاقتْ، في ذلكَ العهدِ وفي ذلك المكان، من الإحتفاءِ ما فاقَ ذلك الذي لاقتْهُ مدام دي استيل (قبلَ مائة عامٍ بالضّبطِ، أو بالكادِ، من ذلكَ الزّمان) في جونيبر هَوْلْ وفي وسطِ المهاجرين اللذينَ هرعوا إلى إنجلترا بعدَ سقوطِ العرشِ الفِرِنْسِيْ. هذه المُشابهاتُ بين السيّدتين ليس لهما، كما قد يبدو من الوهلةِ الأولى، أن تُدهشَنا، سيّما في حالِ وضعِنا في الإعتبارِ ذاتَ مِزاجِ المزايا والخصالِ في "نسيجِ" الشّخصيّتين الذي صيغَ على "مِنوالِ" روحٍ واحدةٍ (بالطّبعِ لنا أن نتوسّعَ في هذا المجالِ فنُشيرُ إلى صِلاتِ الصّداقةِ والإهتماماتِ المتشابهةِ بين الشخصيّتينِ إيّاهما في الماضي والحاضرْ).
عند زيارةِ إثيل اسمث للإمبراطورةِ الأرملةِ كانتْ معتادةً على أن تسوقَ درّاجتها على طولِ الطّريقِ إلى فارنبورو، ثمّ تُغيّر ملابسها إلى زيِّ المساءِ تحتَ شجرةٍ في حديقةِ الدّارِ المُزارةْ. وقتذاكَ ع
غالباً ما كانتْ تُشعِرُ صديقتَها الإمبراطورةَ بحضورِها في المكانِ فتُهيّئُ لها غُرفةً في بيتِها.
أصبحتْ الإمبراطورةُ إيوجيني صديقةً وفيّةً، وذاتَ نفوذٍ، لإثيل. ثمّ نصّبَتْ، هي وأميراتُ البِلاطِ الإنجليزيِّ الأُخريات، من أنفُسِهُنَّ راعياتٍ جيّاشاتٍ بالطّاقةِ لفنِّها يَسْتَحثَنَّها قُدُماً ويدفعنَ تكاليفَ إنفاذِ عروضها الاوبراليّةِ ثمّ، من بعدِ ذلكَ، يُلطّفْنَ ويُبارِكْنَ هاتيكَ العروضِ بحضُورِهِنَّ. إنّ أوبراها المّسمّاةَ "قُدّاسٌ على المقام
- إبراهيم جعفر
- مشاركات: 1948
- اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am
د" قد نفّذَها، على خشبةِ المسرحِ في "كوينس هول"، ثمّ ثانيةً في "ألبيرتْ هولْ"، أدريان بولتْ.
"هذا العملُ، بالتأكيدِ، يضع مؤلّفتهُ الموسيقيّةَ في مكانٍ رفيعٍ بينَ اعظمِ المؤلّفينَ الموسيقيّينَ في زمانِها، كما وأنذهُ يجعلُها، بسهولةٍ، على رأسِ كُلٍّ مَنْ لهُنَّ أعمالٌ موسيقيّةٌ من بناتِ جِنسِها".
ما رحلتْ الإمبراطورةُ الصَّديقةُ- تلكَ الصّلةُ "المُضمرةُ" مع الماضي النابوليونيِّ- عن هذه الدّنيا إلا في عام 1920.
في ذلك الوقتِ كانتْ شَهرةُ إثيل اسمثْ قد رسختْ، خاصّةً بعد أن شاركت، بسهمٍ عظيمٍ، في الحملةِ النّاجحةِ من اجلِ حقوقِ النّساءِ الإجتماعيّةْ.
ولأنّها لا تفعل الأشياء على نحوٍ نِصفيٍّ أو ناقصِ الإكتمالِ رمتْ إثيل بنفسها في معمعانِ الحركةِ الثّوريّةِ المُسمّاةِ "الحركة النّسويّة" واتَّخذتْ لنفسها، في كفاحِ تلك الحركةِ من أجلِ امتيازاتِ النّساءِ السّياسيَّةِ، دوراً نشطاً جدّاً. ولقد ذهبتْ بعيداً في ذلك الإتّجاهِ والقتْ بِطُوبةٍ خلالَ إحدى النَّوافذِ علّها تدخُلُ السّجنْ. وهذا ما نجحتْ فيهِ حيثُ أُصدِرَ عليها حُكْمٌ بالسّجنِ لمدّةِ شهرين (يتساءلُ المرءُ ما إذا كان "الكوميُون" سيكونُ رفيقاً هكذا مع مدام ستيل إن لم تفلح في الهروبِ من السّجنْ؟)
ألّفتْ إثيل نشيداً للحركةِ النّسائيّةِ سمّتْهُ "زحف النّساء". وفي مناسبةٍ كانت فيها النّساءُ المُناضلاتُ في سبيلِ حقوقهِنَّ الإنتخابيّةِ يزحفْنَ في مسيرةٍ ويُغنّينَ ذاكَ النّشيدَ قُبالةَ نافذةِ غرفةِ السّجنِ التي اعتُقلتْ فيها وقفتْ هي على صُندُوقٍ وقادتْ، من خلالِ النّافذةِ، الأداءَ الموسيقيَّ-الغِنائيَّ لهُ مستخدمةً، في ذلكَ، فِرشاةُ أسنانِها (ظلالٌ من مشهدِ الدّهماءِ في "البليس دي قريفاس").
هنالكَ صديقٌ جديدٌ آخرٌ لإثيل اسمث هو الكاتبُ والدبلوماسيُّ موريس بيرنج الذي أمسى عزيزاً ومُقدّراً في حياتها أكثرَ من أيِّ رجلٍ آخرٍ باستثناءِ بروستار. صمدَ وفاءُ ذلك الصديق لإثيل أمام كلّ الإمتحاناتِ الدّنيويّةِ، بل هو ما انفكَّ باقياً هناكَ وحيّاً رُغمَ مشاركةِ إثيل في الحركةِ النّسويّةِ المتطرِّفةِ من أجلِ حقوقِ النّساءِ الإنتخابيّةِ التي كان موريس بيرنج مُنكِراً عليها إنكاراً شديداً... "ظلَّ (موريس) هو الأعظمَ إخلاصاً من بينَ أصدقاءِ إثيل حتّى حانتْ منيَّتُها..." كتب موريس، ذاتَ حينٍ، عن بروستار أنّهُ كان "واحةً خِصبةً في بلادٍ يبَابْ- فشعُورُهُ قد انطوى على رسالةِ الزّهُورِ التي لا تحتاجُ إمّا إلى أن تكِدَّ أو تغزلَ نسيجاً".
كان برونو والتر أحد أصدقاء إثيل المخلصين وناصحيها. كتب، مرّةً، عنها:- "أنا أعتبرُ إثيل اسمث مؤلّفةً مسيقيّةً متفرّدةَ الأهمّيّةِ والخُصوصيّةْ. فهي فهي، قطعاً، ستُحظى بمقامٍ كريمٍ ودائمِ في تاريخِ الموسيقى".
صارتْ إثيل اسمث سيّدةَ الإمبراطوريّةِ البريطانيّةْ.
عند موتها، في عام 1944، كتب إدوارد ساكفيلي ويستْ، عن هذه الشّخصيّةِ المُنمازةِ، وصفاً يمسُّ الحقيقة:- "أيُّ يومٍ في حياةِ شخصٍ مُطْلَقِيٍّ كهذا يُنشئُ حكايا (حواديتَ) بنفسِ الصّورةِ الطبيعيّةِ التي يُنشئُ بها طائرُ أُغنيةْ. إنّ كلَّ القصصِ المؤلّفةِ حول إثيل اسمث حقيقيّةْ. ذلكَ لأنّ لا أحدَ كان سيعبأ باختراعِ مثيلاتها ما دام هنالكَ منبعٌ غزيرٌ يُفيضُ بهُنَّ. تميّزتْ إثيل بقدرةٍ على المحادثةِ شُهِرَتْ بها عن جدارةْ. وما تمثّلتْ تلكَ على هيئةِ حوارٍ ذاتيٍّ (أو مونولوغ) إلا لأولئكَ اللذينَ كانوا أكثرَ خوفاً من أن يُفكّرُوا في تحدّيها بقناعاتهم المختلفة، جهراً وعلناً...... "إنّ الخلافات الكلاميّة مع إثيل كانتْ دوماً عاصفةً، بيد أنّها ما انتهتْ، يوماً من الأيّامِ، بغيرِ الضّحِكْ"... ما شعرتْ إثيل في حياتِها إلا بالحبِّ أو الكرهِ تجاه سواها من النّاسْ. لكنَّ الحبَّ هو الذي حازَ على أكبرِ اهتمامها وعنايتها. لذلكَ غدتْ، في عيُونِ أفرادِ النّاسِ، مودودةً وعظيمةً... إنّ إثيل اسمث، بأيّ مقاييسٍ شاءها النّاظر، هي واحدةٌ من بين أعاظمِ النّساءِ اللّواتي ترعرعنَ في هذا البلد، غيرَ أنّ موسيقاها أقلَّ حسناً من ذاتِها... قال بعضُ النّاسِ إنّ كتاباتَها أجملَ من موسيقاها. لكنّني أقولُ إنّها قد وحّدتْ، على أنحاءٍ عديدةٍ، حساسيّةَ امرأةٍ بقُوّةِ رجُلٍ ذهنيّةٍ (عقليّةٍ)، خصوصاً في "قُدّاسِها"... إنّها قد امتلكتْ في ذاتِها، على هيئةٍ رائعةٍ جدّاً، الأصالةَ والنّارْ. ولو تأمّلَ الإنسانُ عملَها لمسَّ فيهِ "انتصاراً للعاطفةِ على العقلْ... فهنالكَ عاطفةٌ إنسانيّةٌ عظيمةٌ كامنةٌ في منهَلِ موسيقاها، عاطفةٌ لهيبُها ينساقُ مُنجَرِفَاً من غايةٍ إلى غايةْ".
"هذا العملُ، بالتأكيدِ، يضع مؤلّفتهُ الموسيقيّةَ في مكانٍ رفيعٍ بينَ اعظمِ المؤلّفينَ الموسيقيّينَ في زمانِها، كما وأنذهُ يجعلُها، بسهولةٍ، على رأسِ كُلٍّ مَنْ لهُنَّ أعمالٌ موسيقيّةٌ من بناتِ جِنسِها".
ما رحلتْ الإمبراطورةُ الصَّديقةُ- تلكَ الصّلةُ "المُضمرةُ" مع الماضي النابوليونيِّ- عن هذه الدّنيا إلا في عام 1920.
في ذلك الوقتِ كانتْ شَهرةُ إثيل اسمثْ قد رسختْ، خاصّةً بعد أن شاركت، بسهمٍ عظيمٍ، في الحملةِ النّاجحةِ من اجلِ حقوقِ النّساءِ الإجتماعيّةْ.
ولأنّها لا تفعل الأشياء على نحوٍ نِصفيٍّ أو ناقصِ الإكتمالِ رمتْ إثيل بنفسها في معمعانِ الحركةِ الثّوريّةِ المُسمّاةِ "الحركة النّسويّة" واتَّخذتْ لنفسها، في كفاحِ تلك الحركةِ من أجلِ امتيازاتِ النّساءِ السّياسيَّةِ، دوراً نشطاً جدّاً. ولقد ذهبتْ بعيداً في ذلك الإتّجاهِ والقتْ بِطُوبةٍ خلالَ إحدى النَّوافذِ علّها تدخُلُ السّجنْ. وهذا ما نجحتْ فيهِ حيثُ أُصدِرَ عليها حُكْمٌ بالسّجنِ لمدّةِ شهرين (يتساءلُ المرءُ ما إذا كان "الكوميُون" سيكونُ رفيقاً هكذا مع مدام ستيل إن لم تفلح في الهروبِ من السّجنْ؟)
ألّفتْ إثيل نشيداً للحركةِ النّسائيّةِ سمّتْهُ "زحف النّساء". وفي مناسبةٍ كانت فيها النّساءُ المُناضلاتُ في سبيلِ حقوقهِنَّ الإنتخابيّةِ يزحفْنَ في مسيرةٍ ويُغنّينَ ذاكَ النّشيدَ قُبالةَ نافذةِ غرفةِ السّجنِ التي اعتُقلتْ فيها وقفتْ هي على صُندُوقٍ وقادتْ، من خلالِ النّافذةِ، الأداءَ الموسيقيَّ-الغِنائيَّ لهُ مستخدمةً، في ذلكَ، فِرشاةُ أسنانِها (ظلالٌ من مشهدِ الدّهماءِ في "البليس دي قريفاس").
هنالكَ صديقٌ جديدٌ آخرٌ لإثيل اسمث هو الكاتبُ والدبلوماسيُّ موريس بيرنج الذي أمسى عزيزاً ومُقدّراً في حياتها أكثرَ من أيِّ رجلٍ آخرٍ باستثناءِ بروستار. صمدَ وفاءُ ذلك الصديق لإثيل أمام كلّ الإمتحاناتِ الدّنيويّةِ، بل هو ما انفكَّ باقياً هناكَ وحيّاً رُغمَ مشاركةِ إثيل في الحركةِ النّسويّةِ المتطرِّفةِ من أجلِ حقوقِ النّساءِ الإنتخابيّةِ التي كان موريس بيرنج مُنكِراً عليها إنكاراً شديداً... "ظلَّ (موريس) هو الأعظمَ إخلاصاً من بينَ أصدقاءِ إثيل حتّى حانتْ منيَّتُها..." كتب موريس، ذاتَ حينٍ، عن بروستار أنّهُ كان "واحةً خِصبةً في بلادٍ يبَابْ- فشعُورُهُ قد انطوى على رسالةِ الزّهُورِ التي لا تحتاجُ إمّا إلى أن تكِدَّ أو تغزلَ نسيجاً".
كان برونو والتر أحد أصدقاء إثيل المخلصين وناصحيها. كتب، مرّةً، عنها:- "أنا أعتبرُ إثيل اسمث مؤلّفةً مسيقيّةً متفرّدةَ الأهمّيّةِ والخُصوصيّةْ. فهي فهي، قطعاً، ستُحظى بمقامٍ كريمٍ ودائمِ في تاريخِ الموسيقى".
صارتْ إثيل اسمث سيّدةَ الإمبراطوريّةِ البريطانيّةْ.
عند موتها، في عام 1944، كتب إدوارد ساكفيلي ويستْ، عن هذه الشّخصيّةِ المُنمازةِ، وصفاً يمسُّ الحقيقة:- "أيُّ يومٍ في حياةِ شخصٍ مُطْلَقِيٍّ كهذا يُنشئُ حكايا (حواديتَ) بنفسِ الصّورةِ الطبيعيّةِ التي يُنشئُ بها طائرُ أُغنيةْ. إنّ كلَّ القصصِ المؤلّفةِ حول إثيل اسمث حقيقيّةْ. ذلكَ لأنّ لا أحدَ كان سيعبأ باختراعِ مثيلاتها ما دام هنالكَ منبعٌ غزيرٌ يُفيضُ بهُنَّ. تميّزتْ إثيل بقدرةٍ على المحادثةِ شُهِرَتْ بها عن جدارةْ. وما تمثّلتْ تلكَ على هيئةِ حوارٍ ذاتيٍّ (أو مونولوغ) إلا لأولئكَ اللذينَ كانوا أكثرَ خوفاً من أن يُفكّرُوا في تحدّيها بقناعاتهم المختلفة، جهراً وعلناً...... "إنّ الخلافات الكلاميّة مع إثيل كانتْ دوماً عاصفةً، بيد أنّها ما انتهتْ، يوماً من الأيّامِ، بغيرِ الضّحِكْ"... ما شعرتْ إثيل في حياتِها إلا بالحبِّ أو الكرهِ تجاه سواها من النّاسْ. لكنَّ الحبَّ هو الذي حازَ على أكبرِ اهتمامها وعنايتها. لذلكَ غدتْ، في عيُونِ أفرادِ النّاسِ، مودودةً وعظيمةً... إنّ إثيل اسمث، بأيّ مقاييسٍ شاءها النّاظر، هي واحدةٌ من بين أعاظمِ النّساءِ اللّواتي ترعرعنَ في هذا البلد، غيرَ أنّ موسيقاها أقلَّ حسناً من ذاتِها... قال بعضُ النّاسِ إنّ كتاباتَها أجملَ من موسيقاها. لكنّني أقولُ إنّها قد وحّدتْ، على أنحاءٍ عديدةٍ، حساسيّةَ امرأةٍ بقُوّةِ رجُلٍ ذهنيّةٍ (عقليّةٍ)، خصوصاً في "قُدّاسِها"... إنّها قد امتلكتْ في ذاتِها، على هيئةٍ رائعةٍ جدّاً، الأصالةَ والنّارْ. ولو تأمّلَ الإنسانُ عملَها لمسَّ فيهِ "انتصاراً للعاطفةِ على العقلْ... فهنالكَ عاطفةٌ إنسانيّةٌ عظيمةٌ كامنةٌ في منهَلِ موسيقاها، عاطفةٌ لهيبُها ينساقُ مُنجَرِفَاً من غايةٍ إلى غايةْ".
- إبراهيم جعفر
- مشاركات: 1948
- اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am
3
إنّ درسَ تلكَ الحياةِ هو، بالتّأكيدِ، أننا سننجزُ أكثرَ إن سمحنا لروحنا، لذاتنا العُليا، بحريّةِ التَّعبيرِ عن مكنوناتِها وقابليّاتها. فلنثلْقِ بعيداً بالقناعاتِ السّاجِنَةِ وحواجزِ العُرفيّةِ العتيقةْ!
ليس لحديثنا السّالفِ أن يُفهَمَ على أنّهُ رفضٌ تامٌّ للتّقاليدِ أو إقامةُ دعوى مطلقة ضدَّ العُرفْ. فالعرفُ (أو التّقليدُ) كثيراً ما يكونُ قلعةً للمجتمعِ تُنْصَبُ بها دعائمٌ أخلاقيّةٌ (ورُوحيّةٌ) للتّمييزِ القِيَمِيِّ، للنّظامِ وتقديرِ مشاعرِ الآخرين. وتلكَ أشياءٌ وقيمٌ لا غنىً عنها إن شاءَ وقايةَ نفسِهِ من التفكّكِ والانهيارْ. عليهِ نحنُ نرجُو أن يُؤخذَ ما ذهبنا غليهِ آنفاً على أنّهُ دعوةٌ لنزعِ قِناعِ الزّيفِ والسّطحيّةِ عنّا، للتّحرُّرِ من ذلكَ التَّصَنُّعِ الّذي عمَّ انتشارُهُ في مُجتمعاتِنا الحاضرةِ بحيثُ أنَّهُ صارَ مُخْرِسَاً لقُوَّةِ الرّوحِ فينا وكابحاً لتطوُّرِهَا ونمائِها!
حينما تحيا الرّوحُ حقيقتَها الخاصَّةَ بحُرِّيَّةٍ، رُغمَ ما يستلزِمُهُ ذلكَ منها من شجاعةٍ وبعضِ خيباتٍ، فإنّها، بطريقةِ عيشِها الجّريئةِ تلكَ، سوف تسمُو بصاحبِها الإنسانِ عالياً.
... "ولسوفَ ترعانا الآلهةُ على سبيلِنا".
الفصل الحادي عشر
روزاموند لِيْمَانْ
1
من العسيرِ على الإنسانِ، في هذه الدّراسةِ، أن يُدرِكَ الموضعَ الذي يحسنُ بهِ فيهِ أن يتوقّفَ عن تحريّاتِهِ. لقد مضتْ سنينٌ عديدةٌ منذُ أن حُفِّزْتُ على أن أشرعَ في "جمعِ التُّحفِ الأثريّةِ" هذا. والحقُّ أنّ كونِيَ جامعةً لتلكَ "التُّحفِ" التي مُثِّلَتْ لي في نماذجٍ وهيئاتٍ إنسانيّةٍ جعلني، في غايةِ الأمرِ، مُوغشلَةً أكثرَ في استثارتِي ومُتعتِيْ.
هذه ليستْ مُجرّدَ لُعبَةْ. فهي، كما قال عنها "المُعلّمُ"، "ليستْ بأقلِّ من دراسةٍ معنيَّةٍ بمسألةِ الرّوحِ الإنسانيّةِ والعواملِ التي تُكسبُها انعتاقَها وحرّيَّتَها". ثمّ أبانَ لي، وأنا في غايةِ العجبِ، أنّه قد تعرّفَ بهاتيكَ الأرواحِ والهيئاتِ الإنسانيّةِ في "الآمادِ العُلَىْ" وقالَ مُعلِّلاً:- "إنَّ ذلكَ هو السّببُ في انتقائي لهم".
تحضُرُني هُنا، مرّةً أخرى، خاطرةُ ف. و. مايارَسْ المتأمّلةُ التي اقتبسناها عنهُ باكراً:- "ليس من السّهلِ التّحقُّقَ من (أو ادراكِ) صِحّةِ أيِّ نظريّةٍ عن الخلقِ "الآنيِّ المُباشرِ" لأرواحٍ هي على هذا التّباعُدِ والإختلافِ في مراحلِ تطوُّرِها الرُّوحِيِّ كما هو الحالُ والأرواحُ التي تدخُلُ في مجالِ كوكبِ الأرضِ متخفِّيَةً في هيئةِ الكائنِ البشريِّ الفانِيْ. إنّ المرءَ ليشعُرَ بأنّهُ ينبغِي أن يكونَ هُنالِكَ نوعٌ ما من الإستمراريّةِ، نوعٌ ما من الماضي الرّوحيِّ الواصلِ ما بينَ فرديّاتِ هاتيكَ الأرواحْ". إنّ هذا الموقفَ الجذلِيَّ الحكمةِ يجعلُ من أمرِ تخيُّلِ الأرواحِ "كينُوناتٍ" نُفِخَتْ- في الحالِ- في الأجسادِ، كما يُنفخُ الهواءُ في بالونٍ مطّاطيٍّ، شيئاً مُفرطاً في العبثيّةْ. فوِفقُهُ تغدُو الاروحُ جوفاءَ ومُفرغَةً من أيِّ ماضٍ:- كينوناتٍ طارئةٍ أُولِجَتْ، عشوائيّاً- أو بضربةِ لازبٍ- في الهيئاتِ الفيزيائيّةِ لأفرادِ كلِّ عائلةٍ إنسانيّةْ.
إنّ هدفنا، في هذه الإنشغالاتٍ الفكريّةِ، هو، بالطّبعِ، محاولةُ الوصولِ إلى نوعٍ من فهمٍ مُقنعٍ ومنطقيٍّ لكيفيّةِ تطوّرِ الحياةْ. ما هي القوانين التي تحكُمُ ترقّينا الحيوِيْ؟ ولكن هل نستطيعُ التّسليمَ بأنّنا نترقَّى؟ إنّ العقلَ الإنسانيَّ سيحتارُ حين لا يكونُ هُناكَ هدفٌ عقلانيٌّ "في هذا الموكبِ الإنسانيِّ المُعجَبِ العتيدْ".
وإذا اهتدينَا- الآنَ- إلى الطّريقِ، إلى ذلكَ الدّربِ المُتلوّي الصّاعدِ إلى اعالي جبالِ الأبديّةِ، كم سيكونُ مثيراً لنا أن نتمعّنَ في العواملِ التي تُوجّهُ ترقِينا على مدارجِهِ- أو انزلاقنا المرتدِّ إلى أسافِلِهِ. ليس هنالكَ من رحلةٍ جديرةٍ بأن تكُنْ ذاتَ هدفْ. فبدُونِ الخارطةِ أو البوصلةِ، بدُونِ عصاةِ التّسلُّقِ الجّبليِّ التي تستقيمُ، بعونها، خُطانا وبدُونِ الإرشادِ في شأنِ كيفيّةِ تيسيرِ وتعجيلِ صعودنا الجَّبَليِّ الحثيثِ سنكونُ، في الحقِّ، ضائعِينْ.
لماذا لا نتذكّرُ كفاحاتنا الماضيةْ؟ سألتْ. أُجِبْتُ:- "ذلكَ لأنَّ العُروةَ التي تُوثّقُ أيَّ مستوىً من مستوياتِ كينونتنا بالمستوياتِ الأخرى- والتي هي أشبَهَ بحبلِ سُرَّةٍ- لا تستطيعُ السَّماحَ بعبُورِ رسائلِ الذّاكرةِ، من خِلالِها، إلى العقلِ الواعي. فأمرُ تلكَ معها كأنّهُ أمرُ ذبذبةٍ كهربائيّةٍ عاليةٍ قُضِيَ عليها أن تشُقَّ طريقَها، قَسرَاً، عبرَ مُوصّلٍ سالبٍ للطّاقةْ". هذا، كما قال غاندي، فيهِ رحمةٌ لنا فذاكرتُنا، لولاهُ، سوفَ تُثْقَلُ بالأعباءِ النّفسيّةِ والرّوحيّةِ فتُهدُّ، بذلكَ، أرواحُنا تحتَ وطأةِ معرفةِ تراجيديّاتنا السّالفةِ وخيباتِنا. إنَّ الدّرُوسَ الأخلاقيّةَ الأساسيّةَ المُستفادَةَ من أيِّ حياةٍ مُفردةٍ مُندغِمَةٍ في سِجِلِّ ذاتِنا الأعمقْ. فهي، لو تُعِلِّمَتْ، ستكونُ راسخةً هناكَ إلى الأبد- شأنُها في ذلكَ شأنُ القواعدِ الاخلاقيّةِ العامّةِ التي يستفيدُها الإنسانُ الفردُ في حياتِهِ الحاضرةِ فلا ينساها من بعدِ ذلكَ، مثلُ الطّهارةِ الشّخصيّةِ أو الرّأفةِ بالآخرينَ من النَّاسِ والحيواناتْ. فتلكَ قد صُبِغَتْ على صُوفِ النّفسِ الشّاعرةِ، وهي ستندغِمُ على نسيجِها حتّى ولو كانتْ هُنالِكَ، أحياناً، ارتكاساتٌ تتخلّفُ بالمرءِ، وهو دربِ سعيِهِ المتقدّمِ، عن أن يكونَ على قدرِ مِثالِها.
ليس هنالكَ من شيءٍ مُعينٍ لنا، في كشفِنا هذا عن شتّى أبعادِ الكينونةِ، على الفهمِ الأعمقِ سيُضحِيْ، على كلِّ حالٍ، مَضيَعَةً لمثابرتِنا على استكناهِ جوهرِهِ- ونحنُ مُفعمُونَ بالعِرفان- في المنبعِ الوهّاب لكلِّ الأشياءِ والأحياءْ.
هُنالِكَ سؤالٌ يُسألُ أحياناً:- هل لنْ يُؤْذِنَا دوامُ تمعُّنِنَا في هيئاتِ حيواتِنا السّالفةِ إن سبقَ لبعضِ هاتيكَ الحيواتِ أن صارَ معرُوفاً لدينا؟ أحياناً قد يكونُ الأمرُ هكذا، خاصّةً في حالِ عُلُوقِ ماضٍ زاهٍ ومؤثّرٍ، أو ذي انميازٍ، بذاكرتِنا. لكن حين يكونُ المرءُ قد أُنعِمَ عليهِ بالعِلمِ عن صفاتِ حيواتٍ شتّى من حيَواتِهِ (أو حيَواتِ سِواه) الماضيةِ ينبغي عليهِ، وقتذاكَ، أن يُفكّرَ في هاتيكَ على أنّهُنَّ لسنَ سوى أشكالِ موازنةٍ لتجاريبٍ سالفةٍ وألاّ يُعلّقُ، بالتالي، أهمذيّةً أشدَّ كِبْرَاً على أيٍّ منهُنَّ دونَ الأُخرَيَاتْ. إنّ حيواتَنا مُندرجَةٌ في مُنمنمَةٍ عامّةٍ لحادثاتٍ تُنشئُ معاً جِمَاعَ الطّاقاتِ أو الصّفاتِ الألُوهيّةِ التي شيّدنا عليها كياناتنا النّفسيّةَ أو الشِّعُوريّةْ... فتلكَ الطّاقاتُ أو الصّفاتُ الألوهيّةُ قد ذابتْ في ماضيِ فرديّاتِ أرواحِنا مُشكّلَةً، بذلكَ، الأساسَ القاعديَّ لكينونتنا الحاضرةْ. نحنُ لسنا مُجرّدَ "هذا" أو "ذاكَ" من الهيئاتِ التي نحنُ عليها الآنْ. فهي أو هُوَ (هذهِ المرأةُ أو ذاكَ الرّجُلُ)، كشخصيّاتٍ أو هيئاتٍ نفسيّةٍ- فيزيائيّةٍ، ما شاركا في تكوينِ ذاتيهما الحاضرتين إلاّ بما وُهِبَاهُمَا من إيقاعٍ وصورةٍ ذُوِّبَتْ في هيكلِها شخصيّتيهُمَا الماضيتَينْ. فما تلكُم الشّخصيّتان الماضيتان سوى اثنينَ من الثَّلَمَاتِ (الشَّرائحِ) العديدةِ المُكوِّنَةِ معاً اسطُوانةَ ماضينا الطّويل العهُودْ.
ربّما أَعِدْنَا أنفُسَنَا على دربِ رُجْعَىْ إلى ما كُنّاهُ في الماضي، إن كانَ لنا أن نُوغِلَ، بِكَبَدٍ شديدٍ، في خواطِرِنا عن الحياةِ، أو الحيَواتِ، التي هوتْ إليها مُخيِّلاتُنا وأفئدتُنا أكثرَ من غيرِها من حيواتنا الكثيرةِ الماضيَةْ... لكن "الحاضرَ" هو ما يجبُ أن يُعاشْ. فالطّاقاتُ المنسوجةُ في عمقِ تاريخِنا الغابرِ هي أُسُسُ ذاتِنا العُليا الحاضرة، لا أكثرَ ولا أقَلْ.
حينَ بدأتُ هذه الدّراسةِ ما خطَرَ ببالِي أنٍّ سيُرجَىْ منّي إشهارَ استكناهاتِها هذي على الملأ. ثمّ حينَ وجدتُ نفسي، بعدَ سنينٍ لاحقةٍ عديدةٍ، مدفوعةً إلى استخدامِ شيءٍ من أمثِلَةِ "المُعلّمِ" النّاطقةِ بفنِّ اكتِشَافِهِ البديعِ فكَّرْتُ:- حَسَنَاً، ربّما تكونُ نماذجٌ قليلةٌ جدّاً منها مقبُولةْ. لكنّني الآنَ، إذ مضيتُ بعيداً في اتّجاهِيَ المُختَلِفِ رُغمَ معرِفَتِي بأنَّ العالمَ يُسفِّهُ ما لا يفهمُهُ، أشعُرُ بأنَّنِي ينبَغِي عليَّ أن أُغَامِرَ بما أنا- حاليّاً- مُغامِرَةٌ بهِ، وإلاّ لفشلتُ في أن أُجَازِيَ جُوْدَ "مُرشِدِيْ" بإحسانٍ وإنصافْ.
2
إنّ الرّوح التي سندرس الآنَ أوجُهَاً من سيرتِها، بإذنها، هي من كانت السيّدة ذائعة الصّيت مدام دي سيفين. إنّ حياةَ ورونقَ تلك السيّدةِ قد شعّا، ثانيةً، في هذا القرنِ العشرينِ، في شخص الكاتبةِ الشّهيرةِ روزاموند ليمان.
ما أن أصدرت روزاموند ليمان روايتها الأولى المسمّاة إجابةٌ مُغبرَّةٌ، وهي في سنّها الحاديةِ والعشرين، حتّى صارتْ، ما بينَ ليلةٍ وضُحاها (كما يُقالُ في التّعبيرِ الدّارِجِ)، على رأسِ قائمةِ المؤلّفين اللذين لديهُم كُتُبٌ أكثرَ مَبَاعاً في السّوقِ الثّقافيّةْ. منذُ ذلك الزمانِ مضت روزاموند ليمان من قوّةٍ إلى قُوّةٍ في مسارِها ككاتبةٍ فألّفتْ رواياتٍ كثيرةً مُقتدرةً، ثمّ صارتْ رئيسةَ "المركز الإنجليزيِّ"، ولاحقاً نائبةً عالميّةً لرئيس "الإتّحادِ العالميِّ للقَلَمْ". ومن موقعِ منصبِها الأخيرِ طافتْ، بقدرٍ كبيرٍ، في مختلفِ أرجاءِ العالمِ، تقريباً، صديقةً عزيزةً لأيِّ شخصيّةٍ بارزةٍ في هذه الدّنيا تشاءُ- أيّها القارئُ- الإشارةَ إليها. نحنُ- إذاً- سنُمسكُ هنا بلمحةٍ من التّلمذةِ على أصولِ الكتابةِ التي تمتّعتْ بثمارِها "كاتبةٌ بالميلادْ". إنّ الإهتمامَ الودودَ لتلكَ الرّوحِ الإنسانيّةِ برفاقِها من المخلوقاتِ البشريّةِ، والذي عبّرَ عن نفسهِ، في أحدِ القرُونِ، على صورةِ كتابةٍ دائمةٍ للرسائلِ إلى الأصدقاءِ والأحبابِ، قد "زيَّتَ" عجلاتِ وعيِها وشعُورِها فتمكّنتْ من فنِّ توصيفِ شخُوصِ أفرادِ النّاسِ وما يُلفِّعُ معاشَهُمْ من أحداثٍ، بل وجسّدتْ ذاكَ الفنَّ، بسحرٍ وفطنةٍ وعمقٍ في الفهمِ، في حياةٍ تاليةْ.
في هذه الدّراسةِ القصيرةِ عن مدام دي سيفين، التي عاشتْ ما بينَ عام 1627و1696، سأقتبسُ مقتطفاتَ حرفيّةَ عن البيوغرافيا الوطنيّة وعن بيوغرافيا أخرى ألّفتْهَا جانيت آلدسْ. تُقَدّمُ لنا الفقرةُ الأولى من الكتابِ الأخيرِ وصفاً دقيقاً للرّوحِ إيّاها ينطبقُ، بتساوٍ، على هيئتيها الدُّنيويّتين في القرنِ السّابع عشر وفي الزّمان الحاضر (في القرن العشرين) فتقثولُ عنها إنّها:- "جميلةٌ في شخصها، مُكتملةُ العقلِ، فَطِنَةٌ، حيويّةٌ وذكيَّةٌ إلى درجةٍ غيرِ مألُوفةٍ، وموفَّقَةٌ تماماً في المجالِ الإجتماعِيْ. مع ذلكَ هي ما فقدَتْ أبداً حُبَّها للطّبيعةِ السّاذجَةِ فكانتْ خُضرةُ الحقُولِ، أو راقُ نباتاتِ الغابةِ الكثيفةِ، أريجُ الشُّجيراتِ المُتسلّقَةِ، ثمّ أغنيةُ العندليبِ منابعَ بهجةٍ هي شغُوفةٌ بالإحتِفاءِ بها... عندَ طِلُوعِهَا الأوّلِ في آفاقِ المجتمعِ الباريسيِّ ترامَىْ عُشّاقٌ كُثُرٌ على قدميها فقبلَتْ منهم زوجاً لها ابنَ أُخْتِ الكاردينال دي ريتز المُسمَّى الماركيز دي سيفين. تمّ عقدُ قرانهما في عام 1644 وهي ابنةُ ثمانيةِ عشرةِ ربيعَاً. ما كان ذلك الرّجُلُ جديراً بها فهو، بخُشونتِهِ وحسيّتِهِ، بجَريِهِ الدّائمِ وراءَ النّساءِ، ما أحبَّ قطُّ أيَّ شخصٍ مُستأهلٍ للحُبِّ مثلَ شخصِ زوجتِهِ". بعد الزّواجِ صارتْ مدام دي سيفين إحدى زيناتِ "الهوتيل دي رامبويليه"، ذلك الرّائدُ بين صالوناتِ باريسِ حيثُ، تحتَ إشرافِ مدام دي رامبويليه، بُدِّلَ مُجتمعُ باريس من عهودِهِ الفِروسيّةِ الخشنةِ والبّدائيّةِ إلى عهودِ تهذيبٍ وكَياسةٍ فخيمةٍ في السّلُوكْ. صارتْ مدام دي سيفين، في ذلك المجتمع، مركزَ الجّذبِ لفُطناءِ ونبلاءِ تلك الأيّامْ. ورُغمَ أنّها قد عُرِّضَتْ، حينذاكَ، لإغواءاتٍ عديدةٍ وهي الفتاةُ ذاتُ الدّلالِ والغَنَجِ الطّبيعيِّ، إلاّ أنّ سُمعتَها ما وشَبَها، أبداً، شيءٌ مُشِيْنْ. ومُحاصرَةً، في أوقاتٍ شتّى، بمغازلاتٍ من رجالٍ من أمثالِ تيُورِينينْ، الأمير دي كونتي، الوزير فوكو، وقريبها الذي لا يُقاوم بُسِي-رابوتين وكثيرٍ من أُخرٍ صمدتْ تلكَ الفتاةُ، بشجاعةٍ وبشاشةٍ، في أوجُهِهم جميعاً، قبلَ وبعدَ ترمُّلِها... احتفظَتْ مدام دي سيفين بصداقةِ العديدينَ من أولئكَ الرِّجالِ، ولفوكو ظللّتْ مُخلصةً "في أيّامِ هَوانِهِ على النّاسْ".
