header

 

الأسس الفكرية لتحقيق السودان الجديد، "كوش"، وصناعة الاستقلال*

 

محمد جلال أحمد هاشم

 

 السودان القديم والاستقلال*

 

 

مقدمة:

في عام 1956م خرج المستعمران المصري والبريطاني من السودان الأمر الذي عني فنّيّاً نيل السودان لاستقلاله، بمعنى أن يتصدّى أبناء السودان لإدارة شئون بلادهم بما يحقق الرفاهية والنماء لهم ولأجيالهم القادمة، ثم ليلعبوا دورهم في تقدّم البشرية جمعاء، باعتبارهم أمّةً مستقلّةً تقف على قدميها. وقد كان من المفترض أن يتمّ تداول السلطة عبر الديموقراطية فيما نُظر إليها على أنها ليبرالية. كما كان هذا يعني أن تشرع القوى السياسية والاجتماعية في تأصيل الديموقراطية كفكرة وسلوك داخل مؤسساتها وداخل بنية الثقافة الاجتماعية للمجتمع ككل، ذلك لأن الديموقراطية في تكنيكاتها، وليس في جوهرها، كانت شيئاً جديداً للشعب السوداني. ثمّ كان من المفترض للقوى السياسية التي تقدّمت لقيادة دفّة الحكم أن تُظهر أن لديها فهماً عميقاً لتركيبة الشعب السوداني، وهي تركيبة لا تخطئها العين قوامها التعدّد الثقافي والإثني والديني؛ ليس ذلك فحسب، بل أن تُثبت أنّ لديها برامج سياسية وثقافية تستند على طبيعة هذا الواقع، وذلك بغية النهوض به.

هذا ما كان ينبغي أن يكون! فإلى ماذا يا تُرى انتهى بنا الحال؟

بخصوص تحقيق جوهر الاستقلال والسير قُدماً في هذا السبيل، وضح أن القوى السياسية المتنفّذة في الأمر أعجز من ذلك بصورة لم يكن يتصوّرها أحد. ففضلاً عن أنها لم تكن تملك أي رؤية لتحقيق جوهر الاستقلال، بدا واضحاً أنها هي نفسها من حيث تركيبتها التي تراوحت ما بين العقائدية والطائفية تمثّل عقبةً كأداء في سبيل تقدّم الشعب السوداني وتحقيق جوهر الاستقلال. كما أظهرت الأحزاب استعداداً فطرياً في التخلّي عن الديوقراطية، التي ما إن يمرّ عليها شهران حتّى تكون قد تسممت تماماً بممارسات الأحزاب. فكان أن دخل السودان في متوالية حكم نيابي يعقبه انقلاب عسكري، فحكم نيابي يعقبه انقلاب عسكري. إن الإنقلابات العسكرية التي ظلت تعوق مسيرة الديمقراطية هي في الواقع نوع من أنواع الممارسات الحزبية تستثمرها بعض الأحزاب للوصول إلى السلطة. إنها بذلك تسعى لفرض برامجها بالقوة حين تضيق بالممارسة الديمقراطية التي ليست من مبادئها. إن كل الإنقلابات العسكرية كانت وراءها أحزاب بعينها.

كما أظهرت الأحزاب بيمينها ويسارها (الكلاسيكيين) أنها جاهلة تماماً بطبيعة وتركيبة الشعب السوداني من حيث التعدّدية الثقافية والإثنية والدينية. لذا ما كان منها إلاّ أن تبنّت مشروع الأحادية الثقافية لإدارة شئون السودان، أي أن تُدار التّعدّديّة من خلال الأحادية، فتصوّر!  وكان أوّل ما سعت إليه الدولة السودانية الوليدة بعد الاستقلال مباشرةً إدارة ظهرها لأفريقيا التي استبشرت خيراً باستقلال السودان باعتباره أوّل بلد أفريقي جنوب الصحراء (وهذا تعبير مرادف لكلمة "أفريقيا السوداء") ينال استقلاله. في هذا أقبلت الدولة السودانية (الأفريقية السوداء) إلى المجموعة العربية تستجدي صكوك العروبة حتّى تُقبل كعضو بالجامعة العربية. وقد مُنحت هذا الشرف ولكن ليس قبل أن يُرفض طلبها من أكثر من عضو، إذ لم يروا في السودان شيئاً من عروبتهم. وفي الحقّ ما كان ذلك الاعتراف ليحدث لولا إستراتيجية استتباع السودان للمنظومة العربية ثم تقدير العرب لأطماع مصر بالسودان. لذا ما كان من الغريب أيضاً أن يعبّر أحد قادة حركات التحرير الأفريقية عن خيبة أمله بقوله: "بدلاً من أن يكونوا أفضل الأفارقة اختار السودانيون وبمحض إرادتهم أن يكونوا أسوأ العرب". ومع اتّفاقنا معه في مجمل ما قاله، نشير إلى أن ذلك لم يكن بمحض اختيار الشعب السوداني؛ فتلك كانت ضلالة المركز والنخب الحاكمة تجايرها المجموعات المستعربة بوسط السودان وشماله، فضلاً عمّن والاهم من أبناء المجموعات المهمّشة الأخرى. ذلك لم يكن اختياراً ولا ينبغي له أن يكون؛ إذ كيف يختار العبدُ سيّدَه؟ وكيف لمسلوب الهُويّة أن يعرفَ أصْلَه؟

لذا لا يجوز أن يبدي المرء تعجّبه من تبنّي الدولة للإسلاموعروبية كأيديولوجيا رسمية وكمشروع للوحدة الوطنية بصرف النظر عمّا إذا كان ذلك سيدفع السودان نحو تحقيق الاستقلال أم سيدفعه نحو الاتّجاه المعاكس. ولتمكين هذه المركزية الأيديولوجية سعت الدولة ممثّلة في القوى السياسية المتنفّذة إلى تحويلها لمركزية جغرافية وثقافية تجييراً للمجموعات المنتمية للثقافة العربية بوسط السودان ومن شايعها من أبناء المجموعات المنتمية للثقافات الأفريقية. في ذلك نظرت مؤسسة الدولة إلى المجموعات الأفريقية بوصفها تشكّل العقبة الأولى في مواجهة مشروعها، ذلك لأن المركز قد اتّبع حيلة التوسل الأيديولوجي بأجندة الثقافة العربية الإسلامية لتكريس التهميش. وهكذا تمّ تحويل آليات التّمركز والتهميش إلى سياسات مسئولة عن تطبيقها وحراستها مؤسسات الدولة.

كان من الطبيعي لمشروع خاسر كهذا أن يفضي بالسودان إلى التدهور المستمر. ولذا كان كل نظام حكم أسوأ من سابقه بصرف النظر عمّا إذا كان نيابياً أم إنقلابياً. لقد فشلت الأحزاب السياسية فشلاً ذريعاً في إيجاد حل لمشكلات الواقع على المستوى النظري وعلى المستوى العملي. فالأحزاب الكلاسيكية بشقيها، اليمينية واليسارية، كانت تتعامل مع الواقع الثقافي الإثني في السودان بغية السيطرة عليه، بدلاً من أن تستند عليه في تحليلها له. فقد وجدت الأحزاب نفسها بعيدة عن الواقع السوداني، إما لأنها ظلت تكرس جل محاولاتها لتطبيق مذهبياتها عليه، أو لكونها أحزاباً طائفيةً أو برامجية لم تكلف نفسها عناء التنظير ودراسة الواقع، بل ظلت تعيش فقط على اعتلاف الجاهز. وهكذا نجم عن كل هذا تكريس سياسات التمرّكز والتهميش الأمر الذي أدّى إلى اندلاع الحرب الأهلية التي تواترت حسب درجة التهميش العرقي والثقافي ومن ثمّ الاقتصادي والتنموي.

لكل هذا يمكن القول وباطمئنان كبير إن السودان اليوم كأبعد ما يكون عن الاستقلال الحقيقي. فنحن نعيش في كنف دولة فاقدة للسيادة وفاقدة للهويّة وفاقدة لاحترام أبنائها الذين حكمت عليهم الضرورة أن يحاربوا هذه الدولة المارقة. لكل هذا وللخروج من هذه الحلقة الجهنمية جاءت الدعوة إلى السودان الجديد (كوش) باعتباره السبيل الوحيد إلى تحقيق الاستقلال الحقيقي.

 

معالم السودان الجديد (كوش)

التطور الفكري والحركي لمفهوم السودان الجديد:

إن أكثر ما اتصف به الوعي العروبي في السودان هو هذه النظرة الأحادية، حيث يتمّ تغييب الهويات غير العربية فيه تغييباً يستفزّ الأغبياء قبل العقلاء. ويستطيع المرء أن يقول باطمئنانٍ كبير إن الوعي العروبي منذ تأسيس السلطنة الزرقاء (أي السوداء، لاحظ!) قد أسقط من اعتباره أن السودان ما هو في الواقع إلاّ دولة أفريقية سوداء الأمر الذي ينبغي أن يحتلّ فيه غير العرب من السود مكانة الصدارة. المفارقة تكمن في أن أهل السودان بعربهم وأفارقتهم جميعاً سود في الواقع. إذن إسقاط هذه الأفرقة السوداء من الاعتبار ما هي إلاّ عملية استلاب واغتراب، وهذا أسّ البلاء الذي لازم عملية البناء الوطني وقعد بنا كل هذه القرون فأصبحنا كمن يصعد إلى أسفل.

