header
مقالات، دراسات، بحوث
Articles, Etudes et Recherches | Essays, Research
 

نزعة المركزة الأوربية والتدوين التاريخي للحضارة السودانية

"التحول من رؤية مصروية - أبيضية متوسطية الى رؤية سودانوية"

د. أسامة عبدالرحمن النور

(2)

كتابات الجيل الثاني من الرواد

من بين الكتابات التى تناولت مجالات أضيق يجدر ذكر عمل سيف سودربيرج، الذى يشدد على دراسة العلاقات المصرية السودانية حتى نهاية الدولة المصرية الحديثة (1). يتناول المؤلف اقتصاد السودان القديم، لكن نقول أن بعض الجزئيات فيه أصبحت بحاجة الى تعديلات لتواكب المعرفة الحالية مع التطور الذى يشهده علم الآثار السودانوية.

أيضاً توجد بعض المحدوديات في كتاب فون تسيسل "الإثيوبيون والآشوريون في مصر" (2). يجرى الحديث في الكتاب بصورة عرضية عن أصول الأسرة الخامسة والعشرين، مع أن المؤلف توقف بتفصيل لدراسة شجرة أنساب ملوكها وتحديد تواريخ حكمهم .

كرس مونير دي فيلارد كتابيه "تاريخ النوبة المسيحية" لدراسة الأطراف الشمالية لمملكة مروي (3)، و"النوبة الرومانية" لتسليط الضوء على التاريخ المتأخر للبلاد (4). في كتابه الأول يتناول المؤلف بطريقة براجماتية الأحداث السياسية، بخاصة في الأطراف الشمالية للسودان القديم في القرون الأول - الثالث، في حين يتناول في الثاني دراسة لبعض المسائل المتفرقة: تأثير المعمار الروماني على الآثار المحلية، واثر شكل الفخار المستورد وزخرفته، وانتشار زراعة العنب، وتقنية الري الاصطناعي وما الى ذلك.

وفي أبحاث كل من ليكيه وتريجر يتم التعرض بصورة عابرة لبعض جوانب مملكة مروي. يتعرض ليكيه خلال دراسته لحالة الجيش الروماني في مصر ووضعيته وتنظيمه، وللعلاقة بين مروي وروما من نهاية القرن قبل الميلادي الأول حتى نهاية القرن الميلادي الثالث (5). ينصب اهتمام ليكيه على السياسة الخارجية للبلدين وطبيعة الأوضاع السياسية التى نشأت بين القوتين في الأطراف الشمالية للسودان القديم خلال تلك القرون الثلاثة. لدراسة هذا الجزء من السودان كرس تريجر كتابه "التاريخ والإقامة في النوبة السفلى" (6). ونفضل أن نعود لهذا العمل فيما بعد، حيث أن تريجر استفاد من النتائج التى حققها علم الآثار السودانوي في الخمسين سنة الماضية.

مع أن هذه الأعمال قدمت إسهاماً معتبراً في دراسة تاريخ السودان القديم، إلا أنها أضاءت فقط بعض المسائل المتفرقة، والتى يتعلق بعضها بتطور قوى الإنتاج في المجتمع السوداني القديم. فيما يتعلق بهذه أو تلك من قضايا تاريخ نبتة ومروي، فإنه يمكن تصنيف الدراسات شكلياً الى مجموعات : الأولى، وهى فصول أو أقسام ضمن أعمال ذات طابع عام والتقارير الخاصة بأعمال التنقيب الآثاري؛ والثانية، مقالات استعراضية قصيرة؛ والثالثة، مقالات متخصصة، مكرسة لدراسة هذه أو تلك من المسائل المحددة.

احتوت بعض من التقارير عن أعمال التنقيب في السودان قبل الحرب العالمية الأولى فصول تمهيدية، تناول مؤلفوها تاريخ المناطق التى قاموا بدراستها. هكذا سبق تقرير البحث الميداني الذى أجرى في مروي في 1909/1910 مقالة تمهيدية كتبها سايس وتناول فيها ليس فقط تاريخ المدينة بل نبذة عن تاريخ مملكة مروي ككل (7). نفى سايس وجود ملامح زنجية لدى ملوك الأسرة الخامسة والعشرين (ص. 4). في اعتقاده أن صورة تهارقا المنقوشة في مسلة أسارحادون المشهودة انبنت على أساس استخدام الفنان الذى قام بنقشها على نموذج جندي تم أسره. هكذا صار يعتقد اليوم أن المصور على تلك اللوحة هو أحد أبناء ملك السودان. مثله مثل بدج، لم يك سايس مناصراً للنظرية العنصرية التى تؤمن بأفضلية جنس على آخر. إنه يثمن النشاطات المعمارية لملوك مروي. إن الموجز المختصر الذى يقدمه ملتزم بالوقائع ويقدم معلومات تم الكشف عنها في عاصمة السودان القديمة.