بعد سبعِ سنينٍ من الزّواجِ ترمّلتْ مدام دي سيفين وحُرِمَ ابنُها وابنتُها من أبيهما. فلقد اغتِيل زوجُها الماركيز في مُبارزةٍ لحسابِ سيِّدةٍ تُدعى السَّيِّدةُ قَوردانْ. "عندما تمرّغَ زوجُها، بعُمقٍ ويوماً إثرَ يومٍ، في العارِ والهوانِ والدَّيْنِ غفرتْ له مدام دي سيفين خطاياهُ الصّارخةَ في حقِّها وهبَّتْ لمساعدتِهِ بمبلغِ خمسينَ ألفٍ من الكروناتْ". ما شكَّ أحدٌ في حقيقةِ وإخلاصِ أساها عليهِ. ونحنُ ندركُ كم كانتْ هي امرأةً ذاتَ حساسيَّةٍ وانطباعاتٍ قلبيّةٍ وعقليّةٍ أخّاذةٍ، وكم كانتْ، كذلكَ، حيّةَ الشّعُورِ ومُفْعَمَتْهُ تجاهَ مباهجِ الحياةِ رُغمَ أنّها، في ذاتِ الوقتِ، سهلَةَ الإنمِساسِ والتأثُّرِ بالأسىْ. ورُغمَ الإذلالِ الذي سبّبَ لها زوجُها مُعاناتَهُ، بل ورُغمَ حتّى التّتويجِ المُكايِدِ، القاسي، لذلكَ الإذلال بالطّريقةِ التي ماتَ بها إلاّ أنّها ما تمالكتْ نفسَها من الحُزْنِ الطّاغي على فُقدانِهِ. وواهبةً نفسَها، منذُ ذلكَ الزّمانِ وما بعدِهِ، لتعليمِ طفليها وإصلاحِ شؤونِ بيتِها الماليّةِ والدّنيويّةِ المثتهالِكَةِ انسحبتْ مدام دي سيفين إلى مُتّكئِها في بلدةِ لي روشارس بمقاطعةش بريتانيا حيثُ وجدتْ انشغالاً مرغُوباً وتسريةً في رِعايةِ حديقتِها المحبوبةْ. ثمّ عادتْ، أخيراً، إلى المجتمعِ الباريسيَِّ كي تشعَّ برونقٍ أكثرَ بهاءاً من جميعِ ما مضىْ.
ظهرتْ قُوّةُ وعثمقُ شعُورِ مدام دي سيفين الأموميُّ في كلِّ صفحةٍ من صفحاتِ رسائلها المُحتفَى بها. ولقد كتبتْ المدامُ غالبيّةَ هاتيكَ الرّسائلِ إلى ابنتِها التّي غدتْ، بحكمِ الزّواجِ، الكونتيسة دي قِرقنان وعاشتْ، مع زوجها، في الأقاليمِ وبعيداً عن العاصمةْ. صوّرَتْ رسائلُ مدام دي سيفين عهدَ سُلطانِ المَلِكَةِ آن في النّمساويّة على فرنسا "في أكثرِ الألوانِ بريقاً في خطُوطِها... كذلكَ صوّرَتْ أيضاً عهدَ الملكِ لويس كواتورز الزّاهيْ. ووصفَتْ- في ذلكَ الإطارِ- دسائسَاً، مغامراتٍ ومشاهداً، بحيويّةٍ بهيجةٍ في الخيالِ وبدقّةٍ في التَّفْصِيْلْ. ثمةُ نغمةِ دُعابةٍ خفيفةٍ كانتْ ساريةً خَلَلَ هاتِيْكَ الرّسائلِ تتغيّرُ، في الحالِ، إلى جِدّيّةٍ مُنذرةٍ حينَ يلمُّ صداعٌ أو أخفُّ سُوءٍ بمدام قِرِقنانْ التي كان قوامُها وتفاصيلُ هيئتِها، بل وحتّى شعرُها وأسنانُها، مواضيعَ قلقٍ أنثَويٍّ لمدام دي سيفين".
كتب الماركيز دي لا فاياتي صورةً قلميّةً لمدام دي سيفين حين كانت في الثالثةِ والثلاثينَ من عمرِها. ومن تِلكَ السّطُورِ نستجمِعُ انطباعاً عن شخصيّتِها الحيّةِ المحبوبةِ إذ خاطبها الماركيز فيها قائلاً:- "أنا لا أرغبُ في أن أغمُرِكِ بالمدائحِ، أو أُضَيِّعُ وقتي في إنبائكِ بأنّ هيئتَكِ باعثةٌ على الإعجابِ وانَّ قَوَامَكِ ذو نُضرةٍ وجمالٍ يُؤكِّدانَ لنا أنّكِ ما تجاوزْتِ العشرينَ من العمرِ (وإن فعلْتِ)... إعْلَمِي إذاً أيّتُها السيّدةُ- إنْ ما سبقَ لكِ العلمُ أقُول، في سانحةٍ ماضيةٍ ما- أنّ عقلَكِ يُزِيْنُكِ زينةً عظيمةً ويُجمِّلُ شخصيّتَكِ وانّهُ ليس ثمةُ شيءٍ على ظهرِ هذه البسيطةِ بهيجاً ولطيفاً كما أنتِ حينَ تُحْيَِيْنَ بمُحادثَةٍ مُحَرَّمٌ عليها الحظرُ والقيدْ. وكلُّ ذلكَ الذي تقولينَ هو من اللّطفِ والسَّمَاحَةِ والإنسجامِ بحيثُ أنَّ كَلِماتَكِ تجذبُ، من حواليكِ، الإبتساماتِ والنَّغَمْ... إنّ عقلَكِ لَعَظِيْمٌ ونبيلْ... أنتِ تُحبّينَ المجدَ والطّمُوحَ، كما وتُحبّينَ المسرّاتِ على قدرٍ مساوٍ لذاكَ... أنتِ تُبدِيْنَ وكأنّكِ قد وُلِدْتِ من أجلِ أولئكَ، كما وأنَّ أولئكض يبدونَ وكانّهم خُلِقُوا من أجلَكِ... حضُورُكِ يَصْرِفُ الأنفُسَ إليكِ، وهذا الصَّرْفُ يُزِيْدُ في قَدرِ جمالِكْ... أنتِ، بطبيعتِكَ، رقيقةٌ وعاطفيّةْ. وقلبُكِ- أيّتُها السيّدةُ- هو، بلا شكِّ، كنزٌ لا يستطيعُ أحدٌ أن يكونَ جديراً بهِ..." ذلكَ بعضُ ما فاضَ بهِ قلمُ الماركيز عن تلك السيّدةِ النّبيلةِ، وهُنالكْ مزيدْ.
ولقد واتتنا صورةٌ قلميّةٌ أخرى، عن الأمِّ دي سيفين وطفليها، من دَيرِ آرتود، حين كان الصّبيُّ والصّبيّةُ في التّاسعةِ والحاديةِ عشرةِ من عمريهِما:- "أتخيّلُ أنّني ما أزالُ، الآنَ، مستطيعاً رؤيتَها كما بدتْ لي في اليومِ الأوّلِ الّذي شُرِّفْتُ فيهِ برؤياها. لقد وصلتْ، حينذاكَ، إلى حيثُ كُنتُ في مركبةٍ مفتوحةٍ وابنها وابنتها بجانبها، كما في رسمِ الشُّعراءِ لمشهدِ الإلهةِ لاتونا وهي مصحوبةٌ بأبّولو الشابِّ وديانا الصّغيرة، فجمالُ الأمِّ وطفليها كان مُذهلاً جدَّاً".
تلقّى طفلا مدام دي سيفين تعليماً حسناً فألمّا باللّغتينِ اللاتينيّةِ والإيطاليّةِ اللتينَ درساهُما على يدِ أمّهما الموصوفةِ، في أقوالِ النّاسِ، بأنّها "عرفتْ الكثيرَ الخطيرَ دونَ أن تُصرِّحَ بأنّها تعرفُ أيَّ شيءْ".
كتبتْ، مؤخّراً، رسالةً إلى ابنتها قالتْ فيها:- "أُهْـ، كم هم قليلون أولئكَ الأفرادُ من النّاسِ اللذينَ هم، بصورةٍ مُطلقةٍ، على "حَقْ"! إعتَبِرِي هذه الكلمةَ قليلاً وسوفَ تُحبّيْنَها. إنَّ بِليسيس الألوهيّةَ ليستْ دوماً على "خطأ". أنا أُشرِّفُها شرفاً كبيراً جدّاً حتّى ولو تحدّثْتُ عنها بسُوءْ. إنّها تُمثّلُ كلَّ أنواعِ الشّخصيّاتِ فتتقمّصُ أدوارَ الإنسانةِ المتفانيةِ، الماهرةِ، الإنسانةِ التي لا استغناءَ عنها، الإنسانةِ الأنيسةِ لكن، فوقَ كلِّ ذلكَ، هي الإنسانةُ التي تُقلّدُنِي بطريقةٍ هي من الطَّرافةِ بحيثُ أنّها تُسلّينِي بذاتِ القدرِ الّذي قد تُسلّيْنِي به رؤيةُ وجهيَ المُشَوَّهِ على صفحةِ إناءٍ زُجاجيٍّ أو سماعِ صدىً يُرجِّعُ- كذلك الذي لدى هيُودِبْرَاسْ- لا شيءَ سوى أصواتٍ لا مَعَنَىْ لها".
هنا تتحدّثُ روائيّةُ المستقبلِ البصيرةُ الشّعُورْ. فالشّخصيّتان إيّاهما متناسجتان فيما بينهما بطريقةٍ شديدةِ التّشَابُكِ بحيثُ أنّها تُغْرِيْ المرءَ برسمِ خُطوطِ ملامِحِهما في مقالٍ واحدْ.
أُذهِلَ البِلاطُ الفِرنسيُّ بجمالِ إبْنَةِ مدام دي سيفين، وهو يراها تشبُّ عن طوقِ طفولتِها، كما أُذهِلَ، من قبلٍ، بجمالِ أمّها. قال تريفيلَسْ:- "إنّ جمالَها رُبّما يُشعِلُ العالمَ بنارِهِ"، كما ودعاها قريبُها بُسِيْ-رابوتين "أوسمَ الفتياتِ في فرنسا". ولقد صوّرَتْها اللّوحةُ التي رسمها لها مِقنَارْدْ، وهي في آنِ ظِهُورِها الأوّلِ في مُتحفِ اللّوفر، "رَوِيَّةً، بحُسنِها، رُواءَ زهرةٍ نفيسةْ"... "في تِلكَ السّنينِ أكسبها جمالُها، قبلَ زواجِها، نجاحاً باهراً ولا جِدالَ فيهِ في البِلاطِ الفِرِنْسِيْ. وآنما بدتْ في أرجاءِ ذلكَ العالمش الفخيمِ حيّتها زُمرةُ مُرنِّمِيْنَ بسيلٍ من المديحِ والإطراءِ طوّقُوْهَا بهِ من كّلِّ صوبْ. ولَرُبَّما أرضى مشهدُ الحبِّ ذلكَ قلبَ أمّها المُحبّةِ المُدَلِّلَةِ أكثرَ ممّا فعلتْهُ، أبداً، أيُّ تحيّةِ عِرفانٍ وتقديرٍ لمحاسنِها تلقّتْها هيَ في سالفِ، أو حاضرِ، الأيّام". ومثلُ الأمِّ حازتْ الإبنةُ على "رشاقةِ ولُطفِ الرّاقصةِ الكامِلينْ". لذا اختارَها الملِكُ كي ترقُصَ في الباليه التي عُرِضَتْ في "الباليس رويال" وكان من بينَ ممثّليها الشّابُّ روي سولِيَلْ بذاتِهِ وصِفاتِهِ. وفيما هي رائيةٌ لذاكَ العرضِ الفنِّيِّ أقرّتْ مدام دي سيفين لنفسِها بأنّ ابنتها قد كانتْ- وما تزالُ- "العاطفةَ الوحيدةَ لفؤادشها، مسرَّةَ وعُذُوبَةَ حياتِها".
في الرّسائلِ التي كتبتها الأمُّ المُدلّهَةُ وكُوفِئَتْ، بفضلها، بشهرةٍ وصيتٍ مُستحقّينَ كثيراً ما نُوهبُ لمحاتٌ حِسّيَّةٌ عن حالتِها الشِّعُورِيَّةِ في آنِ افتِرَاقِ ابنتِها عنها إلى زوجِها وطرقِها، إلى هُناكَ، سبيلَ رحلةٍ طويلةٍ وفيرِ مأمونةِ المسالكِ، رحلةٍ رُبّما قُدّرَ للفتاةِ أن تُغامرَ بها في عِزِّ الشّتاءِ، عبرَ عواصفِ المطرِ والرّيحِ السّيّالةِ، بشراسةٍ طليقةٍ، على الدذروبِ والأنهارْ.
"إنّ أسايَ سيكونث خفيفاً جدّاً إن استطعتُ أن أعطيكُم وصفاً لهُ. أنا- إذاً- لن أُحاولَ ذلكْ. أنا أبحثُ، في كلِّ فجٍّ من فِجاجِ هذه الدّنيا، بلا جدوى، عن طفلتِي العزيزةِ فلا أجدُ لها هيئةً. فكلُّ خطوةٍ تتّخذها تحملُها في طيّاتِ مسافةٍ أشدَّ إيغالاً في ابتعادِها عنّيْ. تبدَّى لي أنَّ قلبِي ورُوحي بعينهما قد نُزِعَا مزقاً من بين جوانحي. يا إلهي! كم هو من فِراقٍ قاسٍ!" ومُشرَّدةُ الخواطرِ والفِكرِ بفقدانها مضتْ الأمُّ الآسيةُ إلى داخلِ دضيْرٍ وبَقِيَتْ، هثناكَ، لساعاتٍ، غيرَ قادِرةٍ على فعلِ أيِّ شيءٍ آخرٍ سوى البُكاءْ...
"بقيتُ هثناكَ حتّى الخامسةَ مساءاً دونَ أن أتوقّفَ عن البُكاءْ. وأيُّ فِكرةٍ فكّرْتُها استدعتْ لي حسّاً بالموتْ. هل تستطيعُونَ فهمَ ما عانيت؟ مضى اللّيلُ عليَّ وأنا في سَهَرٍ جنائزِيْ. ثمّ أتاني نُورُ الصّباحِ وأنا على أسايَ هذا فلم يُبدّلْهُ بأيِّ سلامٍ في النّفْسِ والشِّعُورْ..."
أمضتْ هذه الأمُّ الرّؤومُ سنواتٍ عديدةً في هذا الفِراقِ الفاجِعْ. لكنَّ هاتيكَ السّنينَ منحتْ العالمَ أعظمَ الرّسائلِ رقّةً وتألّقاً في الوصفِ في هذا الوجودْ. وبينما كانتْ الأمُّ بديعةً في تعبيرِها وانطباعِها كانتْ الإبنةُ مُتفكّرَةً ومُتأمّلَةْ. كتب زوجُها الماركيز، بعدَ سنواتٍ من ذلكَ الفِصال:- "من ذا الّذي كانتْ ستُخاطِرُهُ فكرةُ أنَّكِ ستكبُرِيْنَ وتُصبِحِيْنَ الإمرأةَ الحسّاسةَ المتفوِّقَةَ التي هي أنتِ الآنْ!"
كتبتْ المدامُ-الأمُّ في رسالةٍ إلى ابنتِها:- "أنا سوفَ لا أُودِي بكِ إلى القولِ إنّني كنتُ ستاراً حجَبَكِ عن العالمين... ولسوفَ أكونُ مُسيئةً كثيراً إليكِ إنْ كُنْتُ قد خبّأتُكِ فيَّ، أو عن الآخرينْ. أنتِ تُبدِيْنَ- الآنَ- أكثرَ أُنْسَاً وظُرْفَاً إذْ جُذِبَ عنكِ السِّتارُ جانباً. أنتِ تَتَطَلَّعبِيْنَ أن تُكْتَشَفِيْ حتّى تًطلَعِيْنَ في كَمَالَكِ الحقْ. هذا هو ما قُلناهُ عنكِ آلافَ المرّاتْ".
وإنّهُ لمِن المفهومِ جدّاً، كما تقُولُ إحدى البيوغرافيّتين المشارِ إليهما، "أن تخسفَ المواهبُ الإجتماعيّةُ البديعةُ للماركيز بشمسِ هاتيكَ التي انمازتْ بها ابنتُها... إنّها سُرَّتْ بأن تكونَ وديعةً ولطيفةً مع كلِّ النّاسِ، ابتداءاً من أصدقائها العاملينَ في البِلاطِ وانتهاءاً بالجّنائنِيّةِ والعاملينَ من الرّجالِ في عقارِها، فهي قد مُلِّكَتْ سماحةُ غريزةِ الرّغبةِ في الإرضاءِ والإسعادْ. "هي قد أحبّتْ أن تكونَ محبُوبةً". هكذا قال عنها قريبُها الحقود، لكن الدّاهية، بُسِيْ-رابوتينْ".
ثمةُ قطعةِ كتابةٍ تحليليّةٍ دقيقةٍ كتبتها مدام دي لا فَيَتِي عن، وإلى، مدام دي سيفين تشي لنا بالكثيرِ جدّاً من سماتِ الأخيرةِ وسِحْرِهَا الشَّخْصِيِّ الوضيءْ:- "إنَّ أبسطَ التّحيّاتِ المُهذّبَةِ الأديبةِ منكِ تبدو تصريحاتَ صداقةٍ مكيْنَةْ. وكلُّ من يستأنسُ بحضُورِكِ (ولو لوهلةٍ)، ثمّ يُمضِي بعيداً يبقى مقتنعاً بسمُوِّ مقدارَكِ وطيبِ نيّتِكِ دونَ أن يكونَ قادراً على أن يُفسّرَ لنفسِهِ أيَّ دليلٍ ذاكَ الذي قدّمْتِيْنَهُ لهُ على هذينْ".
نعرِجُ الآنَ على رسالةٍ كتبتها، مؤخّراً، مدام دي سيفين إلى ابنتِها:- "خرجتُ، في الصّباحِ الباكرِ من يومِ أمسٍ، من بيتِي في باريس قاصدةً دارَ آلِ بومبوني كي اتناولَ طعام العشاء. هنالكَ وجدتُ صاحبنا العجوزَ الطّيّبَ الذي كان منتظراً لي. ألفيتُهُ أوغلَ في تقواهِ، حينذاكَ، من أيِّ زمانٍ مضى... وبّخنِي توبيخاً جادّاً جدّاً، ثمّ حدّثني، في اهجةٍ شُرِّبَتْ بدفءِ حميتهِ وصداقتِهِ، عن كيفَ أنّني على خطأ في ألا أفكّرَ في تغييرِ مسارِ حياتِي فأنا- كما قال عنّي- غدوتُ وثنيّةً تماماً وصنمي الذي أَقَمْتُ في فؤادي هو أنتِ. وأضافَ قائلاً، في ذاتِ السّياقِ، إنَّ ما هويتُ إليهِ أنا من أشكالِ "التّعبّدِ"- كما سمّاهُ- هو ذي خطرٍ لا يقلُّ في أثرِهِ عن أيِّ شكلٍ سواهُ من أشكالش التّعبُّدْ. ذلكَ رُغْمَ أنّهُ قد يبدو لي أخفَّ جُرماً عمّا عداهُ... قال الرّجلُ جميعَ ذلكَ بصورةٍ مؤثّرةٍ جدّاً فما فُتِحَ عليَّ، حتّى ولو بكلمةٍ واحدةٍ فقط أرُدُّ بها عليهِ... وبعدَ ستِّ ساعاتٍ من مُحادثةٍ مقبُولةٍ جدّاً، رُغمَ أنّها، في ذاتِ الوقتِ، جادّةً جدّاً، تركتُهُ وجئتُ إلى هنا حيثُ وجدْتُ "مايُّو" في كلِّ زهوِ جمالِهِ. فالعندليبُ، الوقواقُ والدّغناشُ الصّغيرُ كلُّهم قد جاؤوا بالرّبيعِ إلى غاباتِنا. كرّسْتُ جُزءاً من هذا النّهارِ للكتابةِ إليكِ وأنا بهذه الحديقةِ حيثُ أصمّنِي، تقريباً، أصواتُ ثلاثةِ أو أربعةِ عنادلٍ جثمتْ على فرعِ شجرةٍ يعلُو رأسي بالضّبطْ. هذا المساءُ سأعُودُ إلى باريسَ وأعِدُّ طرداً بريديّاً أبعثُ بهِ إليكْ".
هكذا قضتْ مدام دي سيفين بقيّةَ أيّامِ حياتِها فهوّمَتْ بقلبِها، على الدّوامِ، عبرَ المسافةِ ونحوَ دِيارِ ابنتِها العزيزةِ، الحبيبةِ والجّمِيْلَةْ.
*
في هذا القرنِ العشرينَ تحتفي الكاتبةُ الشّهيرةُ (روزاموند ليمان) بصلةٍ غيرِ منقطعةٍ بينها وبين ابنتِها في الزّمانِ الحاضِرْ. فكما كانَ قلبُها، في حياتِها السّالِفَةِ تحتَ اسمِ مدام دي سيفين، مُطوِّفَاً حول شخصِ ابنتِها هي، كذلكَ، الآنَ مُهوِّمَةً، قلباً ورُوحاً، صوبَ شخصِ ابنتِها، تلكَ الفتاةُ الصّغيرةُ التي تُوفِّيَتْ، بمأساويّةٍ، في العامِ الثّانِي من حياتِها الزّوجيّةِ التي صرَفَتْهَا وهي مُفارِقَةٌ لأمّها في ما وراءِ البِحارْ. لكن في هذه المرّةِ قُدِّرَ للإبنةِ أن تكتُبَ رسائلاً لأمّها حُظِيَتْ، لبهجةِ جميعِ القارئينْ، بالطّبْعِ والنّشِرْ. تلكَ الرسائلُ قد تمَّ تلقِّيْهَا، كما قد يعِنُّ للمرءِ أن يقُولَ، خَلَلَ "التّلغرافِ الغابِيِّ" لتوارُدِ الخواطِرِ وفي نثْرٍ وصفيٍّ وجَمِيْلْ.
ذلكَ في حينٍ كتبتْ فيهِ الأمُّ روايةً وشاهدةً قبرِيَّةً على افتِراقِها المأساويِّ عن ابنتِها الحبيبةِ احتُفِلَ بها كواحدٍ من أشدِّ مؤلّفاتِها حساسيّةً في الشِّعُورِ واتَّخَذَتْ لها عنواناً هو البَجَعَةُ في المساء. حدّثنا صديقٌ قديمٌ لروزاموند ليمان، هو الميجور ت.ب.، في تقريرٍ لبرنامجٍ تلفزيونيٍّ فِرِنْسِيٍّ اسْتُضِيْفَا فيهِ معاً إثرَ رحلةٍ صَحِبَها فيها إلى باريس فقال عنها إنّها:- "حيثُما حلّتْ بُسِطَ لها البِساطُ الأحمرُ وكأنّها شارفَتْ أن تكُونَ شخصيّةً مَلَكِيَّةْ". ذلكما هما الحَسَنْ والنِّعمةُ اللاّشعوريّان لإنسانةٍ نبعتْ ذكرياتُها الباطنةُ من الأناقةِ الأُرُستُقراطيَّةِ للبِلاطِ الفِرِنْسِيْ.
الفصل الثّاني عشر
ق. ك. تشيسترتونْ
1
إنّ د. صامويل جونسون هو واحدٌ من أعظمِ أهالينا مهابةْ. كما وهو، كذلكَ، عَلَمٌ على رأسهِ نارْ. فلقد كانَ قاموسيّاً عظيماً، مُحاوِرَاً بديعَاً وإنساناً غريبَ الأطوارِ ازدهَتْ بهِ المجالسُ والمحافلُ في القرنِ الثّامن عشرْ.
إنّنا، بالكادِ، في غِنَىً عن القولِ إنّ د. صامويل جونسون، في حياتِهِ التّاليةِ على الكوكبِ الأرضيِّ، قد عادَ وعبّرَ عن ذاتِهِ الباطنةِ بصورةٍ مُشابِهَةٍ كثيراً، في عملاقيّتِها، لسابقتِها في القرنِ الثّامِنْ عشَرْ. فنحنُ قد أُنْبِئْنَا بأنّهُ آبَ، مرّةً أخرى، إلى الدّنيا في شخصِ مُفكّرٍ عظيم، كاتبٍ، صحافِيٍّ، شاعرٍ ومُحاوِرٍ مُحْتَفَىً بهِ هو ق. ك. تشيسترتون. إنَّ الشّخصينَ إيّاهُما مُتماثلانَ على نحوٍ مرمُوقٍ جدّاً، ولا غَرْوَ في ذلكَ فهُما رُوحٌ واحدةْ. قد يلبسُ الإنسانُ مِعطفَيْنَ مُتشابِهَينَ، أحدُهما بعد الآخرْ. وذلكَ هو ما حدثَ مع الرُّوحِ كانتْ صامويل جونسون وق. ك. تشيسترتون- كما ومعنا جميعاً. إنّنا نكتسبُ إِسماً جديداً في كلِّ حينْ.
كانت تلكما الشخصيّتان الجليلتان قامتين سامقتين في أيّامهما، فهما معاً قد أُحِبَّتَا كثيراً وَوُقِّرَتَا.
يبدو التّعدّي على الدّربِ الجّوّانِيِّ لروحِ رجلين كهذين شيئاً كانتهاكِ حُرمةٍ دينيّةٍ وسلوكاً مُنِمّاً عن عدمِ سدادٍ أكيدْ. لكن ما الذي لنا أن نفعلَهُ في سبيلِ المعرفة؟ هل لنا أن نُسكِتَ أصواتَ تلك الوقائعِ الحيويّةِ، ومن ثمّ نُبقِيْ أنفُسَنَا على جهلٍ بالقوى الكونيّةِ، بقوانينِ الطبيعةِ والحياةِ وبالعواملِ القائمةِ وراءَ تطوّرنا الذّاتِيِّ وتقدُّمِنا؟ إن كان ذلكَ هو ما نحنُ مُرادٌ منّا أن نفعلَهُ فعلينا، كذلكَ، أن نقمعَ ونُقْصِيْ عنّا، إن شئنا، اكتشافات قالِيْلِيُو أو شارلس داروين على ذاتِ الطريقةِ التي نحنُ بها قامعونَ ومُقصُونَ عنّا كشوفاتَ "المُستقصِين الرّوحيّين" في المجالي الباطنةْ.
إنّ هذا الأمرَ خطيرْ. لذا أنا أُمضِي على مُرتقاهِ مُرتعشةً، بيدَ أنّي على وقعِ نبضٍ مُسْتَوْفِزْ.
إن لم نتعلّم أن نُسلّمَ بمسؤوليّاتنا تجاه حيواتنا الخاصّةِ، إن لم نعترفْ بالقوانين الرّوحيّة التي، فوق عشوائيّاتِ الحظِّ والصّدفةِ، تشتغلُ علينا في توحّدٍ وتناغُمٍ مع قوانين الفيزياء وبذاتِ نَفَاذِ قوانينِ الفيزياءِ فسنضربُ، في آفاقِ هذه الحياةِ، عُمياناً وغُفَّلاً وتماماً، كما كُنّا في غابرِ الزّمانِ، سنبقى على ثقةٍ واهنةٍ (أو واهيةٍ) في أنَّ الإيمانَ والرّجاءَ سيسُوقانَ أشياءنا، على نحوٍ غامضٍ ما، إلى أن تكونَ، في النِّهايةِ، "على ما يُرامْ".
لا، لا، هذا لن يُؤَدِّيَ، من بعدٍ، إلى أيِّ غايةْ. وإن سألتْ- أيّها القارئ- عن موقفِي إزاءهُ أقُولُ لكَ إنّي قد تمرّدتُ على ما يشي به من "حماسةِ إنسانٍ أعمى الشّعورْ". إنّ الواعيةَ، كما القَلبَ، يتناديانَ نُشداناً لمعرفةٍ أكثرَ، لفهمٍ أعمقٍ نستطيعُ، على هُداهِ، أن نتعرّفَ، بعيونٍ مفتوحةٍ، على الطّريقةِ التي تسيرُ بها الأشياءُ فنُحاولُ أن نُوجّهَ أنفُسَنا تِبعاً لها.
ليس هذا من سبيلِ القولِ إننا لا نثق في "العليِّ القديرْ". لكنّه، على العكسِ من ذلكَ، تنبيهٌ لنا إلى أنّنا، بتعلّمنا كيفيّةِ السيطرةِ، على الطّبيعة نتقدّمُ، في معمعةِ الإختلاطِ العشوائيِّ لهذا العالم، خُطوةً إلى الأمامِ ونعرف كيف نُقيّمُ الحكمة. بتوسيعِ فهمنا للرّحمةِ المُحبّةِ التي تُسلِّمُنا زِمام مصائرنا في أيادينا، حتّى نُشكّلُها كما نُحبُّ، نحنُ نتطوّرُ وفقَ مبادرتنا الخاصّةِ، وفقَ حسِّنا المتبرعمِ باتّجاهاتِ حيواتِنا وحسِّنا، المتنامي الإنفساح، بالقيمِ الذي هو ليس أقلَّ من مسيرتنا، يداً بيدٍ، مع اللهِ واندغامِنا الواعي في تكوينِ ما يُنشؤُهُ- ليس بالإيمانِ فحسب بل، كذلكَ، بالمعرفةْ. فأن نكونُ "عارفينَ" يعني أن نُوْهَبَ وسيلةٌ للتّناغُمِ مع القوى الأُلُوهيّةِ، مع معينِ تلك "النِّعمةِ" التي تُعجِّلُ بِسَعْدِنَا الأبدِيْ.
نحنُ الآنَ طارقُونَ- إذاً- درباً يسُوقُنا إلى النّظرِ، بقدرش استطاعتِنا، إلى شخصيّةِ تلك الرّوحِ المغناطيسيّةِ التي سُمّيتْ، في القرن الثامن عشر، د. صامويل جونسون. وبما أنّ الشخصيّةَ إيّاها معروفةٌ بصورةٍ جيّدةٍ جداً فإنني سوف لا أتناول من سيرتها إلا مُلخّصاً قصيراً لطبيعتِها، لإنجازاتها ولسماتها الفريدةْ. سأقتبسُ، لهذا المقصد، بعضَ حديثٍ عن صامويل جونسون ورد في السّيرةِ الذّاتيّةِ التي ألّفها عنهُ إ. هاليدَيْ:- "وهب د. جونسون اسمهُ لعصرٍ شغل الفترة ما بين عامي 1750و1780. ككاتبٍ ومُفكّرٍ أخلاقيٍّ كان د. جونسون منتمياً لعصرِهِ. أمّا كرجُلٍ وإنسانٍ فهو كان ابنَ كُلِّ الزّمانْ. وبرُغمِ فقرِهِ وكآبتِهِ الأساسيّةِ وعاهاتِهِ الفيزيائيّةِ، وبسببٍ من قُوّتِهِ الرُّوحيّةِ، شخصيّتِهِ وعُنفُوانِ حديثِهِ الرِّجُولِيِّ تسيّدَ، أدبيّاً وثقافيّاً، على تلكَ الثلاثينَ من السّنينِ فامستْ، بحقٍّ، عصرَ جونسون".
كان د. صامويل جونسون شخصاً ضخم البُنيانِ وقويّاً، أخرقَ السّلُوكِ، متشدّداً كثيراً، ومع ذلكَ مُتوانياً، كريماً ورجوليّاً، رُغمَ أنّهُ سَقِمٌ وكئيبْ. وهُوَ، بجانبِ كلِّ هاتيكَ الصّفاتِ، كان عبقريّاً في فنِّ المحاورةِ وذا موهبةٍ في تشكيلِ رؤيتِهِ على أُسلُوبٍ من الحديثِ يغمُرُ سامعيهِ بوميضِ إضاءةٍ وهّاجٍ لحدِّ العمىْ فإذا بهُم، بكلماتِهِ، مُتعلِّقُونْ.
وُلِدَ صامويل جونسون في لِتشفيلد في سبتمبر 1709. كان طفلاً معتلَّ الصحّةِ، فَدَاءُ الخنازيرِ قد صيّرَهُ نِصفَ أعمى وأصمّاً في أذنٍ واحدةْ. كان، في المدرسةِ، تلميذاً متراخياً، لكنّهُ تميّزَ بذاكرةٍ مُعجِزَةٍ سهَّلَتْ عليهِ التَّعلّمَ تسهيلاً كبيرا. كان كبيرَ الحُجْمِ بالنّسبةِ لعمرِهِ، مُتلكّئاً جدّاً وقصيرَ النّظرِ بحيثُ لا يُصلح للعبِ مختلفِ الرّياضاتِ والتّسلياتْ. دبّرَ والداهُ إرسالهُ إلى جامعةِ أوكسفورد لقضاءِ فترةٍ دراسيّةٍ قصيرةْ. وفيما دعاهُ صديقٌ لهُ هناكَ "طالباً مُنشرحاً ومُمازِحاً ومحبوباً من كلِّ مَن حولِهِ" كان هو يُدركُ أنَّ انشراحهُ ومَرَحَهُ ما هما إلاّ رداءان ساتران لشقائهِ العريقْ.
"كنتُ غيرَ مُهذّبٍ وعنيفا"، كتبَ في أواخرِ أيّامهِ، "ففكّرتُ أن أسعى على دربِ كدحِيْ بأدبي وفِطنتِي. لذا أسأتُ أدبي مع كلِّ قُوّةٍ وسُلطةْ"... "كانتْ إعادةُ اكتشافِهِ (د. جونسون) للدّين- الذي سمح له بأن يغرقَ في الغفلةِ في أيّامِ شبابهِ- مُكثِّفَةً لانتفاءِ سعادتِه، فالخوفُ من الموتِ، من الجّحيمِ ومن اللّعنة الإلهيّةِ هجسُوا في خواطرهِ الغريبةِ (الشّاذّةِ) والمُتشنّجَةِ التي صارتْ من أميزِ طبائعهِ".
مضى الزّمانُ و"مشى" صامويل جونسون، برفقةِ صديقِهِ الممثّلِ ديفيد جاريكٍ، إلى لندن حيثُ استقطرَ لنفسه معاشاً شحيحاً بقلمِهِ. كتبض شعراً وألّفَ كُتُباً ومواداً ثقافيّةً نشرها في مجلّتي الآيدلر و الرّامبِلَرْ، كما في مجلّة الجّنتلمان.
تزوّجَ، في عام 1735، امرأةً فاقتْهُ في السنِّ بستّةِ وعشرينَ عاماً وكان وفيّاً لها. في ذلك الزّمانِ كتب تراجمَ عديدة، مقالات، ترنيمات وما إليهُنَّ. ذلكَ فضلاً عن موادٍ ثقافيّةٍ مُختلفةٍ للصّحفِ السّيّارَةْ.