حتّى في القرن العشرين حيث كان ينبغي ـ افتراضاً ـ أن يشهد حركةً تنويرية، انكفأ المثقفون السودانيون من حملة الثقافة العربية داخل خباء عروبتهم دانية السقف. فمشروع هذه الثقافة فيما بدر منها منذ بدايات القرن العشرين وحتّى الآن يشير بوضوح إلى أنه قائم على إدارة معركة هويّته الدونكيشوتية المتمثّلة في إثبات عروبة السودان مقابل إنكار أو تشكّك العرب العاربة لذلك. فمثلاً غاب الوعي بأفريقية السودان في فكر حركة الفجر أوائل عقود القرن العشرين. وحتّى عندما اتّجه بعض المثقفين منهم إلى أفريقيا السوداء وبوعي تام (مثل محمد المهدي المجذوب)، استبطنوا ذات النظرة الانحطاطية التي عُرف بها العرب والغربيون عموماً فيا يخصّ أفريقيا (مفهوم البدائي النبيل). فيما بعد عندما ظهرت مدرسة الغابة والصحراء وهي التي سعت وبوعي تام أيضاً إلى رد الاعتبار إلى المكوّن الأفريقي في هويّة السودان العربية، بدا جليّاً أنها في خاتمة أمرها إنما جاءت لإنقاذ هذه الهويّة من مأذق محاصرتها أفريقياً، فكان أن دشّنت منظور "بوتقة الانصهار" متّخذةً من إنسان سنار نموذجاً لإعادة إنتاج باقي أمم السودان الذين لا زالوا على أفريقيتهم داخل الثقافة العربية كما حدث لإنسان سنّار، تلك الدولة التي أسسها قومٌ سود لا يعرفون العربية، فكان أن أسمَوا دولتهم "السلطنة الزرقاء"، أي السوداء، فانتهى أمرُهم بِددا. فمن نال منهم شرف إعادة الإنتاج هذه فَقَد أي صلة بهويّته الأفريقية الأصلية، أمّا من استعصت عليه هذه العملية (الفونج والأنقسنا) فقد تمّ تهميشه ليقبع في أدنى دركٍ للمجموعات المهمّشة حتّى لم يجد بدّاً في النهاية من حمل السلاح.

إن روّاد الحركة التي دفعت في سبيل بلورة مشورع السودان الجديد، ومن ثمّ النضال من أجل إثبات أن هويّته الحقّة هي أفريقيته السوداء، وأن تكلّمه بالعربية لا يعدو كونه دولةً أرابفونية (Arabphone)، كانوا جميعهم من باب البداهة أفارقةً سوداً، خاصّةً ممّن تلبّستهم أبشع صور التحامل العرقي والثقافي جرّاء عنجهيةٍ عروبيةٍ في غير موقعها، أي منهزمة ذاتيّاً، فضلاً عن إلباسهم ثوب الرقّ مجّاناً لا لشيئ إلاّ لسواد سحناتهم في بلدٍ اسمه حرفياً "بلد السود". وفي الحقّ فقد بدأت هذه الحركة بدايات القرن العشرين بالمناضل الزعيم علي عبد اللطيف الذي كان أول من استخدم مصطلح "الأمّة السودنية" بوصفه يعني جميع الإثنيات التي تعيش بداخله، بخلاف المفهوم الإسلاموعروبي الذي نادت به الكيانات الطائفية من أنصار وختمية وخلافها والمتمثّل في سودان يسيطر عليه أبناء القبائل السامية أو الشريفة، أي القبائل المستعربة والمتأسلمة. إن علي عبد اللطيف هو صانع الاستقلال الحقيقي، فهو أول من أشار إلى أن السودانيين يمثّلون أمّةً قائمة بذاتها الأمر الذي يفترض أن ينالوا استقلالهم، فكان أن تلقّفت الحركة الاستقلالية هذا الفهم وجعلته محور أيديولوجيتها متّخذةً من اسم "الأمة" عنواناً لها؛ ثم هو الذي صاغ تكتيك ضرب شريكي الاستعمار (مصر وبريطانيا)  بعضهما ببعض، وذلك عبر تبنّي جمعية اللواء الأبيض لشعار وحدة وادي النيل كتكتيك دون أن يسمح لأي مصري بالانضواء فيها، وهو ما تلقّفته الحركة الاتحادية وطبّقته لاحقاً بحذافيره. قبل كل هذا هو الذي دشّن أول حركة مدنية، سياسية، غير طائفية، بل أكثر من ذلك وعلمانية، الأمر الذي قفل الباب أمام الطائفية لقيادة العمل السياسي الوطني عبر مؤسساتها فكان أن لجأت لأبناء الأسر المنتسبة إليها من الخريجين فتحالفت معهم على أي يؤسس هؤلاء الشباب تنظيمات سياسية علمانية في ظاهرها بينما تتخفّى الطائفية وراءها (وهذا التحايل نفسه كان سبب فشلها لاحقاً).

بعد حركة اللواء الأبيض بحوالي عقدين لعبت "حركة الكتلة السوداء" دوراً مهمّاً على مستوى تطوير المفاهيم والرّؤى النازعة نحو بلورة تيّار السودان الجديد انطلاقاً من وعيها بسودانيتها كونها سوداء اللون، هذا وإن جاءت قدرتها على التغيير محدودة للظروف الموضوعية والذاتية التي أحاطت بها. ثمّ قامت الحرب الأهلية عام 1955م قبيل الاستقلال عندما تبيّن لأهلنا في الجنوب أن سياسات السودنة إنّما تعني في الواقع سياسات إقصاء السود، فتصوّر! وهكذا اندلعت الحرب الأهلية والتي استمرّت 17 عاماً انتهت بتوقيع إتّفاقية أديس أبابا عام 1973م. وبالرغم من تقاصر حركة الأنانيا، قائدة الحرب الأهلية حينها، عن النظر إلى تلك الحرب باعتبارها حرب الهامش ضد المركز (المنظور الدائري)، إذ وقعت فريسة المنظور الأحادي الذي طرحه المركز (المنظور الخطّي، أي شمال ضد جنوب)، إلاّ أنها موضوعياً لعبت دوراً كبيراً في دفع مشروع السودان الجديد للأمام. فبروز مدرسة الغابة والصحراء الفكرية والتي دشنّت منظور الآفروعروبية لا يمكن النظر إليه بمعزل عن الحرب الدائرة حينها. إذ جاء ذلك الاتّجاه الفكري كحل توفيقي بغية إيجاد معادلة للخروج من مأذق الحرب، هذا بالرغم من انحياز تلك المدرسة الواضح للمشروع العروبي باعتبارها تنظيراً فكرياً لمنظور بوتقة الانصهار. كما إن اتّفاقية أديس أبابا كان لها الدور الأعظم في بلورة منظور السودانوية، وهي الاتّجاه الفكري الذي تجاوز انحيازية الآفروعروبية. فمجرّد تواجد المثقفين الجنوبيين وإثبات تميّزهم الفكري السودانوي إزاء رصفائهم ممّن كانوا يعرفون بمصطلح "الشماليين"، وهو تميّز نشأ عليه مثقّفو الجنوب الأفارقة سليقةً وطبعاً جرّاء عدم الاستلاب، الأمر الذي كشف للعديد من المثقفين السودانيين عن خطل الآفروعروبية كما كشف عن الإمكانات الفكرية الهائلة لجدلية التعدّد الثقافي بالسودان. وقد تبلور كل هذا أخريات سبعينات القرن العشرين وأوائل ثمانيناته في طرح منظور "الوحدة في التنوّع" كبديل نموذجي لمنظور "بوتقة الانصهار".

ثم جاء الفتح الفكري والحركي الكبير في عام 1983م ببروز الحركة الشعبية لتحرير السودان وقائدها الفذ الشهيد جون قرنق. وفي الحقّ فإن مشروع السودان الجديد لا يمكن أن يحال الفضل الأعظم في بلورته إلاّ لشخصين هما الشهيدان علي عبد اللطيف (الذي اغتال الاستعمار المصري والبريطاني شخصيته بتواطؤ تام من قبل الحركة الوطنية الصاعدة حينها) وجون قرنق (الذي اغتالته الفئة الباغية واليد الغادرة بليلٍ عاصف). لقد حُظي السودان منذ سقوط ممالكه الكوشية والنوبية القديمة برجالٍ عظام، تحديداً منذ عام 1505م، هم الذين لعبوا الدور الأعظم في صناعة وبلورة السودان في كلا صيغته التقليدية ومشروعه الجديد، وهم: عمارة دونقس وعبدالله جمّاع، اللذان دشّنا مشروع بوتقة الانصهار بقيام دولة الفونج وكان ذلك بمعايير ذلك الزمان فتحاً فكرياً وأيديولوجياً كبيراً؛ ثم محمد أحمد المهدي، الذي دشّن تفاعل الحركات الإسلامية الأصولية مع مشروع البناء الوطني والتباسها بظاهرة الهوس الديني، كاشفاً عن العمق الأيديولوجي في عملية البناء الوطني؛ ثمّ عثمان دقنة الذي انحاز لمشروع البناء الوطني المهدوي ليلعب الدور الأساسي في احتفاظ السودان بالإقليم الشرقي كجزء من أراضيه لاحقاً (ولنلاحظ أنه تُوفّي عام 1926م دون أن يطالب كيان الأنصار المتحدّر طائفياً من الحركة المهدية باطلاق سراحه)، فلولاه لضاع منّا هذا الإقليم العزيز نهائياً وذلك بضمّه إلى إقليم إيالة الحجاز العثمانية ولإقليم شرق أفريقيا دون أي واشجة تربطه بالسودان؛ ثمّ علي دينار الذي حافظ على استقلال إقليمه دارفورعنوةً واقتداراً وذلك عندما سقطت جميع أقاليم السودان تحت نِير الاستعمار المصري البريطاني الأمر الذي حدا بذلك الاستعمار إلى محاولة الالتفاف عليه بتحويله إلى حاكمٍ دُمية، فأبى عن كبرياءٍ وإباء؛ ثمّ شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه، الذي طرح نموذجاً حضارياً متقدّماً في كيفية استصحاب الإسلام في عملية البناء الوطني بوصفه قوّة فكرية تنويرية هائلة تقوم على قيم الحرية والديموقراطية والمثل العليا والأخلاق. فضلاً عن ذلك فقد طرح الأستاذ الشهيد نموذجاً حضارياً لقوّة الفكر السلمية جسّدت روح التسامح الراكزة في تركيبة الشعب السوداني والتي تهدّدتها فظائع الحرب حتّى كادت أن تضيع تحت سنابك الدفاع الشعبي والجنجويد. ولا ينبغي أن نتجاوز مقام العظماء هذا دون أن نشير إلى نبوءته المتعلّقة بسيطرة قوى الهوس على مؤسسة الدولة، وهي نبوءة "التسويفات السبعة". إذ قال عام 1977م لدى ظهور أعراض فيروس الهوس الديني على مؤسسة الدولة: "من الأفضل للشعب السوداني أن يمرّ بتجربة حكم الهوس الديني، إذ إنها (1) سوف تكون تجربة مفيدة للغاية (2) وسوف تكشف لأبناء هذا الشعب مدى زيف شعارات هذه الجماعة (3) وسوف يستولون على السودان سياسيّاً واقتصاديّاً ولو بالوسائل العسكرية ((4) وسوف يذيقون الشعب الأمرّين (5) وسوف يختلفون فيما بينهم (6) وسوف يُدخلون البلاد في فتنةٍ تُحيلُ نهارَها إلى ليل (7) وسوف يُقتلعون من أرض السودان اقتلاعا"، فما أشبه الليلة بالبارحة. إن سلسلة الرجال العظام الذين وُلدوا من صلب الشعب السوداني طويلة يأتي هؤلاء على قمّتهم، بيد أن قمّة القمّة هما الشهيدان علي عبد اللطيف وجون قرنق، آخر سلالة ملوك كوش العظام/ مؤسسو السودان الجديد.