في عام 1911 ظهر موجز مشابه آخر لتاريخ مملكة مروي وضعه كروفوت (8)، الذى تعرف مباشرة على جزيرة مروي وصروحها. خلافاً لـ ماسبيرو وميوللر يثمن كروفوت حضارة المرويين الذين شيدوا بمجهوداتهم وحبهم للعمل الحقول والمدن الكبيرة. ويشير الى أهمية هذه المنطقة، التى عبرت من خلالها الطرق التجارية من أواسط أفريقيا في طريقها الى الشمال، ويجمع أعمال الرحالة اليونانيين الذين أوردوا ذكراً لمروي، ويتحقق من مدى مصداقية تلك المعلومات، ويتوقف ليلقي نظرة على علاقات مروي مع روما والصلات مع الهند مشيراً الى أن حفريات راندال ماك ايفر في عنيبة تقدم "أول انطباع، مشتق من أعمال المؤرخين القدماء، أنهم (أي سكان عنيبة) كانوا شعباً محارباً يسيطر على هذه المنطقة، وأنه كانت لهم حضارة راقية وعلاقات تجارية واسعة، كما وكانوا يمارسون حرفاً سلمية". في الوقت نفسه لا يجوز نفي المؤثرات الفنية من بلدان الشمال. يستخدم كراوفوت في إعادته تركيب بعض حقائق تاريخ مروي الآثار المعمارية، مقارباً المعطيات التى تحصل عليها مع معلومات الكتاب القدماء. يتوجب الاعتراف، أن عمل كراوفوت من الناحية المنهجية يتفوق على الأعمال السابقة له.

طرح ريدر، شأنه شأن ميوللر، هدفاً يسعى الى كتابة تاريخ السودان القديم منذ أقدم الفترات حتى انتشار المسيحية (9). اعتمد في كتابه الى حد بعيد على ميوللر وماسبيرو. لكن ريدر يرى أن تأسيس أسرة نبتة كان بمثابة ردة فعل "للوعي القومي للسود"، والذى تطور لديهم نتيجة التفاعل مع الحضارة المصرية (ص. 71). إذا كان سايس قد نفى عن بيَّا وخلفائه صفة الزنجية، فإن ريدر يسميهم بـ "الملوك الزنوج" (die Negerkönige)، ويسمي نبتة "مملكة زنجية بحضارة مصرية". نقل العاصمة الى الجنوب - الى مروي (كبوشية) - في القرن الرابع ق.م. زاد من قوة العناصر الزنجية. وتبنى وجهة النظر السائدة حينها والتى طرحها شيفر، والتى طابقت قمبيزودن المذكور في حوليات الملك السوداني نستاسن بـ قمبيز والذى يكون بذلك وكأنما قد وصل الى السودان. في عهد البطالسة وفي عصر السيادة الرومانية على مصر، فإن السودانيين رغم حروبهم مع جيرانهم الشماليين، ظلوا يتطورون بدون عوائق، "بطريقة مدهشة تمازجت الحضارة المصرية مع البربرية الأفريقية". قيم ريدر الحضارة المرَّوية بوصفها انحطاطاً تدريجياً للحضارة المصرية.

إن أكثر عرض دقيق موجز لتاريخ مملكة مروي، وتناول لاقتصادها، في المقام الأول التجارة، ظهر تقريباً في/أو قبل عمل بدج، وكان ذلك الموجز مضمن في عمل يتناول موضوعاً مختلفاً، كان ذلك هو عمل المؤرخ الروسي خفوستوف "التجارة الشرقية لمصر اليونانية- الرومانية" (10). يتناول المؤلف في الفصل الأول من الكتاب (ص. 4-75) التجارة النيلية في عصر البطالسة والرومان (حتى الدوديكاسخيونس، أي الإقليم الثاني عشر). ويتوقف خفوستوف لدراسة "السلع المصدرة من إثيوبيا النيلية الى مصر وبالعكس"، ويقدم "موجزاً لتاريخ إثيوبيا في العصر اليوناني - الروماني" ويتتبع في الخاتمة "تطور العلاقات التجارية مع إثيوبيا عبر النيل".