أتتهُ الشّهرةُ أخيراً وبعد تأليفِهِ لمعجمهِ العظيم المعروف الذي استغرقَ منهُ إنشاؤُهُ خمساً من السنينْ. أسّسَ نادياً أدبيّاً في منطقةِ سينتْ بول تجمّعَ فيهِ (أو في مقهَى دُعِيَ "الشّيسَرْ جِيْسْ") كثيرونَ من أعظمِ الرّجالِ شَهْرَةً في تلكَ الايّام:- ديفيد باريك، قولداسمث، السّير جوشوا رينولدس وآخرون عديدونْ. وعندما ظهر جيمس بوزوَيْلْ على مشهدِ هذا المُلتَقَى الادبِيِّ-الثّقافيِّ، بِقَلَمِهِ وكُرّاستِهِ في يديهِ، خُلِّدَتْ عباراتُ الرّجُلِ العظيمِ الفَطِنَةِ، مُتناقِضَاتُهُ وأقوالُهُ العميقةُ، إلى الأبدِ، في كتابٍ مُوثّقْ. كما وخُلّدَ، مع تلك الأدبيّاتِ، أُنسُهُ وطرائفُ عاداتِهِ الشخصيّةْ. خصّصَ الملك جورج الثالث، في تلكَ الأيّامِ، معاشاً لصامويل جونسون كفَّ، بِفضلِهِ، الفقرُ عن إتعابِهِ.
"إنّ الرّأسَ الكبيرَ المُرتعِشَ لهذا العملاقِ الأخرقِ قد استوطنهُ أحدُ أعظمِ العقُولِ قُوّةً في عصرِهِ، ولو كان ذاك العقل، دوماً، في نزاعٍ مع ذاتِهِ وليس لهُ من ملاذٍ منهُ سوى في الدّينْ. لقد حازَ (ذاكَ الرّجُلُ)، في النّهايةِ، بعونِ دأبِهِ، شجاعتِهِ ومساعيهِ الجّاهدة، على التقديرِ الثّقافيِّ المُرتقبِ والشّهرةِ وآلَ إليهِ، من بعدِ ذلكَ، أمرُ الكيفيّةِ التي سيُسيطِرُ بها على عبقريّتِهِ ويُظْهِرُهُ في الآفاقْ. لكن توانيهِ، إذ رُفِعَ مِهمازُ الحاجةِ عن ظهرِهِ، غَلَبَ عليهِ واستحوذَ على أفضلِ ما فيهِ فأسلمَ نفسَهُ- دونَ الكِتابةِ- للكلامْ:- "صارأعظم المحاورينَ في أيّامِهِ وتجمّعَ حولهُ الكثيرُونَ من هُواةِ الفصاحةْ. كان رجُلاً منطوياً على تعاطُفاتٍ عظيمةٍ وقلباً رقيقاً وحسّاساً. وعلى الرّغْمِ من انفلاتاتِ طبعهِ المفاجئةِ كان رجلاً محبوباً. ولقد اتّصفَ، بجانبِ ذلكَ، بميزاتٍ شخصيّةٍ فريدةٍ وعديدةٍ فكان عملاقاً ذا شهيّةٍ لا تُشبَعْ، ذا ظمأ لا يُطْفأ اشتعالُهُ، للشّاي. لقد تخلّى عن شربِ الخمرِ لأنّه ما استطاعَ أن يكونَ معتدلاً فيهِ ثمّ عُرِفَ، من بعدِها، بقُدرتِهِ على شُربِ سبعةٍ وعشرينَ كوباً من الشّايِ في جلسةس واحدةْ. كان رجلاً ذا فِطنةٍ عُنفُوانيّةٍ، حاذقةٍ وحاضرةٍ، وبلاغةٍ، ثمّ ثوراتِ حنقٍ عَواصِفٍ تُمازِجُهُنَّ أحاسيسُ رقّةٍ مُفاجئةْ. وعن زِيّهِ نقولُ إنّهُ كان ليس مُهندَمَاً أكثرَ من كونِهِ غريبَ الطّورْ. ثمّ إنّ من أهمِّ صفاتِهِ المميّزةِ الأخرى هي شرودُ خواطرهِ الدّائم... كانت مِشيةُ د. صامويل جونسون كمِشيَةِ رجُلٍ مُثقلٍ بالقيُودْ. وحين جلُوسُهُ كانت رأسُهُ تميلُ إلى اليمينِ ويهتزُّ، فيما جسدُهُ يتأرجحُ إلى الخلفِ، أحياناً، ثمّ إلى الأمامِ، أحياناً أُخَرَ، وهو، فيما بينَ ذلكَ، يُقأقِئُ، يُغَمْغِمُ، ويُصفِّرُ، قبلَ أن يَنْفِخَ نفسَهُ خارجاً كحوتْ. في الشّارِعِ كانتْ حركاتُهُ التّشنّجيّةُ تُرى على نحوٍ أشدَّ جلاءاً... كان، لأمانتهِ وصدقِهِ، يحتقرُ الحَوقلاتِ، اللّغوِ والتّصنُّعِ العاطفيِّ، كما وكان حسِّهُ العامُّ الأرضيُّ (الدّنيويُّ) يهدمُ نُصُبَ الغراراتِ الهُلاميّةْ. إنسانيّاً كان وأريحيّاً يلقى سعادتهُ ورضاءهُ الذّاتيَّ في المحاورةِ والمحاجَّةِ، فحينذاكَ يجعلُهُ ابتهاجُهُ بالكلامِ، في سبيلِ النّصرِ الثّقافيِّ، ناسياً لسوداويّتِهِ وقد يُهمهِمُ (أو يتقلقلُ)، حينذاكَ، بضحكةٍ مَرِحَةِ النَّفْسْ".
صوّرتْ عبقريّةُ بوزويل د. صامويل جونسون تصويراً كلاميّاً- فوتوغرافيّاً أُخِذَتْ بهِ الأجيالْ. قال ذلك الفوتوغرافيُّ الذي لا يُبارى:- "أنا لا أستطيعُ أن أسمحَ لأيِّ جزئيّةٍ (أو مُتفَرِّقَةٍ)، مُتعلّقَةٍ بالشّأنِ العظيمِ لعملي هذا وطافيةٍ في ذاكرتِي من أيِّ مشربٍ أو جهةٍ، بأن تُفقَدْ. فلربّما تبدو جُزئيّةٌ صغيرةٌ أمسكتُ بها هُناكَ تافهةً للبعضِ إلاّ أنّها، لآخرينَ، مُستطابةً ومليحةْ. أنا- إذاً- أَقِمْتُ حائطاً من اللامبالاةِ والتّحدّي تصدَّيْتُ بهِ لكُلِّ سِنانِ التّتفيهِ، أو حتّى الحقدِ، التي قد تُصيبُنِي في سبيلي هذا الذي هو تائقٌ إلى أن يَضُمَّ أيَّ شرارةٍ صغيرةٍ إلى الوهجِ الكُلّيِّ لسيرةِ صديقِي العظيم صامويل جونسون. ذلكَ حتّى أُقِرَّ بهِ عيُونَ مُعجبِيْهِ الحقيقيّينَ، الخُلّصَ النّوايا والدذافئين وأُسْهِمُ، بأيِّ مقدارٍ مُمكنٍ، في إنماءِ بهاءِ سُمعتِهِ".
وهكذا، بسببِ هذا المؤرّخ الذي لا يكلُّ، آلتْ إلينا ملكيّةُ ملاحظاتٍ وتوصيفاتٍ لشخصيّةِ جونسون فاقتْ، في كثرتِها وشمولها، أيَّ شيءٍ شبيهٍ بها كُتِبَ عن أيِّ إنسانٍ حيٍّ في عهدهِ وعلى أيّامِهِ. وهكذا استلزمَ أمرُ إنصافِ الرّجُلِ إيّاهُ كتابَ سيرةٍ أشرفت صفحاتُهُ على الألفْ.
تُكفِي شواهدٌ قليلةٌ جدذاً، سنستقيها عشوائيّاً من بين ما أثبتهُ بوزويل عن سيرة صامويل جونسون، لإنبائنا بطبعِ الرّجلِ العظيمْ.
بعدَ أن راضَ نفسهُ بدفاعٍ عن صديقٍ ضدَّ هجومٍ لفظيٍّ من صديقٍ آخرٍ "إعتقدَ د. جونسون، فيما أحسبُ، أنّهُ- وهو الرّجلُ الذي، كما لاحظتُ سابقاً، كان يبتهجُ للتّمييزِ بين الشخصيّاتِ بما لهُ من معرفةٍ مُتمكّنَةٍ بالطّبيعةِ البشريّةِ أهّلتْهُ لأن يتعاملَ مع النّاسِ انطلاقاً من خبرةٍ بهم على عِلاّتِهِم ونُقصانهم، أو على ما هم عليهِ من مزيجِ سماتٍ خيِّرةٍ وشرِّيْرَةٍ- قال ما يُغنيهِ عن مزيدٍ في شأنِ ذاكَ الدّفاعِ عن ذاكَ الصّديقِ الذي قيّمَ، حسب تقديرهِ، مزاياهُ، تماماً كما وصفاته القابلة للإستثناءِ من بينض هاتيكَ، تقييماً مُنصفاً فتركَ الموضوعَ إيّاهُ دونَ أن يُصيفَ إليهِ شيئاً واحداً زائداً عليهِ".
ومن حيثُ انتهى في حديثِهِ السّابقِ انتقلَ د. صامويل جونسون، كما جاء في رواية بوزويل، إلى الكلامِ عن الحكوماتِ فقال:- "كلّما اسْتُقْطِبَتْ السُّلْطَةُ كلّما سَهُلَ تدميرُها. البلدُ الذي يُحكمث بواسطةِ مُستبِدٍّ هو مخروطٌ مُنعكسْ. فالحكومةُ فيهِ لا تستطيعُ أن تكونَ صلدةَ الرّسُوخِ كما في حينَ اعتمادها (او انبنائها) على قواعدٍ عريضةٍ تُستجمَعُ (أو تُستقطَبُ) تدريجيّاً مثلما في حكومةِ بريطانيا المؤسّسةِ على البرلمانِ، ثمّ على مجلسِ الأعيانِ، ثمَّ على المَلِكْ".
يُمضي بوزويل في سرده الحكايا عن د. صامويل جونسون فيقولُ عنهُ إنّهُ "في يوم الاثنين، الثاني والعشرين من سبتمبر [العام غير مذكور في الأصل- المترجم] قُلتُ لدكتور جونسون، في وقتِ الإفطارِ، دونَ أيِّ تَوضخٍّ للحذر:- "أرغبُ في أراكَ والسيّدةَ ماكاولي معاً!" تملّكهُ غضبٌ شديدٌ، ثم قال منفجراً بالكلامِ، بعد بُرهةِ صمتٍ تجمّعتْ خلالها سحابةٌ على جبينِهِ:- "لا، يا سيّدي، لن ترانا مُتشاجِرينَ فتجدُ ملهاةً تتسلّى بها. هل تدري أنّهُ ليس من الكياسةِ في شيءٍ أن تُحرّضَ شخصيينَ، أحدَهُما على الآخرْ؟" ثمّ، مُستدركاً نفسه وراغباً في أن يكونَ أكثرَ وَداعةً، أضافَ:- "أنا لا أقُولُ إنّكَ يجبُ أن تُشنَقَ أوتُغْرَقَ في البحرِ بسبب هذا، لكنّي أؤكّدُ على أنّهُ سِلُوكٌ غيرُ كَيِّسْ".
عندما سمع د. صامويل جونسون بأنّ سيّدةً كانتْ تعيشُ في منزلِهِ قد ماتتْ "تأثّرَ بذلكَ تأثّراً عظيماً جدّاً... ثمّ، جريَاً على مِنوالِهِ التّقِيِّ الإعتياديِّ، ألّفَ صلاةً عليها".
وبعد هذه الحكايةِ الصغيرةِ يواصل بوزويل سرده الجّونْسَوْنِيَّ فيقول، بعد أن وصفَ كيف أنّ قولداسمث يغدو مستاءاً بصورةٍ مزريةٍ إن لم يكن هو الأفضلَ في مُحَاجّةٍ ما، "إنَّ قوى جونسون، السّامية على كلّ ما عداهُ في مجالِ الحديثِ الفَطِنِ، تَضَعُهُ بمنأىً من أيِّ مُخاطرةٍ غيرِ مريحةٍ كهذه". ثمّ يستطردُ راوياً عن قَاريك أنّهُ أدلى لهُ بملاحظةٍ عن جونسون، قبل أيّامٍ قليلةٍ من ذلكَ الحينِ، قال فيها "إنَّ فِطَنِ رابيليه، وكلِّ الآخرينَ الفَطِنِيْن، لا تُساوي شيئاً إذا ما قٌورِنَتْ بفِطنتِهِ. فكلُّ أولئكَ الفَطِنِيْنَ قد يلهُوكَ أو يُشْغِلُوكَ- كثيراً أو قليلاً- بفطنِهِم ودهائهم، لكن جونسون- وحدَهُ- هو الذي تُعانِقُكَ لواذِعُهُ الذّكّيّةُ بقُوّةٍ، ثمّ تجعلُكَ مهتزّاً بالضّحكِ الطّالعِ مِنْكَ، شِئْتَ ذلكَ أم أبَيْتَهُ".
وفي مناسبةٍ أخرى حكى بوزويل عن د. جونسون أنّهُ كان في صحبةِ رجُلٍ مُهذّبٍ ممّن وثقَ في مقدرتِهم الفكريّةِ على بيانِ تماسُكِ وتناسُقِ فلسفة د. بيركلي البارعةِ التي تزعمُ أنَّ لا شيءَ يُوجَدَ (في هذا الوجود) إن لم يكن مُدْرَكَاً من قِبَلِ وعيٍ (أو عقلٍ) ما. فلمّا هبَّ ذلك الرّجلُ مغادراً المجلسَ استدركهُ جونسون، قبلَ ذهابهِ، قائلاً:- "بحقِّ الصّلاةِ، يا سيّدي، لا تُغادِرْنا، فلربّما نسينا أن نُفكّرَ فيكَ فتكفُّ أنتَ، حينذاكَ، عن أن تُوجَدْ!"...
وفي مرّةٍ أخري أدركَ فيها د. جونسون أنّ بوزويل كان ساعياً، سعياً جِدّيّاً، في سبيلِ الغَلَبَةِ عليهِ في المُحاجّةِ قال لهُ:- "يا عزيزي بوزويل، دعنا لا نُوغِلُ أكثرَ في حديثنا هذا. فأنتَ لن تنتفعَ بشيءٍ، وأنا أُحبّذُ عليهِ أن تُصفِّرَ لنا لحناً إسكوتلنديّاً!"
ظلَّ د. جونسون فريسةً للسّوداويّةِ الرّوحيّةِ حتّى العهدِ الأخيرِ من حياتِهِ. ذلك رُغمَ الرّحلاتِ الإستكشافيّةِ العديدةِ وشتّى المُسْرِيَاتِ الإجتماعيّةِ والثّقافيّةِ والصّداقةِ الدّافئةِ التي أُنعِمَ عليهِ بها مع الكثيرينَ من رجالِ زمانِهِ البارزينْ. روى عنه بوزويل أنّهُ كتبَ، في مؤلّفهِ الموسوم تأمّلات على هامشِ يوم عيدِ القِيامةِ في 1777:- "لا أكتشفُ شيئاً سوى تضييعٍ أجردٍ للزّمانِ ممزُوجٍ ببعضِ الإختلالاتِ في الجّسدِ والإضِّطراباتِ في العقلِ المُقارِبَةِ جدّاً للجّنُونْ". ذلكَ قالهُ عن محتوى حياتِهِ في مجملِها، ثمّ أضافَ إليهِ صلاةً أنشأها إثرَهُ وجرَتْ على النّحوِ الآتي:- "إغْمُرْنِيْ برحمتِكَ يا الله، إِغْمُرْنِي برحمتِكَ، فالسّنُونُ وغَوائِلُ الدّهرِ تَهُدُّنِي والفزعُ والقلقُ يتناوشاني"... "ما أن يُذكَرُ الموتُ في حضرةِ د. جونسون"، يقولُ بوزويل، "حتّى ينتابُهُ انزعاجٌ عظيمْ. على كلٍّ، هو قد حُظِيَ، بعد وفاةِ زوجتِهِ، بعيشِ سنينٍ كثيرةٍ مُشرّبَةٍ بالعطفِ والسّلوى في بيتِ آلِ ثِرَيْل وفي وسطِ أصدقاءٍ مُعْجَبِِيْنَ ومُحترمينْ. هنا أيضاً، التقى فاني بيرني "محبوبتَهُ الصَّغيرَةْ"..."
مِسكينٌ بوزويل، فعلى الرّغمِ من مودّةِ جونسون لهُ حصدَ من لسانِهِ ومن سليقتِهِ اللاذعةِ تهكّماً مُتواتِرَاً. من ذلكَ أنّ بوزويل قد اعترفَ، مرّةً، لصديقِهِ جونسون بأنَّ الموسيقى إمّا أن تَهُزَّ فيهِ أحاسيسَ غَمٍّ عاطفيٍّ سحيقٍ أو أن تجعلَهُ مُستَعِدّاً للإندفاعِ إلى معمعةِ المَعْرَكةْ. "يا سيّدي"، قال لهُ جونسون مُعقّباً، "لا ينبغي لي مُطلقاً أن أستمعَ إليها (الموسيقى) إن كانتْ تُصيّرُنِي أحمقاً هكذا".
كم هو من المُشجّعِ أن نكتشفَ- الآنَ- أنَّ "اللهَ" [هكذا في الأصلِ- المترجم] قد سمعَ، بالفِعلِ، صلاةَ د. جونسون المُتذبذبةَ بالشّكِّ، فحياتُهُ اللاحقةُ، بعدَ مُضيِّ قرنٍ من ذلكَ الزّمانِ، كانتْ عظيمةَ النّصيبِ في الشّهرةِ، كما وفي السّعادةْ. فلقد فارقَهُ، حينذاكَ، فيما نظُنُّ خوفُهُ.
2
هذا هو المشهد الثاني من حياة ذات الرّوح العظيمة. ونحنُ نستقي حديثاً عنه هنا من البيوغرافيا التي ألفتها، عن صاحبها الإنسان، الكاتبة ميزي وورد التي كانت على معرفةٍ عظيمةٍ بهِ.
وُلِدَ جيلبيرت كيث تشيسترتون في لندن، في مايو 1874، ثم، بعد خمس سنين لاحقة، وُلد له أخ في العائلة فقال جيلبيرت محتفياً بذلك:- "هذا حسنٌ، فالآنَ سيكونُ لديَّ، دوماً، حضورْ". هل أشارت هذه الملاحظة إلى ذاكرة تحتانيّة عن الحضور الذي جلس منعقداً حوله ومشدوداً بسحرِ حديثه آنما كان ذلك المتكلّم العظيم في القرن الثامن عشر؟
يتذكّر صديقٌ حميمٌ للعائلة، في تلك الأيام الباكرة، أنّ "الصّبيان الصغار (في عائلة تشيسترتون) ما سُمح لهم أبداً برؤيةِ جنازةْ. فما أن تمرُّ تلك في الشارعِ حتّى كانُوا يُهرَعُ بهم، في الحال، بعيداً عن شُبّاكِ روضَةِ الأطفالْ. ربّما كان ذلك بسبب خوف جيلبيرت الشديد من المرض، أو الحوادث، الذي بلغ مبلغاً كان يُودي به إلى قذف ملعقته على الطاولة والإندفاع، حالاً، إلى خارج الحجرة عندَ أول بادرة اختناق طفيفة يبديها شقيقه سيسل". إنّ أمثالَ هذه السمات الشخصية التفصيلية يمكن لها، في كثير من الأحوال، أن تُرَدّ (أو تُتابعَ) إلى مصدرٍ (منبعٍ) عميقٍ لذاكرةٍ هامشِ- شعوريّةٍ عن حياةٍ سالفةْ. كان لجيلبيرت الصّبي وجعُ أذنٍ مٌعذّبٌ- ذلك انطباعٌ فيزيائيٌّ- نفسيٌّ من حياته الماضيةْ.
كان جيلبيرت طامحاً، دوماً، إلى أن يُصبحَ تلميذَ مدرسةٍ عاديّاً، إلا أنّه ما أفلحَ أبداً في تحقيقِ طموحِهِ هذا. كان، خلال أيّامه في مدرسة سينت بول، صبيّاً طويل القامة، مشعّث الهيئةِ وغيرَ مُرتّب، أخرقَ وشاردَ الذّهنِ، كما وكان مُفردَاً بين أقرانه التلاميذِ بعِلّةِ ذلكَ وخلافه، على المستويين الفيزيائي والثّقافي (النّفسي- العقليْ).
يتذكَّرُهُ رفيقُ دراسةٍ على أنّهُ:- "كان أغربَ شيءٍ (إنسانٍ) رآهُ في حياته، فهو قد كان يُمشي، بخطواتٍ واسعةٍ، على الدرب فيما هو مُتمتِمٌ، على ما يبدو، بالشّعرِ، ثمّ ينطلقُ بضحكةٍ خاويةْ"... "أنا أستطيعُ أن أراهُ الآنَ"، يكتب السيّد فوردام، "طويلاً جداً ونحيفاً (مؤخراً صار سميناً جداً) وعابراً الشّوارع بخُطىً واسعةٍ ولَهْوَجَةٍ، متبسّماً لنفسهِ، وأحياناً مُقطّباً جبينهُ لها في استياءٍ وهو، في كلِّ ذلكَ، ظاهرُ الإنذهالِ عمّا يُحيطُ بهِ من أشياءْ". ولربّما أغاظهُ الصّبيانُ ومثّلُوا عليهِ أدواراً طريفةً لكنّهم، حتّى وقتذاكَ، كانوا يعاملونهُ، في ذاتِ الحينِ، باحترامٍ غيرِ عاديْ. "لقد شعرنا"، قال رفيقُ دراسةٍ آخرُ، "بأنّهُ كان باحثاً عن اللهْ".
في أيّامه الدراسيّةِ الأخيرةِ أسّس جيلبيرت منتدىً للحوارِ "كان يتعاملُ معهث برصانةٍ، بل بإجلالٍ لا يؤثّر فيهِ مِزاجُ الآخرينْ". ولقد نشر في مجلّةِ ذلك المنتدى، التي كانتْ مسمّاةً المُحَاوِرْ جانباً كبيراً من نثره وشعره الخاصّينْ. وحين سألتْ أمّهُ ناظر المدرسة عن المشورة بخصوص مستقبل ابنها إن حدث وهجر الدراسة النّظاميّة أجابها الناظرُ قائلاً:- "إهنئيْ بهِ! فهو ستّةُ أقدامٍ من العبقريّةِ. إهنئيْ بهِ!"
كان جيلبيرت كمن ندعوه الآن "شخصاً بطيء النّمو". فحين هجر مقاعد الدرس كان صوتهُ ما يزالُ غيرَ مشروخٍ أو أجشْ. أخذتهُ أمّه، بسببِ ذلك، لأحد الأطباءِ، "كيْ تُحيَّا عليه تحيّةٌ مفرطةٌ في العجبِ وتُنبئُ بأنّ ابنها كان صاحبَ دُماغٍ هو الأكبرَ والاعظمَ حساسيّةً من بينَ كلِّ الأدمغةِ التي رآها الطّبيبُ في حياتِهِ. "إنّهُ لعبقريٌّ أو أبله". كان ذلكَ هو حكم الطبيب على حالتِهِ. وفوق كلّ شيءٍ آخر أُخبِرَتْ الأمُّ أنّ ابنَها ينبغي عليهِ أن يُجنّبَ أيُّ نوعٍ من أنواعِ الصّدمةْ. فهو، فيزيائيّاً وعقليّاً ورُوحيّاً، ذو مدىً واسعٍ جداً ولربّما كان، بسببِ ذلكَ بالذّاتِ، على منسوبٍ بطيءٍ جدّاً من التّطوّرْ".
في ذلك الزمان كان جيلبيرت يمرُّ بتلك المرحلةِ الصّعبةِ بين الغُلاميّةِ والرّجولةْ. ولقد كتب، في سنواتٍ لاحقةٍ من عمره، غصلاً في سيرته الذّاتيّةِ الخاصّةِ عن تلك الفترةِ اختار له عنواناً العبارةَ-السؤال:- "كيف تكونُ مُلتاثاً؟"... شعر حينذكَ وكأنّما كلُّ شيءٍ قد لا يكون سوى "حدثٍ" حُلُمِيٍّ؛ كأنما هو من أسقطَ صورةَ الوجودِ، على الكونِ، من بين جوانحهِ الباطنةْ.
ثمّ عانى من ريبةٍ متطرّفَةْ. وأخلاقيّاً كانتْ مُغْوِياتُهُ تبدو كائنةً في إقليمٍ نَفسَانيٍّ غريب. كتب شيئاً عن هذا الذي كان به فقال:- "قد سُكِنْتُ بنبضٍ غلاّبٍ كان يَحُضُّنِي على تسجيلِ الأفكارِ والصّورِ الفظيعةِ أو جذبها إلى نفسي في آناتِ إيغالٍ أعمقٍ وأعمقٍ في أغوارِها وكأنّني في حال انتحارٍ رُوحيٍّ أعمىْ". تساءلَ، آنذاكَ، اثنانٌ من أصدقائهِ عمّا إذا كانَ "تشيسترتون في سبيلهِ إلى الجّنُون؟"
وفي رسائلٍ لهُ إلى صديقٍ مُقرَّبٍ تحدّثَ تشيسترتون عمّا سمّاهُ "مِزاجاتَ الهاويةْ":- "ثمةُ نوبةِ كآبةٍ لا معنى لها، مُتّخِذةً شكلَ اضِّطراباتٍ سايكولوجيّةٍ عبثيّةٍ- رُغمَ أنّها عينيّة ومُحدّدة، اعتَوَرَتْنِي لكنّني، بدلاً عن صرفِها عنّي ومُحادثةِ النّاسِ، تجرّعْتُهَا في داخلي حتّى النّهايةِ ومضيتُ بعيداً جداً في جوفِ الهاويةْ..."
ثمّ تكلّمَ تشيسترتون، كما روى لنا عنهُ صديقُهً بوزويل، عن تماسّهِ الوجُوديِّ "مع حالةٍ صوفيّةٍ للأشياءِ مُفعمةً بالرّضَى بحيثُ أنَّ كلَّ الأشياءِ فيها أمستْ على ما يثرامْ".
وفي رسالةٍ أخرى قال، ملامساً تجربةً قريبةً من تِلك:- "أجابَ كونٌ، وُبِّخَ ذاتَ يومٍ من قِبَلِ مُتشائمٍ، من عنَّفَهُ قائلاً:- "كيفَ لكَ أن تُسيئَ إليَّ ومع ذلكَ ترضى بأن تتحدّثَ عبرَ وسيلتِي؟ إسْمِحْ لي، أوّلاً، أن أرُدَّكَ إلى عدمٍ ولسوفَ نتباحثُ، وقتذاكَ، في الأمرْ".
حتّى وهو في آنٍ مبكّرٍ جدّاً من عمره عرف تشيسترتون أنّ فلسفةَ الإنسان لا تستطيعُ أن تكونَ مُجرّدَ فلسفةِ إنسانٍ فحسبْ. فهو قد كانَ "يشعُرُ"، منذُ ذلك الحينِ وما بعدُهُ، بحضورٍ "آخرٍ" (أو "أُخرَوِيٍّ") قويٍّ في الكونْ". هكذا علّق بوزويل على جِماعِ خواطرِ تشيسترتون السّابقةْ. ثمّ، في رسالةٍ أخرى، وصفَ تشيسترتون مَغِيْبَاً بأنّهُ "مُنفَتِحٌ على الأبديّةْ".
صار تشيسترتون صحافيّاً وتحرّكَ في أوساطِ قاماتِ أيّامِهِ الأدبيّةْ. كما وغدا، كذلكَ، خطيباً للفتاةِ التي تزوّجها حينَ أضحى، فيما بعد، قادراً على الإيفاءِ بمُتَطلّباتِها. حاولتْ نسيبتُهُ المُرتقبةُ أن تجعلَ أصدقاءهُ "يُرتّبُونَ هِندامَهُ وهيئتَهُ"، لكنّهُ أجابَ على محاولاتهم تلكَ بقولهِ إنّ فرانسيس [وهو اسمُ خطيبتِهِ- المترجم] قد أحبّتْهُ كما كان، لذا فمن العبثِ محاولةُ تغييرهِ... "كفّتْ فرانسيس عن الكِفاحِ"، يقول بوزويل، "في سبيلِ دفعِهِ، عبرَ أصدقائهِ، نحو الهَنْدَمَةِ والزّينةْ. وبخبطةٍ عبقريّةٍ قرّرتْ أن تجعلَهُ، بنفسها، حسن الصّورةْ. تَوَّجَتْ- كحاصلٍ لجهودِ فرانسيس- قُبُّعةٌ عريضةٌ كُثَّةَ شعرِ تشيسترتون وكسَتْهُ حُلَّةً فضفاضةْ. كان طُولُهُ ستّةَ أقدامٍ وبوصتينَ وضخمَ البُنيانِ جدّاً. فالحياةُ دائمةُ القُعُودِ وقدرٌ كبيرٌ من البيرةِ ما أعاناهُ على الإحتفاظِ بهيئةٍ رشيقةْ. ورُغمَ أنّهُ كانَ شاربَ خمرٍ مُعتبراً إلاّ أنّهُ ما أُسْكِرَ بها قطْ. ولقد مدحَ تشيسترتون الشّايَ في قصيدةٍ طويلةٍ قال فيها- من بينَ أشياءٍ أُخَرْ- عنهُ إنّهُ شرابُ "الكوبِ الذي يُبهِجْ، لكنّهُ لا يُسكِرْ"..."
"عندَ حلُولِ عام 1905 دُعِيَ ق. ك. "مُمازِحٌ سمينٌ" وأضحي مستعدّاً، بسرعةٍ، أن يكونَ د. جونسونَ آخرَ، مع اختلافٍ في الرُّقَعِ اللّونيّةْ". ولقد احتفل بالتّغييرِ في مظهرهِ في مقطوعةٍ "ستانزا" شعريّةٍ ختمها بقولهِ:- "إنّ الشّكْلَ لغريبٌ على نحوٍ مُتعَمَّدْ!"...
"قال أمريكيٌّ وصل، مؤخّراً، إلى لندن:- "إنّ لندنَ هي مصدرُ أكثرِ التّجاريبِ روعةً وإشباعاً لتطلّعاتِ النَّفسْ. أنا ذهبتُ إلى "فِليت ستريت" هذا الصباح حيثُ التقيتُ وق. ك. تشيسترتون وجهاً لوجهْ. ملتفّاً بمِعطفٍ وواقفاص عندَ بوّابةِ محلِّ شطائرٍ محشُوّةٍ كان يؤلّفُ، آنذاكَ، قصيدةً ويترنّمُ بها، بصوتٍ عالٍ، أثناءَ كِتابتِها. وأكثرَ الأشياءِ عجباً في الأمرِ أنَّ لا أحدَ هناكَ أعارَ ذلكَ أدنى انتباهْ!"
وسجّلَ لنا كاتبٌ آخرٌ كيف أنّ تشيسترتون قد اعتاد الجلوس في أحد مقاهي "فليت ستريت" كي يكتُبَ مواده الصّحفيّة فيما هو يتذوّقُ أشكالاً من الشّرابِ ويُمازِجُ بينها ممازَجَةً فظيعةْ... ثم أطلعانا ذلك الكاتبُ على حادثةٍ صغيرةٍ في هذا المُتَعَلَّقِ ذكرَ فيها أنّهث كان مُرتاداً، ذاتَ يومٍ، للمقهى المعنيِّ تقدذمَ النذادلُ إلى مجلسهِ وقال لهُ:- "إنّ صديقَكَ هذا شخصٌ ذكيٌّ جدّاً. إنّه يجلسُ ويضحكْ. ثّمَّ يكتُبْ. ثمَّ يضحكُ على ما كَتَبْ".
تزوّج تشيسترتون وفرانسيس في عام1901:- "ذهبَ صديقٌ لهما بالعفشِ الثّقيلِ إلى المحطّةِ وانتظرهما انتظاراً محموماً. جاء القطارُ المرتقبُ ومضى بعيداً وظلَّ هو منتظراً. ثمّ ظهر، أخيراً، الثّنائيُّ السّعيدْ. كان جيلبيرتْ قد "شعرَ" بضرورةِ شراءِ زُجاجةِ لبنٍ من أحدِ المحلاّتِ التّجاريّةِ ومُسدّساً دوَّاراً وفَشَكَاً (خزانات طلقاتٍ) من محلٍّ آخرْ".
في ذلكَ الحينِ كان جيلبيرتْ قد انهمكَ في حياةِ "فليتْ ستريتْ" وعقد هناكَ العديدَ من الصّداقاتِ الدذافئةِ، فلقد أحبّهُ الجّميعْ. ثمّ التقى بيرناردشو الذي "هزمهُ في المُحاجَّةْ". ولعلَّ بيرناردشو استفادَ، في سبيلِ إنجازِهِ ذاكَ، من "شِكايَةٍ" جرتْ، في العادةِ، على شفاهِ معجبي تشيسترتون وأفادتْ، عموماً، بأنّهُ ما كان مُبتدعاً، في الغالبِ، في ما أتى به من أحاديثْ. ويُمكنُنا، في هذا السّياقِ، الإعتماد في تلخيصش تلكَ "الشِّكايَةِ المُحبَّةِ" على توصيفِ كاتبةِ سيرتِهِ الذّاتيّةِ مَيزِي وورد لها. قالتْ ميزي وورد في التّوصيفِ المعنيِّ- بعدَ أن أثنتْ على خصيصةٍ في تشيسترتون لا يتّسِمُ بها إلاّ قلّةٌ من عظامِ المُحاورينَ وهي كونهم يصغُونَ إلى مُحدّثيهِمْ أكثرَ ممّا "ينهالُونَ" عليهُم بالكلامْ- إنَّ تشيسترتون يُغْنِي مُحاورَاتَهُ بمُتناقِضاتٍ هي، في مُجملِها تقريباً، إمّا "تعابيرٌ مُنبّهةٌ إلى حقيقةٍ كانتْ مُهملةً تماماً" أو "إعاداتُ توكيدٍ مُبتَدضعَةٌ لجانبٍ مُهْمَلٍ من حقيقةٍ ما". قالَ، ذاتَ مرّةٍ، عن أحدِ تلكَ المتناقضاتِ إنّهُ "مُتَنَاقَضٌ، لكنَّ اللهَ، وليس شخصهُ الفردِ، هو من ينبغي أن يحصلَ على حقِّ الثّناءِ عليهِ". من الشّواهدِ على ما سبقَ من حديثٍ أنّ تشيسترتون قد رأى في الكثيرِ من الامثالِ والأقوالِ القديمةِ جُملةً من معانٍ حقيقيّةٍ نَسِيَها النّاسُ اللّذينَ داوموا على تكرارِ الأمثالِ والأقوالِ إيّاها. إنَّ العالمَ- في حُسبانِهِ- كانَ نائماً ويجبُ أن يُوقَظْ. إنّهُ- أي العالم- قد أوغلَ، مستكيناً وغافلاً، في الجّنونِ ويجبُ أن تثصانَ- بكلِّ وسيلةٍ صادمةٍ- عقلانيَّتُهُ.
ليس لنا من سبيلٍ هنا إلى إنكارِ انزعاجِ البعضِ من نوعيّةِ الرذسائلِ التي استخدمها تشيسترتون لبلوغِ تلكَ الغايةْ. بيدَ أنّا، في ذاتِ الوقتِ، لا نُنفِي قُوّةَ ما ابتدعَ وأثرَهُ في "غَصْبِ" النّاسِ على التّفكيرِ، حتّى ولو اغتاظُوا منهُ، ومن ثمَّ "تَنشَطُ" عضلاتُ فكرهم، الخامدةُ قبلاً، بفعاليّةٍ عقليّةظس جديدةْ.
وصف بيرناردشو تشيسترتون، في تلكَ الأيّامِ، بأنّهُ "شخصٌ كُرُوبِيٌّ (أو كروبيميٌّ) الخيئةِ، ضخماً وعملاقاً شاسعَ البُنيانِ، ليس في الجّسدِ والعقلِ الهائلينَ والمتجاوزضيْنَ المدى المحتشم وحدضهُما وإنّما، كذلكَ، في كونِ أنّهُ يبدو متنامياً في الجّسامةِ كلّما يُنْظَرُ إليهِ..."