 

السودان الجديد: كوش: الاسم والفكرة:

يذهب بعض المؤرخين والدارسين إلى أن مؤسسة الدولة السودانية بحدودها الحالية قد تأسست بعيد الاستعمار المصري ـ التركي عام 1821م، بينما يذهب البعض الآخر أبعد من ذلك قليلاً، إلى السلطنة الزرقاء (أي السوداء) عام 1505م. ولا شيئ أكثر خطأً من ذلك، إذ إن مؤسسة الدّولة في السّودان تُعتبر من بين الأقدم تاريخيّاً، إذ تعود إلى 7000 سنة قبل الميلاد على أقل تقدير. كما إن حدودها ظلّت هي نفس حدودها اليوم مع فارق بسيط هو أننا كلّما عدنا إلى الوراء، كلّما اتّسعت هذه الحدود شرقاً، وغرباً، شمالاً وجنوباً. وعٌرفت هذه الدولة عبر التاريخ بعدّة أسماء، مثل كرمة، ، إثيوبيا، نوبيا، ثمّ السلطنة الزرقاء فالسّودان حالياً، إلاّ أن أشهرها كان اسم "كُوش" التي ورد في أغلب مصادر التاريخ القديم كالتوراة والعهد القديم وكتابات المؤرخين الأوائل. ما يجدر ذكره عن جميع هذه الأسماء أنها تدور كلها حول معنى "السّواد"، أي أن الاسم ظلّ يُترجم من لغةٍ إلى أخرى عبر العصور إلى يومنا هذا.

الآن في ظل القهر الثقافي والعرقي والاقتصادي الذي ظلّ يمارس لقرون باسم العروبة امتهاناً للهويّة الأفريقية الحقّة للسودان، ولتدشين عصر التنوير المتمثّل في مشروع السودان الجديد بوصفه مشروعاً نهضوياً وتأصيلياً لوجه السودان الحضاري الحق بوصفه أمّة أفريقية سوداء نرى ضرورة أن نتجاوز اسم "السودان" ليحلّ محلّه اسم "السودان الجديد" في صيغته المركّبة. فالاسم في صيغته العربية البسيطة أصبح مُثقلاً بالتحميلات الأيديولوجية العروبية السالبة. في هذا الإطار فإن المقابل الأفريقي في صيغته البسيطة لاسم "السودان الجديد" هو اسم "كوش" والذي نطالب باعتماده رسمياً بوصفه الاسم غير العربي للبلاد.

 

مبادئ السودان الجديد (كوش):

منظومة المبادئ هذه تمثّل المقاصد الإنسانية لمشروع السودان الجديد (كوش) والتي عبر التقيّد بها والتزام خطّها أو مفارقته ستتمّ محاكمة دعاة المشروع فكرياً وتاريخياً. كما تخدم كبوصلة ومؤشّر تُقاس عليه ما تمّ إنجازه من المشروع. وتقوم مبادئ السودان الجديد (كوش) على ثلاثة عناصر هي من حيث أولويتها: الحرية، والعدل، والسلام؛ إذ لا سلام بلا عدل، ولا عدل بلا حريّة. فالحريّة كقيمة ومبدأ هي التي تميّز الإنسان عن الحيوان وهي بالتالي أسّ التكليف، ذلك لأنها جماع العقل والكلام، أي الفكر.

 

الحرية: هذه المنظومة تشمل الفرد والجماعة معاً فيما ما يعرف بمؤسسات المجتمع المدني في واقع ثقافي متعدد. لهذا فإن الحديث عن " الفرد " في هذا السياق يكون في أغلبه نظريا، لأنه في ظل الصراع الثقافي تختزل الجماعة في الفرد، فأزمته هي أزمتها، وأشواقه هي أشواقها. وننظر إلى الفرد على أساس أنه جزء من منظومة اجتماعية، ويتفاعل في فضاء ثقافي من القدرات والطاقات والمواهب والأشواق والاختيارات، وأن له حقوقاً سابغة على المجتمع والدولة، تتمثل في حق الحياة والصحة والأمن، وحق التفكير والتعبير والتعبد، وحق اختيار الدين أو الجماعة التى يريد الإنتماء إليها والتعامل معها. إن للفرد حق التطلع وتنمية قدراته، واختيار العمل الذى يريد بمعيار كفاءته، كما له الحق في امتلاك ثمار جهده وعمله وحرية توجيهه باختياره، كل ذلك بشرط واحد هو أن لا يفرض ذلك على الآخرين وأن لا يكون على حسابهم، مقابل أن لا يفرض فرد آخر أو جماعة إرادتهم عليه.

وفى ذات السياق، وبذات الحقوق، ننظر إلى الجماعة ـ ثقافية أو سياسية أوعرقية أو دينية .. إلخ ـ على أساس أنها منظومة على درجة من الاستقلال عن الجماعات الأخرى، وأنها في داخلها تقوم على العلاقات الاختيارية بالحد الأدنى، وأن لها ولكل الجماعات الأخرى المتعايشة معها حقوقاً سابغة على الدولة، هي (على سبيل المثال) حق التعبير عن تاريخها وتراثها وتطلعها، بشرط أن يكون ذلك بالطرق السلمية، وأن لا تقوم بفرض توجهها على الجماعات الأخرى، في مقابل أن لا تقوم الجماعات الأخرى بفرض تاريخها وتراثها وثقافتها وتطلعها عليها.

بهذا الفهم لا مجال في السودان الجديد (كوش) لاحتمال أي توجّه أو سلوك ينهض على التحامل الثقافي والعرقي ناهيك عن التمييز العرقي.

 

 العدل: وننظر إلى العدل باعتباره قضية كيفية وليست مسألة كمية. إن العدل يقوم على أساس أن الناس متساوون في الحقوق والواجبات، وأنهم يكسبون هذه الحقوق من المواطنة، وأنه في داخل هذه الدولة، فإن الجميع متساوون دونما اعتبار للعرق أو الثقافة أو الدين أو الوضع الاجتماعي. إنه لا يجوز لأي جهة الإخلال بمبدأ التعايش وفق أسس المساواة هذي. إن أهم ما يميز مفهومنا للمساواة ـ انطلاقا من مبادئنا ـ هو أنه لا توجد أقلية فى السودان، وأن أي توجه أو قانون يقوم على، أو يؤدي إلى، وضعية كهذه، ما هو إلا تسويف ومن ثم إنفاذ لمواقف أيديولوجية خاصة بمجموعةٍ ما تتسلح بسلطة الدولة، على مجموعةٍ أخرى مستضعفة لا نصيب لها من مؤسسة الدولة. لذلك فإن أي قانون، أو سياسة، يؤدي إلى وضعية كهذه لا يجوز أن يصدر عن مؤسسة الدولة، بل ينبغي للدولة أن تعمل على إلغاء مثل هذه الأوضاع. لذلك عندما تتبنى الدولة موقفا معيناً لجماعةٍ ما، يكون من حق الجماعات الأخرى الاحتفاظ بحق الفيتو الثقافي والسياسي مناهضةً ومحاربةً لإزالة هذا الوضع الظالم.

ولا يكتمل العدل إلا بإيفاء شرط رد الحقوق ومعاقبة الجناة، في المستويين، التاريخي والظرفي. ففي المستوى التاريخي فإن اغتصاب حقوق الناس واستغلالهم واستعبادهم وبالتالي حيازة أوضاع متفوقة على هذا الأساس، لا يسقط الحقوق المغتصبة ولا يضفي شرعية على ما تم اغتصابه بالتقادم. أما على المستوى الظرفي فإن على القوانين التركيز على رد الحقوق في مستوى تركيزها على معاقبة الجناة. إن عملية التمركز والتهميش قد انطوت على ممارسات غير إنسانية بدءاً بمؤسسة الرقّ مروراً بالاضطهاد الثقافي والعرقي الذي يبلغ حد التمييز العنصري وانتهاءً بالإبادة والتطهير العرقي الذي جرى أمام نظر العالم في الجنوب وجبال النوبة والأنقسنا لعقود من الزمان وبصورة منظّمة ثم أخيراً في دارفور وشرق السودان. هذه الجرائم التي تطعن في إنسانية الإنسان لا ينبغي السكوت عليها وتجاوزها دون محاسبة تعيد الاعتبار الانساني والحقوقي لضحاياها ولجُناتها على حدٍّ سواء.

 

السلام: السلام هو أعلى درجة يمكن للبشرية أن تصلها في ممارستها للسلطة دونما استخدام للقوّة المادية القسرية، وبحيث لا يفضي بها الصراعُ حولها إلى الاقتتال. إن قيمة السلام ليست مرهونة بدينٍ ما، أو عرقٍ ما، أو حزبٍ ما، وإن الإنسان الذى يقصرها على عرقه أو دينه أو حزبه السياسي أو كيانه الثقافي ينفي بذلك هذه القيمة من الأساس. في هذا علينا أن ننظر إلى الإنسان على أنه كائن خيِّر في الأساس، وأن ما يصدر عنه من شرور هو انحراف ناتج عن ظروف تاريخية ونفسية وبيئية واجتماعية.. إلخ، وأن التنشئة السليمة التي تربي الإنسان في بعده الجمعي والفردي معاً على الاستقلال الفكري والمادي دونما اغتراب أو استلاب، تجعل هذا الإنسان قادراً على فهم استقلالية الآخرين. ومن هنا ينبع تفهم العلاقة مع الآخرين على أساس الاحترام، ومن ثم التفاعل معهم مشاركة وانتماءً، والقدرة على الإيثار والتسامى ونكران الذات والعيش بسلام.