كتب خفوستوف :"قبل أن أنتقل الى عرض العلاقات التجارية لمصر اليونانية - الرومانية مع إثيوبيا والتروجليديت، أجد لزاماً علىَّ أن أعطي نبذة موجزة عن تاريخ البلدان الواقعة على النيل الىالجنوب من مصر وبين النيل والبحر الأحمر. مثل هذا الموجز ضروري لسببين: 1) نظراً لغياب موجز متماسك في الأدب المتخصص يتوافق مع أهدافنا (موجز لبسيوس وموجز ميوللر.. قصيران للغاية بالنسبة للعصر اليوناني - الروماني، مع ملاحظة أن الثاني منهما اتبع في الأساس نمطاً ترويجياً شعبياً)؛ 2) نظراً للكم الهائل من المسائل الخلافية، بخاصة فيما يتعلق بالعلاقات المتبادلة بين مصر وإثيوبيا" (ص. 13).

سمحت المعرفة الهائلة بالمصادر المكتوبة (حينها ما كانت المصادر المادية متوفرة) والأدب الخاص بالموضوع لـ خفوستوف بأن يبدع موجزاً رائعاً لتاريخ مملكة مروي، والتى يسمي سكانها بـ الإثيوبيين النيليين؛ والذين شكلوا، في اعتقاده، خليطاً خاصاً من العناصر الاثنية : زنوج، وبليميين، و"مرويين حاميين". أصل مملكة نبتة والأسرة الحاكمة فيها تركه خفوستوف مفتوحاً، أما التنظيم الحكومي فقد حدده، معتمداً على ميوللر، بوصفه نظاماً ثيوقراطياً، لكن خفوستوف يطرح النظام السياسي لمروي في العصر اليوناني - الروماني كنظام قائم بذاته. هنا تحديداً يظهر المؤلف قدرة عالية على الملاحظة والرؤية النقدية. الدولة، في نظره، لم تك واحدة، وتألفت من "عدد من الإمارات الصغيرة، القائمة في حالة تبعية لملك مروي". ويبدو ليّ،وهو ما سأبينه لاحقاً، أن خفوستوف لم يك بعيداً عن جوهر الحقيقة. كذلك يشدد المؤلف على وجود بقايا "للتركيبة الأمومية"، لكنه يتوصل الى استنتاج غير صحيح حول "غلبة عدد الملكات الكنداكة على الملوك". بصورة مقتضبة يحدد خفوستوف شكل الاقتصاد السائد. وبما أنه يعتقد بأن السودان القديم كان متخلفاً مقارنة بمصر، فإنه فسر إمكانية انتصار بيَّا بضعف بلاد الأهرام. يلفت انتباهه الدعم الذى وفره السودانيون للثورات في مصر العليا ضد البطالسة. يدرس خفوستوف بتفصيل العلاقات السودانية الرومانية. ويشير الى أن مروي انهارت في الغالب بفعل الضغط القوي لـ البليميين (لم تك مسلة ملك أكسوم عيزانا التى يسرد فيها حربه ضد مروي معروفة حينها) (). طبيعي، أن تاريخ العلاقات التجارية والذى تداخل مع العلاقات السياسية نال القدح المُعلى. تقود الاستنتاجات الى : في العصر الهلنستي كان الطريق التجاري الذى وصلت عبره السلع الترفية من أواسط أفريقيا هو النيل، وكانت مروي هى المورد الأساسي وهو ما أفضى الى ازدهار المملكة. لكنه مع تأسيس الإمبراطورية الرومانية بدء في تحويل الطرق التجارية الى البحر الأحمر مما أدى الى تقليل حجم التعامل التجاري مع مروي، الشئ الذى أفضى بالاضافة الى هجمات القبائل البربرية (المقصود البدو البليميين- أسامة) الى اضعاف رفاهية المملكة.

هكذا نجد أنه في كتاب خفوستوف وجد تاريخ مملكة مروي معالجة أكثر عمقاً مقارنة بالأعمال السابقة. لقد كان هو السباق الى طرح إشكالية تنظيم الدولة، واقتصادها، بخاصة التجارة. ولم يستقطب أي من السابقين له مثل هذا الكم الهائل من المصادر الذى تميز به كتابه.

ويشير خفوستوف الى أن "الزراعة والرعي كانا المصدران الأساسيان للثروة، لكن طرق القوافل الى البحر الأحمر، ومصر، ودواخل أفريقيا قامت هى الأخرى بدور في النماء الاقتصادي للبلاد، وكذلك أيضاً مناجم المعادن". كما وأن خفوستوف يلاحظ وجود بقايا "بدائية" بخاصة التركيب الأمومي.