"من المشكوكِ فيهِ"، تقول كاتبةُ سيرتهِ الذاتيّةِ المذكورة، "إن كانَ أيُّ كائنٍ آخرٍ، باستثناءِ ديكنز، قد تحوّلَ، بسُرعةٍ، إلى مؤسّسةٍ كما فعلَ تشيسترتون... ما كان، بالطّبعِ، لهيئتهِ اللافتة للنّظرِ بفرادتها، أو لنجاحهِ الصحافيِّ الخاطفِ في "فليت ستريت" أن يُحقّقا لهُ- على حِدَةٍ أو معاً- ذلكَ لولا إعانتُهُ لهما بمُنتَجٍ غزيرٍ من كثتُبٍ حولَ كلِّ موضوعٍ تشاءَ تصوّرَهُ... "إنّ الوفرةََ هي الكلمةُ التي استُعْمِلَتْ كثيراً، وفي هذا الزّمانِ بالذّاتِ، حين الإشارةُ إلى ما ألّفهُ"... "ولرُبّما يشربُ ويتكلّمُ لساعاتٍ، مع رجالاتِ الأدبِ، في المقهى المسمّى "الشِّيشار جيس"، كما وانّهُ كان هيئةً شهيرةً بإثارتِها للحفائظِ في "فليت ستريت" آنَ ظهورِها هناكَ بقُبّعةٍ مُبطذنةٍ ضخمةٍ وبعصى تِسيارٍ مشحوذةٍ في وجوهِ المارّةِ ممّا يُوقعُهُم في خطرٍ كبيرٍ مُوشِكْ".
عند تشيسترتون، كما حدّثتنا ميزي وورد، "تمازجتْ دوماً الجِّدّيّةُ العميقةُ والتّمويهُ الزّاخمُ، كما وأُوصِلَتْ لنا بعضُ أفكارِهِ، الأعمقُ في صورةِ تورياتٍ بيانيّةْ. وقد زعم هو، باستمرارٍ، أنّهُ كثيفٌ في جِدّيّتِهِ فيما هو كارهٌ لأن يكونَ رصيناً، الشيءُ الذي صيّرَ مُبدعاتَهُ خليطاً خليقاً بسوءِ الفهمْ". لكنّهُ "كانَ أسدَ زمانهِ الذي أرادَ جميعُ مُعاصِرِيْهِ أن يزأرَ لهم"... مال تشيسترتون إلى إلقاءِ محاضراتٍ حول كلِّ موضوعٍ يُمكنُ تصوّرُهُ فتحدّثَ عن الدّينِ، الاخلاقِ، السّياسةِ والرّعايةِ الإجتماعيّةْ. ولقد أودتْ بهِ هذه الإنشغالاتُ المُتشابكةُن كما قالتْ ثُلّةٌ من أصدقائهِ، "إلى نسيانِ أيِّ ارتباطٍ ثقافيٍّ لم تُثْبِتْ لهُ زوجتُهُ مواعيدهُ على الورقِ فتعيذنَ عليها، والحالُ كذلكَ، أن تتعهّدَ بأداءِ دورِ ذاكرتِهِ الوفيّةِ والإنسانةٍ الحفيظةِ على كلِّ الجَّانبِ العمليِّ من حياتِهِ"... "لكنّهُ نفى تهمة شرود الذّهنِ وزعمَ أنّ حضورَ ذهنهِ- في افكارهِ- هو الذي جعلَهُ غيرَ منتبهٍ لكلِّ الأشياءِ الأخرى"... "كثيراً ما كتبَ موادهُ الثّقافيّةَ في مقهى "الشَّيشار جيس"، أو أيِّ حانةٍ أخري صغيرةٍ في "فليت ستريتْ". ثم استقلَّ تاكسيّاً، من على مبعدةِ مائةِ ياردةٍ، كي يُوصل به المادّة المعنيّة إلى مكتبِ صحيفةِ "الدّيلي نيوزْ"... لقد انفقَ زمناً كثيراً في تأجيرِ التاكسيّاتِ، ثمّ تركها واقفةً في انتظارِهِ لساعاتٍ بتمامِها. وذاتَ مرّةٍ كان فيها زائراً لمكتبِ أحدِ النّاشرينَ وضع بين يديَّ النّاشرِ إيّاهُ رسالةً محتويةً على أسبابٍ ممتازةٍ لعدمِ استطاعتِهِ أن يكونَ معهُ في تلك اللّحظةْ!"... "كان أحياناً يؤجّرُ تاكسيّاً، ثمّ يُدركُ أنّه ما درى بالجّهةِ التي يُفترضُ أنّهُ كان ذاهباً إليها. حينذاكَ قد يُخطشرُ السّائقَ بأن يأخُذَهُ إلى "فليت ستريت" حيثُ ترفُضُ ذاكرتُهُ- أحياناً- العملَ فيذهبُ، بالتّاكسي، إلى مقهىً لشُربِ الشّايِ ويأمرَ لنفسهِ بكوبِ شايٍ فيما هو يُقلّبُ جيُوبَهُ محاولاً العثورَ على عنوانِ المكانِ الذي لهُ فيهِ ارتباطْ. فإن لم يجدْ، حتّى من بعدِ ذلكَ، شارةً ما تدُلُّ علىهِ قد يُخبِرُ سائقَ التّاكسي بأن يذهبَ إلى محلٍّ لبيعِ الصّحفِ عساهُ يعثرُ على العنوانِ الذي يبتغي مكتوباً على صحيفةٍ ما. وهكذا تستمرُّ هذه العمليّةُ في الدّورانْ. إنّه كان غريبَ الأطوارِ بامتيازْ".
كتب عنهُ صديقٌ أديب:- "الآنَ، فيزيائيّاً ومعنويّاً، غدا تشيسترتون هِركليزَاً... ليس لمثلِ رجلٍ كهذا أن يكونَ شائعَ الميلادْ. فهو ينبغي لهُ أن يأخذَ فرصتهَ الكاملة. وذلك يأتي فقط عبر الدراسة والتأمّل وخلالَ تراكُمٍ بطيءٍ، بيد أنّهُ راسخٌ، للمعرفةِ والحكمةْ". كان تشيسترتون، آنذاكَ، فقط في الثالثة والثلاثينَ من عُمْرِهِ.
"لقد عُنّفَ جيلبيرت كثيراً على حبّهِ للتّوريةِ البيانيّةِ أو للعبارةِ المؤثِّرَةِ التي ساقتْهُ وراءها، أحياناً، إلى مواقفٍ مُستعصِيَةٍ على الدّفاعِ عنها"... "إنّ أسلوبَهُ في الحديثِ، الذي تُذِكِّرَ، تذَكُّرَاً حسناً، من قِبَلِ أصدقائهِ، قد تمَّ وصفُهث بإعجابْ. كانتْ خُطَبُهُ (أو أحاديثُهُ) يُمهَّدُ لها وتُصحَبُ بنوعٍ غريبٍ من الدَّنْدَنَةِ، كتلكَ التي قد يسمعُها المرءُ حينَ يتواردُ مُغنُّونَ مُنشرِحُونَ، فيما بينهُم، اللّحنَ "المُنَوَّتَ" قبلَ شروعهم في الغناءْ... كان ينطقُ كلمة "أنا" [I في الإنجليزيّةِ- المترجم] وكأنّها "آييي" [AYEE في الإنجليزيّة- المترجم]، ثمّ يمُدُّ صوتَهُ مدّاً طويلاً- على أسلُوبٍ خاصٍّ بهِ وَحْدَهُ".
أحبَّ تشيسترتون اللّعبَ بالكلماتِ وتفرّدَ بذلكَ الحضُورِ الذّهنيِ العفويِّ (أو المُنطلِقِ) الذي هو، وحدُهُ، جديرٌ باسمِ الفِطنةِ اللّوذعيّةْ. كانتْ واحدَةً من أفضلِ لطائفِهِ الكلاميّةِ تلك الملاحظةُ التي أدلى بها مُعقّباً على سُمّيَ، آنذاكَ، "تحريرُ النّساءْ" وقال فيها:- "إنَّ عشرينَ مليوناً من النّسوةِ الشّابّاتِ نهضْنَ على أقدامشهِنَّ وهُنَّ صائحات:- "نرفُضُ، من بعدِ الآنَ، أن تُملَى علينا الأشياءْ"، ثمّ تقدّمْنَ في سبيلِهِنَّ لأنْ يَصِرْنَ مُجرَّدَ ناسخاتٍ للكُتُبْ".
وصفَتْ هيلاري بيلوك، وهي صديقةٌ مقرّبَةٌ لتشيسترتون، طريقة تشيسترتون في التّعليمِ والتّنويرِ فقالتْ:- "إنّهُ يجعلُ النّاسَ يَرَوْنَ ما لم يَرَوْنَهُ من قبل. إنّه يجعلُهُم يعرفُونْ. لقد كان مهندساً لليقين... ومهما اتّخذَ من طرائقٍ في سبيلِ تدشينِ مُوازِيَاتِهِ الكلاميّةِ فإنّهُ، دوماً، تمكّنَ من إحداثِ صدمةِ التّنويرْ. لقد كان "مُعلِّمَاً"..."
في سيرورةِ صراعهِ الدّاخليِّ، آناءَ عُمْرٍ بِتَمامِهِ، على دربِ الحقيقةِ، الفلسفةِ، الدّينِ، رأي الشّاعر تشيسترتون أنَّ الإنسانَ شاعرٌ وينبغي عليهِ، إذاً، "أن يَسمُقَ بهامتِهِ إلى أجوازِ الجّنَانْ"... "مُحتاجاً كان إلى التّصوّفِ ولقد وهبتْهُ الكنيسةُ، من بينَ شتّى أفكارِها الكبيرةِ، أسراراً مُوحِيَةْ".
إنّ هنالِكَ الكثيرَ جدّاً، في ترجمةِ الحياةِ التي كتبتها ميزي وورد، عن هذه الشخصيّةِ العملاقيّة ممّا لا يستطيعُ المرءُ مقاومةَ إغراءِ تضمينِهِ هنا. ثمّ، فضلاً عن ذلكَ، يُوجدُ، أيضاً، الكثيرُ من ما يمُرُّ الغنسانُ بهِ بينَ دفّتَي التّرجمةِ إيّاها ويُدهِشُهُ بإحالاتِهِ إلى د. جونسون! أو لعلَّ ذلكَ ليس هو، حقاً، مُدهشاً ما دام مُتوقّعاً لمن تنكشفُ أمامهُ، بجلاءٍ، مُجملُ أحوالِ الحياتين المُعتبرَتَيْنْ.
كان والدُ تشيسترتون عضواً في مُنتدىً ثقافيٍّ سُمّيَ "جمعيّةُ توليفِ الأفكارْ". ولقد رأى أنّ ابنَهُ الاديبَ، فيمكا تروي ميزي وورد، "مثاليُّ الإنسجامِ وذلك المنتدى الذي أسّسهُ د. جونسون وكان البيتَ المُحتفلَ بأبدعِ المحاوراتِ في البلادِ والمكانَ الذي علا فيهِ صوتُ القامُوسيِّ الكبيرِ، أحياناً، بحُججٍ فيصليِّةٍ ضدَّ قاريك وقولداسمث- وتلكَ، في رأي تشيسترتون، علامةٌ على تواضعِ د. جونسون وديمقراطيّتِهِ الجّوهريّةْ، فهي تُظهِرُنا على كيفَ أنّهُ كان منطبعاً بالرّوحِ الدِّيمقراطيّةِ بحيثُ أنّهُ ما نصّبَ نفسهُ ملكاً على رفاقهِ الأدباء، بل شاءَ أن يرضى بالتعاملِ معهُم على قدمِ المساواةْ..." تُمضي ميزي وورد في حديثها هذا فتقولُ "إنَّ أصحابَ تشيسترتون ما فتئُوا يُردِّدُونَ زعمهُم بأنّهُ كان واحداً من قلائلِ أفرادِ عصرهِ اللذين استطاعوا التّحدّثَ بذاتِ مستوى براعةِ د. جونسونْ".... من كلّ تلك الإشاراتِ المتواترةِن في ذاتِ النَّفَسِ، إلى الرّجلين العظيمين يبدو للمثراقبِ وضوح محتوى المقارنةْ.
إن انتقلنا إلى حادثةٍ اخرى مُتعلّقَةٍ بما نقولُ سنعرجُ على مقتطفٍ من وصفٍ لحفلِ غداءٍ قد تُلِمَسُ فيهِ إشارةٌ رابطةٌ بين الرّجلينْ:- "كان حفلُ الغداءِ صاخباً. أنا- الآنَ- أستحضِرُ جليّاً تشيسترتون جالساً، على هيئةٍ متفكّرةٍ، أمام المائدةِ وهو يشربُ الشامبانيا شراباً جمّا، ويُلْقِمُ "وجههُ"، باستمرارٍ، بطعامس كان حتماً عليهِ، وآكلُهُ في شُغلٍ دائمٍ بأكثرِ المحاوراتِ جهريّةً وإيغالاً في التّفانينِ الشّعريّةِ القصيرةِ واللاذعةِ، أن يتساقطَ عن شوكتِهِ ويرتدُّ مُتناثراً عن جُرمِ جسدِهِ الجّسيمِ قبلَ أن يختفي فُتاتُهُ، أخيراً، تحتَ المائدةْ".
ثمَّ هاكمُو، مرّةً أخرى، طرافةً ثانيةً عن تشيسترتون:- "كان، بالفعلِ، مُدخّناً لا يهدأ لهُ نَفَسْ. وحينما يُشعلُ سيجاراً، أو سيجارةً، كان يرسمُ شارةً في الهواءِ بعودِ الثّقابْ. لم يحذفْ مطلقاً هذا الطقس من "إجراءاتِ" تدخينِهِ. وذلك ما ساق الآنسةُ دنهام (محرّرةٌ مُشاركةٌ في صحيفتِهِ) إلى الإعتقادِ بأنّهُ صارَ عندهُ مثل الطّرقِ الخفيفِ على الدّرابزوناتِ عندَ د. جونسون".
بتوالي السّنينِ تنامتْ مشكلةُ تفكيره الدّينيِّ في عصفِها. كان موريس بيرنق والأب رونالد فوكس من بين الرّئيسيّين من أصدقائهِ الكُثُرْ. لذا عَجِبَ العديدُ من النّاسِ من الزّمانِ الطّويلِ الذي اقتضاهُ بلُوغُهُ إلى قرارهِ النّهائيِّ في هذا الشّأنْ:- الإنضمامُ إلى الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ الرّومانيّةْ.
يبدو أنّ مفهومَ "الإنسان الأزليّ" وصورة سينت فرانسيس الرّوحيّة قد شكّلا، وفقَ رؤيةِ كاتبةِ السّيرةِ الذّاتيّةِ المذكورةِ، أسمى تعبيرٍ عن صُوفيّةِ جيلبيرتْ.
ربّما يدعونا هذا إلى أن نتصوّرَ أنَّ الشّبحَ القديمَ، ذلك الخوفُ العتيقُ من الموتِ، قد رُفِعَ، أخيراً، عن تلك الرّوحِ العبقريّةْ. وكما قال صديقٌ لتشيسترتون عن تشيسترتون:- "كانتْ الجّماليّةُ الواسمةُ لجِماعِ وجودِهِ جماليّةً مُشاهِدَةً، متدبّرَةً ومُستخلشصَةً للتّقييماتْ"...الآنَ قد حلَّ السّلامُ برُوحِ تشيسترتون، فلقد آبَ إلى "موطنِهِ" وانضمَّ إلى جَنابِ الكنيسةِ حتّى "يصُونُ براءتَهُ". كانت الخطيئةُ، تقريباً، أعظمَ حقيقةٍ عينيّةٍ مُداخِلَةٍ لشعورِهِ. إنّهُ صارَ كاثوليكيّاً بسببِ قُدرَةِ الكنيسةِ العمليّةِ على التّعامُلِ مع الخطيئةْ.
أضافتْ أرملتُهُ إلى كلماتِ التّذكارِ المنقوشةِ على شاهدِ قبرهش تحيّةَ وولتر دي لامير التّاليةْ:-
الآنَ يُمضي فارسُ الرّوحِ القُدْسِ
الحِكْمَةُ كساؤُهُ الصُّوفِيُّ المَلَوَّنُ،
الحقيقةُ طُرْفَتُهُ المُحِبَّةُ؛
طواحينُ الشّيطانِ لا تَنِيْ
تَهُزُّ رُمْحَهُ في الهواءْ
والعطفُ والبراءةُ ملءُ قلبِهِ المُستَجِمْ.
***
يبدو أنّ كونَ رجلين كهذينَ، اثنينَ فحسبْ، ينبغي لهما أن يَتْبَعَا أحدَهُما الآخرَ عن كَثَبٍ وفي صيغةٍ مُفردةٍ لرُوحٍ واحدةٍ هو أمرٌ مُتجاوِزٌ لِحُدُوْدِ التّطابُقِ الصُّدَفِيْ. هلاّ نحنُ لسنا ممنوحينَ سانحةً لدراسةِ ارتقاءِ رُوحٍ، سيرورةِ رُوحٍ قديرَةٍ على دربِ الحقيقةْ؟
إنّ درسَ تلكَ الحياةِ هو، بالتّأكيدِ، أننا سننجزُ أكثرَ إن سمحنا لروحنا، لذاتنا العُليا، بحريّةِ التَّعبيرِ عن مكنوناتِها وقابليّاتها. فلنثلْقِ بعيداً بالقناعاتِ السّاجِنَةِ وحواجزِ العُرفيّةِ العتيقةْ!
ليس لحديثنا السّالفِ أن يُفهَمَ على أنّهُ رفضٌ تامٌّ للتّقاليدِ أو إقامةُ دعوى مطلقة ضدَّ العُرفْ. فالعرفُ (أو التّقليدُ) كثيراً ما يكونُ قلعةً للمجتمعِ تُنْصَبُ بها دعائمٌ أخلاقيّةٌ (ورُوحيّةٌ) للتّمييزِ القِيَمِيِّ، للنّظامِ وتقديرِ مشاعرِ الآخرين. وتلكَ أشياءٌ وقيمٌ لا غنىً عنها إن شاءَ وقايةَ نفسِهِ من التفكّكِ والانهيارْ. عليهِ نحنُ نرجُو أن يُؤخذَ ما ذهبنا غليهِ آنفاً على أنّهُ دعوةٌ لنزعِ قِناعِ الزّيفِ والسّطحيّةِ عنّا، للتّحرُّرِ من ذلكَ التَّصَنُّعِ الّذي عمَّ انتشارُهُ في مُجتمعاتِنا الحاضرةِ بحيثُ أنَّهُ صارَ مُخْرِسَاً لقُوَّةِ الرّوحِ فينا وكابحاً لتطوُّرِهَا ونمائِها!
حينما تحيا الرّوحُ حقيقتَها الخاصَّةَ بحُرِّيَّةٍ، رُغمَ ما يستلزِمُهُ ذلكَ منها من شجاعةٍ وبعضِ خيباتٍ، فإنّها، بطريقةِ عيشِها الجّريئةِ تلكَ، سوف تسمُو بصاحبِها الإنسانِ عالياً.
... "ولسوفَ ترعانا الآلهةُ على سبيلِنا".
الفصل الحادي عشر
روزاموند لِيْمَانْ
1
من العسيرِ على الإنسانِ، في هذه الدّراسةِ، أن يُدرِكَ الموضعَ الذي يحسنُ بهِ فيهِ أن يتوقّفَ عن تحريّاتِهِ. لقد مضتْ سنينٌ عديدةٌ منذُ أن حُفِّزْتُ على أن أشرعَ في "جمعِ التُّحفِ الأثريّةِ" هذا. والحقُّ أنّ كونِيَ جامعةً لتلكَ "التُّحفِ" التي مُثِّلَتْ لي في نماذجٍ وهيئاتٍ إنسانيّةٍ جعلني، في غايةِ الأمرِ، مُوغشلَةً أكثرَ في استثارتِي ومُتعتِيْ.
هذه ليستْ مُجرّدَ لُعبَةْ. فهي، كما قال عنها "المُعلّمُ"، "ليستْ بأقلِّ من دراسةٍ معنيَّةٍ بمسألةِ الرّوحِ الإنسانيّةِ والعواملِ التي تُكسبُها انعتاقَها وحرّيَّتَها". ثمّ أبانَ لي، وأنا في غايةِ العجبِ، أنّه قد تعرّفَ بهاتيكَ الأرواحِ والهيئاتِ الإنسانيّةِ في "الآمادِ العُلَىْ" وقالَ مُعلِّلاً:- "إنَّ ذلكَ هو السّببُ في انتقائي لهم".
تحضُرُني هُنا، مرّةً أخرى، خاطرةُ ف. و. مايارَسْ المتأمّلةُ التي اقتبسناها عنهُ باكراً:- "ليس من السّهلِ التّحقُّقَ من (أو ادراكِ) صِحّةِ أيِّ نظريّةٍ عن الخلقِ "الآنيِّ المُباشرِ" لأرواحٍ هي على هذا التّباعُدِ والإختلافِ في مراحلِ تطوُّرِها الرُّوحِيِّ كما هو الحالُ والأرواحُ التي تدخُلُ في مجالِ كوكبِ الأرضِ متخفِّيَةً في هيئةِ الكائنِ البشريِّ الفانِيْ. إنّ المرءَ ليشعُرَ بأنّهُ ينبغِي أن يكونَ هُنالِكَ نوعٌ ما من الإستمراريّةِ، نوعٌ ما من الماضي الرّوحيِّ الواصلِ ما بينَ فرديّاتِ هاتيكَ الأرواحْ". إنّ هذا الموقفَ الجذلِيَّ الحكمةِ يجعلُ من أمرِ تخيُّلِ الأرواحِ "كينُوناتٍ" نُفِخَتْ- في الحالِ- في الأجسادِ، كما يُنفخُ الهواءُ في بالونٍ مطّاطيٍّ، شيئاً مُفرطاً في العبثيّةْ. فوِفقُهُ تغدُو الاروحُ جوفاءَ ومُفرغَةً من أيِّ ماضٍ:- كينوناتٍ طارئةٍ أُولِجَتْ، عشوائيّاً- أو بضربةِ لازبٍ- في الهيئاتِ الفيزيائيّةِ لأفرادِ كلِّ عائلةٍ إنسانيّةْ.
إنّ هدفنا، في هذه الإنشغالاتٍ الفكريّةِ، هو، بالطّبعِ، محاولةُ الوصولِ إلى نوعٍ من فهمٍ مُقنعٍ ومنطقيٍّ لكيفيّةِ تطوّرِ الحياةْ. ما هي القوانين التي تحكُمُ ترقّينا الحيوِيْ؟ ولكن هل نستطيعُ التّسليمَ بأنّنا نترقَّى؟ إنّ العقلَ الإنسانيَّ سيحتارُ حين لا يكونُ هُناكَ هدفٌ عقلانيٌّ "في هذا الموكبِ الإنسانيِّ المُعجَبِ العتيدْ".
وإذا اهتدينَا- الآنَ- إلى الطّريقِ، إلى ذلكَ الدّربِ المُتلوّي الصّاعدِ إلى اعالي جبالِ الأبديّةِ، كم سيكونُ مثيراً لنا أن نتمعّنَ في العواملِ التي تُوجّهُ ترقِينا على مدارجِهِ- أو انزلاقنا المرتدِّ إلى أسافِلِهِ. ليس هنالكَ من رحلةٍ جديرةٍ بأن تكُنْ ذاتَ هدفْ. فبدُونِ الخارطةِ أو البوصلةِ، بدُونِ عصاةِ التّسلُّقِ الجّبليِّ التي تستقيمُ، بعونها، خُطانا وبدُونِ الإرشادِ في شأنِ كيفيّةِ تيسيرِ وتعجيلِ صعودنا الجَّبَليِّ الحثيثِ سنكونُ، في الحقِّ، ضائعِينْ.
لماذا لا نتذكّرُ كفاحاتنا الماضيةْ؟ سألتْ. أُجِبْتُ:- "ذلكَ لأنَّ العُروةَ التي تُوثّقُ أيَّ مستوىً من مستوياتِ كينونتنا بالمستوياتِ الأخرى- والتي هي أشبَهَ بحبلِ سُرَّةٍ- لا تستطيعُ السَّماحَ بعبُورِ رسائلِ الذّاكرةِ، من خِلالِها، إلى العقلِ الواعي. فأمرُ تلكَ معها كأنّهُ أمرُ ذبذبةٍ كهربائيّةٍ عاليةٍ قُضِيَ عليها أن تشُقَّ طريقَها، قَسرَاً، عبرَ مُوصّلٍ سالبٍ للطّاقةْ". هذا، كما قال غاندي، فيهِ رحمةٌ لنا فذاكرتُنا، لولاهُ، سوفَ تُثْقَلُ بالأعباءِ النّفسيّةِ والرّوحيّةِ فتُهدُّ، بذلكَ، أرواحُنا تحتَ وطأةِ معرفةِ تراجيديّاتنا السّالفةِ وخيباتِنا. إنَّ الدّرُوسَ الأخلاقيّةَ الأساسيّةَ المُستفادَةَ من أيِّ حياةٍ مُفردةٍ مُندغِمَةٍ في سِجِلِّ ذاتِنا الأعمقْ. فهي، لو تُعِلِّمَتْ، ستكونُ راسخةً هناكَ إلى الأبد- شأنُها في ذلكَ شأنُ القواعدِ الاخلاقيّةِ العامّةِ التي يستفيدُها الإنسانُ الفردُ في حياتِهِ الحاضرةِ فلا ينساها من بعدِ ذلكَ، مثلُ الطّهارةِ الشّخصيّةِ أو الرّأفةِ بالآخرينَ من النَّاسِ والحيواناتْ. فتلكَ قد صُبِغَتْ على صُوفِ النّفسِ الشّاعرةِ، وهي ستندغِمُ على نسيجِها حتّى ولو كانتْ هُنالِكَ، أحياناً، ارتكاساتٌ تتخلّفُ بالمرءِ، وهو دربِ سعيِهِ المتقدّمِ، عن أن يكونَ على قدرِ مِثالِها.
ليس هنالكَ من شيءٍ مُعينٍ لنا، في كشفِنا هذا عن شتّى أبعادِ الكينونةِ، على الفهمِ الأعمقِ سيُضحِيْ، على كلِّ حالٍ، مَضيَعَةً لمثابرتِنا على استكناهِ جوهرِهِ- ونحنُ مُفعمُونَ بالعِرفان- في المنبعِ الوهّاب لكلِّ الأشياءِ والأحياءْ.
هُنالِكَ سؤالٌ يُسألُ أحياناً:- هل لنْ يُؤْذِنَا دوامُ تمعُّنِنَا في هيئاتِ حيواتِنا السّالفةِ إن سبقَ لبعضِ هاتيكَ الحيواتِ أن صارَ معرُوفاً لدينا؟ أحياناً قد يكونُ الأمرُ هكذا، خاصّةً في حالِ عُلُوقِ ماضٍ زاهٍ ومؤثّرٍ، أو ذي انميازٍ، بذاكرتِنا. لكن حين يكونُ المرءُ قد أُنعِمَ عليهِ بالعِلمِ عن صفاتِ حيواتٍ شتّى من حيَواتِهِ (أو حيَواتِ سِواه) الماضيةِ ينبغي عليهِ، وقتذاكَ، أن يُفكّرَ في هاتيكَ على أنّهُنَّ لسنَ سوى أشكالِ موازنةٍ لتجاريبٍ سالفةٍ وألاّ يُعلّقُ، بالتالي، أهمذيّةً أشدَّ كِبْرَاً على أيٍّ منهُنَّ دونَ الأُخرَيَاتْ. إنّ حيواتَنا مُندرجَةٌ في مُنمنمَةٍ عامّةٍ لحادثاتٍ تُنشئُ معاً جِمَاعَ الطّاقاتِ أو الصّفاتِ الألُوهيّةِ التي شيّدنا عليها كياناتنا النّفسيّةَ أو الشِّعُوريّةْ... فتلكَ الطّاقاتُ أو الصّفاتُ الألوهيّةُ قد ذابتْ في ماضيِ فرديّاتِ أرواحِنا مُشكّلَةً، بذلكَ، الأساسَ القاعديَّ لكينونتنا الحاضرةْ. نحنُ لسنا مُجرّدَ "هذا" أو "ذاكَ" من الهيئاتِ التي نحنُ عليها الآنْ. فهي أو هُوَ (هذهِ المرأةُ أو ذاكَ الرّجُلُ)، كشخصيّاتٍ أو هيئاتٍ نفسيّةٍ- فيزيائيّةٍ، ما شاركا في تكوينِ ذاتيهما الحاضرتين إلاّ بما وُهِبَاهُمَا من إيقاعٍ وصورةٍ ذُوِّبَتْ في هيكلِها شخصيّتيهُمَا الماضيتَينْ. فما تلكُم الشّخصيّتان الماضيتان سوى اثنينَ من الثَّلَمَاتِ (الشَّرائحِ) العديدةِ المُكوِّنَةِ معاً اسطُوانةَ ماضينا الطّويل العهُودْ.
ربّما أَعِدْنَا أنفُسَنَا على دربِ رُجْعَىْ إلى ما كُنّاهُ في الماضي، إن كانَ لنا أن نُوغِلَ، بِكَبَدٍ شديدٍ، في خواطِرِنا عن الحياةِ، أو الحيَواتِ، التي هوتْ إليها مُخيِّلاتُنا وأفئدتُنا أكثرَ من غيرِها من حيواتنا الكثيرةِ الماضيَةْ... لكن "الحاضرَ" هو ما يجبُ أن يُعاشْ. فالطّاقاتُ المنسوجةُ في عمقِ تاريخِنا الغابرِ هي أُسُسُ ذاتِنا العُليا الحاضرة، لا أكثرَ ولا أقَلْ.
حينَ بدأتُ هذه الدّراسةِ ما خطَرَ ببالِي أنٍّ سيُرجَىْ منّي إشهارَ استكناهاتِها هذي على الملأ. ثمّ حينَ وجدتُ نفسي، بعدَ سنينٍ لاحقةٍ عديدةٍ، مدفوعةً إلى استخدامِ شيءٍ من أمثِلَةِ "المُعلّمِ" النّاطقةِ بفنِّ اكتِشَافِهِ البديعِ فكَّرْتُ:- حَسَنَاً، ربّما تكونُ نماذجٌ قليلةٌ جدّاً منها مقبُولةْ. لكنّني الآنَ، إذ مضيتُ بعيداً في اتّجاهِيَ المُختَلِفِ رُغمَ معرِفَتِي بأنَّ العالمَ يُسفِّهُ ما لا يفهمُهُ، أشعُرُ بأنَّنِي ينبَغِي عليَّ أن أُغَامِرَ بما أنا- حاليّاً- مُغامِرَةٌ بهِ، وإلاّ لفشلتُ في أن أُجَازِيَ جُوْدَ "مُرشِدِيْ" بإحسانٍ وإنصافْ.
2
إنّ الرّوح التي سندرس الآنَ أوجُهَاً من سيرتِها، بإذنها، هي من كانت السيّدة ذائعة الصّيت مدام دي سيفين. إنّ حياةَ ورونقَ تلك السيّدةِ قد شعّا، ثانيةً، في هذا القرنِ العشرينِ، في شخص الكاتبةِ الشّهيرةِ روزاموند ليمان.
ما أن أصدرت روزاموند ليمان روايتها الأولى المسمّاة إجابةٌ مُغبرَّةٌ، وهي في سنّها الحاديةِ والعشرين، حتّى صارتْ، ما بينَ ليلةٍ وضُحاها (كما يُقالُ في التّعبيرِ الدّارِجِ)، على رأسِ قائمةِ المؤلّفين اللذين لديهُم كُتُبٌ أكثرَ مَبَاعاً في السّوقِ الثّقافيّةْ. منذُ ذلك الزمانِ مضت روزاموند ليمان من قوّةٍ إلى قُوّةٍ في مسارِها ككاتبةٍ فألّفتْ رواياتٍ كثيرةً مُقتدرةً، ثمّ صارتْ رئيسةَ "المركز الإنجليزيِّ"، ولاحقاً نائبةً عالميّةً لرئيس "الإتّحادِ العالميِّ للقَلَمْ". ومن موقعِ منصبِها الأخيرِ طافتْ، بقدرٍ كبيرٍ، في مختلفِ أرجاءِ العالمِ، تقريباً، صديقةً عزيزةً لأيِّ شخصيّةٍ بارزةٍ في هذه الدّنيا تشاءُ- أيّها القارئُ- الإشارةَ إليها. نحنُ- إذاً- سنُمسكُ هنا بلمحةٍ من التّلمذةِ على أصولِ الكتابةِ التي تمتّعتْ بثمارِها "كاتبةٌ بالميلادْ". إنّ الإهتمامَ الودودَ لتلكَ الرّوحِ الإنسانيّةِ برفاقِها من المخلوقاتِ البشريّةِ، والذي عبّرَ عن نفسهِ، في أحدِ القرُونِ، على صورةِ كتابةٍ دائمةٍ للرسائلِ إلى الأصدقاءِ والأحبابِ، قد "زيَّتَ" عجلاتِ وعيِها وشعُورِها فتمكّنتْ من فنِّ توصيفِ شخُوصِ أفرادِ النّاسِ وما يُلفِّعُ معاشَهُمْ من أحداثٍ، بل وجسّدتْ ذاكَ الفنَّ، بسحرٍ وفطنةٍ وعمقٍ في الفهمِ، في حياةٍ تاليةْ.
في هذه الدّراسةِ القصيرةِ عن مدام دي سيفين، التي عاشتْ ما بينَ عام 1627و1696، سأقتبسُ مقتطفاتَ حرفيّةَ عن البيوغرافيا الوطنيّة وعن بيوغرافيا أخرى ألّفتْهَا جانيت آلدسْ. تُقَدّمُ لنا الفقرةُ الأولى من الكتابِ الأخيرِ وصفاً دقيقاً للرّوحِ إيّاها ينطبقُ، بتساوٍ، على هيئتيها الدُّنيويّتين في القرنِ السّابع عشر وفي الزّمان الحاضر (في القرن العشرين) فتقثولُ عنها إنّها:- "جميلةٌ في شخصها، مُكتملةُ العقلِ، فَطِنَةٌ، حيويّةٌ وذكيَّةٌ إلى درجةٍ غيرِ مألُوفةٍ، وموفَّقَةٌ تماماً في المجالِ الإجتماعِيْ. مع ذلكَ هي ما فقدَتْ أبداً حُبَّها للطّبيعةِ السّاذجَةِ فكانتْ خُضرةُ الحقُولِ، أو راقُ نباتاتِ الغابةِ الكثيفةِ، أريجُ الشُّجيراتِ المُتسلّقَةِ، ثمّ أغنيةُ العندليبِ منابعَ بهجةٍ هي شغُوفةٌ بالإحتِفاءِ بها... عندَ طِلُوعِهَا الأوّلِ في آفاقِ المجتمعِ الباريسيِّ ترامَىْ عُشّاقٌ كُثُرٌ على قدميها فقبلَتْ منهم زوجاً لها ابنَ أُخْتِ الكاردينال دي ريتز المُسمَّى الماركيز دي سيفين. تمّ عقدُ قرانهما في عام 1644 وهي ابنةُ ثمانيةِ عشرةِ ربيعَاً. ما كان ذلك الرّجُلُ جديراً بها فهو، بخُشونتِهِ وحسيّتِهِ، بجَريِهِ الدّائمِ وراءَ النّساءِ، ما أحبَّ قطُّ أيَّ شخصٍ مُستأهلٍ للحُبِّ مثلَ شخصِ زوجتِهِ". بعد الزّواجِ صارتْ مدام دي سيفين إحدى زيناتِ "الهوتيل دي رامبويليه"، ذلك الرّائدُ بين صالوناتِ باريسِ حيثُ، تحتَ إشرافِ مدام دي رامبويليه، بُدِّلَ مُجتمعُ باريس من عهودِهِ الفِروسيّةِ الخشنةِ والبّدائيّةِ إلى عهودِ تهذيبٍ وكَياسةٍ فخيمةٍ في السّلُوكْ. صارتْ مدام دي سيفين، في ذلك المجتمع، مركزَ الجّذبِ لفُطناءِ ونبلاءِ تلك الأيّامْ. ورُغمَ أنّها قد عُرِّضَتْ، حينذاكَ، لإغواءاتٍ عديدةٍ وهي الفتاةُ ذاتُ الدّلالِ والغَنَجِ الطّبيعيِّ، إلاّ أنّ سُمعتَها ما وشَبَها، أبداً، شيءٌ مُشِيْنْ. ومُحاصرَةً، في أوقاتٍ شتّى، بمغازلاتٍ من رجالٍ من أمثالِ تيُورِينينْ، الأمير دي كونتي، الوزير فوكو، وقريبها الذي لا يُقاوم بُسِي-رابوتين وكثيرٍ من أُخرٍ صمدتْ تلكَ الفتاةُ، بشجاعةٍ وبشاشةٍ، في أوجُهِهم جميعاً، قبلَ وبعدَ ترمُّلِها... احتفظَتْ مدام دي سيفين بصداقةِ العديدينَ من أولئكَ الرِّجالِ، ولفوكو ظللّتْ مُخلصةً "في أيّامِ هَوانِهِ على النّاسْ".