 

مفهوم المركز:

المركز ليس إلاّ مجموعة من الصفوة المعاد إنتاجها ثقافياً داخل حقل الثقافة العربية الإسلامية عبر عملية من الأدلجة، الأمر الذي يُفضي في النهاية إلى شيئ لا علاقة له بإنسانية هذه الثقافة نفسها وبذلك ينسفها. بهذا فإن المركز ليس مرتبطاً بعرقٍ ما، أو جهةٍ ما، وما تصويره على أنه كذلك إلا مجرد خدعة. فالمركز مركز صفوي يحتكر السلطة والثروة، وفي سبيل تأمين مصالحه يسخّر الثقافة والعرق والدين والجغرافيا. بهذا تُصبح هناك طريقٌ واضحة للطامحين للسلطة إذا ركبوها وصلوا إليها: الأسلمة والاستعراب، أي تبنّي الأيديولوجيا الإسلاموعروبية. وهكذا تكوّن المركز من صفوة متباينة الأعراق والثقافات، متلاقية في الأهداف المتمثّلة في الثروة والسلطة. هنا لا يهمّ من أي مجموعة ثقافية أو عرقية ترجع أصول المرء، طالما كان مستعدّاً للتضحية بأهله تحت شعار الإسلام أو العروبة، وكلاهما بريئ من ذلك. في الواقع فإن أغلب الرموز القيادية التي قام عليها المركز من أبناء المجموعات الموغلة في التهميش إلى حد التعريض بها ثقافياً وعرقياً. هذا هو المركز الذي يسيطر على مؤسسة الدولة في السودان، مهمّشاً في ذلك جميع السودانيين. دعونا الآن نستعرض بعض الأسماء التي حكمت السودان لنرى صحة هذا الكلام. ونشير بدءاً أننا لن نقبل بالحجج التي تُساق في مثل هذه الحالات، من قبيل الزعم بعدم حصافة التعرّض للنماذج والاستشهاد بها من خلال ذكر الناس بأسمائهم. فهؤلاء شخصيات عامة، منهم من أتى إلى السلطة بالحق ثم انحرف بها فشلاً وقصور رؤيةٍ، ومنهم من انحرف بها إلى الباطل فساداً زاخماً، ومنهم من أتى إليها بالباطل ولا يزال يتمرّغ فيه كما يتمرّغ الخنزير في قاذوراته. لهذا لا مشاحة من ذكرهم بالاسم، إذ إن القول بأنه لا داعي لذكر الأسماء هو نفسه عبارة عن تكتيك للتعمية والتمويه.

ستحصر أمثلتَنا هنا على الذين يرجعون في خلفياتهم الإثنية إلى المجموعات السودانية التي قدمت إلى السودان من وسط وغرب  أفريقيا، وهي ما يُعرف ببلاد السودان. والسبب في هذا الوضع المزري الذي عليه عامة الصرحاء من أبناء هذه القبائل السودانية الكريمة، حيث عملت آليات التشريف والتعيير التي تقوم عليها أيديولوجيا الدولة السودانية على الإزراء بهم ظلماً وبهتاناً. ونبدأ بالخليفة عبدالله التعايشي والذي تتفق المصادر في أنه ينتمي أصلاً إلى بعض القبائل المهاجرة من غرب أفريقيا ثم استقرّ جدُّه بدارفور. وهذا هو الحال أيضاً مع إسماعيل الأزهري، ثم محمد أحمد المحجوب، ثم الترابي، ثم عمر البشير. وهذا الأخير في الواقع من قرية الحُوارة وليس من حوش ود بانّقا؛ وقد كانت الحوارة من أكبر مناطق تجمّع الفولاني منذ عهد الفونج وإلى الحكم الثنائي. وكانت الحُوارة بمنطقة شندي أدنى حوش ود بانّقا على شاطئ النيل حتّى جرفها فيضان 1946م. الآن دعونا ننظر كيف تعرّض هؤلاء إلى عملية إعادة الإنتاج عبر تنزّلات الأبناء والأحفاد بنفس الطريقة التي جعلت أبناء و أحفاد عمارة دُنقس لا يعرفون شيئاً عن لغته الفونجاوية وهو الذي ـ أي عمار دُونقس ـ لم يكن يجيد التحدّث بالعربية. فجميع هؤلاء الناس بحث له عن موقع قدم بين المجموعات القبلية المستعربة بوسط السودان وقطعوا أي وشيجة أو ذاكرة بعيدة تصلهم بأصلهم الأفريقي الذي انبتّوا عنه في رحلة بحثهم عن السلطة والثروة والتي فعلاً نالوها على حساب هويّاتهم الحقّة. هذا بينما نجد أن القبائل السودانية الأصيلة التي انحدروا منها في مجمل حالاتها لا تزال تعاني الأمرّين في سبيل أن تثبت سودانيّتها الأمر الذي جعلها تحتلّ موقع هامش المهمّشين حتّى أصبح مجرّد التّعرّض لواقعها أحد التابوهات الثقافية والفكرية في السودان.

ثم فلننظر إلى حالة خاصة هي أسرة عبد الرحمن المهدي، فأبوه دنقلاوي وأمّه من الفور وكانت سرّية. الآن في تنزّلاتها الأسرية عبر سلسلة الأبناء والأحفاد نلاحظ أنه لم تنبتّ صلتُهم بأهلهم الدناقلة والفور فحسب، بل علينا أن نعقد المقارنة بين وضاعة المكانة الاجتماعية التي عليها أبناء السراري عامةً في المجتمع السوداني وبين العز والجاه والسلطة التي حُظيت بها أسرة عبد الرحمن المهدي بينما هو نفسه ابن لسّريّة. وما هذا في رأينا إلاّ لأنهم ـ أي آل المهدي ـ قد انبتّوا في وعي هويّتهم الأسرية عن تلك الأصول. ونشير هنا إلى أننا في تناولنا الجراحي لهذه المسألة نقوم علانيّةً بتشريح واقع جميعنا يعلمه دون أن يجرؤ أحد على ذكره. وكما قال فرانسيس دينق إن أكثر ما يفرّقنا هو ما لا نجرؤ على ذكره. فقولنا هذا ليس تعييراً لأحد بقدر ما هو رد اعتبار لهامش المهمّشين الذين أوقعهم غياب العدل الاجتماعي والشجاعة الفكرية تحت طائلة التابوهات.

هكذا تكوّن المركز من أمشاج إثنية منبتّة عن أصولها. وهو مركز غير وطني بالمرّة ولا همّ له غير أن يحوز على السلطة والثروة. وهو مركز على استعداد أن يبيع السودان بالقطّاعي وبالجملة طالما كان ذلك سيُؤمّن له احتياز السلطة والثروة. فمثلاً بالنسبة لعمر البشير لا يهمّه لو لم يبقَ من السودان غير قرية ود بانّقا طالما أن ذلك سيؤمّن له السلطة والثروة. لكن لماذا ينظر الكثير من الناس إلى المركز باعتباره المجموعات القبلية التي تسكن بوسط وشمال السودان؟ نعم هذا خطأ، بيد أنه ليس خطأً مطلقاً. فالمركز بوصفه الصفوة المتناسلة عن تلك الأمشاج الإثنية الهاربة من هويّاتها ما كان يمكن له أن يستأثر بالسلطة والثروة لو لم يتّبع حيلة اتّخاذ الثقافة العربية الإسلامية بوسط السودان وغيره كظهير أيديولوجي. فهذه الصفوة تمارس التمركز والتهميش عبر أجندة الثقافة العربية الإسلامية، ليس تحييداً لحملة هذه الثقافة فحسب بل تجييراً لهم حتّى يتمترسوا معها في خندقها. لكن ما الذي نالته المجموعات المستعربة بوسط السودان بتواطئهم هذا مع المركز وهم لا يزالون يعانون من التهميش التنموي كباقي مناطق السودان؟ نعم نالوا وضعاً متميّزاً للمواضعة الجغرافية بالنسبة للخدمات التي أتاحها المركز، وهو تميّز لا بفهم إلاّ بالمقارنة مع حرمان باقي مناطق الهامش. لكن أهمّ من ذلك التميّز الأيديولوجي، فقد نالوا تكريماً زائفاً تمثّل في إيهامهم بأنهم بوصفهم العرب الأُصلاء بالسودان [كذا] عرقٌ سامٍ بين أجناسٍ منحطّة في أفضل الأحوال وفي أسوئها أجناس من العبيد نالوا "شرف" العبودية بالمجّان دون أن يشتريهم أو يبيعهم أحد. وعلم الله قد انطلت الخدعة على غالبية العامة والخاصّة من أبناء المجموعات المستعربة بوسط السودان. ولكنهم في خاتمة أمرهم سيكتشفون أن المركز جازاهم بأسوأ من جزاء سنّمار، كما سيتبيّن أدناه.

 

 مفهوم الهامش:

ينظر الكثير من المثقفين إلى الهامش باعتباره المنطقة الجغرافية الواقعة في أقصى الغرب والشرق والجنوب بخلاف وسط السودان وشماله الوسيط، كما يربطون فهمهم هذا بالمجموعات المستعربة التي تعيش بهذه المنطقة ثمّ بالنوبيين في أقصى الشمال. ولكنّا نرى أن هذا الفهم يتقاصر عن الإحاطة بظاهرة التمركز والتهميش وارتباطها بعملية تداول السلطة. أكثر من ذلك فإن هؤلاء الناس يقعون في شركٍ نصبه لهم المركز الذي يريد أن يصوّر الأمور وكأنها تجري هذا المجرى. ذلك لأن ابتناء رؤية كهذه من شأنه أن يجيّر أبناء هذه المناطق ـ والتي هي أيضاً مهمّشة ـ لمصلحة المركز وهو تجيير قد حدث فعلاً واستمرّ ولا يزال يستمرّ. إن هذا لا ينفي بأي حال من الأحوال الامتيازات المادّية النسبية ثم الأيديولوجية الوهمية التي أضفاها المركز على أبناء هذه المناطق من حيث إيهامهم بأنهم عرق متفوّق ذو ثقافة متميّزة، فضلاً عن إيهامهم بأنهم هم سادة البلاد الأصليين مقابل مجموعات ثقافية أخري منها ما هو وافد ومنها ما هو أقلّ شأناً لا يعبأ الله بهم ـ حسب زعم المركز.

