من كتاب علي المك، "عبد العزيز أبو داؤود"
الصادر عن دار جامعة الخرطوم للنشر، الطبعة
الثانية 1990، اقتطف لنا الأستاذ طلال عفيفي
الجزء التالي:
حسين شريف في كتاب علي المك عن أبي داؤود
كتب علي المك عن
أداء أبي داؤود للمدائح، وكيف أنه استفاد من شعر
شاعرنا الراحل خليل فرح، ثم تحدث عن حسين شريف،
قائلاً *:
ولقد أمد شعر الخليل هذا عبد العزيز باستنباط
طريقة في الانشاد استخدمها من بعد في قصائد ابن
الفارض والبرعي وغيرهما مما سجل، ولعل أشهرها
الميمية المعروفة (شربنا على ذكر الحبيب مدامة..
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم).
ولعل هذه القصيدة هي التي جذبت فن الفنان المصور
والمخرج السينمائي حسين مأمون شريف إلى فن عبد
العزيز، فجعلها مقدمة لفيلمه التسجيلي الرائع
Dislocation of Amber والذي يحكي قصة الناس
والبناء وحركة الحياة في ميناء سواكن، بغموضها
وسحرها، وتجارة الرقيق. هي كلمة حق يقولها
المخرج باللون والحركة والصوت ثم يخلص حسين من
ميمية ابن الفارض في فيلمه إلى (أنتم فروضي
ونفلي، أنتم حبيبي وأهلي يا قبلتي في صلاتي إذا
وقفت أصلي، الله الله). سنين بعدها ظل فن
السينمائي حسين يطارد صوت عبد العزيز. والتقيا،
جاءني عبد العزيز يوما في الجامعة كدأبه، وقال
لي أنه يريد أن يسجل شريط فيديو يقدم فيه بعض
اغنياته، كان ذلك في مطالع عام 1984، قال أنه
يريد أن يعطي للناس شيئا لم يألفوه إذ هم قد
سئموا أن ينظروا إلى التلفزيون يستمعون إلى مغن
تعزف خلفه الأوركسترا دونما تعبير أو حركة أو
تغيير، حمدت له حماسته، ثم قلت له إن الشخص
الوحيد، الذي يقدر على هذا الأمر هو حسين شريف،
كان حسين شريف يود عبد العزيز ودا كثيرا، وحين
مرض حسين مرة مرضا شديدا ألزمه الفراش زمانا،
كان عبد العزيز يصحبني إليه، ويصعد إلى غرفته
ويغني له كل مرة أغنيته المفضلة (امتى أرجع
لامدر وأعودا)، ويطرب حسين كل حين يتقافز طربه
بين آلامه الموجعة. وتحمس حسين للفكرة كأنه كان
ينتظرها، وكلفني أن أعد كلاما، هو بالأساس رأي
عبد العزيز في أمور الفن والغناء، وجاء دور
الكاميرا لتسجل له هذا الكلام، حسين إذن (قد خلف
العبء علي وولى). أشركني حسين في هذا المجد،
ماذا أقول، ماذا أكتب إذن؟ جاء الإلهام مرة
واحدة شيدت كلامي كله الذي كتبته للفيلم الموعود
من صلتي بعبد العزيز التي بلغت آنذاك بضعا
وعشرين سنة، لذلك حين بدأنا التصوير، وكان في
بيت أهل حسين في ودنوباوي، كان عبد العزيز يحدث
الكاميرا والمايكرفون بكلام هو خلاصة أحاديث
رواها لي، قد يكون قد نسيها، ولكنها جعلت إليه
تعود كلمة كلمة، بصوته الدافئ في الحديث.. كان
يحدث الكاميرا يقول (تعرف يا حسين أهلك من يوم
ما ولدوك خاتين عينهم عليك، عايزنك تبقى حاجة
تقوم تطلع فنان؟ بفتكروا الفن عمل صياع، لكن تحت
تحت بيطربوا ويرقصوا. كرومة خلا حياة الناس بهجة،
قهاوي السودان كلها تملا وتفضى بي صوتو، السباته
في كل بيت عرس مليانة عشان كرومة، الناس كانت
تباريه طول الليل من محل لمحل، تعبنا نحن كمان
عشان نصل الإذاعة، المنافسة حادة قدامنا كان
الكاشف وعبد الحميد يوسف وأحمد المصطفى، وحسن
عطية والتاج، عثمان حسين والشفيع، عشان تظهر
لازم تجتهد، زملاءنا كلهم كافحوا قبلنا كفاح
شديد لحد ما وصولوا، مرة كنت عملت فاصل غنائي في
الإذاعة القديمة، وأنا طالع في الباب قابلت واحد
يشبهني جداـ أسود زي الكحل عريض سمين، وأهم من
دة كلو أصلع، كان شايل عود وداخل الإذاعة، لما
شفتو ضحكت ضحك شديد. قال لي: مالك؟ قلت ليه:
أوعى تكون جاي تغني، قال طبعا! قلت ليه (أسمع،
أنا لما دخلت الإذاعة كان عندي شعر زي أولاد
الهنود، قامت لي صلعة من الغنا، هسع انت داخل
الإذاعة بي صلعة جاهزة؟ شيل شيلتك)!.
كان عبد العزيز ينتظرني بعد صلاة الفجر لنذهب
إلى التصوير، لعله كان يحس دنو أجله، كان يحثنا
على العمل، وسجل الأغنيات، وحين انتهى التصوير
اطمأنت نفسه، وسافر حسين إلى واو وإلى كادوقلي
بعدها، يعد فيلما آخر، وفي أمسية السبت الرابع
من أغسطس 1984م، والمطر يحيط بكادوقلي، ويضرب
على سقف الاستراحة وجدرانها، ما علموا ساعتئذ أن
قطراته تنبئهم أنها دموع تذرف على العزيز الذي
مات.
ـــــــــــــــــ
*
علي المك عبد العزيز أبو داؤد دار جامعة الخرطوم
للنشر- الطبعة الثانية 1990م- ص 20-21
|