بعد سبعِ سنينٍ من الزّواجِ ترمّلتْ مدام دي سيفين وحُرِمَ ابنُها وابنتُها من أبيهما. فلقد اغتِيل زوجُها الماركيز في مُبارزةٍ لحسابِ سيِّدةٍ تُدعى السَّيِّدةُ قَوردانْ. "عندما تمرّغَ زوجُها، بعُمقٍ ويوماً إثرَ يومٍ، في العارِ والهوانِ والدَّيْنِ غفرتْ له مدام دي سيفين خطاياهُ الصّارخةَ في حقِّها وهبَّتْ لمساعدتِهِ بمبلغِ خمسينَ ألفٍ من الكروناتْ". ما شكَّ أحدٌ في حقيقةِ وإخلاصِ أساها عليهِ. ونحنُ ندركُ كم كانتْ هي امرأةً ذاتَ حساسيَّةٍ وانطباعاتٍ قلبيّةٍ وعقليّةٍ أخّاذةٍ، وكم كانتْ، كذلكَ، حيّةَ الشّعُورِ ومُفْعَمَتْهُ تجاهَ مباهجِ الحياةِ رُغمَ أنّها، في ذاتِ الوقتِ، سهلَةَ الإنمِساسِ والتأثُّرِ بالأسىْ. ورُغمَ الإذلالِ الذي سبّبَ لها زوجُها مُعاناتَهُ، بل ورُغمَ حتّى التّتويجِ المُكايِدِ، القاسي، لذلكَ الإذلال بالطّريقةِ التي ماتَ بها إلاّ أنّها ما تمالكتْ نفسَها من الحُزْنِ الطّاغي على فُقدانِهِ. وواهبةً نفسَها، منذُ ذلكَ الزّمانِ وما بعدِهِ، لتعليمِ طفليها وإصلاحِ شؤونِ بيتِها الماليّةِ والدّنيويّةِ المثتهالِكَةِ انسحبتْ مدام دي سيفين إلى مُتّكئِها في بلدةِ لي روشارس بمقاطعةش بريتانيا حيثُ وجدتْ انشغالاً مرغُوباً وتسريةً في رِعايةِ حديقتِها المحبوبةْ. ثمّ عادتْ، أخيراً، إلى المجتمعِ الباريسيَِّ كي تشعَّ برونقٍ أكثرَ بهاءاً من جميعِ ما مضىْ.
ظهرتْ قُوّةُ وعثمقُ شعُورِ مدام دي سيفين الأموميُّ في كلِّ صفحةٍ من صفحاتِ رسائلها المُحتفَى بها. ولقد كتبتْ المدامُ غالبيّةَ هاتيكَ الرّسائلِ إلى ابنتِها التّي غدتْ، بحكمِ الزّواجِ، الكونتيسة دي قِرقنان وعاشتْ، مع زوجها، في الأقاليمِ وبعيداً عن العاصمةْ. صوّرَتْ رسائلُ مدام دي سيفين عهدَ سُلطانِ المَلِكَةِ آن في النّمساويّة على فرنسا "في أكثرِ الألوانِ بريقاً في خطُوطِها... كذلكَ صوّرَتْ أيضاً عهدَ الملكِ لويس كواتورز الزّاهيْ. ووصفَتْ- في ذلكَ الإطارِ- دسائسَاً، مغامراتٍ ومشاهداً، بحيويّةٍ بهيجةٍ في الخيالِ وبدقّةٍ في التَّفْصِيْلْ. ثمةُ نغمةِ دُعابةٍ خفيفةٍ كانتْ ساريةً خَلَلَ هاتِيْكَ الرّسائلِ تتغيّرُ، في الحالِ، إلى جِدّيّةٍ مُنذرةٍ حينَ يلمُّ صداعٌ أو أخفُّ سُوءٍ بمدام قِرِقنانْ التي كان قوامُها وتفاصيلُ هيئتِها، بل وحتّى شعرُها وأسنانُها، مواضيعَ قلقٍ أنثَويٍّ لمدام دي سيفين".
كتب الماركيز دي لا فاياتي صورةً قلميّةً لمدام دي سيفين حين كانت في الثالثةِ والثلاثينَ من عمرِها. ومن تِلكَ السّطُورِ نستجمِعُ انطباعاً عن شخصيّتِها الحيّةِ المحبوبةِ إذ خاطبها الماركيز فيها قائلاً:- "أنا لا أرغبُ في أن أغمُرِكِ بالمدائحِ، أو أُضَيِّعُ وقتي في إنبائكِ بأنّ هيئتَكِ باعثةٌ على الإعجابِ وانَّ قَوَامَكِ ذو نُضرةٍ وجمالٍ يُؤكِّدانَ لنا أنّكِ ما تجاوزْتِ العشرينَ من العمرِ (وإن فعلْتِ)... إعْلَمِي إذاً أيّتُها السيّدةُ- إنْ ما سبقَ لكِ العلمُ أقُول، في سانحةٍ ماضيةٍ ما- أنّ عقلَكِ يُزِيْنُكِ زينةً عظيمةً ويُجمِّلُ شخصيّتَكِ وانّهُ ليس ثمةُ شيءٍ على ظهرِ هذه البسيطةِ بهيجاً ولطيفاً كما أنتِ حينَ تُحْيَِيْنَ بمُحادثَةٍ مُحَرَّمٌ عليها الحظرُ والقيدْ. وكلُّ ذلكَ الذي تقولينَ هو من اللّطفِ والسَّمَاحَةِ والإنسجامِ بحيثُ أنَّ كَلِماتَكِ تجذبُ، من حواليكِ، الإبتساماتِ والنَّغَمْ... إنّ عقلَكِ لَعَظِيْمٌ ونبيلْ... أنتِ تُحبّينَ المجدَ والطّمُوحَ، كما وتُحبّينَ المسرّاتِ على قدرٍ مساوٍ لذاكَ... أنتِ تُبدِيْنَ وكأنّكِ قد وُلِدْتِ من أجلِ أولئكَ، كما وأنَّ أولئكض يبدونَ وكانّهم خُلِقُوا من أجلَكِ... حضُورُكِ يَصْرِفُ الأنفُسَ إليكِ، وهذا الصَّرْفُ يُزِيْدُ في قَدرِ جمالِكْ... أنتِ، بطبيعتِكَ، رقيقةٌ وعاطفيّةْ. وقلبُكِ- أيّتُها السيّدةُ- هو، بلا شكِّ، كنزٌ لا يستطيعُ أحدٌ أن يكونَ جديراً بهِ..." ذلكَ بعضُ ما فاضَ بهِ قلمُ الماركيز عن تلك السيّدةِ النّبيلةِ، وهُنالكْ مزيدْ.
ولقد واتتنا صورةٌ قلميّةٌ أخرى، عن الأمِّ دي سيفين وطفليها، من دَيرِ آرتود، حين كان الصّبيُّ والصّبيّةُ في التّاسعةِ والحاديةِ عشرةِ من عمريهِما:- "أتخيّلُ أنّني ما أزالُ، الآنَ، مستطيعاً رؤيتَها كما بدتْ لي في اليومِ الأوّلِ الّذي شُرِّفْتُ فيهِ برؤياها. لقد وصلتْ، حينذاكَ، إلى حيثُ كُنتُ في مركبةٍ مفتوحةٍ وابنها وابنتها بجانبها، كما في رسمِ الشُّعراءِ لمشهدِ الإلهةِ لاتونا وهي مصحوبةٌ بأبّولو الشابِّ وديانا الصّغيرة، فجمالُ الأمِّ وطفليها كان مُذهلاً جدَّاً".
تلقّى طفلا مدام دي سيفين تعليماً حسناً فألمّا باللّغتينِ اللاتينيّةِ والإيطاليّةِ اللتينَ درساهُما على يدِ أمّهما الموصوفةِ، في أقوالِ النّاسِ، بأنّها "عرفتْ الكثيرَ الخطيرَ دونَ أن تُصرِّحَ بأنّها تعرفُ أيَّ شيءْ".
كتبتْ، مؤخّراً، رسالةً إلى ابنتها قالتْ فيها:- "أُهْـ، كم هم قليلون أولئكَ الأفرادُ من النّاسِ اللذينَ هم، بصورةٍ مُطلقةٍ، على "حَقْ"! إعتَبِرِي هذه الكلمةَ قليلاً وسوفَ تُحبّيْنَها. إنَّ بِليسيس الألوهيّةَ ليستْ دوماً على "خطأ". أنا أُشرِّفُها شرفاً كبيراً جدّاً حتّى ولو تحدّثْتُ عنها بسُوءْ. إنّها تُمثّلُ كلَّ أنواعِ الشّخصيّاتِ فتتقمّصُ أدوارَ الإنسانةِ المتفانيةِ، الماهرةِ، الإنسانةِ التي لا استغناءَ عنها، الإنسانةِ الأنيسةِ لكن، فوقَ كلِّ ذلكَ، هي الإنسانةُ التي تُقلّدُنِي بطريقةٍ هي من الطَّرافةِ بحيثُ أنّها تُسلّينِي بذاتِ القدرِ الّذي قد تُسلّيْنِي به رؤيةُ وجهيَ المُشَوَّهِ على صفحةِ إناءٍ زُجاجيٍّ أو سماعِ صدىً يُرجِّعُ- كذلك الذي لدى هيُودِبْرَاسْ- لا شيءَ سوى أصواتٍ لا مَعَنَىْ لها".
هنا تتحدّثُ روائيّةُ المستقبلِ البصيرةُ الشّعُورْ. فالشّخصيّتان إيّاهما متناسجتان فيما بينهما بطريقةٍ شديدةِ التّشَابُكِ بحيثُ أنّها تُغْرِيْ المرءَ برسمِ خُطوطِ ملامِحِهما في مقالٍ واحدْ.
أُذهِلَ البِلاطُ الفِرنسيُّ بجمالِ إبْنَةِ مدام دي سيفين، وهو يراها تشبُّ عن طوقِ طفولتِها، كما أُذهِلَ، من قبلٍ، بجمالِ أمّها. قال تريفيلَسْ:- "إنّ جمالَها رُبّما يُشعِلُ العالمَ بنارِهِ"، كما ودعاها قريبُها بُسِيْ-رابوتين "أوسمَ الفتياتِ في فرنسا". ولقد صوّرَتْها اللّوحةُ التي رسمها لها مِقنَارْدْ، وهي في آنِ ظِهُورِها الأوّلِ في مُتحفِ اللّوفر، "رَوِيَّةً، بحُسنِها، رُواءَ زهرةٍ نفيسةْ"... "في تِلكَ السّنينِ أكسبها جمالُها، قبلَ زواجِها، نجاحاً باهراً ولا جِدالَ فيهِ في البِلاطِ الفِرِنْسِيْ. وآنما بدتْ في أرجاءِ ذلكَ العالمش الفخيمِ حيّتها زُمرةُ مُرنِّمِيْنَ بسيلٍ من المديحِ والإطراءِ طوّقُوْهَا بهِ من كّلِّ صوبْ. ولَرُبَّما أرضى مشهدُ الحبِّ ذلكَ قلبَ أمّها المُحبّةِ المُدَلِّلَةِ أكثرَ ممّا فعلتْهُ، أبداً، أيُّ تحيّةِ عِرفانٍ وتقديرٍ لمحاسنِها تلقّتْها هيَ في سالفِ، أو حاضرِ، الأيّام". ومثلُ الأمِّ حازتْ الإبنةُ على "رشاقةِ ولُطفِ الرّاقصةِ الكامِلينْ". لذا اختارَها الملِكُ كي ترقُصَ في الباليه التي عُرِضَتْ في "الباليس رويال" وكان من بينَ ممثّليها الشّابُّ روي سولِيَلْ بذاتِهِ وصِفاتِهِ. وفيما هي رائيةٌ لذاكَ العرضِ الفنِّيِّ أقرّتْ مدام دي سيفين لنفسِها بأنّ ابنتها قد كانتْ- وما تزالُ- "العاطفةَ الوحيدةَ لفؤادشها، مسرَّةَ وعُذُوبَةَ حياتِها".
في الرّسائلِ التي كتبتها الأمُّ المُدلّهَةُ وكُوفِئَتْ، بفضلها، بشهرةٍ وصيتٍ مُستحقّينَ كثيراً ما نُوهبُ لمحاتٌ حِسّيَّةٌ عن حالتِها الشِّعُورِيَّةِ في آنِ افتِرَاقِ ابنتِها عنها إلى زوجِها وطرقِها، إلى هُناكَ، سبيلَ رحلةٍ طويلةٍ وفيرِ مأمونةِ المسالكِ، رحلةٍ رُبّما قُدّرَ للفتاةِ أن تُغامرَ بها في عِزِّ الشّتاءِ، عبرَ عواصفِ المطرِ والرّيحِ السّيّالةِ، بشراسةٍ طليقةٍ، على الدذروبِ والأنهارْ.
"إنّ أسايَ سيكونث خفيفاً جدّاً إن استطعتُ أن أعطيكُم وصفاً لهُ. أنا- إذاً- لن أُحاولَ ذلكْ. أنا أبحثُ، في كلِّ فجٍّ من فِجاجِ هذه الدّنيا، بلا جدوى، عن طفلتِي العزيزةِ فلا أجدُ لها هيئةً. فكلُّ خطوةٍ تتّخذها تحملُها في طيّاتِ مسافةٍ أشدَّ إيغالاً في ابتعادِها عنّيْ. تبدَّى لي أنَّ قلبِي ورُوحي بعينهما قد نُزِعَا مزقاً من بين جوانحي. يا إلهي! كم هو من فِراقٍ قاسٍ!" ومُشرَّدةُ الخواطرِ والفِكرِ بفقدانها مضتْ الأمُّ الآسيةُ إلى داخلِ دضيْرٍ وبَقِيَتْ، هثناكَ، لساعاتٍ، غيرَ قادِرةٍ على فعلِ أيِّ شيءٍ آخرٍ سوى البُكاءْ...
"بقيتُ هثناكَ حتّى الخامسةَ مساءاً دونَ أن أتوقّفَ عن البُكاءْ. وأيُّ فِكرةٍ فكّرْتُها استدعتْ لي حسّاً بالموتْ. هل تستطيعُونَ فهمَ ما عانيت؟ مضى اللّيلُ عليَّ وأنا في سَهَرٍ جنائزِيْ. ثمّ أتاني نُورُ الصّباحِ وأنا على أسايَ هذا فلم يُبدّلْهُ بأيِّ سلامٍ في النّفْسِ والشِّعُورْ..."
أمضتْ هذه الأمُّ الرّؤومُ سنواتٍ عديدةً في هذا الفِراقِ الفاجِعْ. لكنَّ هاتيكَ السّنينَ منحتْ العالمَ أعظمَ الرّسائلِ رقّةً وتألّقاً في الوصفِ في هذا الوجودْ. وبينما كانتْ الأمُّ بديعةً في تعبيرِها وانطباعِها كانتْ الإبنةُ مُتفكّرَةً ومُتأمّلَةْ. كتب زوجُها الماركيز، بعدَ سنواتٍ من ذلكَ الفِصال:- "من ذا الّذي كانتْ ستُخاطِرُهُ فكرةُ أنَّكِ ستكبُرِيْنَ وتُصبِحِيْنَ الإمرأةَ الحسّاسةَ المتفوِّقَةَ التي هي أنتِ الآنْ!"
كتبتْ المدامُ-الأمُّ في رسالةٍ إلى ابنتِها:- "أنا سوفَ لا أُودِي بكِ إلى القولِ إنّني كنتُ ستاراً حجَبَكِ عن العالمين... ولسوفَ أكونُ مُسيئةً كثيراً إليكِ إنْ كُنْتُ قد خبّأتُكِ فيَّ، أو عن الآخرينْ. أنتِ تُبدِيْنَ- الآنَ- أكثرَ أُنْسَاً وظُرْفَاً إذْ جُذِبَ عنكِ السِّتارُ جانباً. أنتِ تَتَطَلَّعبِيْنَ أن تُكْتَشَفِيْ حتّى تًطلَعِيْنَ في كَمَالَكِ الحقْ. هذا هو ما قُلناهُ عنكِ آلافَ المرّاتْ".
وإنّهُ لمِن المفهومِ جدّاً، كما تقُولُ إحدى البيوغرافيّتين المشارِ إليهما، "أن تخسفَ المواهبُ الإجتماعيّةُ البديعةُ للماركيز بشمسِ هاتيكَ التي انمازتْ بها ابنتُها... إنّها سُرَّتْ بأن تكونَ وديعةً ولطيفةً مع كلِّ النّاسِ، ابتداءاً من أصدقائها العاملينَ في البِلاطِ وانتهاءاً بالجّنائنِيّةِ والعاملينَ من الرّجالِ في عقارِها، فهي قد مُلِّكَتْ سماحةُ غريزةِ الرّغبةِ في الإرضاءِ والإسعادْ. "هي قد أحبّتْ أن تكونَ محبُوبةً". هكذا قال عنها قريبُها الحقود، لكن الدّاهية، بُسِيْ-رابوتينْ".
ثمةُ قطعةِ كتابةٍ تحليليّةٍ دقيقةٍ كتبتها مدام دي لا فَيَتِي عن، وإلى، مدام دي سيفين تشي لنا بالكثيرِ جدّاً من سماتِ الأخيرةِ وسِحْرِهَا الشَّخْصِيِّ الوضيءْ:- "إنَّ أبسطَ التّحيّاتِ المُهذّبَةِ الأديبةِ منكِ تبدو تصريحاتَ صداقةٍ مكيْنَةْ. وكلُّ من يستأنسُ بحضُورِكِ (ولو لوهلةٍ)، ثمّ يُمضِي بعيداً يبقى مقتنعاً بسمُوِّ مقدارَكِ وطيبِ نيّتِكِ دونَ أن يكونَ قادراً على أن يُفسّرَ لنفسِهِ أيَّ دليلٍ ذاكَ الذي قدّمْتِيْنَهُ لهُ على هذينْ".
نعرِجُ الآنَ على رسالةٍ كتبتها، مؤخّراً، مدام دي سيفين إلى ابنتِها:- "خرجتُ، في الصّباحِ الباكرِ من يومِ أمسٍ، من بيتِي في باريس قاصدةً دارَ آلِ بومبوني كي اتناولَ طعام العشاء. هنالكَ وجدتُ صاحبنا العجوزَ الطّيّبَ الذي كان منتظراً لي. ألفيتُهُ أوغلَ في تقواهِ، حينذاكَ، من أيِّ زمانٍ مضى... وبّخنِي توبيخاً جادّاً جدّاً، ثمّ حدّثني، في اهجةٍ شُرِّبَتْ بدفءِ حميتهِ وصداقتِهِ، عن كيفَ أنّني على خطأ في ألا أفكّرَ في تغييرِ مسارِ حياتِي فأنا- كما قال عنّي- غدوتُ وثنيّةً تماماً وصنمي الذي أَقَمْتُ في فؤادي هو أنتِ. وأضافَ قائلاً، في ذاتِ السّياقِ، إنَّ ما هويتُ إليهِ أنا من أشكالِ "التّعبّدِ"- كما سمّاهُ- هو ذي خطرٍ لا يقلُّ في أثرِهِ عن أيِّ شكلٍ سواهُ من أشكالش التّعبُّدْ. ذلكَ رُغْمَ أنّهُ قد يبدو لي أخفَّ جُرماً عمّا عداهُ... قال الرّجلُ جميعَ ذلكَ بصورةٍ مؤثّرةٍ جدّاً فما فُتِحَ عليَّ، حتّى ولو بكلمةٍ واحدةٍ فقط أرُدُّ بها عليهِ... وبعدَ ستِّ ساعاتٍ من مُحادثةٍ مقبُولةٍ جدّاً، رُغمَ أنّها، في ذاتِ الوقتِ، جادّةً جدّاً، تركتُهُ وجئتُ إلى هنا حيثُ وجدْتُ "مايُّو" في كلِّ زهوِ جمالِهِ. فالعندليبُ، الوقواقُ والدّغناشُ الصّغيرُ كلُّهم قد جاؤوا بالرّبيعِ إلى غاباتِنا. كرّسْتُ جُزءاً من هذا النّهارِ للكتابةِ إليكِ وأنا بهذه الحديقةِ حيثُ أصمّنِي، تقريباً، أصواتُ ثلاثةِ أو أربعةِ عنادلٍ جثمتْ على فرعِ شجرةٍ يعلُو رأسي بالضّبطْ. هذا المساءُ سأعُودُ إلى باريسَ وأعِدُّ طرداً بريديّاً أبعثُ بهِ إليكْ".
هكذا قضتْ مدام دي سيفين بقيّةَ أيّامِ حياتِها فهوّمَتْ بقلبِها، على الدّوامِ، عبرَ المسافةِ ونحوَ دِيارِ ابنتِها العزيزةِ، الحبيبةِ والجّمِيْلَةْ.
*
في هذا القرنِ العشرينَ تحتفي الكاتبةُ الشّهيرةُ (روزاموند ليمان) بصلةٍ غيرِ منقطعةٍ بينها وبين ابنتِها في الزّمانِ الحاضِرْ. فكما كانَ قلبُها، في حياتِها السّالِفَةِ تحتَ اسمِ مدام دي سيفين، مُطوِّفَاً حول شخصِ ابنتِها هي، كذلكَ، الآنَ مُهوِّمَةً، قلباً ورُوحاً، صوبَ شخصِ ابنتِها، تلكَ الفتاةُ الصّغيرةُ التي تُوفِّيَتْ، بمأساويّةٍ، في العامِ الثّانِي من حياتِها الزّوجيّةِ التي صرَفَتْهَا وهي مُفارِقَةٌ لأمّها في ما وراءِ البِحارْ. لكن في هذه المرّةِ قُدِّرَ للإبنةِ أن تكتُبَ رسائلاً لأمّها حُظِيَتْ، لبهجةِ جميعِ القارئينْ، بالطّبْعِ والنّشِرْ. تلكَ الرسائلُ قد تمَّ تلقِّيْهَا، كما قد يعِنُّ للمرءِ أن يقُولَ، خَلَلَ "التّلغرافِ الغابِيِّ" لتوارُدِ الخواطِرِ وفي نثْرٍ وصفيٍّ وجَمِيْلْ.
ذلكَ في حينٍ كتبتْ فيهِ الأمُّ روايةً وشاهدةً قبرِيَّةً على افتِراقِها المأساويِّ عن ابنتِها الحبيبةِ احتُفِلَ بها كواحدٍ من أشدِّ مؤلّفاتِها حساسيّةً في الشِّعُورِ واتَّخَذَتْ لها عنواناً هو البَجَعَةُ في المساء. حدّثنا صديقٌ قديمٌ لروزاموند ليمان، هو الميجور ت.ب.، في تقريرٍ لبرنامجٍ تلفزيونيٍّ فِرِنْسِيٍّ اسْتُضِيْفَا فيهِ معاً إثرَ رحلةٍ صَحِبَها فيها إلى باريس فقال عنها إنّها:- "حيثُما حلّتْ بُسِطَ لها البِساطُ الأحمرُ وكأنّها شارفَتْ أن تكُونَ شخصيّةً مَلَكِيَّةْ". ذلكما هما الحَسَنْ والنِّعمةُ اللاّشعوريّان لإنسانةٍ نبعتْ ذكرياتُها الباطنةُ من الأناقةِ الأُرُستُقراطيَّةِ للبِلاطِ الفِرِنْسِيْ.
الفصل الثّاني عشر
ق. ك. تشيسترتونْ
1
إنّ د. صامويل جونسون هو واحدٌ من أعظمِ أهالينا مهابةْ. كما وهو، كذلكَ، عَلَمٌ على رأسهِ نارْ. فلقد كانَ قاموسيّاً عظيماً، مُحاوِرَاً بديعَاً وإنساناً غريبَ الأطوارِ ازدهَتْ بهِ المجالسُ والمحافلُ في القرنِ الثّامن عشرْ.
إنّنا، بالكادِ، في غِنَىً عن القولِ إنّ د. صامويل جونسون، في حياتِهِ التّاليةِ على الكوكبِ الأرضيِّ، قد عادَ وعبّرَ عن ذاتِهِ الباطنةِ بصورةٍ مُشابِهَةٍ كثيراً، في عملاقيّتِها، لسابقتِها في القرنِ الثّامِنْ عشَرْ. فنحنُ قد أُنْبِئْنَا بأنّهُ آبَ، مرّةً أخرى، إلى الدّنيا في شخصِ مُفكّرٍ عظيم، كاتبٍ، صحافِيٍّ، شاعرٍ ومُحاوِرٍ مُحْتَفَىً بهِ هو ق. ك. تشيسترتون. إنَّ الشّخصينَ إيّاهُما مُتماثلانَ على نحوٍ مرمُوقٍ جدّاً، ولا غَرْوَ في ذلكَ فهُما رُوحٌ واحدةْ. قد يلبسُ الإنسانُ مِعطفَيْنَ مُتشابِهَينَ، أحدُهما بعد الآخرْ. وذلكَ هو ما حدثَ مع الرُّوحِ كانتْ صامويل جونسون وق. ك. تشيسترتون- كما ومعنا جميعاً. إنّنا نكتسبُ إِسماً جديداً في كلِّ حينْ.
كانت تلكما الشخصيّتان الجليلتان قامتين سامقتين في أيّامهما، فهما معاً قد أُحِبَّتَا كثيراً وَوُقِّرَتَا.
يبدو التّعدّي على الدّربِ الجّوّانِيِّ لروحِ رجلين كهذين شيئاً كانتهاكِ حُرمةٍ دينيّةٍ وسلوكاً مُنِمّاً عن عدمِ سدادٍ أكيدْ. لكن ما الذي لنا أن نفعلَهُ في سبيلِ المعرفة؟ هل لنا أن نُسكِتَ أصواتَ تلك الوقائعِ الحيويّةِ، ومن ثمّ نُبقِيْ أنفُسَنَا على جهلٍ بالقوى الكونيّةِ، بقوانينِ الطبيعةِ والحياةِ وبالعواملِ القائمةِ وراءَ تطوّرنا الذّاتِيِّ وتقدُّمِنا؟ إن كان ذلكَ هو ما نحنُ مُرادٌ منّا أن نفعلَهُ فعلينا، كذلكَ، أن نقمعَ ونُقْصِيْ عنّا، إن شئنا، اكتشافات قالِيْلِيُو أو شارلس داروين على ذاتِ الطريقةِ التي نحنُ بها قامعونَ ومُقصُونَ عنّا كشوفاتَ "المُستقصِين الرّوحيّين" في المجالي الباطنةْ.
إنّ هذا الأمرَ خطيرْ. لذا أنا أُمضِي على مُرتقاهِ مُرتعشةً، بيدَ أنّي على وقعِ نبضٍ مُسْتَوْفِزْ.
إن لم نتعلّم أن نُسلّمَ بمسؤوليّاتنا تجاه حيواتنا الخاصّةِ، إن لم نعترفْ بالقوانين الرّوحيّة التي، فوق عشوائيّاتِ الحظِّ والصّدفةِ، تشتغلُ علينا في توحّدٍ وتناغُمٍ مع قوانين الفيزياء وبذاتِ نَفَاذِ قوانينِ الفيزياءِ فسنضربُ، في آفاقِ هذه الحياةِ، عُمياناً وغُفَّلاً وتماماً، كما كُنّا في غابرِ الزّمانِ، سنبقى على ثقةٍ واهنةٍ (أو واهيةٍ) في أنَّ الإيمانَ والرّجاءَ سيسُوقانَ أشياءنا، على نحوٍ غامضٍ ما، إلى أن تكونَ، في النِّهايةِ، "على ما يُرامْ".
لا، لا، هذا لن يُؤَدِّيَ، من بعدٍ، إلى أيِّ غايةْ. وإن سألتْ- أيّها القارئ- عن موقفِي إزاءهُ أقُولُ لكَ إنّي قد تمرّدتُ على ما يشي به من "حماسةِ إنسانٍ أعمى الشّعورْ". إنّ الواعيةَ، كما القَلبَ، يتناديانَ نُشداناً لمعرفةٍ أكثرَ، لفهمٍ أعمقٍ نستطيعُ، على هُداهِ، أن نتعرّفَ، بعيونٍ مفتوحةٍ، على الطّريقةِ التي تسيرُ بها الأشياءُ فنُحاولُ أن نُوجّهَ أنفُسَنا تِبعاً لها.
ليس هذا من سبيلِ القولِ إننا لا نثق في "العليِّ القديرْ". لكنّه، على العكسِ من ذلكَ، تنبيهٌ لنا إلى أنّنا، بتعلّمنا كيفيّةِ السيطرةِ، على الطّبيعة نتقدّمُ، في معمعةِ الإختلاطِ العشوائيِّ لهذا العالم، خُطوةً إلى الأمامِ ونعرف كيف نُقيّمُ الحكمة. بتوسيعِ فهمنا للرّحمةِ المُحبّةِ التي تُسلِّمُنا زِمام مصائرنا في أيادينا، حتّى نُشكّلُها كما نُحبُّ، نحنُ نتطوّرُ وفقَ مبادرتنا الخاصّةِ، وفقَ حسِّنا المتبرعمِ باتّجاهاتِ حيواتِنا وحسِّنا، المتنامي الإنفساح، بالقيمِ الذي هو ليس أقلَّ من مسيرتنا، يداً بيدٍ، مع اللهِ واندغامِنا الواعي في تكوينِ ما يُنشؤُهُ- ليس بالإيمانِ فحسب بل، كذلكَ، بالمعرفةْ. فأن نكونُ "عارفينَ" يعني أن نُوْهَبَ وسيلةٌ للتّناغُمِ مع القوى الأُلُوهيّةِ، مع معينِ تلك "النِّعمةِ" التي تُعجِّلُ بِسَعْدِنَا الأبدِيْ.
نحنُ الآنَ طارقُونَ- إذاً- درباً يسُوقُنا إلى النّظرِ، بقدرش استطاعتِنا، إلى شخصيّةِ تلك الرّوحِ المغناطيسيّةِ التي سُمّيتْ، في القرن الثامن عشر، د. صامويل جونسون. وبما أنّ الشخصيّةَ إيّاها معروفةٌ بصورةٍ جيّدةٍ جداً فإنني سوف لا أتناول من سيرتها إلا مُلخّصاً قصيراً لطبيعتِها، لإنجازاتها ولسماتها الفريدةْ. سأقتبسُ، لهذا المقصد، بعضَ حديثٍ عن صامويل جونسون ورد في السّيرةِ الذّاتيّةِ التي ألّفها عنهُ إ. هاليدَيْ:- "وهب د. جونسون اسمهُ لعصرٍ شغل الفترة ما بين عامي 1750و1780. ككاتبٍ ومُفكّرٍ أخلاقيٍّ كان د. جونسون منتمياً لعصرِهِ. أمّا كرجُلٍ وإنسانٍ فهو كان ابنَ كُلِّ الزّمانْ. وبرُغمِ فقرِهِ وكآبتِهِ الأساسيّةِ وعاهاتِهِ الفيزيائيّةِ، وبسببٍ من قُوّتِهِ الرُّوحيّةِ، شخصيّتِهِ وعُنفُوانِ حديثِهِ الرِّجُولِيِّ تسيّدَ، أدبيّاً وثقافيّاً، على تلكَ الثلاثينَ من السّنينِ فامستْ، بحقٍّ، عصرَ جونسون".
كان د. صامويل جونسون شخصاً ضخم البُنيانِ وقويّاً، أخرقَ السّلُوكِ، متشدّداً كثيراً، ومع ذلكَ مُتوانياً، كريماً ورجوليّاً، رُغمَ أنّهُ سَقِمٌ وكئيبْ. وهُوَ، بجانبِ كلِّ هاتيكَ الصّفاتِ، كان عبقريّاً في فنِّ المحاورةِ وذا موهبةٍ في تشكيلِ رؤيتِهِ على أُسلُوبٍ من الحديثِ يغمُرُ سامعيهِ بوميضِ إضاءةٍ وهّاجٍ لحدِّ العمىْ فإذا بهُم، بكلماتِهِ، مُتعلِّقُونْ.
وُلِدَ صامويل جونسون في لِتشفيلد في سبتمبر 1709. كان طفلاً معتلَّ الصحّةِ، فَدَاءُ الخنازيرِ قد صيّرَهُ نِصفَ أعمى وأصمّاً في أذنٍ واحدةْ. كان، في المدرسةِ، تلميذاً متراخياً، لكنّهُ تميّزَ بذاكرةٍ مُعجِزَةٍ سهَّلَتْ عليهِ التَّعلّمَ تسهيلاً كبيرا. كان كبيرَ الحُجْمِ بالنّسبةِ لعمرِهِ، مُتلكّئاً جدّاً وقصيرَ النّظرِ بحيثُ لا يُصلح للعبِ مختلفِ الرّياضاتِ والتّسلياتْ. دبّرَ والداهُ إرسالهُ إلى جامعةِ أوكسفورد لقضاءِ فترةٍ دراسيّةٍ قصيرةْ. وفيما دعاهُ صديقٌ لهُ هناكَ "طالباً مُنشرحاً ومُمازِحاً ومحبوباً من كلِّ مَن حولِهِ" كان هو يُدركُ أنَّ انشراحهُ ومَرَحَهُ ما هما إلاّ رداءان ساتران لشقائهِ العريقْ.
"كنتُ غيرَ مُهذّبٍ وعنيفا"، كتبَ في أواخرِ أيّامهِ، "ففكّرتُ أن أسعى على دربِ كدحِيْ بأدبي وفِطنتِي. لذا أسأتُ أدبي مع كلِّ قُوّةٍ وسُلطةْ"... "كانتْ إعادةُ اكتشافِهِ (د. جونسون) للدّين- الذي سمح له بأن يغرقَ في الغفلةِ في أيّامِ شبابهِ- مُكثِّفَةً لانتفاءِ سعادتِه، فالخوفُ من الموتِ، من الجّحيمِ ومن اللّعنة الإلهيّةِ هجسُوا في خواطرهِ الغريبةِ (الشّاذّةِ) والمُتشنّجَةِ التي صارتْ من أميزِ طبائعهِ".
مضى الزّمانُ و"مشى" صامويل جونسون، برفقةِ صديقِهِ الممثّلِ ديفيد جاريكٍ، إلى لندن حيثُ استقطرَ لنفسه معاشاً شحيحاً بقلمِهِ. كتبض شعراً وألّفَ كُتُباً ومواداً ثقافيّةً نشرها في مجلّتي الآيدلر و الرّامبِلَرْ، كما في مجلّة الجّنتلمان.
تزوّجَ، في عام 1735، امرأةً فاقتْهُ في السنِّ بستّةِ وعشرينَ عاماً وكان وفيّاً لها. في ذلك الزّمانِ كتب تراجمَ عديدة، مقالات، ترنيمات وما إليهُنَّ. ذلكَ فضلاً عن موادٍ ثقافيّةٍ مُختلفةٍ للصّحفِ السّيّارَةْ.