لقد توالى قولنا في الكثير من البحوث بأن الهامش ليس في جهة جغرافية بعينها (شمالاً كانت أو جنوباً، شرقاً أو غرباً أو وسطاً) دون غيرها، بل هو في كل مكان، ومن يغالط في هذا عليه أن يخرج مما يسمّى بالمناطق الحضرية عدة كيلومترات فقط ليرى التهميش بأم عينه. كما لا يصبح الهامش وقفاً على مجموعات إثنية بعينها دون أخرى. وهذا هو مناط القول بأن الهامش ليس جغرافياً كما ليس عرقياً، بل هو سلطوي. إلاّ أن التهميش يجري على نوعين: بسيط ومركّب. التهميش البسيط ذلك الذي ينحصر في الحرمان التنموي والاقتصادي. في هذا يتساوى جميع السودانيين بمختلف ثقافاتهم وأقاليمهم باستثناء صفوةٍ منهم يشكلون المركز وينتمون إليه. أمّا التهميش المركّب، فذلك الذي يجمع بين الحرمان التنموي والحرمان الثقافي ممثّلاً في توجّهات الدولة الأيديولوجية لإعلاء ثقافة بعينها على حساب ثقافات أخرى بما يندرج تبعاً لذلك من حرمان تنموي ومادّي. إن النظرة الأولية لواقعنا المعاش تكشف بوضوح انحياز الدولة للثقافة العربية إزراءً وتحقيراً للثقافات غير العربية بالسودان، أي الثقافات الأفريقية. في هذا كان التهميش الثقافي مدخلاً للتهميش التنموي، إذ جعلت مؤسسة الدولة الاستعراب مقابلاً للأفرقة، ومن ثمّ قامت بإعلاء الهوية العربية وإزراء الهوية الأفريقية. وقد كان من أثر هذه التكتيكات الأيديولوجية أن وجدت المجموعات الأفريقية (التي تعاني من التهميش المزدوج تنموياً وثقافياً) نفسها في الدرك الأسفل عرقياً، وثقافياً، واجتماعياً وسياسياً، الأمر الذي يستوجب منها عملاً موحداً، ولو تفاوتت درجات تهميشهم وتعرّضهم للاضطهاد.

لكننا نرتكب جريرة التسطيح الفكري إذا ما قفزنا من هذه المقدّمة (انحياز الدولة الظاهر للثقافة العربية على حساب الثقافات الأفريقية) إلى استنتاج أن الدولة بذلك تنحاز لحملة الثقافة العربية. إن حلقة التهميش الثقافي والتنموي الموجّهة ضد الثقافات الأفريقية إذا ما اكتملت، ستكشف عن أن الأمر قد انتهى بحملة الثقافة العربية إلى نفس المصير، ألا وهو التهميش المزدوج؛ ذلك لأن آليات التمركز والتهميش في مآلاتها النهائية تعمل على تهميش الشعب السوداني في مجمله ـ عرباً وأفارقة، عرقاً وثقافةً ـ بالنسبة إلى المركز العربي الكبير (العرب العاربة). إن نظرة متفحصّة للفضائيات والبرامج التلفزيونية التي يشاهدها عموم السودانيين وبالأخصّ من ينتمي للثقافة العربية تكشف عمّا نقصده بالتهميش المزدوج الذي يحيق بالمجموعات ذات الثقافة العربية. إن من يُعدّ ويخطط ويُخرج برامج محطّة تلفزيونية بعينها إنما يفعل ذلك بالنظر إلى الجمهور المستهدف استقراءً لما يريد. إن الذين يُعدّون برامج هذه الفضائيات لا يدور في مؤخّرة ذهنهم شيئ اسمه "الشعب السوداني". فمثلاً في الماضي القريب كان مما يميّز السودانيين بالمقارنة إلى العرب نظامهم التعليمي العالي ضمن العديد من الامتيازات الأخرى. الآن ها نحن ننتظر من الدول العربية أن تتكرّم بمدّنا بالكتب المترجمة إلى العربية فضلاً عن التكرّم بابتعاث الأساتذة للتدريس في جامعاتنا. لكل هذا يأتي قولنا بأن التهميش المزدوج (ثقافي وتنموي) يحيق بكل فئات الشعب السوداني، من استعرب منها ومن تأفرق، وما ابتدار المركز باستهداف المجموعات الأفريقية إلاّ مجرّد تكتيك باعتبار ذلك مرحلة أولى ستعقبها حتماً المرحلة الثانية ألا وهي استهداف المجموعات العربية بالسودان بتهميشها هي نفسها وذلك بجعلهم عرباً من الدرجة الثانية إن لم تكن الثالثة. إن هذا يقتضي من القطاعات الذكيّة لهذه المجموعات أن تستشفّ حُجُبَ المستقبل القريب فتعمل علي تلافي الكارثة. وتبدأ مثل هذه الخطوة الذكية بالانخراط في صفوف القوى المهمّشة التي تناضل لتفكيك ماكينة التمركز والتهميش ليس من منطلق النضال بالوكالة تعاطفاً وإنسانيةً مع المجموعات الأفريقية في مآسيها ومحنها، بل من منطلق النضال بالأصالة إنقاذاً لذاتها ضمن نضال قوى السودان الجديد لإنقاذ الإنسان السوداني من الذّل والهوان والتبعية ومن ثمّ تحقيق دولة السودان الجديد (كوش) وصنع الاستقلال.

للحيلولة دون أن يتبلور وعي وطني متقدّم كهذا، اتّبعت الصفوة المهيمنة على المركز العديد من الحيل تأميناً لتحكّمها على مؤسسة الدولة وعلى رقاب العباد. من ذلك ما أسمّيه بمرحلة الاستقطاب الأولى حيث تتنافر الهوية العروبية ضد الهوية الأفريقية. في هذه المرحلة يتمّ تقسيم السودانيين إلى مجموعات خطية متقابلة: الأفارقة السود العبيد مقابل العرب الشرفاء؛ ثم العرب نفسهم يتم تقسيمهم إلى عدة مجموعات متقابلة، مثل الأشراف وأبناء القبائل المستعربة مقابل الأعراب البدو. هذه التقسيمات الخطية القائمة على العرق تقابلها تقسيمات أخرى قائمة على الجغرافيا بتحميلات عرقية لا تخفى: الشمال (عربي، مسلم) ضد الجنوب (أفريقي، مسيحي)، أولاد الغرب (الغرّابة) ضد أولاد البحر (أولاد البلد، أي أولاد العرب). ومع هذا لم يفز الدينكا والنوير والشلك، مع أنهم قبائل نيلية، بشرف الانتماء لنادي "أولاد البحر" السامي زيفاً وبهتاناً. روّج المركز الذي سيطر على مؤسسة الدولة لهذه التقسيمات حتى أصبحت بمثابة مفاهيم نمطية فكان أن انطلت على الكثيرين ومن ثمّ فشت في ثقافة وسط السودان النيلي وشماله مستصحبةً معها كمّّاً هائلاً من التسطيح الفكري والعنجهية البليدة. إن الغرض من هذه التقسيمات هو تحييد أكبر قدر من المجموعات المهمّشة، ريثما يتمكن المركز من احتواء مجموعات بعينها تشكّل تهديداً مباشراً، مثل الجنوب الذي لا يتغالط إثنان في أفريقيته الطاغية من عدم استعرابٍ ومزاحمةٍ نصرانية فيه للإسلام. إن التقسيم الأيديولوجي الحقيقي الذي يعكس هذا الوضع هو تقسيم دائري: مركز يحيط به هامش، وليس التقسيم الخطي. وهذا ما أسمّيه بمرحلة الاستقطاب الثانية حيث يتجلّى أن ميكانيزمات التمركز والتهميش تستهدف حتّى حملة الهوية العروبية في السودان وذلك بتحويلهم إلى هامش للمركز العربي العارب. إن كسر طوق هذه التكتيكات هو مسئولية جميع القوى المهمّشة وذلك بترفيع الوعي بمسألة التهميش وتعقيداته، إلاّ أن مناط التغيير فيما يخصّ المجموعات العربية بالسودان وانخراطها في هذا النضال النبيل يقع على عاتقها وحدها. إلى أن يتمّ هذا لا مناص من التعويل على تحالف المجموعات المهمّشة من حقل الثقافة السودانوأفريقية فيما سيبدو ظاهرياً أنه استقطاب أيديولوجي ضد المجموعات السودانوعروبية، ولكن إلى حين.

 

مفهوم التواطؤ الأيديولوجي:

في هذا تفتّقت طبيعة الصراع عن مجموعة من الحيل الأيديولوجية الأخرى والتي تصبّ جميعها في مجرى التواطؤ مع المركز، وهو ما نطلق عليه اسم "التواطؤ الأيديولوجي"، وهو  أنماط من السلوك يقوم بها بعض الذين ينتمون اجتماعياً إلى حقل الثقافة السودانوعروبية (أو السودانوأفريقية كما سيأتي أدناه) والذين مكنتهم ظروفهم من امتلاك الوعي النظري بإشكاليات الصراع وضرورة التغيير، ولكنهم عملياً مكبلون في مواجهة الواقع الذي تسوده هيمنة الثقافة العربية الإسلامية والتوجهات التي تحميها الأيديولوجيا الرسمية التي تتبناها أحزاب اليمين والجماعات الدينية بالإضافة لشرائح التوجّه القومي العربي، فضلاً عن الكثيرين من حملة الفكر الماركسي. إن أهم تجليات التواطؤ هو التراخي في ممارسة النضال السياسي بتجنب مواجهة واقع الهيمنة الثقافية وما يتلازم معها من تمركز وتهميش يتنزل إلى درك التمييز العنصري.