في ذات المستوى يجوز عد كتاب مؤرخ روسي آخر هو توراييف "تاريخ الشرق القديم" (11) رغم أن هذا الأخير اتبع هدفاً مغايراً. كان توراييف هو أول من أدخل فصلين عن تاريخ نبتة ومروي في كتاب دراسي جامعي يعالج تاريخ حضارات الشرق القديم. والمؤسف أن هذا المبدأ الذى استنه توراييف يكاد يكون محصوراً اليوم في ذلك الكتاب سواء بالنسبة لروسيا أو أوروبا الغربية وأمريكا، أو بالنسبة للعالم العربي. ويكتب توراييف "إننا نعيش زمناً يتزايد فيه الاهتمام بماضي النوبة سواء في العصر المسيحي أو بخاصة في عصرها المتزامن مع مصر البطلمية - الرومانية".

يتابع توراييف تاريخ السودان القديم على امتداد اثني عشر قرناً في فصلين من كتابه الجامعي يتناول في الأول تاريخ مملكة نبتة، وفي الثاني تاريخ مملكة مروي (ص. 175-183 و 241-245). يشدد المؤلف منذ البداية على أن سكان السودان القديم كانوا مختلفين من حيث تركيبهم الاثني عن سكان مصر، كانوا "أشباه زنوج". خلافاً لكل السابقين له يعتقد توراييف "اثنوغرافياً توقفت الأسرة حتى عن أن تكون مصرية ... فقط القليل من الموظفين، والفنانين، كما أن بعض قليل من الكهنة في معبد نبتة كانوا من المصريين أو من السودانيين الذين تلقوا تعليماً مصرياً.."(ص. 175). السبب الكامن وراء الشخصية القتالية للسودانيين النوبيين هو ضيق وادي النيل، أي شح الأراضي الخصبة. بعد أن طردوا من مصر عن طريق الآشوريين، اضطروا للتوسع جنوباً. نتج عن ذلك "التوحش" لتظهر "دولة ذوي البشرة السوداء، يحكمها أشباه زنوج، مؤلفة من الزنوج التابعين والحاميين شبه المتوحشين، ومتشبثة ببقايا المدنية المصرية - ظاهرة غريبة للغاية في التاريخ". هنا يبدو واضحاً أن توراييف لم يتخط الرؤية العنصرية المميزة لسابقيه من العلماء الأوربيين.

خلافاً لمعظم العلماء المعاصرين له يتشكك توراييف في إمكانية مطابقة قمبيز بـ قمبيزودن المذكور في حوليات نستاسن. تناقض واضح يتجلى في إدعاء خفوستوف بـ "توحش" مروي من جانب وتقييمه العالي للفن من جانب ثان. يصف القصر في المصورات الصفراء بأنه أجمل المباني وأكثرها أصالة في هذا العالم الحضاري الأقصى جنوباً، وأن مشاهدة "صروح المعمار المرَّوي وأعمال النحت تقود الى الاستنتاج بظروف ملائمة للفنانين مصريين كانوا أم نوبيين" (ص. 243). وهكذا يبدو عدم اتساق توراييف في وصفه لحضارة مروي، شأنه شأن ميوللر وريدر.

هوامش

 للاطلاع على نص المسلة يمكن الرجوع الى موقع أركامانى

http://www.arkamani.org/vol_1/archaeology_vol_1/blacknuba.htm

المراجع

(1) Säve-Söderbergh T. 1941, Agypten und Nubien: Ein Beitrag zur Geschichte altdgyptischer Aussenpolitik. Lund: Ohlsson.

(2) Zeissl H. von 1944, Äthiopien und Assyrer in Ägypten. Beiträge zur Geschichte der ägyptischen “Spätzeit”, Gückstadt un Hamburg (<Ägyptologische Forschungen>, Hft 14).

(3) Monneret de Villard U. 1938, Storia della Nubia Cristiana, Roma (<Orientalia Christiana Analecta>, 118).

(4) Monneret de Villard U. 1941, La Nubia Romanam Roma (Publicazioni dell’Instituto per l’Oriente).

(5) Lesquier J. 1918, L’armée romaine d’Egypte d’Auguste à Dioclétien, Le Caire (MIFAO,t. 41).

(6) Trigger B.G. 1965, History and Settlement in Lower Nubia, Yale : Yale University Press.

(7) Garstang J. 1911, Meroë, the City of Ethiopians, Oxford, pp. 1-7.

(8) Crowfoot J.W. 1911, The Island of Meroe, London.

(9) Roeder G. 1912, Die Geschichte Nubiens und des Sudans, Klio, Bd 12.

(10) Хвостов М.М. 1924, История древнего Востока, Москова.

(11) Тураев Б.А., История древнего Востока тт.1-2, М-Л 1935.

© جميع حقوق النشر محفوظة للجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية
TOUS DROITS RSERVS © 2005
Copyrights © 2005Sudan for all. All rights reserved

Web designers/ developers:mardisco