أتتهُ الشّهرةُ أخيراً وبعد تأليفِهِ لمعجمهِ العظيم المعروف الذي استغرقَ منهُ إنشاؤُهُ خمساً من السنينْ. أسّسَ نادياً أدبيّاً في منطقةِ سينتْ بول تجمّعَ فيهِ (أو في مقهَى دُعِيَ "الشّيسَرْ جِيْسْ") كثيرونَ من أعظمِ الرّجالِ شَهْرَةً في تلكَ الايّام:- ديفيد باريك، قولداسمث، السّير جوشوا رينولدس وآخرون عديدونْ. وعندما ظهر جيمس بوزوَيْلْ على مشهدِ هذا المُلتَقَى الادبِيِّ-الثّقافيِّ، بِقَلَمِهِ وكُرّاستِهِ في يديهِ، خُلِّدَتْ عباراتُ الرّجُلِ العظيمِ الفَطِنَةِ، مُتناقِضَاتُهُ وأقوالُهُ العميقةُ، إلى الأبدِ، في كتابٍ مُوثّقْ. كما وخُلّدَ، مع تلك الأدبيّاتِ، أُنسُهُ وطرائفُ عاداتِهِ الشخصيّةْ. خصّصَ الملك جورج الثالث، في تلكَ الأيّامِ، معاشاً لصامويل جونسون كفَّ، بِفضلِهِ، الفقرُ عن إتعابِهِ.
"إنّ الرّأسَ الكبيرَ المُرتعِشَ لهذا العملاقِ الأخرقِ قد استوطنهُ أحدُ أعظمِ العقُولِ قُوّةً في عصرِهِ، ولو كان ذاك العقل، دوماً، في نزاعٍ مع ذاتِهِ وليس لهُ من ملاذٍ منهُ سوى في الدّينْ. لقد حازَ (ذاكَ الرّجُلُ)، في النّهايةِ، بعونِ دأبِهِ، شجاعتِهِ ومساعيهِ الجّاهدة، على التقديرِ الثّقافيِّ المُرتقبِ والشّهرةِ وآلَ إليهِ، من بعدِ ذلكَ، أمرُ الكيفيّةِ التي سيُسيطِرُ بها على عبقريّتِهِ ويُظْهِرُهُ في الآفاقْ. لكن توانيهِ، إذ رُفِعَ مِهمازُ الحاجةِ عن ظهرِهِ، غَلَبَ عليهِ واستحوذَ على أفضلِ ما فيهِ فأسلمَ نفسَهُ- دونَ الكِتابةِ- للكلامْ:- "صارأعظم المحاورينَ في أيّامِهِ وتجمّعَ حولهُ الكثيرُونَ من هُواةِ الفصاحةْ. كان رجُلاً منطوياً على تعاطُفاتٍ عظيمةٍ وقلباً رقيقاً وحسّاساً. وعلى الرّغْمِ من انفلاتاتِ طبعهِ المفاجئةِ كان رجلاً محبوباً. ولقد اتّصفَ، بجانبِ ذلكَ، بميزاتٍ شخصيّةٍ فريدةٍ وعديدةٍ فكان عملاقاً ذا شهيّةٍ لا تُشبَعْ، ذا ظمأ لا يُطْفأ اشتعالُهُ، للشّاي. لقد تخلّى عن شربِ الخمرِ لأنّه ما استطاعَ أن يكونَ معتدلاً فيهِ ثمّ عُرِفَ، من بعدِها، بقُدرتِهِ على شُربِ سبعةٍ وعشرينَ كوباً من الشّايِ في جلسةس واحدةْ. كان رجلاً ذا فِطنةٍ عُنفُوانيّةٍ، حاذقةٍ وحاضرةٍ، وبلاغةٍ، ثمّ ثوراتِ حنقٍ عَواصِفٍ تُمازِجُهُنَّ أحاسيسُ رقّةٍ مُفاجئةْ. وعن زِيّهِ نقولُ إنّهُ كان ليس مُهندَمَاً أكثرَ من كونِهِ غريبَ الطّورْ. ثمّ إنّ من أهمِّ صفاتِهِ المميّزةِ الأخرى هي شرودُ خواطرهِ الدّائم... كانت مِشيةُ د. صامويل جونسون كمِشيَةِ رجُلٍ مُثقلٍ بالقيُودْ. وحين جلُوسُهُ كانت رأسُهُ تميلُ إلى اليمينِ ويهتزُّ، فيما جسدُهُ يتأرجحُ إلى الخلفِ، أحياناً، ثمّ إلى الأمامِ، أحياناً أُخَرَ، وهو، فيما بينَ ذلكَ، يُقأقِئُ، يُغَمْغِمُ، ويُصفِّرُ، قبلَ أن يَنْفِخَ نفسَهُ خارجاً كحوتْ. في الشّارِعِ كانتْ حركاتُهُ التّشنّجيّةُ تُرى على نحوٍ أشدَّ جلاءاً... كان، لأمانتهِ وصدقِهِ، يحتقرُ الحَوقلاتِ، اللّغوِ والتّصنُّعِ العاطفيِّ، كما وكان حسِّهُ العامُّ الأرضيُّ (الدّنيويُّ) يهدمُ نُصُبَ الغراراتِ الهُلاميّةْ. إنسانيّاً كان وأريحيّاً يلقى سعادتهُ ورضاءهُ الذّاتيَّ في المحاورةِ والمحاجَّةِ، فحينذاكَ يجعلُهُ ابتهاجُهُ بالكلامِ، في سبيلِ النّصرِ الثّقافيِّ، ناسياً لسوداويّتِهِ وقد يُهمهِمُ (أو يتقلقلُ)، حينذاكَ، بضحكةٍ مَرِحَةِ النَّفْسْ".
صوّرتْ عبقريّةُ بوزويل د. صامويل جونسون تصويراً كلاميّاً- فوتوغرافيّاً أُخِذَتْ بهِ الأجيالْ. قال ذلك الفوتوغرافيُّ الذي لا يُبارى:- "أنا لا أستطيعُ أن أسمحَ لأيِّ جزئيّةٍ (أو مُتفَرِّقَةٍ)، مُتعلّقَةٍ بالشّأنِ العظيمِ لعملي هذا وطافيةٍ في ذاكرتِي من أيِّ مشربٍ أو جهةٍ، بأن تُفقَدْ. فلربّما تبدو جُزئيّةٌ صغيرةٌ أمسكتُ بها هُناكَ تافهةً للبعضِ إلاّ أنّها، لآخرينَ، مُستطابةً ومليحةْ. أنا- إذاً- أَقِمْتُ حائطاً من اللامبالاةِ والتّحدّي تصدَّيْتُ بهِ لكُلِّ سِنانِ التّتفيهِ، أو حتّى الحقدِ، التي قد تُصيبُنِي في سبيلي هذا الذي هو تائقٌ إلى أن يَضُمَّ أيَّ شرارةٍ صغيرةٍ إلى الوهجِ الكُلّيِّ لسيرةِ صديقِي العظيم صامويل جونسون. ذلكَ حتّى أُقِرَّ بهِ عيُونَ مُعجبِيْهِ الحقيقيّينَ، الخُلّصَ النّوايا والدذافئين وأُسْهِمُ، بأيِّ مقدارٍ مُمكنٍ، في إنماءِ بهاءِ سُمعتِهِ".
وهكذا، بسببِ هذا المؤرّخ الذي لا يكلُّ، آلتْ إلينا ملكيّةُ ملاحظاتٍ وتوصيفاتٍ لشخصيّةِ جونسون فاقتْ، في كثرتِها وشمولها، أيَّ شيءٍ شبيهٍ بها كُتِبَ عن أيِّ إنسانٍ حيٍّ في عهدهِ وعلى أيّامِهِ. وهكذا استلزمَ أمرُ إنصافِ الرّجُلِ إيّاهُ كتابَ سيرةٍ أشرفت صفحاتُهُ على الألفْ.
تُكفِي شواهدٌ قليلةٌ جدذاً، سنستقيها عشوائيّاً من بين ما أثبتهُ بوزويل عن سيرة صامويل جونسون، لإنبائنا بطبعِ الرّجلِ العظيمْ.
بعدَ أن راضَ نفسهُ بدفاعٍ عن صديقٍ ضدَّ هجومٍ لفظيٍّ من صديقٍ آخرٍ "إعتقدَ د. جونسون، فيما أحسبُ، أنّهُ- وهو الرّجلُ الذي، كما لاحظتُ سابقاً، كان يبتهجُ للتّمييزِ بين الشخصيّاتِ بما لهُ من معرفةٍ مُتمكّنَةٍ بالطّبيعةِ البشريّةِ أهّلتْهُ لأن يتعاملَ مع النّاسِ انطلاقاً من خبرةٍ بهم على عِلاّتِهِم ونُقصانهم، أو على ما هم عليهِ من مزيجِ سماتٍ خيِّرةٍ وشرِّيْرَةٍ- قال ما يُغنيهِ عن مزيدٍ في شأنِ ذاكَ الدّفاعِ عن ذاكَ الصّديقِ الذي قيّمَ، حسب تقديرهِ، مزاياهُ، تماماً كما وصفاته القابلة للإستثناءِ من بينض هاتيكَ، تقييماً مُنصفاً فتركَ الموضوعَ إيّاهُ دونَ أن يُصيفَ إليهِ شيئاً واحداً زائداً عليهِ".
ومن حيثُ انتهى في حديثِهِ السّابقِ انتقلَ د. صامويل جونسون، كما جاء في رواية بوزويل، إلى الكلامِ عن الحكوماتِ فقال:- "كلّما اسْتُقْطِبَتْ السُّلْطَةُ كلّما سَهُلَ تدميرُها. البلدُ الذي يُحكمث بواسطةِ مُستبِدٍّ هو مخروطٌ مُنعكسْ. فالحكومةُ فيهِ لا تستطيعُ أن تكونَ صلدةَ الرّسُوخِ كما في حينَ اعتمادها (او انبنائها) على قواعدٍ عريضةٍ تُستجمَعُ (أو تُستقطَبُ) تدريجيّاً مثلما في حكومةِ بريطانيا المؤسّسةِ على البرلمانِ، ثمّ على مجلسِ الأعيانِ، ثمَّ على المَلِكْ".
يُمضي بوزويل في سرده الحكايا عن د. صامويل جونسون فيقولُ عنهُ إنّهُ "في يوم الاثنين، الثاني والعشرين من سبتمبر [العام غير مذكور في الأصل- المترجم] قُلتُ لدكتور جونسون، في وقتِ الإفطارِ، دونَ أيِّ تَوضخٍّ للحذر:- "أرغبُ في أراكَ والسيّدةَ ماكاولي معاً!" تملّكهُ غضبٌ شديدٌ، ثم قال منفجراً بالكلامِ، بعد بُرهةِ صمتٍ تجمّعتْ خلالها سحابةٌ على جبينِهِ:- "لا، يا سيّدي، لن ترانا مُتشاجِرينَ فتجدُ ملهاةً تتسلّى بها. هل تدري أنّهُ ليس من الكياسةِ في شيءٍ أن تُحرّضَ شخصيينَ، أحدَهُما على الآخرْ؟" ثمّ، مُستدركاً نفسه وراغباً في أن يكونَ أكثرَ وَداعةً، أضافَ:- "أنا لا أقُولُ إنّكَ يجبُ أن تُشنَقَ أوتُغْرَقَ في البحرِ بسبب هذا، لكنّي أؤكّدُ على أنّهُ سِلُوكٌ غيرُ كَيِّسْ".
عندما سمع د. صامويل جونسون بأنّ سيّدةً كانتْ تعيشُ في منزلِهِ قد ماتتْ "تأثّرَ بذلكَ تأثّراً عظيماً جدّاً... ثمّ، جريَاً على مِنوالِهِ التّقِيِّ الإعتياديِّ، ألّفَ صلاةً عليها".
وبعد هذه الحكايةِ الصغيرةِ يواصل بوزويل سرده الجّونْسَوْنِيَّ فيقول، بعد أن وصفَ كيف أنّ قولداسمث يغدو مستاءاً بصورةٍ مزريةٍ إن لم يكن هو الأفضلَ في مُحَاجّةٍ ما، "إنَّ قوى جونسون، السّامية على كلّ ما عداهُ في مجالِ الحديثِ الفَطِنِ، تَضَعُهُ بمنأىً من أيِّ مُخاطرةٍ غيرِ مريحةٍ كهذه". ثمّ يستطردُ راوياً عن قَاريك أنّهُ أدلى لهُ بملاحظةٍ عن جونسون، قبل أيّامٍ قليلةٍ من ذلكَ الحينِ، قال فيها "إنَّ فِطَنِ رابيليه، وكلِّ الآخرينَ الفَطِنِيْن، لا تُساوي شيئاً إذا ما قٌورِنَتْ بفِطنتِهِ. فكلُّ أولئكَ الفَطِنِيْنَ قد يلهُوكَ أو يُشْغِلُوكَ- كثيراً أو قليلاً- بفطنِهِم ودهائهم، لكن جونسون- وحدَهُ- هو الذي تُعانِقُكَ لواذِعُهُ الذّكّيّةُ بقُوّةٍ، ثمّ تجعلُكَ مهتزّاً بالضّحكِ الطّالعِ مِنْكَ، شِئْتَ ذلكَ أم أبَيْتَهُ".
وفي مناسبةٍ أخرى حكى بوزويل عن د. جونسون أنّهُ كان في صحبةِ رجُلٍ مُهذّبٍ ممّن وثقَ في مقدرتِهم الفكريّةِ على بيانِ تماسُكِ وتناسُقِ فلسفة د. بيركلي البارعةِ التي تزعمُ أنَّ لا شيءَ يُوجَدَ (في هذا الوجود) إن لم يكن مُدْرَكَاً من قِبَلِ وعيٍ (أو عقلٍ) ما. فلمّا هبَّ ذلك الرّجلُ مغادراً المجلسَ استدركهُ جونسون، قبلَ ذهابهِ، قائلاً:- "بحقِّ الصّلاةِ، يا سيّدي، لا تُغادِرْنا، فلربّما نسينا أن نُفكّرَ فيكَ فتكفُّ أنتَ، حينذاكَ، عن أن تُوجَدْ!"...
وفي مرّةٍ أخري أدركَ فيها د. جونسون أنّ بوزويل كان ساعياً، سعياً جِدّيّاً، في سبيلِ الغَلَبَةِ عليهِ في المُحاجّةِ قال لهُ:- "يا عزيزي بوزويل، دعنا لا نُوغِلُ أكثرَ في حديثنا هذا. فأنتَ لن تنتفعَ بشيءٍ، وأنا أُحبّذُ عليهِ أن تُصفِّرَ لنا لحناً إسكوتلنديّاً!"
ظلَّ د. جونسون فريسةً للسّوداويّةِ الرّوحيّةِ حتّى العهدِ الأخيرِ من حياتِهِ. ذلك رُغمَ الرّحلاتِ الإستكشافيّةِ العديدةِ وشتّى المُسْرِيَاتِ الإجتماعيّةِ والثّقافيّةِ والصّداقةِ الدّافئةِ التي أُنعِمَ عليهِ بها مع الكثيرينَ من رجالِ زمانِهِ البارزينْ. روى عنه بوزويل أنّهُ كتبَ، في مؤلّفهِ الموسوم تأمّلات على هامشِ يوم عيدِ القِيامةِ في 1777:- "لا أكتشفُ شيئاً سوى تضييعٍ أجردٍ للزّمانِ ممزُوجٍ ببعضِ الإختلالاتِ في الجّسدِ والإضِّطراباتِ في العقلِ المُقارِبَةِ جدّاً للجّنُونْ". ذلكَ قالهُ عن محتوى حياتِهِ في مجملِها، ثمّ أضافَ إليهِ صلاةً أنشأها إثرَهُ وجرَتْ على النّحوِ الآتي:- "إغْمُرْنِيْ برحمتِكَ يا الله، إِغْمُرْنِي برحمتِكَ، فالسّنُونُ وغَوائِلُ الدّهرِ تَهُدُّنِي والفزعُ والقلقُ يتناوشاني"... "ما أن يُذكَرُ الموتُ في حضرةِ د. جونسون"، يقولُ بوزويل، "حتّى ينتابُهُ انزعاجٌ عظيمْ. على كلٍّ، هو قد حُظِيَ، بعد وفاةِ زوجتِهِ، بعيشِ سنينٍ كثيرةٍ مُشرّبَةٍ بالعطفِ والسّلوى في بيتِ آلِ ثِرَيْل وفي وسطِ أصدقاءٍ مُعْجَبِِيْنَ ومُحترمينْ. هنا أيضاً، التقى فاني بيرني "محبوبتَهُ الصَّغيرَةْ"..."
مِسكينٌ بوزويل، فعلى الرّغمِ من مودّةِ جونسون لهُ حصدَ من لسانِهِ ومن سليقتِهِ اللاذعةِ تهكّماً مُتواتِرَاً. من ذلكَ أنّ بوزويل قد اعترفَ، مرّةً، لصديقِهِ جونسون بأنَّ الموسيقى إمّا أن تَهُزَّ فيهِ أحاسيسَ غَمٍّ عاطفيٍّ سحيقٍ أو أن تجعلَهُ مُستَعِدّاً للإندفاعِ إلى معمعةِ المَعْرَكةْ. "يا سيّدي"، قال لهُ جونسون مُعقّباً، "لا ينبغي لي مُطلقاً أن أستمعَ إليها (الموسيقى) إن كانتْ تُصيّرُنِي أحمقاً هكذا".
كم هو من المُشجّعِ أن نكتشفَ- الآنَ- أنَّ "اللهَ" [هكذا في الأصلِ- المترجم] قد سمعَ، بالفِعلِ، صلاةَ د. جونسون المُتذبذبةَ بالشّكِّ، فحياتُهُ اللاحقةُ، بعدَ مُضيِّ قرنٍ من ذلكَ الزّمانِ، كانتْ عظيمةَ النّصيبِ في الشّهرةِ، كما وفي السّعادةْ. فلقد فارقَهُ، حينذاكَ، فيما نظُنُّ خوفُهُ.
2
هذا هو المشهد الثاني من حياة ذات الرّوح العظيمة. ونحنُ نستقي حديثاً عنه هنا من البيوغرافيا التي ألفتها، عن صاحبها الإنسان، الكاتبة ميزي وورد التي كانت على معرفةٍ عظيمةٍ بهِ.
وُلِدَ جيلبيرت كيث تشيسترتون في لندن، في مايو 1874، ثم، بعد خمس سنين لاحقة، وُلد له أخ في العائلة فقال جيلبيرت محتفياً بذلك:- "هذا حسنٌ، فالآنَ سيكونُ لديَّ، دوماً، حضورْ". هل أشارت هذه الملاحظة إلى ذاكرة تحتانيّة عن الحضور الذي جلس منعقداً حوله ومشدوداً بسحرِ حديثه آنما كان ذلك المتكلّم العظيم في القرن الثامن عشر؟
يتذكّر صديقٌ حميمٌ للعائلة، في تلك الأيام الباكرة، أنّ "الصّبيان الصغار (في عائلة تشيسترتون) ما سُمح لهم أبداً برؤيةِ جنازةْ. فما أن تمرُّ تلك في الشارعِ حتّى كانُوا يُهرَعُ بهم، في الحال، بعيداً عن شُبّاكِ روضَةِ الأطفالْ. ربّما كان ذلك بسبب خوف جيلبيرت الشديد من المرض، أو الحوادث، الذي بلغ مبلغاً كان يُودي به إلى قذف ملعقته على الطاولة والإندفاع، حالاً، إلى خارج الحجرة عندَ أول بادرة اختناق طفيفة يبديها شقيقه سيسل". إنّ أمثالَ هذه السمات الشخصية التفصيلية يمكن لها، في كثير من الأحوال، أن تُرَدّ (أو تُتابعَ) إلى مصدرٍ (منبعٍ) عميقٍ لذاكرةٍ هامشِ- شعوريّةٍ عن حياةٍ سالفةْ. كان لجيلبيرت الصّبي وجعُ أذنٍ مٌعذّبٌ- ذلك انطباعٌ فيزيائيٌّ- نفسيٌّ من حياته الماضيةْ.
كان جيلبيرت طامحاً، دوماً، إلى أن يُصبحَ تلميذَ مدرسةٍ عاديّاً، إلا أنّه ما أفلحَ أبداً في تحقيقِ طموحِهِ هذا. كان، خلال أيّامه في مدرسة سينت بول، صبيّاً طويل القامة، مشعّث الهيئةِ وغيرَ مُرتّب، أخرقَ وشاردَ الذّهنِ، كما وكان مُفردَاً بين أقرانه التلاميذِ بعِلّةِ ذلكَ وخلافه، على المستويين الفيزيائي والثّقافي (النّفسي- العقليْ).
يتذكَّرُهُ رفيقُ دراسةٍ على أنّهُ:- "كان أغربَ شيءٍ (إنسانٍ) رآهُ في حياته، فهو قد كان يُمشي، بخطواتٍ واسعةٍ، على الدرب فيما هو مُتمتِمٌ، على ما يبدو، بالشّعرِ، ثمّ ينطلقُ بضحكةٍ خاويةْ"... "أنا أستطيعُ أن أراهُ الآنَ"، يكتب السيّد فوردام، "طويلاً جداً ونحيفاً (مؤخراً صار سميناً جداً) وعابراً الشّوارع بخُطىً واسعةٍ ولَهْوَجَةٍ، متبسّماً لنفسهِ، وأحياناً مُقطّباً جبينهُ لها في استياءٍ وهو، في كلِّ ذلكَ، ظاهرُ الإنذهالِ عمّا يُحيطُ بهِ من أشياءْ". ولربّما أغاظهُ الصّبيانُ ومثّلُوا عليهِ أدواراً طريفةً لكنّهم، حتّى وقتذاكَ، كانوا يعاملونهُ، في ذاتِ الحينِ، باحترامٍ غيرِ عاديْ. "لقد شعرنا"، قال رفيقُ دراسةٍ آخرُ، "بأنّهُ كان باحثاً عن اللهْ".
في أيّامه الدراسيّةِ الأخيرةِ أسّس جيلبيرت منتدىً للحوارِ "كان يتعاملُ معهث برصانةٍ، بل بإجلالٍ لا يؤثّر فيهِ مِزاجُ الآخرينْ". ولقد نشر في مجلّةِ ذلك المنتدى، التي كانتْ مسمّاةً المُحَاوِرْ جانباً كبيراً من نثره وشعره الخاصّينْ. وحين سألتْ أمّهُ ناظر المدرسة عن المشورة بخصوص مستقبل ابنها إن حدث وهجر الدراسة النّظاميّة أجابها الناظرُ قائلاً:- "إهنئيْ بهِ! فهو ستّةُ أقدامٍ من العبقريّةِ. إهنئيْ بهِ!"
كان جيلبيرت كمن ندعوه الآن "شخصاً بطيء النّمو". فحين هجر مقاعد الدرس كان صوتهُ ما يزالُ غيرَ مشروخٍ أو أجشْ. أخذتهُ أمّه، بسببِ ذلك، لأحد الأطباءِ، "كيْ تُحيَّا عليه تحيّةٌ مفرطةٌ في العجبِ وتُنبئُ بأنّ ابنها كان صاحبَ دُماغٍ هو الأكبرَ والاعظمَ حساسيّةً من بينَ كلِّ الأدمغةِ التي رآها الطّبيبُ في حياتِهِ. "إنّهُ لعبقريٌّ أو أبله". كان ذلكَ هو حكم الطبيب على حالتِهِ. وفوق كلّ شيءٍ آخر أُخبِرَتْ الأمُّ أنّ ابنَها ينبغي عليهِ أن يُجنّبَ أيُّ نوعٍ من أنواعِ الصّدمةْ. فهو، فيزيائيّاً وعقليّاً ورُوحيّاً، ذو مدىً واسعٍ جداً ولربّما كان، بسببِ ذلكَ بالذّاتِ، على منسوبٍ بطيءٍ جدّاً من التّطوّرْ".
في ذلك الزمان كان جيلبيرت يمرُّ بتلك المرحلةِ الصّعبةِ بين الغُلاميّةِ والرّجولةْ. ولقد كتب، في سنواتٍ لاحقةٍ من عمره، غصلاً في سيرته الذّاتيّةِ الخاصّةِ عن تلك الفترةِ اختار له عنواناً العبارةَ-السؤال:- "كيف تكونُ مُلتاثاً؟"... شعر حينذكَ وكأنّما كلُّ شيءٍ قد لا يكون سوى "حدثٍ" حُلُمِيٍّ؛ كأنما هو من أسقطَ صورةَ الوجودِ، على الكونِ، من بين جوانحهِ الباطنةْ.
ثمّ عانى من ريبةٍ متطرّفَةْ. وأخلاقيّاً كانتْ مُغْوِياتُهُ تبدو كائنةً في إقليمٍ نَفسَانيٍّ غريب. كتب شيئاً عن هذا الذي كان به فقال:- "قد سُكِنْتُ بنبضٍ غلاّبٍ كان يَحُضُّنِي على تسجيلِ الأفكارِ والصّورِ الفظيعةِ أو جذبها إلى نفسي في آناتِ إيغالٍ أعمقٍ وأعمقٍ في أغوارِها وكأنّني في حال انتحارٍ رُوحيٍّ أعمىْ". تساءلَ، آنذاكَ، اثنانٌ من أصدقائهِ عمّا إذا كانَ "تشيسترتون في سبيلهِ إلى الجّنُون؟"
وفي رسائلٍ لهُ إلى صديقٍ مُقرَّبٍ تحدّثَ تشيسترتون عمّا سمّاهُ "مِزاجاتَ الهاويةْ":- "ثمةُ نوبةِ كآبةٍ لا معنى لها، مُتّخِذةً شكلَ اضِّطراباتٍ سايكولوجيّةٍ عبثيّةٍ- رُغمَ أنّها عينيّة ومُحدّدة، اعتَوَرَتْنِي لكنّني، بدلاً عن صرفِها عنّي ومُحادثةِ النّاسِ، تجرّعْتُهَا في داخلي حتّى النّهايةِ ومضيتُ بعيداً جداً في جوفِ الهاويةْ..."
ثمّ تكلّمَ تشيسترتون، كما روى لنا عنهُ صديقُهً بوزويل، عن تماسّهِ الوجُوديِّ "مع حالةٍ صوفيّةٍ للأشياءِ مُفعمةً بالرّضَى بحيثُ أنَّ كلَّ الأشياءِ فيها أمستْ على ما يثرامْ".
وفي رسالةٍ أخرى قال، ملامساً تجربةً قريبةً من تِلك:- "أجابَ كونٌ، وُبِّخَ ذاتَ يومٍ من قِبَلِ مُتشائمٍ، من عنَّفَهُ قائلاً:- "كيفَ لكَ أن تُسيئَ إليَّ ومع ذلكَ ترضى بأن تتحدّثَ عبرَ وسيلتِي؟ إسْمِحْ لي، أوّلاً، أن أرُدَّكَ إلى عدمٍ ولسوفَ نتباحثُ، وقتذاكَ، في الأمرْ".
حتّى وهو في آنٍ مبكّرٍ جدّاً من عمره عرف تشيسترتون أنّ فلسفةَ الإنسان لا تستطيعُ أن تكونَ مُجرّدَ فلسفةِ إنسانٍ فحسبْ. فهو قد كانَ "يشعُرُ"، منذُ ذلك الحينِ وما بعدُهُ، بحضورٍ "آخرٍ" (أو "أُخرَوِيٍّ") قويٍّ في الكونْ". هكذا علّق بوزويل على جِماعِ خواطرِ تشيسترتون السّابقةْ. ثمّ، في رسالةٍ أخرى، وصفَ تشيسترتون مَغِيْبَاً بأنّهُ "مُنفَتِحٌ على الأبديّةْ".
صار تشيسترتون صحافيّاً وتحرّكَ في أوساطِ قاماتِ أيّامِهِ الأدبيّةْ. كما وغدا، كذلكَ، خطيباً للفتاةِ التي تزوّجها حينَ أضحى، فيما بعد، قادراً على الإيفاءِ بمُتَطلّباتِها. حاولتْ نسيبتُهُ المُرتقبةُ أن تجعلَ أصدقاءهُ "يُرتّبُونَ هِندامَهُ وهيئتَهُ"، لكنّهُ أجابَ على محاولاتهم تلكَ بقولهِ إنّ فرانسيس [وهو اسمُ خطيبتِهِ- المترجم] قد أحبّتْهُ كما كان، لذا فمن العبثِ محاولةُ تغييرهِ... "كفّتْ فرانسيس عن الكِفاحِ"، يقول بوزويل، "في سبيلِ دفعِهِ، عبرَ أصدقائهِ، نحو الهَنْدَمَةِ والزّينةْ. وبخبطةٍ عبقريّةٍ قرّرتْ أن تجعلَهُ، بنفسها، حسن الصّورةْ. تَوَّجَتْ- كحاصلٍ لجهودِ فرانسيس- قُبُّعةٌ عريضةٌ كُثَّةَ شعرِ تشيسترتون وكسَتْهُ حُلَّةً فضفاضةْ. كان طُولُهُ ستّةَ أقدامٍ وبوصتينَ وضخمَ البُنيانِ جدّاً. فالحياةُ دائمةُ القُعُودِ وقدرٌ كبيرٌ من البيرةِ ما أعاناهُ على الإحتفاظِ بهيئةٍ رشيقةْ. ورُغمَ أنّهُ كانَ شاربَ خمرٍ مُعتبراً إلاّ أنّهُ ما أُسْكِرَ بها قطْ. ولقد مدحَ تشيسترتون الشّايَ في قصيدةٍ طويلةٍ قال فيها- من بينَ أشياءٍ أُخَرْ- عنهُ إنّهُ شرابُ "الكوبِ الذي يُبهِجْ، لكنّهُ لا يُسكِرْ"..."
"عندَ حلُولِ عام 1905 دُعِيَ ق. ك. "مُمازِحٌ سمينٌ" وأضحي مستعدّاً، بسرعةٍ، أن يكونَ د. جونسونَ آخرَ، مع اختلافٍ في الرُّقَعِ اللّونيّةْ". ولقد احتفل بالتّغييرِ في مظهرهِ في مقطوعةٍ "ستانزا" شعريّةٍ ختمها بقولهِ:- "إنّ الشّكْلَ لغريبٌ على نحوٍ مُتعَمَّدْ!"...
"قال أمريكيٌّ وصل، مؤخّراً، إلى لندن:- "إنّ لندنَ هي مصدرُ أكثرِ التّجاريبِ روعةً وإشباعاً لتطلّعاتِ النَّفسْ. أنا ذهبتُ إلى "فِليت ستريت" هذا الصباح حيثُ التقيتُ وق. ك. تشيسترتون وجهاً لوجهْ. ملتفّاً بمِعطفٍ وواقفاص عندَ بوّابةِ محلِّ شطائرٍ محشُوّةٍ كان يؤلّفُ، آنذاكَ، قصيدةً ويترنّمُ بها، بصوتٍ عالٍ، أثناءَ كِتابتِها. وأكثرَ الأشياءِ عجباً في الأمرِ أنَّ لا أحدَ هناكَ أعارَ ذلكَ أدنى انتباهْ!"
وسجّلَ لنا كاتبٌ آخرٌ كيف أنّ تشيسترتون قد اعتاد الجلوس في أحد مقاهي "فليت ستريت" كي يكتُبَ مواده الصّحفيّة فيما هو يتذوّقُ أشكالاً من الشّرابِ ويُمازِجُ بينها ممازَجَةً فظيعةْ... ثم أطلعانا ذلك الكاتبُ على حادثةٍ صغيرةٍ في هذا المُتَعَلَّقِ ذكرَ فيها أنّهث كان مُرتاداً، ذاتَ يومٍ، للمقهى المعنيِّ تقدذمَ النذادلُ إلى مجلسهِ وقال لهُ:- "إنّ صديقَكَ هذا شخصٌ ذكيٌّ جدّاً. إنّه يجلسُ ويضحكْ. ثّمَّ يكتُبْ. ثمَّ يضحكُ على ما كَتَبْ".
تزوّج تشيسترتون وفرانسيس في عام1901:- "ذهبَ صديقٌ لهما بالعفشِ الثّقيلِ إلى المحطّةِ وانتظرهما انتظاراً محموماً. جاء القطارُ المرتقبُ ومضى بعيداً وظلَّ هو منتظراً. ثمّ ظهر، أخيراً، الثّنائيُّ السّعيدْ. كان جيلبيرتْ قد "شعرَ" بضرورةِ شراءِ زُجاجةِ لبنٍ من أحدِ المحلاّتِ التّجاريّةِ ومُسدّساً دوَّاراً وفَشَكَاً (خزانات طلقاتٍ) من محلٍّ آخرْ".
في ذلكَ الحينِ كان جيلبيرتْ قد انهمكَ في حياةِ "فليتْ ستريتْ" وعقد هناكَ العديدَ من الصّداقاتِ الدذافئةِ، فلقد أحبّهُ الجّميعْ. ثمّ التقى بيرناردشو الذي "هزمهُ في المُحاجَّةْ". ولعلَّ بيرناردشو استفادَ، في سبيلِ إنجازِهِ ذاكَ، من "شِكايَةٍ" جرتْ، في العادةِ، على شفاهِ معجبي تشيسترتون وأفادتْ، عموماً، بأنّهُ ما كان مُبتدعاً، في الغالبِ، في ما أتى به من أحاديثْ. ويُمكنُنا، في هذا السّياقِ، الإعتماد في تلخيصش تلكَ "الشِّكايَةِ المُحبَّةِ" على توصيفِ كاتبةِ سيرتِهِ الذّاتيّةِ مَيزِي وورد لها. قالتْ ميزي وورد في التّوصيفِ المعنيِّ- بعدَ أن أثنتْ على خصيصةٍ في تشيسترتون لا يتّسِمُ بها إلاّ قلّةٌ من عظامِ المُحاورينَ وهي كونهم يصغُونَ إلى مُحدّثيهِمْ أكثرَ ممّا "ينهالُونَ" عليهُم بالكلامْ- إنَّ تشيسترتون يُغْنِي مُحاورَاتَهُ بمُتناقِضاتٍ هي، في مُجملِها تقريباً، إمّا "تعابيرٌ مُنبّهةٌ إلى حقيقةٍ كانتْ مُهملةً تماماً" أو "إعاداتُ توكيدٍ مُبتَدضعَةٌ لجانبٍ مُهْمَلٍ من حقيقةٍ ما". قالَ، ذاتَ مرّةٍ، عن أحدِ تلكَ المتناقضاتِ إنّهُ "مُتَنَاقَضٌ، لكنَّ اللهَ، وليس شخصهُ الفردِ، هو من ينبغي أن يحصلَ على حقِّ الثّناءِ عليهِ". من الشّواهدِ على ما سبقَ من حديثٍ أنّ تشيسترتون قد رأى في الكثيرِ من الامثالِ والأقوالِ القديمةِ جُملةً من معانٍ حقيقيّةٍ نَسِيَها النّاسُ اللّذينَ داوموا على تكرارِ الأمثالِ والأقوالِ إيّاها. إنَّ العالمَ- في حُسبانِهِ- كانَ نائماً ويجبُ أن يُوقَظْ. إنّهُ- أي العالم- قد أوغلَ، مستكيناً وغافلاً، في الجّنونِ ويجبُ أن تثصانَ- بكلِّ وسيلةٍ صادمةٍ- عقلانيَّتُهُ.
ليس لنا من سبيلٍ هنا إلى إنكارِ انزعاجِ البعضِ من نوعيّةِ الرذسائلِ التي استخدمها تشيسترتون لبلوغِ تلكَ الغايةْ. بيدَ أنّا، في ذاتِ الوقتِ، لا نُنفِي قُوّةَ ما ابتدعَ وأثرَهُ في "غَصْبِ" النّاسِ على التّفكيرِ، حتّى ولو اغتاظُوا منهُ، ومن ثمَّ "تَنشَطُ" عضلاتُ فكرهم، الخامدةُ قبلاً، بفعاليّةٍ عقليّةظس جديدةْ.