ثم هناك التواطؤ التكنوقراطي الذي تمثله مجموعة من المتعلمين والتكنوقراط و"المثقفين" الذين يدّعون الحياد السياسي، من خلال نفي انتمائهم لتنظيمات وأحزاب سياسية بعينها، ويروجون لفكرة الترفع عن العمل السياسي، مقابل التزام التخصصية، وعدم الاهتمام بالأسس التي يقوم عليها الواقع والتوجهات التي تحكمه. ولأنه تاريخياً كان أغلب المتعلمين، وخاصة الذين يحتلون المواقع المتقدمة في مؤسسات الدولة، ينتمون إلى حقل الثقافة العربية الإسلامية ثم شمال ووسط السودان بخاصّةٍ، وهو العمق الذي شكل الإطار المرجعي للأيديولوجيا الرسمية، فإن هذا الموقف يكشف عن أبرز أشكال التواطؤ الأيديولوجي مع توجهات الهيمنة والقهر الثقافي وما تفرزه في الواقع من أضرار بالإنسان السوداني. فهم في الواقع يخدمون أيديولوجيا الهيمنة والقهر ويوفرون لها جهازاً احتياطياً لتنفيذ مشروعاتها، ويستفيدوا في المقابل بالحصول على الامتيازات الفردية. لهذا فإن حيادهم في الواقع هو حياد ظاهري في داخله التزام أيديولوجي مبطن. وهذا ينطبق أيضاً على شريحة كبيرة من الأكاديميين الذين تبوئوا المواقع العليا في المؤسسات التعليمية وظلوا يوجهون الدراسات والبحوث ومناهج التعليم لتصب في مصلحة الثقافة العربية الإسلامية، ومن ثم تجاهل حقائق كثيرة تخص الواقع والتاريخ في السودان، وتخص العلم بصفة، الأمر الذي انتهى بنا إلى التعريب كسياسة رسمية ذات مردود أيديولوجي أفضت إلى انيهار التعليم نفسه.

ثمّ هناك نوع آخر من التواطؤ وهو ما يقوم به بعض زعماء القبائل والزعماء السياسيين وبعض المتعلمين من الجماعات الأخرى خارج حقل الثقافة العربية الإسلامية. هؤلاء يتم استعمالهم من خلال ميكانيزم الترميز التضليلي، وذلك بإشراكهم في بعض المواقع وتسليط الضوء عليهم لإعطاء انطباع مزيف عن المشاركة في مقابل منحهم امتيازات شخصية وأسرية، بينما يظل واقع القاعدة الاجتماعية التى ينتمون إليها مُغيَّباً ومزرياً للغاية. هؤلاء يقومون في الواقع بالمتاجرة بأهلهم من أجل مكاسب شخصية. وهذا أحد الميكانيزمات التى تستعملها المركزية المهيمنة لإضفاء الشرعية على الهيمنة والقهر الثقافي وتجلياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتمييع الصراع وتغبيش الوعي بإثارة الغبار حول الحقائق الوقائعية. هذا طبعاً دون أن نذكر شيئاً عن الذين بلغ بهم القهر والاضطهاد الثقافي حدّاً من الاغتراب والاستلاب جعلهم يتفانون في خدمة أيديولوجيا الهيمنة والاضطهاد مقابل منحهم صكوك العروبة من أناس ربما كانوا فاقدين لما يمنحون. لهذا لم يكن غريباً أن نشهد بعض النشطاء المتطرفين في دعوى القومية العربية من أبناء الهامش، كجبال النوبة، البجا، والنوبيين بالشمال، هذا فضلاً عن النشطاء المتطرفين من أبناء القبائل السودانية المتّهمة جوراً وبهتاناً في سودانيتها كونها قادمة أصلاً من غرب أفريقيا والذين يتفانون في خدمة التنظيمات ذات الهوس الأيديولوجي الديني حتى يتم استيعابهم داخل ثقافة الهيمنة. أما الجنوب فقد ابتُلي بانغماس الكثير من ساسته في الفساد الزاخم. وفي هذا تتحمل حكومات المركز المسئولية، إذ لم تكن تتعامل إلا مع المفسدين من أبناء الجنوب، فضلاً عن توريطها المتعمد للكثيرين من ساسة الجنوب في الفساد المالي، حتى تلجم ألسنتهم بغية تمرير سياسات الهيمنة عبرهم.

 

مفهوم الخريطة الأيديولوجية:

إن السودان الجديد (كوش) ينهض على مجموعة من المفاهيم الجديدة التي تعالج أوضاع التمركز والتهميش. ويأتي على رأس هذه المفاهيم الجديدة توطين مصطلحات "اليمين"، "اليسار" و"الوسط". إن الدلالات المعرفية لهذه المصطلحات نسبية في جوهرها. كما إن الإطار المرجعي لنسبيتها يتحدد بشروط الواقع الذي تُستخدم فيه. فمثلاً الآن في ظلّ الهيمنة الأمريكية وعالمية القطب الواحد لا يمكن لمصطلح "اليمين" أن يعني ببساطة "الرأسمالية"، ذلك لأن دولاً رأسمالية عديدة بدأت مصالحها تتقاطع مع مصالح الهيمنة الأمريكية؛ كما لا يمكن لمصطلح "اليسار" الآن أن يعني "الاشتراكية"، ذلك لأن تنامي اتّجاهات الرفض إزاء الهيمنة الأمريكية ستشغل مقعد "اليسار" الاصطلاحي عمّا قريب. عليه إن توطين هذه المصطلحات في الواقع السوداني يبدأ أولاً برسم خريطة للاستقطابات الأيديولوجية في الواقع السوداني، ومن ثمّ إحالة كل مصطلح حسب ما يتّفق معه. ومن البدهي أن نشير إلى أن واقع الهيمنة والقهر الثقافي والعرقي والحرمان التنموي يمثّل أقصى درجات اليمين، وذلك بوصفه الوضع القائم مما يجعله نقطة الإحالة المبدئية.

تقوم الاستقطابات الأيديولوجية في السودان على الأسلمة والاستعراب من جانب، ثم الأفرقة من الجانب الآخر، تتوسطهما دعاوى التوازن القومي والثقافي. تعتمد أيديولوجيا الأسلمة والاستعراب على الاستيعاب، والذي يقوم بدوره على ميكانيزمات إعادة إنتاج الهامش والأطراف في المركز. وقد استصحبت هذه العملية معها كل جراحات ومرارات القهر والاضطهاد التي بلغت قمتها في مؤسسة الرق ثم انتهت بموجات الإبادة الجماعية التي صاحبت الحرب الأهلية. واليوم لا يجوز التعجب والاستغراب من أن هذه المؤسسة لا تزال ناشطة فعلياً، ذلك لأن الرق والتمييز العرقي لم يفارقا وجدان الأيديولوجيا الإسلاموعروبية في المركز حتى الآن؛ إن الفرضيات الأخلاقية والثقافية لمؤسسة الرق لا تزال على حيويتها في الوجدان السوداني (الشمالي المسلم عامة وفي الوسط خاصة). فليس أسهل من أن يدمغ السوداني [كذا] بأنه عبد لمجرد سواد لونه. ولنا أن نتساءل: هل يكون السودانيُّ غير أسود؟ هذا التيار هو ما نطلق عليه مصطلح "اليمين السوداني"، ذلك لأنه يعمل أساساً بدافع المحافظة على السودان القديم القائم على منظور بوتقة الانصهار والأحادية الثقافية وإعادة إنتاج الهوية الأفريقية داخل حقل الثقافة العربية.

من الجانب الآخر اعتمدت أيديولوجيا الأفرقة في بداياتها على الجهوية والنزوع نحو الانفصالية. وقد صدرت في ذلك من إحساسٍ متنامٍ بأنه لا حظَّ ولا حقَّ لها في هذه البلاد. وبما أن تيارات الجهوية الانفصالية قد ظهرت بوادرها أول أمرها من ستينات القرن العشرين في الجنوب، وجبال النوبة، وغرباً بدارفور، ثم شرقاً بين البجا. والآن بدأت الدائرة تكتمل باشتداد وتائر الحراك الإثني بين المناصير والنوبيين في الشمال خاصةً عندما عمدت الدولة إلى التضحية بهم وبيع أراضيهم لمجموعة من الشركات الاستثمارية الإماراتية في حالة المناصير ولمصر في حالة النوبيين، وحتماً ستلحق بهم مجموعات أخرى عمّا قريب. إن المرء لا يحتاج إلى التذكير بأن هذه الأقوام ذات حق أصيل في البلاد، بل هو في الواقع حق سابق لدخول العروبة والإسلام إلى السودان؛ فحتّى المجموعات العربية بشمال السودان ووسطه هي في الواقع مزيج بين الهوية النوبية والعربية إن لم تكن مجموعات نوبية بحتة قد استعربت. لهذا يمكن أن ننظر إلى النزوع نحو الانفصال على أنه شكل من أشكال اليأس من جدوى النضال نحو وضع وطني متوازن. هذا التيار النازع نحو الانفصال هو ما نسمّيه بالتيّار الجهوي وهو ما نعنيه أيضاً بمصطلح "اليسار السوداني" باعتبار أنه يقوم أساساً على الانفضاض عن تحالف الإثنيات المتعددة ثقافياً والتي شكّلت سودان اليوم منذ أكثر من سبع ألف سنة. وقد أخذ التيار النازع نحو الجهوية في الاضمحلال ببروز الحركة الشعبية لتحرير السودان وترفيعها لوعي قطاعات الهامش والأطراف بحقها الأصيل في كل أراضي السودان: من نمولي إلى حلفا، ومن الجنينة إلى الكرمك. إن أخطر ما أتت به الحركة الشعبية ضمن منجزاتها العملية والنظرية العديدة أن نضال أي مجموعة ثقافية لنيل حقوقها هو أمر مشروع ولا ينبغي النظر إليه على أنه جهوية أو نزعة انفصالية.