وصف بيرناردشو تشيسترتون، في تلكَ الأيّامِ، بأنّهُ "شخصٌ كُرُوبِيٌّ (أو كروبيميٌّ) الخيئةِ، ضخماً وعملاقاً شاسعَ البُنيانِ، ليس في الجّسدِ والعقلِ الهائلينَ والمتجاوزضيْنَ المدى المحتشم وحدضهُما وإنّما، كذلكَ، في كونِ أنّهُ يبدو متنامياً في الجّسامةِ كلّما يُنْظَرُ إليهِ..."
"من المشكوكِ فيهِ"، تقول كاتبةُ سيرتهِ الذاتيّةِ المذكورة، "إن كانَ أيُّ كائنٍ آخرٍ، باستثناءِ ديكنز، قد تحوّلَ، بسُرعةٍ، إلى مؤسّسةٍ كما فعلَ تشيسترتون... ما كان، بالطّبعِ، لهيئتهِ اللافتة للنّظرِ بفرادتها، أو لنجاحهِ الصحافيِّ الخاطفِ في "فليت ستريت" أن يُحقّقا لهُ- على حِدَةٍ أو معاً- ذلكَ لولا إعانتُهُ لهما بمُنتَجٍ غزيرٍ من كثتُبٍ حولَ كلِّ موضوعٍ تشاءَ تصوّرَهُ... "إنّ الوفرةََ هي الكلمةُ التي استُعْمِلَتْ كثيراً، وفي هذا الزّمانِ بالذّاتِ، حين الإشارةُ إلى ما ألّفهُ"... "ولرُبّما يشربُ ويتكلّمُ لساعاتٍ، مع رجالاتِ الأدبِ، في المقهى المسمّى "الشِّيشار جيس"، كما وانّهُ كان هيئةً شهيرةً بإثارتِها للحفائظِ في "فليت ستريت" آنَ ظهورِها هناكَ بقُبّعةٍ مُبطذنةٍ ضخمةٍ وبعصى تِسيارٍ مشحوذةٍ في وجوهِ المارّةِ ممّا يُوقعُهُم في خطرٍ كبيرٍ مُوشِكْ".
عند تشيسترتون، كما حدّثتنا ميزي وورد، "تمازجتْ دوماً الجِّدّيّةُ العميقةُ والتّمويهُ الزّاخمُ، كما وأُوصِلَتْ لنا بعضُ أفكارِهِ، الأعمقُ في صورةِ تورياتٍ بيانيّةْ. وقد زعم هو، باستمرارٍ، أنّهُ كثيفٌ في جِدّيّتِهِ فيما هو كارهٌ لأن يكونَ رصيناً، الشيءُ الذي صيّرَ مُبدعاتَهُ خليطاً خليقاً بسوءِ الفهمْ". لكنّهُ "كانَ أسدَ زمانهِ الذي أرادَ جميعُ مُعاصِرِيْهِ أن يزأرَ لهم"... مال تشيسترتون إلى إلقاءِ محاضراتٍ حول كلِّ موضوعٍ يُمكنُ تصوّرُهُ فتحدّثَ عن الدّينِ، الاخلاقِ، السّياسةِ والرّعايةِ الإجتماعيّةْ. ولقد أودتْ بهِ هذه الإنشغالاتُ المُتشابكةُن كما قالتْ ثُلّةٌ من أصدقائهِ، "إلى نسيانِ أيِّ ارتباطٍ ثقافيٍّ لم تُثْبِتْ لهُ زوجتُهُ مواعيدهُ على الورقِ فتعيذنَ عليها، والحالُ كذلكَ، أن تتعهّدَ بأداءِ دورِ ذاكرتِهِ الوفيّةِ والإنسانةٍ الحفيظةِ على كلِّ الجَّانبِ العمليِّ من حياتِهِ"... "لكنّهُ نفى تهمة شرود الذّهنِ وزعمَ أنّ حضورَ ذهنهِ- في افكارهِ- هو الذي جعلَهُ غيرَ منتبهٍ لكلِّ الأشياءِ الأخرى"... "كثيراً ما كتبَ موادهُ الثّقافيّةَ في مقهى "الشَّيشار جيس"، أو أيِّ حانةٍ أخري صغيرةٍ في "فليت ستريتْ". ثم استقلَّ تاكسيّاً، من على مبعدةِ مائةِ ياردةٍ، كي يُوصل به المادّة المعنيّة إلى مكتبِ صحيفةِ "الدّيلي نيوزْ"... لقد انفقَ زمناً كثيراً في تأجيرِ التاكسيّاتِ، ثمّ تركها واقفةً في انتظارِهِ لساعاتٍ بتمامِها. وذاتَ مرّةٍ كان فيها زائراً لمكتبِ أحدِ النّاشرينَ وضع بين يديَّ النّاشرِ إيّاهُ رسالةً محتويةً على أسبابٍ ممتازةٍ لعدمِ استطاعتِهِ أن يكونَ معهُ في تلك اللّحظةْ!"... "كان أحياناً يؤجّرُ تاكسيّاً، ثمّ يُدركُ أنّه ما درى بالجّهةِ التي يُفترضُ أنّهُ كان ذاهباً إليها. حينذاكَ قد يُخطشرُ السّائقَ بأن يأخُذَهُ إلى "فليت ستريت" حيثُ ترفُضُ ذاكرتُهُ- أحياناً- العملَ فيذهبُ، بالتّاكسي، إلى مقهىً لشُربِ الشّايِ ويأمرَ لنفسهِ بكوبِ شايٍ فيما هو يُقلّبُ جيُوبَهُ محاولاً العثورَ على عنوانِ المكانِ الذي لهُ فيهِ ارتباطْ. فإن لم يجدْ، حتّى من بعدِ ذلكَ، شارةً ما تدُلُّ علىهِ قد يُخبِرُ سائقَ التّاكسي بأن يذهبَ إلى محلٍّ لبيعِ الصّحفِ عساهُ يعثرُ على العنوانِ الذي يبتغي مكتوباً على صحيفةٍ ما. وهكذا تستمرُّ هذه العمليّةُ في الدّورانْ. إنّه كان غريبَ الأطوارِ بامتيازْ".
كتب عنهُ صديقٌ أديب:- "الآنَ، فيزيائيّاً ومعنويّاً، غدا تشيسترتون هِركليزَاً... ليس لمثلِ رجلٍ كهذا أن يكونَ شائعَ الميلادْ. فهو ينبغي لهُ أن يأخذَ فرصتهَ الكاملة. وذلك يأتي فقط عبر الدراسة والتأمّل وخلالَ تراكُمٍ بطيءٍ، بيد أنّهُ راسخٌ، للمعرفةِ والحكمةْ". كان تشيسترتون، آنذاكَ، فقط في الثالثة والثلاثينَ من عُمْرِهِ.
"لقد عُنّفَ جيلبيرت كثيراً على حبّهِ للتّوريةِ البيانيّةِ أو للعبارةِ المؤثِّرَةِ التي ساقتْهُ وراءها، أحياناً، إلى مواقفٍ مُستعصِيَةٍ على الدّفاعِ عنها"... "إنّ أسلوبَهُ في الحديثِ، الذي تُذِكِّرَ، تذَكُّرَاً حسناً، من قِبَلِ أصدقائهِ، قد تمَّ وصفُهث بإعجابْ. كانتْ خُطَبُهُ (أو أحاديثُهُ) يُمهَّدُ لها وتُصحَبُ بنوعٍ غريبٍ من الدَّنْدَنَةِ، كتلكَ التي قد يسمعُها المرءُ حينَ يتواردُ مُغنُّونَ مُنشرِحُونَ، فيما بينهُم، اللّحنَ "المُنَوَّتَ" قبلَ شروعهم في الغناءْ... كان ينطقُ كلمة "أنا" [I في الإنجليزيّةِ- المترجم] وكأنّها "آييي" [AYEE في الإنجليزيّة- المترجم]، ثمّ يمُدُّ صوتَهُ مدّاً طويلاً- على أسلُوبٍ خاصٍّ بهِ وَحْدَهُ".
أحبَّ تشيسترتون اللّعبَ بالكلماتِ وتفرّدَ بذلكَ الحضُورِ الذّهنيِ العفويِّ (أو المُنطلِقِ) الذي هو، وحدُهُ، جديرٌ باسمِ الفِطنةِ اللّوذعيّةْ. كانتْ واحدَةً من أفضلِ لطائفِهِ الكلاميّةِ تلك الملاحظةُ التي أدلى بها مُعقّباً على سُمّيَ، آنذاكَ، "تحريرُ النّساءْ" وقال فيها:- "إنَّ عشرينَ مليوناً من النّسوةِ الشّابّاتِ نهضْنَ على أقدامشهِنَّ وهُنَّ صائحات:- "نرفُضُ، من بعدِ الآنَ، أن تُملَى علينا الأشياءْ"، ثمّ تقدّمْنَ في سبيلِهِنَّ لأنْ يَصِرْنَ مُجرَّدَ ناسخاتٍ للكُتُبْ".
وصفَتْ هيلاري بيلوك، وهي صديقةٌ مقرّبَةٌ لتشيسترتون، طريقة تشيسترتون في التّعليمِ والتّنويرِ فقالتْ:- "إنّهُ يجعلُ النّاسَ يَرَوْنَ ما لم يَرَوْنَهُ من قبل. إنّه يجعلُهُم يعرفُونْ. لقد كان مهندساً لليقين... ومهما اتّخذَ من طرائقٍ في سبيلِ تدشينِ مُوازِيَاتِهِ الكلاميّةِ فإنّهُ، دوماً، تمكّنَ من إحداثِ صدمةِ التّنويرْ. لقد كان "مُعلِّمَاً"..."
في سيرورةِ صراعهِ الدّاخليِّ، آناءَ عُمْرٍ بِتَمامِهِ، على دربِ الحقيقةِ، الفلسفةِ، الدّينِ، رأي الشّاعر تشيسترتون أنَّ الإنسانَ شاعرٌ وينبغي عليهِ، إذاً، "أن يَسمُقَ بهامتِهِ إلى أجوازِ الجّنَانْ"... "مُحتاجاً كان إلى التّصوّفِ ولقد وهبتْهُ الكنيسةُ، من بينَ شتّى أفكارِها الكبيرةِ، أسراراً مُوحِيَةْ".
إنّ هنالِكَ الكثيرَ جدّاً، في ترجمةِ الحياةِ التي كتبتها ميزي وورد، عن هذه الشخصيّةِ العملاقيّة ممّا لا يستطيعُ المرءُ مقاومةَ إغراءِ تضمينِهِ هنا. ثمّ، فضلاً عن ذلكَ، يُوجدُ، أيضاً، الكثيرُ من ما يمُرُّ الغنسانُ بهِ بينَ دفّتَي التّرجمةِ إيّاها ويُدهِشُهُ بإحالاتِهِ إلى د. جونسون! أو لعلَّ ذلكَ ليس هو، حقاً، مُدهشاً ما دام مُتوقّعاً لمن تنكشفُ أمامهُ، بجلاءٍ، مُجملُ أحوالِ الحياتين المُعتبرَتَيْنْ.
كان والدُ تشيسترتون عضواً في مُنتدىً ثقافيٍّ سُمّيَ "جمعيّةُ توليفِ الأفكارْ". ولقد رأى أنّ ابنَهُ الاديبَ، فيمكا تروي ميزي وورد، "مثاليُّ الإنسجامِ وذلك المنتدى الذي أسّسهُ د. جونسون وكان البيتَ المُحتفلَ بأبدعِ المحاوراتِ في البلادِ والمكانَ الذي علا فيهِ صوتُ القامُوسيِّ الكبيرِ، أحياناً، بحُججٍ فيصليِّةٍ ضدَّ قاريك وقولداسمث- وتلكَ، في رأي تشيسترتون، علامةٌ على تواضعِ د. جونسون وديمقراطيّتِهِ الجّوهريّةْ، فهي تُظهِرُنا على كيفَ أنّهُ كان منطبعاً بالرّوحِ الدِّيمقراطيّةِ بحيثُ أنّهُ ما نصّبَ نفسهُ ملكاً على رفاقهِ الأدباء، بل شاءَ أن يرضى بالتعاملِ معهُم على قدمِ المساواةْ..." تُمضي ميزي وورد في حديثها هذا فتقولُ "إنَّ أصحابَ تشيسترتون ما فتئُوا يُردِّدُونَ زعمهُم بأنّهُ كان واحداً من قلائلِ أفرادِ عصرهِ اللذين استطاعوا التّحدّثَ بذاتِ مستوى براعةِ د. جونسونْ".... من كلّ تلك الإشاراتِ المتواترةِن في ذاتِ النَّفَسِ، إلى الرّجلين العظيمين يبدو للمثراقبِ وضوح محتوى المقارنةْ.
إن انتقلنا إلى حادثةٍ اخرى مُتعلّقَةٍ بما نقولُ سنعرجُ على مقتطفٍ من وصفٍ لحفلِ غداءٍ قد تُلِمَسُ فيهِ إشارةٌ رابطةٌ بين الرّجلينْ:- "كان حفلُ الغداءِ صاخباً. أنا- الآنَ- أستحضِرُ جليّاً تشيسترتون جالساً، على هيئةٍ متفكّرةٍ، أمام المائدةِ وهو يشربُ الشامبانيا شراباً جمّا، ويُلْقِمُ "وجههُ"، باستمرارٍ، بطعامس كان حتماً عليهِ، وآكلُهُ في شُغلٍ دائمٍ بأكثرِ المحاوراتِ جهريّةً وإيغالاً في التّفانينِ الشّعريّةِ القصيرةِ واللاذعةِ، أن يتساقطَ عن شوكتِهِ ويرتدُّ مُتناثراً عن جُرمِ جسدِهِ الجّسيمِ قبلَ أن يختفي فُتاتُهُ، أخيراً، تحتَ المائدةْ".
ثمَّ هاكمُو، مرّةً أخرى، طرافةً ثانيةً عن تشيسترتون:- "كان، بالفعلِ، مُدخّناً لا يهدأ لهُ نَفَسْ. وحينما يُشعلُ سيجاراً، أو سيجارةً، كان يرسمُ شارةً في الهواءِ بعودِ الثّقابْ. لم يحذفْ مطلقاً هذا الطقس من "إجراءاتِ" تدخينِهِ. وذلك ما ساق الآنسةُ دنهام (محرّرةٌ مُشاركةٌ في صحيفتِهِ) إلى الإعتقادِ بأنّهُ صارَ عندهُ مثل الطّرقِ الخفيفِ على الدّرابزوناتِ عندَ د. جونسون".
بتوالي السّنينِ تنامتْ مشكلةُ تفكيره الدّينيِّ في عصفِها. كان موريس بيرنق والأب رونالد فوكس من بين الرّئيسيّين من أصدقائهِ الكُثُرْ. لذا عَجِبَ العديدُ من النّاسِ من الزّمانِ الطّويلِ الذي اقتضاهُ بلُوغُهُ إلى قرارهِ النّهائيِّ في هذا الشّأنْ:- الإنضمامُ إلى الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ الرّومانيّةْ.
يبدو أنّ مفهومَ "الإنسان الأزليّ" وصورة سينت فرانسيس الرّوحيّة قد شكّلا، وفقَ رؤيةِ كاتبةِ السّيرةِ الذّاتيّةِ المذكورةِ، أسمى تعبيرٍ عن صُوفيّةِ جيلبيرتْ.
ربّما يدعونا هذا إلى أن نتصوّرَ أنَّ الشّبحَ القديمَ، ذلك الخوفُ العتيقُ من الموتِ، قد رُفِعَ، أخيراً، عن تلك الرّوحِ العبقريّةْ. وكما قال صديقٌ لتشيسترتون عن تشيسترتون:- "كانتْ الجّماليّةُ الواسمةُ لجِماعِ وجودِهِ جماليّةً مُشاهِدَةً، متدبّرَةً ومُستخلشصَةً للتّقييماتْ"...الآنَ قد حلَّ السّلامُ برُوحِ تشيسترتون، فلقد آبَ إلى "موطنِهِ" وانضمَّ إلى جَنابِ الكنيسةِ حتّى "يصُونُ براءتَهُ". كانت الخطيئةُ، تقريباً، أعظمَ حقيقةٍ عينيّةٍ مُداخِلَةٍ لشعورِهِ. إنّهُ صارَ كاثوليكيّاً بسببِ قُدرَةِ الكنيسةِ العمليّةِ على التّعامُلِ مع الخطيئةْ.
أضافتْ أرملتُهُ إلى كلماتِ التّذكارِ المنقوشةِ على شاهدِ قبرهش تحيّةَ وولتر دي لامير التّاليةْ:-
الآنَ يُمضي فارسُ الرّوحِ القُدْسِ
الحِكْمَةُ كساؤُهُ الصُّوفِيُّ المَلَوَّنُ،
الحقيقةُ طُرْفَتُهُ المُحِبَّةُ؛
طواحينُ الشّيطانِ لا تَنِيْ
تَهُزُّ رُمْحَهُ في الهواءْ
والعطفُ والبراءةُ ملءُ قلبِهِ المُستَجِمْ.
***
يبدو أنّ كونَ رجلين كهذينَ، اثنينَ فحسبْ، ينبغي لهما أن يَتْبَعَا أحدَهُما الآخرَ عن كَثَبٍ وفي صيغةٍ مُفردةٍ لرُوحٍ واحدةٍ هو أمرٌ مُتجاوِزٌ لِحُدُوْدِ التّطابُقِ الصُّدَفِيْ. هلاّ نحنُ لسنا ممنوحينَ سانحةً لدراسةِ ارتقاءِ رُوحٍ، سيرورةِ رُوحٍ قديرَةٍ على دربِ الحقيقةْ؟
- إبراهيم جعفر
- مشاركات: 1948
- اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am
الفصل الثالث عشر
ونستون تشرشل
إنّ حرائقَ نيرانِ القرابينِ تصهرُ رُوحَ الإنسانِ فيها وتُوسمُهُ بالعظمَةْ. فهي، باصطلائها الحَمِيِّ، تُصيِّرُهُ صافيَاً وحُرّا.
إن كنتُ قد تعلّمتُ شيئاً من "المُعَلِّمِ" فهو هذا:- إنّ القوانينَ الكونيّةَ للرُّوحِ هي الأصلُ، هي عينُ الأساسِ والعِلّةُ للقوانينِ الأخلاقيّةْ.
إنّ فعاليّاتِ التّركيبِ الرّوحيِّ-الكيميائيِّ المُتناغمِ للإنسانِ (وغيرِ الإنسانِ) هي نَسْجُ طاقاتٍ مُنْشِئٌ لعالمنا، كما وهي سيروراتٌ من الأفعالِ وردودِ الأفعالِ جاريةٌ جميعُها خللَ شتّى مجالي الوجودِ بذاتِ الدّقّةِ المعصومةِ التي نُسلّمُ بها لقوانين الفيزياء. فعينُ كينونتنا مُصاغٌ على منوالِ الجّواهرِ الرّوحيّةِ التي تنعكسُ في مُختلفِ أوجُهِ تبدّياتِنا الإنسانيّةِ، رجالاً كنّا أم نساءاً. إنّ هاتيكَ الطّاقاتِ الرّوحيّةَ هي ما يُشَكّلُ الحقلَ المغناطيسيَّ الذي نحيا في جُوائِهِ. إنّهُنَّ يُشكّلْنَ عقلنا ورُوحنا (نفسنا)، شخصيّتنا، ومن ثمّ هُنَّ الدّوافع الأصيلةُ لسلوكنا، المغناطيسُ الذي يجذبُ إلينا كلَّ حدثٍ مفردٍ في حياتنا... إنّهُنَّ- بالجّملةِ- القوى المحرّكة لحيواتنا وحظوظنا وكلِّ شيءٍ يُصيبُنا في هذا الوجود.
أشعرُ أنني يجبُ عليَّ أن أُعيدَ، مرّةً فمرّةً، تأكيدَ هذه النقطة، فحولها ينعقدُ جُلُّ أمرِ فِعلنا في هذه الدّنيا. إننا تَراكُمُ طاقاتٍ كونيّةٍ روحيذةٍ وفيزيائيّةٍ معاً. نحنُ نعيشُ في محيطٍ من هاتيكَ الطّاقاتِ النّافذةِ في كلّ الأشياءِ كما تعيشُ السّمكةُ في الماءْ. ونحنُ نُذوبِهُنَّ في فينا آناءَ عيشنا، ثمّ ننمو ونرتقي. إنّه لعلى مناويلِ هاتيكَ الطّاقاتِ الكونيّةِ، بمختلفِ مستوياتِ ذبذباتها، نحنُ ننسجُ ذواتنا. فنحنُ تُنسجُ ذواتُنا- إذاً- على صورِ النّماذجِ العليا الأصليّة (البَدئيّة)، ومستقبلنا من خلقِ أيدينا.
كما نُفكّرُ نحنُ- إذاً- نُصيرْ. فالفعلُ المغناطيسيُّ لقوى الفكر التي نستعملها تصوغُ شخصيّتنا وميزاتنا الرّوحيِةْ.
ذلك ينبؤنا بأننا، كأفرادٍ، نجذبُ إلى أنفسنا عينَ الجّواهرِ الرّوحيّةِ التي أُنشئنا منها، وبأنّ تلكَ الجّواهرَ هي الخلفيّةُ والأساسُ لكلّ ذلكَ الذي ندعوهُ "ذاتَنَا العُليا".
بحسبِ المدى الّذي نتوغّلُ فيهِ بفكرنا وفعلنا واستجاباتنا لتجاريب المعاش المختلفة ومغامراته نحنُ نُضاعفُ اندياحَ القوى الكونيّة في جُوّانيّاتنا فتربو، بذلكَ، فينا الصّفات الشّتّى لعقولنا وأنفسنا وأرواحنا. ثمّ، من بعدِ تجاريبِ عهدٍ مديدٍ (أو، بالأحرى، عهودِ حيواتٍ عديدةٍ)، تُواتينا شفافيّةُ الرّوحِ، توازنُ الهيئةِ الشّعوريّةِ-الرّوحيّةِ، القُوّةُ الباطنيّةُ والإنسجامْ.
دعْ عنكَ- إذاً- تشلولمَ إنسانٍ ما لأسلافهِ، لبيئتِهِ، للصُّدفةِ، للحظِّ، أو للهِ، على ما يُصيبُهُ من أشياءٍ، فسماتُ قُوّةِ وضعفِ شخصيّةِ ذاكَ الإنسانِ هي ثمرةُ أفعالهِ الخاصّةِ الماضيةِ وخواطرهِ الجّوّانيّةِ الذّاتيّةْ.
من الجَّليِّ، إذاً، أنّ التّعاليمَ الأخلاقيّةَ للنّصوصِ المُقدّسةِ القديمةِ كانتْ مُغلّفةً في أقوالٍ فهمُها ميسورٌ للعقولِ البسيطةِ وفحواها هي فحوى ذاتِ قوانينِ الفعلِ وردِّ الفِعلِ، الثّوابِ والعقابْ. تلكَ التّعاليمُ قد يُعادُ توليفُها على هيئةِ التّنويعاتِ التّاليةِ على معنى المعاوضةْ:-
• كما تُينُ تُدان (أو من حفر حُفرةً لأخيهِ وقع فيها).
• ذلك الذي يحيا بالسّيفِ يموتُ بالسّيفِ وحدِهِ.
• ذلكَ الذي يسرقُ بضائعَ إنسانٍ سواه سيفقدُ كلَّ ذلك الذي يملُكْ.
• ذلك الذي يَسْتَعْمِلُ صاحبَهُ الإنسانَ على ضغينةٍ يُسْتَعْمَلُ، شخصيّاً، على ذاتِ النّحوْ.
• من يكذبُ سيُكذبُ عليهِ.
• من يكُ قاسياً على إنسانٍ أو حيوانٍ ينبغي لهُ أن يُعانِي ذاتَ مُعاناتهما.
• من يكُ خائناً يُجازَى بالخيانةْ.
• من يغُشُّ سيُغَشْ.
• حقّاً وصدقاً سيُجازى من يفعلُ فعلاً بمثلِهِ.
ما تنطوي عليهِ تلك التعابير المأثورة ليس عقاباً أو ابتغاءَ إلهٍ غضُوبٍ للقصاصْ. إنّه ردُّ الفعلِ الأوتوماتيكيُّ للقوانين الفيزيائيّةِ المُجَلْبِبَةِ للطّاقاتِ الرّوحيّةِ التي هي عينُ النّفسِ العُليا، النّفسِ الباطنةْ.
صيّر "المُعلّمُ" تلك الأشياءَ أكثرَ جلاءاً حينما قال إنّ كوكبَنا، أيضاً، يسبحُ جميعُهُ في محيطٍ من طاقاتِهِ الخاصّةِ، من هالتِهِ الخاصّةْ. ووفقاً لسلوكِ شتّى الأجناسِ المنتشرةِ في أقطارِ هذه البسيطةِ والمُكوِّنَةِ معاً لمُرَكَّبِ قواها الرّوحيّةِ الكونيّةِ- قال "المُعلّمُ"- ينصاع مجالُ فعلٍ مغناطيسيٍّ يجذبُ إلى الكوكبِ الارضيِّ أحداثاً مُماثلةً في القيمةِ والخواصِّ للطّاقاتِ المُنبثّةِ في آفاقِها.
تلك هي الحقيقةُ وراءَ الأسطورةِ العريقةِ حول مدينتي سدّوم وعمّورة. إنّ "اللهَ" [جاءت هكذا في الأصل- المترجم] قد عصفَ بتلكما المدينتين بسببِ خُبثِ أهلهما:- "وحينذاك أمطرَ الرّبُّ على سدّومَ وعمّورة حجارةً من الكبريتِ والنّارِ نازلةً من الرّبِّ وطالعةً من السّماءِ، ثمّ عَصَفَ بالمدينتينِ إيّاهما وبكلِّ ذلك الذي نما على ترابهما فصعدَ دثخانُ البلادِ إلى الاعالى كدُخانِ فُرنٍ، فتأمّلوا أولو الألباب!".
هذا ليس هو تهديدَ إلهٍ منتقمْ. فهو قد كان إنذاراً من كينونةِ وعيٍ أسمىْ، من "إلهِ إبراهيمَ" الذي قد علِمَ أثرَ الإنبثاثاتِ الشيطانيّةِ المُنبثّةِ على هيئةِ طاقاتٍ ساميةٍ صادرةٍ عن رجالٍ ونساءٍ جُهَّلٍ يستعملُونَ القُوّةَ والخِيانةَ (الغَدْرَ) مع النّاسِ والحيواناتِ فيُسبّبونَ الكوارثَ لكثلِّ من وما حولهم.
إنّ الكوكبَ الأرضيَّ كينونةٌ منسوجةٌ من القوى الكونيّةِ للعالمِ ومحتواها الطّاقيُّ نَشِطٌ ومِغناطيسيٌّ في أثرِهِ مثلما هو، بالضبط، أثر الإنسان، وهو يكتسبُ ما يُصيبُهُ. ونحنُ، الذين هم الخلايا في كينونةِ كوكبنا هذا، من هُم مُكافحُونَ للخروجِ من أوضاعٍ موروثةٍ من الأعصُرِ السّوالفِ- واللذين همن كذلكَ، ساكنونَ، بوعيهم وشعورهم، في المجالِ "النِّيُوسفيريِّ"، كما وقعَ في تصوُّرِ تيلهارد دي شاردن- مسؤولون عن هالاتِ الطّاقاتِ (أو الطّاقاتِ الهاليّةِ) المنبثقةِ عن كوكبِ الأرضْ.
إستعملَ "الرّبُّ"، في الأزمانِ القديمةِ حيثُ كان النّاسُ بُدائيّينَ جداً في قُدرتهم على التّفكيرِ والفهم، الخوف كمُنذرٍ ضروريٍّ ومُقَوِّمٍ في سبيلِ ألا ينحرفُ الأطفالُ البشريّونَ الزّائغونَ عن دربِ سلامةِ القوانينِ الكونيّةْ. والآنَ نحنُ بدورنا نُحبُّ أن نتصوّرَ (أو نعتقدَ) أنَّ جماعاتٍ معيَّنةٍ من الأجناسِ البشريّةِ مُستشرِفَةً، حاليّاً، آمادَ النّضجْ. لذا فنحنُ لا ينبغي لنا أن نحتاجَ للخوفِ، من بعدِ، كي نبقى راسخينَ في ارتقائنا. لكن إن كان التّفكيرُ المنطقيُّ لا يسُوقُنا إلى تقويمِ سلوكنا يظلُّ الخوفُ مُتطلّباً أن يُستعمَلَ في هذا السّبيلْ. وإنّه لفي هذا القرنِ العشرينِ بالذّاتِ هُزَّ أمامَ مرائينا- البَرّانيّةِ والجُّوّانيّةِ- سوطُ الخوفِ- بواسطةِ شتّى أشكالِ فِعلنا في هذه الدّنيا- على نحوٍ ما سبقَ لهُ من مثيلْ.
الآنَ قد حانَ الوقتُ لكي نتحقّقَ من أنّ الخيرَ لأنفسِنا ولكوكبنا الأرضيِّ لا يتأتّى لهُ النّوالُ بعنفِ معاملتنا لبعضنا البعضِ وبخرقِ القوانينِ الاخلاقيّةْ. فذلك الطّريقُ اللاّمُستنيرُ هو عينُ الطّريقِ الذي يجذبُ الكارثةَ إلينا كأفرادٍ إنسانيّينْ، ومن ثمّ إلى بيتنا الكبيرِ الذي هو كوكبُ الأرضْ.
2
حين شرعتُ في تأليفِ هذا الكتابِ، وأنا مُوقنةٌ من دمغي بتهمةِ الإثاريّةِ، قرّرتُ أن أستعملَ فقط، من بين الحالاتِ التي تمّ سوقِي إلى دراستها، تلك التي تتناول سيرَ أشخاصٍ أقلَّ بريقاً ونجوميّةً في صيتهم. لكنّني- الآنَ- مستسلمةً للإغراءْ.
وأنا آتيةٌ نحو ختامِ هذا الكتابِ أُدرِكُ أنّ واحداً من أعظمِ الشّخصيّاتِ انفتاحاً على إطراءِ الجميعِ هي شخصيّة زعيمنا الراحل والمحبوب حبّاً جمّاً السّير ونستون تشرشل.
ليس من الضّروريِّ لي هنا أن أُحاوِلَ تقديمَ تقويمٍ لحياةِ الرّجلِ وصفاتهِ الأساسيّة، فالكثيرُ جداً من ذاكَ هو معرفةق عامّةٌ يتيسّرُ للجّميعِ الإطّلاع عليها بأنفسهم، إن شاؤوا. وبما أنّني كتبتُ عن معاصرهِ وقرينه المُكمّل الجنرال شارل ديجول لماذا- إذاً- لا أُسطّرُ، أيضاً، حروفاً عنهُ هو، رجلُ دولتنا الديناميكيُّ القدير؟ إنّ واحدةً من حيواته المحدثةِ تُظهرُنا، بوضوحٍ جليٍّ، على الأساسِ السّايكولوجيِّ لقصّةِ حياتِهِ القرن-عشرينيّة.
إن قرأنا كُتُبَ التّاريخِ البشريِّ والسّيرَ الإنسانيّةَ التي ألّفها أفرادٌ من ذوي المعارفِ قد نصلُ إلى بِضعةٍ من فهمٍ للعواملِ التي تثنشئُ كينونةَ الكائنِ الإنسانيِّ المُحتفى بهِ. ولربّما تكونُ- بل لابدَّ أن تكونُ- هنالكَ ثمةُ وقائعٍ وحقائقٍ معيّنةٍ تفوتُ، على هذا السّبيلِ، ملاحظتُها حتّى على الدّارسِ المُتدبّرْ. مع ذلكَ، ما سنستعرضُهُ هنا سيقتربُ، بأقصى ما يستطيعُ، من تقويمٍ، أو توصيفٍ، من رُوحِ الإنسانِ المرئيِّ على هُديِهِ.
في عام 1940 خطا السير ونستون تشرشل على فراغ الساحة وقاد بريطانيا العظمى إلى النّصرِ على الوعيدِ النّازيِّ، ومن ثمَّ تخليص "العالم الحر" من التّسلّطِ والقهرِ اللذينَ كانا سيرتدّان بمسارِ الحضارةِ، الصّاعدِ على دربِ ارتقائهِ، إلى الوراءِ عهوداً لا تُحصى ولا تُتَصَوَّرْ.
ذلك هو الرّجلُ الذي أودى بهتلر إلى الصّراخِ، في تلك السّنةِ الحاسمةِ، مُتشكّياً:- "ذلكَ الرّجلُ! ذلكَ الرّجلُ له جيوشٌ زاحفةٌ خلالَ رُوحهِ!"
ما الذي كان مُعطياً ذاك الرّجل كلَّ البأسِ الشّديدِ الذي اتّسمَ بهِ كرجلِ دولةٍ، كلَّ تلك القوّةِ والمِغناطيسيّةِ اللتان انمازَ بهما كزعيمٍ، ثم جميع ما انطوى عليه من شجاعةٍ مستعصيةٍ على الغَلبةِ وثقةٍ في قيادتهِ الرّئيسةْ؟ ومن ذا الذي، كذلكَ، أفاضَ عليهِ هباتِ قوى أخرى عديدةٍ وأدواراً، تلكَ الديناميّةَ في الرّوحِ ككاتبٍ، فنّانٍ وخطيبْ؟
بالطّبعِ، إنّ ما أمازَهُ بهاتيكَ الصّفاتِ والقوى البديعةِ هو تجاريبُ قرونٍ في غماراتِ المعاشِ المُخاطِرِ ما بينَ سياسةِ النّاسِ، تثبيتِ وصونِ النّظامِ العامِّ والمُشرّبِ، بعُمقٍ، خَلَلَ كلِّ أشكالِ تبدّياتِهِ تلكَ، بالقوى الكونيّةْ. لكنّا قد لا نَتْبَعْ ذاك الإنسانَ على كلّ دربِ ارتقائهِ الجّليلِ الذي حملهُ، صُعُدَاً، من الوضعيّةِ البُدائيّةِ إلى جميعِ ما حازَهُ من كرامةِ المعاشِ المُتمديِنْ. فلمحةٌ مُخْتَلَسَةٌ واحدةٌ وراءَ ستارِ الزّمانِ هي كلُّ ما مُنِحناهُ على ذاكَ السّبيلْ.
إبّانَ زمانِ "الإضّطراباتِ" بين الملك والبرلمان في البلاد التي عاش بها ذاك الإنسان عُلّمْنَا أنّه، في القرنِ السابع عشر، قد وُلِدَتْ رُوحُهُ، مُجدّداً، في مجالنا الكوكبيِّ تحت اسم توماس وينتويرث، إيرل* استرافورد [* رتبة في النظام الأرستقراطي الإنجليزي العتيد متوسطة فيما بين رتبة الماركيز، في أعلاها، ورتبة الفيسكونت، في أدناها].
كي أتوفّرَ على تفاصيلٍ عن سيرةِ حياةِ ذلك الرّجلِ وأيّامه لجأتُ إلى قاموس التّاريخ الذي جمعهُ السّير سيدني لو (الحائز على ماجستير الآداب) والسيّد ف. س. بُلِنْقْ (الحائز، كذلكَ، على ماجستير الآداب)، ثمّ أيضاً على السّيرةِ التي ألّفها عنهُ س. ف. ويدجوود.
كان توماس وينتويرث رجلاً ذا قوىً متجاوزةٍ تماماً للمستوى العاديِّ، إرادةٍ عصماءِ وطاقاتٍ لا تُخضعْ أو تُذلْ. وبفضلِ خبرتِهِ في الإجراءاتِ البرلمانيّةِ، توحُّدِ وعيهِ وولائهِ، نزعةِ حبِّ النّظامِ والإصلاحِ فيهِ أضحى وزيراً قويّاً على أيّامِ شارلس الأوّلْ.