أما الطرف الثالث الذي يمثل وسط الاستقطاب الأيديولوجي فهو الدعوة إلى قيام دولة مواطنة ومؤسسات وفق ديمقراطية تعددية تستند أساسا على واقع التعدد الثقافي، على أن يبدأ هذا المشروع بالخطوات التنفيذية لإيقاف سياسة الأحادية الثقافية التي تمارسها مؤسسة الدولة في السودان منذ الاستقلال مرورا بجميع الأنظمة والحكومات. إن هذا التيار الأيديولوجي يستند في تأسيساته على أن مؤسسة الدولة مسئولة عن تحريك ماكينة القهر والاضطهاد الثقافي جراء عدم اعترافها بمسئولياتها تجاه الثقافات غير العربية في السودان، ثمّ بسعيها الحثيث لتهميش السودان ككل بالنسبة للمركز العربي الكبير. إن هذا الأمر يقتضي مراجعة التعليم لغةً ومضموناً، كذلك النشاط الثقافي والفكري، فضلاً عن الإعلام، وما يتبع كل ذلك من سياسات اقتصادية وقومية …إلخ. وهذا ما نطلق عليه مصطلح "الوسط" وذلك لأنه يتوسّط بين طرفي التجاذب الأيديولوجي يميناً ويساراً خروجاً من المأذق. هذا التيّار لا علاقة له بالجهوية، وتعني عندنا النزوع إلى تفكيك الدولة السودانية القائمة على التعدّد والتنوّع، أي الدعوة إلى الانفصال. أمّا أن تتشكّل الحركات السياسية والتنظيمية وفق البُنى الثقافية والإثنية فلا يدخل عندنا في باب "الجهويّة"، إذ إن ابتناء تنظيمات على هذا الأساس حق لكل مجموعة ثقافية وإثنية بنفس المستوى الذي عليه الحال مع الأحزاب والتظيمات الأخرى. إلاّ أن أغلب الطبقة المثقّفة السودانية تقاعس وعيها عن أن تواكب هذه الطفرة الفكرية فإذا بها تستخدم مصطلحات مثل "الجهوية"، "القبلية" و"العنصرية" لوصف أشكال نضال المجموعات الثقافية المشروع. إن هذه الحركات ليس فقط قومية ووطنية، بل هي الآن أصبحت مناط التغيير وأمل الملايين لتحقيق الاستقلال الحقيقي وبناء دولة السودان الجديد (كوش).

إن خطورة هذا الفهم يكمن في أنه يقدح في قومية الأحزاب التي يُنظر إليها على أنها قومية لمجرّد أنها لم تُبنَ على أي أساس إثني في ظاهرها؛ فأغلب هذه الأحزاب ـ إن لم نقل جميعها ـ في الواقع إثنية وعرقية ومنحصرة في ثقافات بعينها، وما ادّعاؤها القومية إلاّ من قبيل إسباغ صفة القومية على شعر البطانة أوالجلاّبية والعمامة.

 

مفهوم التعدد الثقافي واللغوي:

أشرنا كثيراً من قبل إلى أن السودان أشبه ما يكون بغابة من الهويّات الثقافيّة. بيد أن هذا لا يعني انتفاء الوشائج والأواصر التي تشدّ هذا النّسيج ببعضه لتشكّل لوحة إثنية/ثقافيّة رائعة. فمثلاً المجموعة النّيليّة ـ الصّحراويّة تُشكّل نسبة 64% من مجموع الهويّات في السّودان، بينما تُشكّل المجموعة النّيجر ـ كردفانيّة نسبة 32%. إذن 96% من مجموع الهويّات بالسّودان ينقسم إلى مجموعتين أساسيّتين فقط! وتنقسم المجموعة النّيليّة ـ الصّحراويّة إلى مجموعتين هما: السّودانيّة الغربية والسّودانيّة الشرقيّة، وهي تشمل المجموعات الثقافية/اللغوية المنتشرة في حزام بلاد السّودان من المحيط إلى البحر الأحمر. هذا هو إقليم بلاد السودان، وهذا هو العمق الحقيقي للسودان. في هذه المجموعات اللغوية الثقافية يكون مستوى القرابة أشبه ببنات أو أبناء الأعمام. فعلى سبيل المثال نجد النوبيين (على النّيل [الكنوز، الفاديجّا، السّكّوت، المحس، والدناقلة] وفي شمال كردفان [الحرازة] وفي جنوب كردفان وجبال النّوبة [الدلنج، الغلفان، الداير، الفنْدا، كاركو، كاتلا] وفي دارفور [الميدوب والبرقد]) ينتمون إلى المجموعة السّودانيّة الشرقيّة مع العديد من الكيانات التي تتوزّع في جميع أنحاء السّودان، شرقأ، وغرباً، وجنوباً. لهذا لا ينبغي أن نتعجّب إذا علمنا أن علماء المرويات يقولون بأن لغة الباريا بأقصى جنوب السّودان من بين أقوى اللغات السّودانيّة المرّشّحة مع اللغات النوبية للعب دور أساسي في حل طلاسم اللغة المرويّة، وجميعها (الباريا والنوبية والمرويّة) تنتمي إلى السّودانيّة الشرقيّة، مثل الدينكا، الشلك، النوير، الأنواك، اللاتوكا، التبوزا، إلخ ... إلخ (حتى الأشولي بين السّودان ويوغندا والماساي بكينيا) ... ثم الإنقسنا بشرق النيل الأزرق، والداجو والميما والكانوري بدارفور، فضلاً عن المجموعات التي تلتقي معهم في النيلية الصحراوية مثل الفور، الزغاوة والبرقو إلخ. هذا دون أن نذكر جبال النوبة والتي نصفها ينتمي إلى ذات المجموعة، مع نصف آخر ينتمي إلى النيجر ـ كردفانية مثل كانقا، كادوقلي، قارمي، توشّو، توليشي، إليري، توقولي، تيما إلخ.

هذه هي حقائق العلم فيما يخص هويّة السّودان. في هذه الخريطة الإثنية لا مجال أبداً إلى الزّعم بعروبة هؤلاء وأفريقية أولئك على أساسٍ عرقي. لقد انتهى إلى غير رجعة عهد الأنثربولوجيا العرقية حيث تتمايز السّلالات جينيّاً، سموّاً وانحطاطاً. إن المعيار العلمي والمادي اليوم هو الدّالة الثقافيّة واللغويّة. بيد أن مثل هذا الواقع المتعدّد والمتشابك كان ينبغي أن يفتح أعين الدولة والطبقة المهيمنة على الحكم فيه على حقيقة بسيطة وهي أن الأمور لن تستقيم في السودان إلاّ بالاعتراف بهذا الواقع والانطلاق منه لإدارة شئون شعبه. مثل هذا الواقع يفرض على مؤسسة الدولة أن تتّبع خططاً بعينها فيما يتعلّق بالإعلام، التنمية، والتعليم. ولنأخذ ـ مثلاً ـ التعليم. إذ ينبغي للتعليم لغةً ومنهجاً أن يترجم واقع السودان القائم على التعددية الثقافية وبالتالي التعددية اللغوية. إذ ينبغي أن يُعترف بحق كل جماعة (وهو حق ينبغي أن يكون دستورياً) في أنت تُدرِّس أبناءها بلغتهم الأم أو اللغة التى يختارونها بإرادتهم الحرة. ويجب على الدولة ـ أو أي جماعة ـ أن تمتنع عن فرض لغة بعينها على جماعة أخرى وبأي وسيلة كانت أو مبرر. كما يجب إدخال الفولكلور السوداني كمادة أساسية حتى يعرف ناشئة السودان تراثهم وثقافاتهم. في وضعٍ كهذا لا مناص من إلغاء سياسات التعريب والتي ثبت أنها ليست سوى سياسات للتجهيل المقنّن، واستبدال ذلك بسياسات توفر فرصاً حقيقية لكل الجماعات لتتعلم لغة ثانية وثالثة ورابعة حسب أهمية هذه اللغات من حيث الهويّى ومن حيث موقعها في العالم ومسار العلم، بما في ذلك اللغة العربية، في ظل تعليم تعددي منهجياً ولغوياً.

 

مفهوم جدلية الهوية والتكامل القومي:

إن واقع التعدّد الثقافي والإثني يفرض على المرء المستبصر أن يبدأ منه كمعطى، ثم بعد ذلك يسعى لفهمه وتطويره نحو الأفضل لا أن يرفضه ومن ثمّ ينفيه وكأنه غير موجود. إن هذا الواقع المتعدّد والمتلاقح عبر عصور التاريخ ينتج عنه في محصّلته الجدلية النهائية انتماءٌ مركّب. وننبّه هنا إلى أن نواة الانتماء هنا هو المجموعة الثقافية التي ينتمي إليها الفرد، أكانت القبيلة، أو العشيرة، أو أي كيان إثني. مع ذكر القبيلة (سيئة الذكر ظلماً) نشير إلى أننا ننظر إلي كيان انتمائي بوصفه قبيلة وذلك باعتبار أن القبيلة ماهي إلاّ كينونة ثقافية اجتماعية ذات علاقات اقتصادية وجيوبوليتيكية. وهي في وضعها هذا تشكّل انتماءً بسيطاً مقابل الانتماء إلى الكل المركّب الذي يتجاوز القبيلة. ويأتي مفهومنا للهوية في إطار التكامل القومي باعتبارها محصلة العلاقة الجدلية بين الانتماء البسيط (القبيلة) والانتماء المركب (السودان) حيث لا يشكل الانتقال من الأول إلى الثاني تبرؤاً من القبيلة. فالقبيلة في الواقع ما هي إلا منظومة ثقافية، والتبرؤ منها يعني عملياً التبرؤ من الأهل: الأم والأب والجد والجدة ..إلخ؛ ومن لا خير فيه لأهله، لا خير فيه لأمّته. إن العلاقة بين الانتمائين هي علاقة تجاوز، بمعنى أن الانتماء المركب يشمل الانتماء البسيط دون أن يتناقض معه. إن الوحدة الوطنية والتكامل القومي تكمن في وعي المرء بأنه جزء بسيط من كل مركب. أما اختزال كل السودان في القبيلة فهو شوفينية وضيق أفق قومي، كما إن محاربة القبيلة والانتماء إليها لا يمكن أن يكون عملاً قومياً. إن مقاربة مفهوم التكامل القومي الذي لا يلغي الهويات ولا ينفيها كما لا يتحوصل فيها يتم عبر منظور "الوحدة في التنوع".

إزاء هذا تنهض الدعوة إلى قوميةٍ زائفة تزعم أنها تعمل على توحيد جميع السودانيين من خلال إزالة جميع الفروقات والاختلافات الناجمة عن التعدد الثقافي من خلال إعادة إنتاجهم ثقافياً داخل إحدى الثقافات وذلك تحت مسمى القومية مرة، وأخرى التمازج القومي، أو "بوتقة الانصهار". إن الدعوة إلى هذه القومية الزائفة تعني في الواقع تذويب كل الكيانات الثقافية في كيان واحد عبر عملية مستمرة من القهر والاستتباع والاستيعاب. أي أن هذا التيار هو أيضاً قبلي مع فارق واحد هو أنه لا يعترف بأي قبيلة غير القبيلة التي ينتمي إليها كما إنه يعمل بقوّة على ابتلاع كل القبائل الأخرى داخله.