وُلِدَ توماس وينتويرث في عام 1593 وتلقّى تعليمه في كامبردج. مثّلَ مقاطعَةَ يوركشاير في البرلمان في ما بين عامي 4161 و1628 حيثُ "اتّخذ لنفسهِ موقعاً مستقلاً وعارض محاولات الملك جيمس الاول الرّامية إلى الإنتقاص من حقوق البرلمانْ. وفي زمانٍ متقدّمٍ حاولَ أن يُجسّدَ حقوقَ الرّعايا المَلكيّين (أي المواطنين) في هيئةِ مسودّةِ قانونٍ فوضع، بذلك، أساساً سليماً للمستقبل السّياسي للبلاد وصالح الملك مع أعضاء مجلس العمومْ. لكنّه ما شارك السّاسة (والنّاس) حماستهم العاطفية للحربِ مع إسبانيا في عام 1642. ذلكَ لأنّ ما رغبَ فيه هو حكومةٌ لها من الذكاء ما يُكفي لتنفيذِ إصلاحاتٍ اجتماعيّةٍ- سياسيّةٍ عمليّةٍ على الرّغمِ من المصالحِ المحليّة والطّبقيّةْ... ولعلَّ الإجراءات الهادفة إلى تيسير تنفيذ "قانون الفقراء" وإنعاش التجارة والتّحسين العام لاوضاع جمهور الناس كانت جميعها ناجمةً عن حضوره الحي في مجلسِ الوزراءْ.
في عام 1639 أنشئَتْ له وظيفةُ إيرل استرافورد ومستشار الملك شارلس. وبوصفه اللورد- الرئيس لمجلس الشمال جعل توماس وينتويرث حكمه نافذاً في مقاطعة يوركشاير فكان ذلكَ، بالنسبةِ له، بمثابةِ عهدِ تدريبٍ وتلمذةٍ في شؤون اللعبة السياسية أهّلهُ للوقوفِ على أرضِ معرفةٍ وخبرةٍ راسخةٍ بهذا المجالِ حين بُعِثَ إلى إيرلندا ليشغل منصب اللّورد النائب عن الملك هناكْ. وفي أيرلندا وجد الإيرل القوي فساداً في الأمور وفوضى. غيرَ أنّهُ، بتصميمهِ وإدارتِهِ القديرةِ، جعل من أيرلندا، في خلال سنواتٍ وجيزةٍ- ولفترةٍ قصيرةٍ من تاريخها الطويل الحافل بسوء الحكم- الافضلَ تنظيماً من بين إخواتها من الجّزر الأخرياتْ.
عندما وصل إلى أيرلندا، لأول مرة، أعلن وينتويرث، إذ رأى الفوضى المحيطة به، أنّ "الدولةَ" إياها ما كانتْ قادرةً إما على قهرِ مرضها المتفاقم أو معاناةِ شدائدِ علاجٍ شاملْ... لقد جاء، الآنَ، وقتُ ذاكَ العلاجِ الشّاملِ ووينتويرث كان هو الرجل الخليق بإنفاذهِ.
عمل توماس وينتويرث بدأبٍ لا يكلُّ في سبيلِ تلك الغايةِ فاستقدمَ للساحةِ الأيرلنديّةِ إصلاحاتَ من كلِّ الأشكالْ. لكنه، بفعله هذ، رغم ما أثمره من نفع وحسن تقويم لشؤون عديدة مثل هاتيك المرتبطة بأقدار الفقراء والمرضى وتلك المتعلقة بميادين التعليم، التجارة والمال، بل وحتّى شؤون الجيش والبحريّة، جلب إلى نفسه، في غايةِ الأمرِ، عدداً من العداوات كانت سبباً في تنحيته، عند نهاية حياته، من كلّ مناصبه الرفيعةْ. بات وينتويرث، آنذاكَ، غنياً وقويّاً كأيِّ رجلٍ أيرلنديٍّ موسرْ. لقد أحبَّ العدل من أجل العدل وحده وسعدَ، سُعداً عظيماً، بتحريرِ أفرادِ الناسِ الفقراءِ من مُذلّهم العاتيْ. وصفهُ معاصرٌ لهُ في ذلك الزمان بأنّهُ إنسانٌ ما حبتهُ الطبيعةُ، عامّةً، بطبعٍ شخصيٍّ أنيسٍ فاتّخذَ، بين أكفائهِ، سمتاً بارداً وأسلوبَ معشرٍ خشنٍ جعلهم يشكون من ما دعوهُ "عجرفته العدوانيّة". بيدَ أنّ توماس وينتويرث احتفظ، لأصدقائهِ الأكثرَ حميميّةً فقط، بحسِّ دُعابةٍ حسَنْ. ربما رضي منتقدوهُ بكبرِهِ، إن كان ذاكَ الكِبَرُ مُتساوقاً وانميازاتهم الإجتماعيّةِ الخاصّةِ، لكنّهم ما استطاعوا "هضمَهُ" بسهولةٍ حينما رأوا منهُ كياسةً تجاه من اعتبروهم دونهم في الرّتبةْ... ولأنّ البلادَ ازدهتْن حينذاكَ، بفضلِ إدارةٍ منضبطةٍ وعادلةٍ، أُغيثَ الفقراءُ وغدا العاطلون ذوي أعمالٍ ونُظّمتْ شؤونُ الصّناعةِ والتّلمذةِ الصناعيّةِ تنظيماً دقيقاً وصُيّرَ الإنصافُ قريباً من نُشدانِ الطّالبينْ. مع ذلكَ- ويا للتناقض!- اكتسب من قام على إتمامِ كلِّ هاتيكَ الجّمائلِ لنفسهِ سمعةً منذرةً بالشّؤمْ. لقد كان واثقاً من تقديره الشّخصيِّ لدرجةٍ جعلتهُ لا يتوقّف دوماً في مسارهِ، ولو لبرهةٍ يتناصحُ فيها مع معارضيهِ. "لستُ لديَّ شيءٌ أقولُهُ لكم، فأنتم اللذينَ يُعارضُوني !قال هذا ذاتَ حينٍ كان فيه متعجّباً ومُْغْضَبَاً، في ذاتِ الوقتِ، من حالِ قاضٍ محلّيٍّ أثارَ مشكلةً حول ترميمِ أحد الكباري. حقّاً إنّهُ على نفسِ ذاكَ المُنعطفِ من حياتِهِ (أي في ذاتِ الحينِ الذي شهد فيه مجداً شخصيّاً وسمَهُ بوصفِهِ الرّجُلِ المُخوَّلَةش لهُ سلطاتُ النّيابةِ عن الملك في أيرلندا) ما تكشّفَ لأعدائهِ عنهُ شيئاً آخرَ خلا زهزهِ الشّخصيِّ وطموحه فيما لم يرَ سواهم من النّاسِ فيهِ إلا أعظمَ صفاتِ الغيريّةِ الحقّةْ. كان عقلُهُ مُنصبّاً على المستقبلِ ونيّتُهُ ما كانتْ معنيّةً ببناءِ العظمةِ لنفسهِ، بل بجعلِ أيرلندا مكاناً لا يَطالُ فيه سوءٌ، أو سُبّةٌ، من سيخلفهُ على زعامتها. في حياته الخاصة وجد توماس وينتويرث متعةً عظيمةً في تهيئةِ المسكنِ المليحِ لنفسِهِ. انتشى بالتّنزّهِ، في سلامٍ، بين أرجاءِ حدائقهِ ومشاهدةِ أطفالهِ الثلاثةِ الأعزّاءِ عندهُ، كتحفٍ أثريّةٍ نفيسةٍ، وهم مُفعمٌ بالزّهوِ والتّسريَةْ. وفي أيّامِ انشغالهِ بالشؤونِ العامّةِ إلى مدىً يصعُبُ عليهِ معهُ أن يراهُم كثيراً كان يبعثُ بمن يُرسلُهم إليهِ فيؤتى بهم إلى حجرتهِ حيثُ يستغرقونَ في اللّعبِ فيما هو عاكفٌ على أوراقهِ. كان يحسُّ ارتباطاً عميقاً بزوجتِهِ التي وقع في حبّها حينما كان في الثانيةِ والثلاثينْ.
كان حائزاً على حسن نيّةِ قلّةٍ من الرّجالِ المحترمين، الناشطين والخالين من الغرض مثله، ثم كذلك على إخلاصٍ واسعٍ، بيد أنه غير مستقر، مَحََضهُ إيّاهُ النّاسُ اللذين عمل من أجل رفاهيتهم. أما هيئة الموظفين التابعة له فقد كانت حسنة الإختيار ومشكّلةً من رجالٍ ذوي قدراتٍ استثنائيّةْ. ومن بين رجالِ تلك الهيئة كان أخوه جورج وينتويرث هو "الليفتنانت" الأكثر أهليّةً لثقتهِ واعتماده بما اتّسمَ به من طاعةٍ واستعدادٍ للقيامِ بأيِّ مهمّةٍ اختارها لتنفيذها من موقعِ أيِّ سلطةٍ مُخوَّلَةٍ لهُ. كان حكمُهُ لأيرلندا كُلّيَّ القُوّةِ رُغم احتشادهِ بالأخطارِ والصّعابْ. "أنا أحتقرُ الصّعابَ، وأضحكُ على الأخطارِ"، كتبَ توماس وينتويرث ذات مرّةٍ وهو مُفعمٌ برُوحِ التّحدّي، "وما دام صاحبُ الجّلالةِ سيُسرُّ، بلطفٍ، ويقبلُ ما أنا قادرٌ على فعلهِ سأدعو السّماءَ والأرضَ ليشهدا ضدّي في حالةِ فشلي في أيِّ شيءٍ صغيرٍ من جِماعِ ذلكَ الذي تكونُ كلُّ ملكاتِ جسدي أو قوى عقلي دوماً مستطيعةً على مدّي بهِ حتّى أخدُمُهُ..." ثمّ سمّى أيرلندا، بمودّةٍ، "هذه الصغيرة" وأقامَ مثالاً سياسيّاً-اجتماعيّاً ليس من العنفِ، بل من الإستنارةِ، وحكومةً كريمةً حتّى يكونُ الملكُ مُطلقاً جداً في سياسته على مملكتهِ بحكمته أكثرَ مما بتسلّطِ سيوفِ مُوالييهِ على رقابِ النّاسْ. لقد جعل من نفسه المصدر الأعلى لتسنينِ القوانين في أيرلندا. كان تركيزُ القوى هذا مُتعمّداً، بل وبدا لعقلِ توماس وينتويرث ضروريّاً بسببِ عدمِ ورعِ ورُشدِ أولئكَ اللذينَ حولهُ. إنّ نصفَ عمرٍ من حياةٍ عريضةٍ ملأىْ بالفكرِ والتّجربةِ قد أبانتْ، لوينتويرث، الدّربْ.
"لقد أنجزَ معجزاتٍ عظيمةً"، كتب عنهُ السّير توماس راو، "فهو قد استدعى وأدار برلماناً وأنشأ تفاهماً وحبّاً بين الملكِ وشعبِهِ، بجانبِ الكسبِ الماليْ. كان صارماً في سياستهِ الخارجيّةِ وفي إدارةِ الأعمالِ، وعذباً في محادثاته الشخصيّةِ، مُتنازلاً في صداقاتِهِ، لكنّهُ ثابتُ الوفاءِ جدّاً فيها، قاضياً رهيباً وعدوّاً قويّاً، خادماً للنّاسِ وذا حميةٍ في تنفيذِ مطالبِ سيّدهِ الملكِ دون أن يتجاهل مُتطلّباتهُ الخاصّةْ. كما وكان، كذلكَ، شخصاً مستيقناً من نيلِ ذلك الذي يُريد، ورُغمَ أنّهُ حسن التدبير والتفكّر إلا أنّهُ مُستطيعٌ أن يفرضَ إرادتَهُ حين يُحتَمَلُ أن يخدمهُ ذلكَ وان يُظهِرَ، على الملأِ، عظمتَهُ ومجدَهُ عبرَ ازدراءٍ (أو افتراءٍ) ظاهريْ. إنّه ليس واحداً ممن يستطيعونَ المكوثَ طويلاً في منتصفِ مجالِ الحظِّ السّعيدِ فيكونُ، بذلكَ، مغامراً وساعياً في سبيلِ ما يبغي وحسب وإنما هو ناشدٌ إمّا صدرَ مَعَالٍ تجعلُهُ أعظمَ الرّجالِ طُرّاً في إنجلترا، أو "قَبْرَ" مواطئٍ تُصيّرُهُ أقلَّ كثيراً في المكانةِ عمّا هو في الحقْ... وبما أنّهُ كانَ، خلال عهده الأيرلنديِّ، مُستوفزَ الخاطرِ ومُستغْرَقَاً في العملِ استغراقاً مفرطاً فليس من العجبِ في شيءٍ إن اشتدَّ عليهِ مرضُ الصّفراء في ذلكَ الوقتِ أكثرَ مما في أيِّ وقتٍ آخرٍ كان فيهِ قادراً على الحُكمْ".
حين احتاج إليه الملكُ، في زمانِ شدّتهِ، عاد إلى إنجلترا. فقط كان باستطاعةِ رجلٍ في قوّتهِ وخبرته أن يُعينَ، آنذاكَ، الملكْ. "ليس لهبّةِ سخطس ان تجرفني بعيداً عن أداءِ واجبي، كما وأنني غير متنازلٍ، بأيّما حديثٍ مستميلٍ أو افسادِ ذمّةٍ، عن إيماني وحذقي اللذين أُدينُ بهما لسيّدي فأبذلُ لسواهُ ممّن على السبيلِ بيني وبينه سخطاً أو رضاءاً، تسريةً أو مُلاطفةً". ذلكَ هو بعضُ ما قالهُ توماس وينتويرث معبّراً عن ولائه الراسخ للملكْ.
حين مثَل اللورد المنوب في أيرلندا عندَ حضرةِ الملكِ ومجلسهِ تحدّثَ، لساعاتٍ طوالٍ، عن حكمِهِ لأيرلندا فلقي حديثُهُ ذاكَ استحساناً عظيماً وخرجَ، من المجلسِ المَلَكِيِّ ظافرا. هُزَّ الملكُ، هزّاً عنيفاً، بما قال وأبدى به اهتماماً. علا صوتُ التّصفيق من جميع أعضاء هيئة المجلس الملكي الخاص رونشد الكثيرون منهم رضاه. ثمّ عُيّنَ، آنذاكَ، الوزيرُ الأوّلُ للعرشِ فاستطاعَ، من موقعِهِ الرفيع هذا، أن "يبتدعَ لنفسِهِ، بصورةٍ أفضلٍ كثيراً ممّا فعل في أيرلندا، أسلوباً من السّلوكِ الشّخصيِّ تساوقتْ فيه الكرامةُ والكياسةُ في التّصرّفِ، مع النّاسِ عموماً ومع رُصفائهِ كذلكْ. وجدتْهُ الجّماهيرُ مثيراً للإعجابِ ولطيفاً كذلكَ، كما وسُرَّ صحابثهُ باستمتاعه الأكيدِ بكلِّ تسليةٍ أُعِدّتْ لهُ فأمسى هو وأصدقاؤهُ ضاحكينَ، كما أطفالُ المدارسِ، على نكاتِ أطفالِ مدارسْ".
في عام 1639 كان الملكُ في مشكلةْ. فلقد شُنّتْ الحربُ المُهلكةُ ضدّ الإسكوتلنديّينَ وما كان هنالكض جيشٌ مؤهّلٌ لخوضِها ومالٌ يثصرفُ عليها. وأدركَ وينتويرث أنَّ الملكْ شارلس قد وضع نفسه، في أوانِ الكُربةِ هذا، بين يديهِ بلا تحفّظْ. إنّ زمانهُ قد جاءَ بعدَ انتظارِ إحدى عشرِ عاماً... ورُغمَ أنّهُ كان، حينذاكَ، عالماً أنَّ المهمّةَ التي أمامهُ مُدمّرةٌ إلاّ أنّهُ أُبهِجَ باحتمالِ القوّةِ المستقبليّةْ". في تلك الأيام كان وينتويرث مُقعداً بهجمةٍ من داءِ النُّقرَسِ الأليمِ، لكنّهُ كتب إلى الملكِ قائلاً:- "أنا أثقُ باللهِ الذي لم يُوقفْ جلالتكَ في موقفٍ متكافئٍ جداً إزاءَ غُرمائِكَ، ولم يهبني أنا، كذلكَ، قلباً تامّ التّعافي بحيثُ يُقدرُني على رفعِ قدميَّ عنّي في منعطفٍ كهذا من منعطفاتِ شؤونِكْ... لكن، مهلاً مهلاً، يا مليكي! فأنا حتّى لو كنتُ أعمى أو أعرجاً سأُلْفَى صادقُ العهدِ مع شخصِ سيّدي المنعِمْ". ثمّ كتبَ، كذلكَ:- "من بين كلّ الأشياءِ أنا لا أودُّ أن أضعَ عنّي ردائي وأذهبُ إلى سريري في عهدِ عاصفَةٍ".
أرغمُهُ مرضُهُ على "أن يُديرَ شؤونَهُ من على سريرهِ فيستقبلُ الزّياراتِ من الوزراءِ ويُبقِي سكرتيراته دوماً في حركةٍ دائبةْ..." بيدّ أنّه ما ان استعاد شيئاً من عافيتِهِ حتّى استقامَ على قدميهِ، مرّةً أخرى، ورجعَ إلى مقرِّ هيئةِ المجلسِ المَلَكِيْ.
مضتْ الحربُ البغيضةُ مع الإسكوتلنديّين قُدُمَاً في مسيرتها المّدمّرةْ. "ما عاد هنالكَ من خيارٍ لديهم، منذُ أن أثارُوا حفيظةَ الإسكوتلنديّين، سوى أن يُوغِلُوا، بشراسةٍ، في القِتالْ"، قال وينتويرث.
أصدر استرافورد (وهذا هو اسمٌ من أسماءِ توماس وينتويرث) "أوامراً دفاعيّةً حاسمةً وصاحَ بالرّجالِ وحثَّ الضّبّاطَ على مساندتِهِ... كان الإسكوتلنديين متقدّمينَ، في زحفهم، بثباتٍ، عبر بلادٍ ليس لها، تقريباً، ما (ومن) يصُدّهم عنها مُدافِعاً. وعلى الرّغمِ من سوءِ الصّحّةِ المستمرِّ أجهد استرافورد نفسهُ، إلى أقصى درجةٍ، في إنقاذِ سيّدهِ الملكِ الذي هو مستعدٌّ لبذلِ نَفَسِ حياتِهِ خدمةً لهُ. استماتَ استرافورد من أجلِ استجلابِ الجّيش الذي أسّسهُ في أيرلندا إلى إنجلترا، لعلّه يُنقذُ الموقفْ. لكنّهُ ما عثرَ على سُفُنٍ يُمكنُها ترحيلَ ذلك الجّيشِ إلى هثناكْ. مع ذلك ظلّ استرافورد آملاً في استطاعتهِ فرضَ نظامٍ حسنٍ على الجّيشِ يؤهّلُهُ للقاءِ الإسكوتلنديّينَ وعساهُ، من بعد ذلكَ، يُهدّئُ من روعِ النّاسِ بنصرٍ... كان لهُ أملٌ واحدٌ وهو أنّهُ، في حالةٍ طلوعِ المَلكِ في شوارعِ لندن على رأسِ موكبٍ حافلٍ وهو مُنتشٍ بالنّصرِ، سيُعلنُهُ النّاسُ لهم منقذاً ومُخلّصاً فيتعلّمُ، بالتّالي، خُصومهُ السياسيّونَ درساً من هزيمةِ الإسكوتلنديّينَ يُلجِمُ ألسنتَهُم عنهُ". وكلوردٍ ورئيسٍ لمجلسِ الشّمالِ كانتْ لهُ الغلبةُ والزّعامةُ على أعيانِ يوركشاير اللذين كان هو محبوباً بينهم وذلكَ، بدورهِ، جعلَ أولئكَ يتقدّمونَ إليهِ بمساهماتهم في سبيلِ دعمِ الجّيشْ.
يبدو أنّ مدذ الأحداثِ قد انعطفَ، حينذاكَ، باتّجاهِ سيرورةٍ أخرىْ. فبعدَ يومينِ من عودة أيرل استرافورد إلى مقرِّ هيئةِ المجلسِ المَلَكِيِّ "انحنى أمامَ عتباتِ العرشِ كي يستلمَ، من بين يديّش سيّدهِ المليك، وسام الشّرف الأزرق، ذلك الوسام الأعظم من بين كلّ التشريفاتِ الإنجليزيّةْ".
إبّانَ أيّامِ سطوتِهِ فقد استرافورد الأصدقاءَ بدلاً عن أن يكسبهم... وكجنرالٍ قائدٍ للجّيشِ ما كان لهُ وقتٌ لأن يكونَ لبِقَاً:- "أطبقَ أعداؤُهُ من حولِهِ وانتهزتْ المعارضةُ البرلمانيّةُ فرصة الفشل الذريع في الحرب الإسكوتلنديّة كي تُوقِعَ بهِ. وبحُجّةِ أنّهُ قصدَ استقدامَ الجّيشِ الأيرلنديِّ إلى إنجلترا بهدف إخضاعِ الإنجليز- وليس الإسكوتلنديّين- مرّرَ أولئكَ على البرلمانِ دعوى محاكمةٍ قضائيّةٍ لهُ ومشرُوع استدعاءٍ للمثولِ أمامَ القضاءْ. كانتء تلكَ ضربةٌ قاضيةٌ أُنْزِلَتْ باسترافورد فرسم، في غمرةِ خُسرانِهِ ذاك، خُطّةَ دفاعهِ الشّخصيْ. أُعينَ على ذلكَ بمحامٍ مثّلَهُ في الشّؤونِ القانونيّةِ وكانَ اسمُهُ "لينْ". ولقدَ أقرَّ ذكَ المُحامي، فيما بعد، بأنّ "مُرافَعَةَ الدذفاعِ لم تكُنْ أعظمَ مرافعةٍ سمعها في حياته فحسب بل هي، فوقَ ذلكَ، قد طُوّرَتْ كُلُّها، تقريباً، بِواسطةِ جُهدِ سترافورد نفسه"..."
كان استرافورد "محارباً من أجلِ شيءٍ أعظمَ بكثيرٍ من حياتِه الخاصّةْ. فهو قد كان مُكافحاً في سبيلِ نظامِ حكمٍ ظلَّ مؤمناً بأنّه هو النّظامُ السِّياسِيُّ الأمثلُ لإنجلترا. كان يُسخِّرُ، في سبيلِ هدفهِ السّياسيِّ هذا، كلَّ أداةٍ من أدواتِ اللّعبةِ السِّياسيّةِ فيُلاقي اعضاءَ مجلس العمومِ ويُحاورُهم انطلاقاً من أرضيّتهم التّصوّريّة الخاصّةْ. وفي خلالِ سِنّى حياتِهِ الأخيرةِ ائتمنَ سرَّهُ لشيئينَ فقط هما براءته وتماسكه الشّخصيْ"... "إنّ أفعالي، من أعلاها إلى أدناها، ينبغي لها جميعاً أن تُصاغَ صياغةً مُتوازنةً وتُمتحَنُ فيُميَّزُ ذو الثّقَلِ منها عن ذي الخِفّةْ. قنوعٌ أنا باللهِ وباسمِ اللهِن لذا فاللآخرينَ- إن شاؤوا- ان يرفعوني عالياً ثم يقذفوني، من بعدِ ذلكَ، إلى سافلٍ. فإن لم ثُثْبَتْ، من بين كُلِّ ذلكَ، موازينُ أعمالي في كلِّ مسألةٍ واجبٍ عليَّ تجاهَ سيّدي دَعْنِي- إِذاً- أهْلَكُ، ثمّ لا تأخُذُ إنساناً رأفةٌ بيْ".
مَثَلَ أمامَ المحكمةِ في قاعةِ ويستمنستر، ذلك المكانُ الحافلُ (أو الحابلُ) بالتّاريخِ، ما كان منهُ ماضياً وما سيكونُ في المستقبلْ.
كان أعضاءُ البرلمانِ مُصمِّمِيْنَ على تحطيمِهِ. فلقد رموا بالنّرد ثقيلاً ضدّهُ وغدتْ نهايتُهُ نتيجةً معروفةً ومُبيّتَةْ. لكنّه، رُغم ذلكَ، قاتل خصومَهُ كأسدٍ. انهمكَ في التّفنّنِ بضُوءِ وظلِّ فصاحتِهِ بمهارةٍ مُتمكّنَةٍ وتنقّلَ، بارعاً، في ما بينَ تهكّمٍ ومرحٍ ساخرٍ وكلماتٍ مُفاجئةٍ مُفعمةٍ بالعاطفةْ. كانتْ أمانتُهُ، كذلكَ، جليّةً في تناقضها الصّارخِ ودهاءِ هيئةِ مُتَّهِمِيْهِ... احتفظَ بتمالُكِهِ لذاتِهِ عبرَ إعمالِ منطقِهِ. شُهِدَ ضدّهُ بكلماتٍ تحدّثَ بها قبل عشرٍ، بل وقبلَ اثني عشرٍ، من السّنينِ الخاليةْ. وأجابَ على تلكَ الشّهاداتِ المُتحامِلَةِ بقولِهِ:- "إن كان لكلماتٍ قِيلَتْ لأصدقاءٍ، في خطابٍ أليفٍ في غُرفةِ المرءِ الخاصّةِ، على مائدةِ أو طاولةِ المرءِ الخاصّةِ، على سريرِ المرضِ أن تؤخذَ ضِدّه كأشياءٍ دالّةٍ على خيانتهِ فسوفَ يُسلبُ المجتمعُ الإنسانيُّ- بفعلِ انحيازٍ مُغرِضٍ كهذا- من أسبابِ كلِّ سلوى وتسريَةٍ... ثمّ إن قُيّضَ لتلكَ الأشياءِ أن تُضَيِّقَ الخِناقَ على الحياةِ فسوفَ تأخذُ بعيداً الحياةَ والشّرفَ فيكونُ العالمُ، من بعدِ ذلكَ، عالماً صامتًاً تصيرُ المدينةُ فيهِ دَيْرَ رُهبانٍ، ثمّ لا يجرؤُ أحدٌ على توصيلِ فكرِهِ المُتوحّدِ، أو آرائهِ، إلى صديقهِ وجارِهِ"... مضتْ لحظةٌ في الحاكمةِ بدا فيها أنّ استرافورد قد غلبَ خِصُومَهُ. ضجّتْ المحكمةُ بالأصواتِ فصار"الكلُّ صائحينَ ومتكلّمينَ وأقبلَ مُديرُوها، على بعضهم البعضِ، يتلاومُونَ لَغَطْ. ثمّ فجأةً التفتَ استرافورد، التفاتاً متسامياً على كلِّ تلكَ الهرجلةِ، ونظَرَ صُعُدَاً ناحيةَ المَلِكْ. ضَحِكَ الإثنانُ معاً".
لكن ذلكَ لم يُنْهِ الأمرَ بعدْ. فلقد استقدم خصوم استرافورد، إلى السّاحةِ، "لائحةَ الحرمانِ القضائيِّ من الحقوقِ المدنيّةِ" وأرفقوها بتهمةٍ مُجلجِلَةٍ ضدّهُ. كان جون بيم مصمِّماً على إذاقتِهِ الموتْ. لكم، حتّى مع كلِّ ذلكَ العجيجِ، أنقذتْ فصاحةُ رجل الدّولةِ العظيمِ موقفَ ذلكَ اليوم المُخزيْ، فأكثرُ من نصفِ سامعيهِ في تلكَ القاعةِ الكبيرةِ كانوا، حينذاكَ، معهُ. لكنّ المعارضةَ أثارتْ الرأيَ العامَّ ضدّهُ حتّى انقلبَتْ الغالبيّةُ عليهِ ومضتْ ضاجّةً وعاجّةً بالمطالبةِ بموتِهِ. كانتْ إشاعاتٌ بغيضةٌ قد نُشِرَتْ، آنذاكَ، بينَ النّاسِ وزَعمتْ أنَّ أصدقاءَ استرافورد قد دبّرُوا خُطّةً لتحريرِهِ من "البُرْجِ" الذي كان بهِ سجيناً فهيّجَ ذلكَ الجّيشَ فكاد أن يتمرّدَ ويُوجّه أسلحتَهُ نحو البرلمان. بدأ الفزعُ يعمُّ أنحاءَ المدينةْ. سِيقَ استرافورد، مرّةً أخرى، إلى قفصِ الإتّهامْ. ورُغمَ ما نطقَ بهِ أحدُ أعضاءِ البرلمانِ من حديثٍ مُؤثِّرٍ قال فيهِ إنّ مجلِسَ العمومِ على وشكِ أن يرتكبَ جريمةَ قتلٍ بواسطةِ سيفِ العدلِ"..." أصرَّ البرلمانُ على القضاءِ عليهِ. ثمّ اعتزمَ الملِكُ الذّهابَ بنفسهِ لمجلسِ اللورداتِ وإطلاعهم على ما في خاطرهِ عساهُ يستطيعُ، بجُهدِه المستميتِ هذا، إنقاذهُ من التَّهْلُكَةْ.
ثمّ كتبَ استرافورد رسالةً إلى سيّدِهِ الملكِ من "البُرجِ" الذي حُبِسَ فيهِ يستحلفُهُ ألاّ يُمْسِكَ إمضاءَهُ عن "تلكَ اللائحةِ اللّعينةِ" التي هي بمثابةِ حكمٍ عليهِ بالموتْ. ذلكَ لأنّه، بحسب رأيهِ، ستَحلُّ شروراً أعظمَ منها بالملكِ وبمُنَظَّمَةِ الكومونويلث إن لم ينحني الملكُ أمامَ عاصفتِها. كانتْ المعارضةُ بالغةَ القُوّةْ. لذا فمن شأنِ تصعيدها هذا- وفقَ منظورِهِ- أن يتهدّدَ العرشَ نفسَهُ في بقائهِ:- "إنّ عهدَ طاعتي لكَ، يا سيّدي، سيصحبُكَ، من حيثُ هذه الدّنيا، إلى اللهِ أكثرَ من أيِّ شيءٍ سواهُ يستطيعُ العالمُ جميعُهُ أن يفعلَهُ بكَ إزاءَهُ. فبالإنسانِ المختارِ لا أذىً، حينذاكَ، سوفَ يُلْحَقْ. وإنِّي لغافرٌ، بلُطفِ اللهِ، كلَّ العالمِ وشاعرٌ، في ذلكَ، بإحساسِ رضىً لانهائيٍّ ومُفعمٍ بالرّزانةِ والتّواضُعِ لما أوقعهُ بي من قلقَلَةٍ في الرّوحْ. عليهِ، يا سيّدي، أستطيعُ أنا أن أبذُلَ، في سبيلِكَ، حياةَ هذه الدّنيا بكلِّ ما يُتصوَّرُ من بشاشَةْ..."
بعد زمانٍ طويلٍ من التّردّدِ اليائسِ وقَّعَ المَلِكُ على اللائحةْ. وبدموعٍ مُحتشِدَةٍ في عينيهِ قال آنذاكَ:- "إنَّ حالَ اللّوردِ الّذي أَقَمْتُ على استرافورد أسعَدَ من حالِيْ".
هكذا، إذاً، ضحّى رجلُ الدّولةِ العظيمِ بنفسِهِ، طوعاً، في سبيلِ إنقاذِ المَلِكِ، سيّدِهِ وولِيِّهِ. ثمّ هكذا، أيضاً، يَسْتَعْمِلُ النّاسُ شدائدَ نصيبِهِمْ على كيفٍ يُقيِّضُ لهاتيكَ الشّدائدِ أن تُعْذِبَ أرواحَهُمْ.
خِتامٌ بصيرْ
حين فرغَ شارلس داروين من تأليفِ سِفرِهِ الفاتحِ لعهدٍ جديدٍ كتَبَ:- "لقد كنتُ شاغلاً نفسي بعملٍ أخرقٍ جدّاً وأنا لا أعرفُ أيَّ فردٍ إنسانيٍّ في هذه الدّنيا سوفَ لا يقُولُ عنهُ إنّهُ عملٌ أحمقٌ جدّاً".
أنا، الآنَ، أشعُرُ بما شعرَ هُوَ بهِ حينذاكْ. ذلكَ رُغْمَ أنَّ موضُوعَ عملي ليس جديداً، بل قديماً قِدَمِ الجّبالِ، ثمّ هو، كذلكَ، جاءَ كثيراً على ألسنةٍ حاليَّاتٍ مُخْتَلِفَاتْ.
علِم داروين أن نظريّته التّطوّريّة التي أنشأها سوف تقلبُ جِماعَ السُّنَنِ التي استمسكَ بها، استمساكاً وثُوقِيّاً، جُمهُورُ الثّيولوجِيّين (علماء أصول الأديان السّماويّة) ثمَّ، عمليّاً، كلُّ شخصٍ مُفكّرٍ آخرٍ عاشَ في أيّامِهِ. وآنما وهبَ، للقارئينَ من النّاسِ، مُستخلصَاتَهُ في ذلكَ الكّتابِ الأُمِّ، بعدَ عشرينَ عاماً من الدّراسةِ الحذرةِ المنتبهةِ، كان مُوالُوهُ نفرٌ قليلٌ جدّاً. ومن بين أولئكَ عُرِفَ توماس هنري هكسلي بأنّهُ مُساندٌ لا يُريمُ للموقفِ الفكريَِّ والعلميِّ الذي مثّلَهُ داروين والدّارونيّةْ. ثمّ مرَّ، من بعدِ ذلكَ الزّمانِ، أكثرُ من عشرينَ حَولاً قبل أن يصل العالمُ العلميُّ إلى خطِّ (أو صيغةِ) توافُقٍ وفِكرِ داروينْ.
حين ظهرَ الكتابُ الشّهيرُ، أوّلَ مرّةٍ، منشوراً على الملأ "حُيِّيَ" بسُخريةٍ وتَتْفيْهْ. كتب هكسلي، بعد مُضيِّ سنينٍ لاحقةٍ، عن ذلك الأثرِ الرّاديكاليِّ للكتابِ كلماتٍ جاءَ فيها ما يأتي:- "ليس هنالكَ أخفُّ شكٍّ في أنّه لو عُقِدَ مجلسٌ عامٌّ لعلماءِ الكنيسةِ في ذلك الزّمانِ لتمّتْ إدانتُهُ بأغلبيّةٍ ساحقَةْ. كما وأنّهُ، أيضاً، هُنالكَ شكٌّ قليلٌ فحسب في أنّهُ لو اجتمعَ ذاكَ المجلسُ الآنَ لتوصّلَ، في هذا الشّأنِ، لقرارٍ ذي طبيعةٍ معاكسةٍ (أو مختلفةٍ) تماماً"... ثمَّ ما يلي:- "خاطرْتُ نفسي، حين جَعَلْتُهَا، للمرّةِ الأولِى، مُتمكّنَةً من الفِكرةِ الأساسيّةِ لـأصلِ الأنواع، بتأمُّلٍ مُسْتَعْجِبٍ من كيفَ أنّني "كنتُ غبيّاً، غباءاً شديداً، لكوني ما فكّرتُ في هذه الفكرةِ من قبْل!"..."
وصف هكسلي كيف أنّ أفكارَ داروين قُوبِلَتْ بسوءٍ من قِبَلِ الجّيلِ الذي خُوطِبَ بها في البدءِ وأثارَتْ عواصفاً من الإِندفاعاتِ (أو الإهتياجاتِ) الغاضبةِ والفارغةِ التي يستدعي التفكيرُ فيها حُزناً بيِّنَاً. لكنَّ الجِّيْلَ الحاضِرَ رُبّما سَلَكَ سلوكاً بذاتِ القدرِ إن نهضَ شخصٌ آخرٌ ما وأصابَهُمْ في "مَقْتَلِ" ذلكَ الذي يتعيَّنُ على جِماعِ عمومِ المجموعِ البشريِّ أن يكرَهَهُ:- ضرورةَ مراجعةِ قناعاتِهِ". خَتَمَ توماس هكسلي كلماتِهِ بقولِهِ:- "إنَّ خِصُومَ الحقيقةِ الجديدةِ سيكتشفُونَ، كما يكتشفُ حاضراً خُصُومُ داروين، أنّهُ، في غايةِ الأمرِ، لا تُبدِّلُ النّظريّاتُ الوقائعَ وأنَّ الكونَ يَبْقَى غيرَ متأثِّرٍ حتّى ولو تقصَّفَتْ النِّصُوصْ".
[align=left][تُرجم ما بين 1999 و2001].
- إبراهيم جعفر
- مشاركات: 1948
- اشترك في: الاثنين نوفمبر 20, 2006 9:34 am