وكنّا من قبل قد أطلقنا على المنتجات الثقافية لمنظور بوتقة الانصهار مسمّى "إنسان أمدرمان" و"ثقافة أمدرمان" كإشارة لمركز المراكز. ودمغُنا لهذه العملية باسم ’أمدرمان‘ له سبب: فأمدرمان من أحدث المدن السودانية تاريخياً وتمثل نموذجاً حيّاً لمنظور ’بوتقة الانصهار‘، بينما لا تقارب أبداً منظور ’الوحدة في التنوع‘. كما نلاحظ أنه قلما نجد مجموعة ثقافية سودانية ليس لها أسر (قلّت أم كثُرت) ذابت في مجتمع أمدرمان. وفي الحق، فقد رادت مجموعات الهامش السودانوأفريقية (خاصة من الجنوب وجبال النوبة والأنقسنا ودارفور) حركة الحداثة في مجتمع أمدرمان، وذلك بُعيد الدولة المهدية. لقد خضعت هذه المجموعات ـ عن سماحةٍ ـ لعملية إعادة الإنتاج فاستعربت تماماً، فضلا عن بادئ إسلامها؛ هذه هي المجموعات التي رادت فن الغناء عندما كانت المجموعات السودانوعروبية تحاربه في أمدرمان؛ وهي نفسها التي رادت التعليم عندما تحامته المجموعات ذات الأيديولوجيا الإسلاموعروبية؛ وهي نفسها التي رادت خروج المرأة للعمل، وعبر مهنٍ شريفة استعرّت منها المجموعات السودانوعروبية، كالتمريض وغيره. هذه هي المجموعات التي رادت عملية الحداثة في سودان القرن العشرين فما بعد. فإلى ماذا يا تُرى انتهى أمرها؟

لقد تم إيداعها في أدنى سُلّم المجتمع لا لشيئ إلاّ لسواد لونها وغلظة شفاهها وتفلفل شعرها وقلة حظها، نسبيا، مما نُظر إليه خطأً على أنه الدم العربي. إنها نفس المعاناة التي تعرّض لها عنترة في الجاهلية وبلال في الإسلام. إذن فعملية إعادة الإنتاج ليست جزءاً من الحل، بل هي في الواقع جزء من المشكلة. هذا هو النموذج الذي يُرادُ له أن يعمّ السودان كله عبر ’منظور بوتقة الانصهار‘ وإعادة الإنتاج. ومع أن هذا الأمر ليس ممكناً عملياً، إلا أن الترويج لهذه الفكرة ليس عفوياً وإن بدا كذلك. إنه الصراع حول السلطة، وذلك عندما تتحول المواقف الثقافية من لغة إلى عادات ... إلخ ، إلى مواقف أيديولوجية، ومن ثم أسلحة، لحسم الصراع حول السلطة لمصلحة الطبقة المهيمنة على السلطة، أي لمصلحة المركز.

 

مفهوم المواطنة:

إن ما يُؤخذ على الدولة السودانية في هذا الشأن هو مفهومها القاصر للمواطنة والذي لا ينهض على أي أساس منطقي. فالمواطنة لا تُكتسب في السودان بمداومة العيش به حتّى لو كان ذلك لعقود وعقود. في هذا نشير إلى أن الدولة قد دأبت على سلب حق المواطنة من المواطنين ومعاملتهم تاريخياً على أنهم أجانب، أو في أفضل الأحوال كمواطنين من الدرجة الثانية. وأبرز مثال لذلك محنة العديد من الكيانات السودانية التي قدمت إلى السودان، فاستقرت وتسودنت، بالضبط كما فعل العرب. فهؤلاء بالرغم من أن أجداد غالبيتهم العظمى مولودون في السودان، إلا أنهم قد ظلوا يتعرضون لقوانين الجنسية السودانية المهينة التي تجبرهم على اتباع أساليب التحايل للحصول على الجنسية وهي حق من حقوقهم. فالشعب السوداني هو الوحيد بين شعوب العالم الذي تطالبه دولته بأن يثبت الفرد فيه سودانيته وإلاّ فهو غير سوداني. فجميع الدول تأخذ أفراد شعوبها في وضعهم الإجمالي على أنهم مواطنون باعتبار بطاقاتهم الشخصية (وليس بطاقات الجنسية) ومن ثمّ تعمد إلى حصر الأجانب، ليس لأن هذا ما يمليه المنطق فقط بل حق المواطنة. فمثلاً من كان لديه جوّال من الفاصوليا تخالطه ملوة من اللوبيا، سيعمد إلى الأخيرة فيعزلها عن الفاصوليا. هذا ما يمليه المنطق دون أن نذكر شيئاً عن حق المواطنة لو أن أمر الدولة السودانية  يقوم على المنطق العملي، هذا لأنها في الواقع تفعل عكس ذلك، فتعمد إلى الفاصوليا تلقطها حبّةً، حبّةً لتفصلها عن ملوة اللوبيا، فتصوّر! وحتى الآن لم يبلغ تعداد السودانيين عبر أسلوب الجنسية العجيب هذا منذ الاستقلال أكثر من سبعة مليون مواطن. إذن فعلى أيّ أساس تمّ اعتماد أن تعداد السكّان بالسودان قد شارف على الثلاثين مليون نسمة؟

لقد جعل هذا الوضع الغريب أبناء هذه المجموعات عرضةً للتحامل الذي يصل حد الاحتقار والاضطهاد. وبسبب ذلك أيضاً ظلّوا يتعرضون للتضييق في وسائل كسب العيش، خاصة في مسائل ملكية الأراضي الزراعية والسكنية. كما جعل هذا الوضع حقوقهم معرضة للمتاجرة بواسطة بعض الأحزاب السياسية التى تقوم بتسهيل عمليات استخراج الجنسية وملكية الأراضي الزراعية والسكنية كتكتيك للاستتباع السياسي ومن ثم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي. في هذا تعرضت العديد من الكيانات لهذا الاضطهاد نذكر منها، على سبيل المثال، الهنود والأقباط والشوام والرشايدة. إلا أن أشهرهم القبائل التي هاجرت من غرب أفريقيا مثل الفولاني، الهوسا، البرنو، والبرقو ... إلخ. ولا يملك المرء إلاّ أن يشير إلى المفارقة التي تكمن في هذا الوضع إذا ما قيس بوضع العروبة في السودان؛ فهي مبرّأة من تداعيات هذه الغربة والهجرة؛ إذ كأنها والسودان موطنها منذ بدء الخليقة.

إن الأسس الفكرية للسودان الجديد (كوش) لا تؤمن فقط بأن جميع هذه الفئات والكيانات في السودان هم مواطنون سودانيون بالأصالة، وليس ذلك مِنّةً من أحد، بل تهيب بهم للانخراط في سلك المجموعات المهمّشة التي تناضل من أجل بناء هذا السودان. إذ لا ينبغي لهم أن ينتظروا من الدولة أو أي جهة أخرى أن تعاملهم بمساواة تامة مع الجماعات الأخرى، بل عليهم أن يناضلوا من أجل رفع الظلم التاريخي عنهم بدءاً من حق الحياة الكريمة عبر الفرص المتساوية وصولاً إلى حق الحفاظ على خصوصية الهوية في إطار السودان الجديد المتعدّد. إنه قد آن الأوان لهؤلاء الإخوة كيما يمارسوا حقهم كاملاً رفضاً للتبعية، ومن ثم لعب دورهم كفئات أصيلة في عملية صنع القرار، وعملية صنع السودان الجديد والاستقلال الحقيقي. على هذه الجماعات أن تنظّم نفسها وتنضمّ إلى حركات التحرير التي تناضل من أجل بناء السودان الجديد (كوش). على تلك التي تتركّز بشكل كبير في شرق السودان أن تنظّم نفسها؛ كما علي قطاعاتها المستوطنة بصعيد النيل الأزرق أن تنظّم نفسها؛ ثم على قطاعاتها المتمركزة في كردفان ودارفور أن تنظّم نفسها. ثمّ عليها جميعاً أن تكسر طوق العزلة الوهمي المضروب حولها سودانوياً وتعلن انخراطها في حركات التحرير التي تناضل من أجل بناء السودان الجديد، كان ذلك بانضمامها لجبهة الشرق أو لحركة تحرير السودان أو لمنبر جبال النوبة الديموقراطي أو للحركة الشعبية لتحرير السودان (الأم الروحية لحركات الهامش المناضلة) وذلك في سبيل انتزاع حقوقها؛ أو أن توحّد جهودها مع مجموعات الهامش الناهضة حديثاً مثل المناصير والنوبيين في أقصى الشمال. في هذا ننظر إلى المجموعات الإثنية التي تنقسم حدودياً بين السودان وأيٍّ من دول الجوار باعتبار سودانية جميع أفرادها حتّى أولئك الذين حكم عليهم الاستعمار في ترسيمه الجائر للحدود أي يقعوا خارج حدود السودان السياسية دون أن يخرجوا عن دائرة الانتماء الروحي له. على أبناء هذه المجموعات أن تنضمّ إلى ركب النضال المجيد الذي يقوده إخوتهم في سبيل تفكيك ماكينة التمركز والتهميش، وذلك من منطلق إيمانهم بأصالة سودانيتهم دون أن ينفي هذا أصالة انتمائهم لدول الجوار التي حكم عليهم الواقع الذي خلّفه الاستعمار أن المواطنية فيها.

 

مفهوم الديموقراطية التعدّدية:

إن الديموقراطية التي نبشّر بها في مشروع السودان الجديد (كوش) هي الديموقراطية التعدّدية وليس الليبرالية. فالليبرالية ليست أحد مكوّنات الديموقراطية، بل هي إحدى خصائص ثقافات المجتمعات الغربية. فمناط الاحتجاج والارتكاز في مفهوم الليبرالية هو الحرية الفردية، أو الفردانية. ولهذا عندما نشأ الفكر الليبرالي، فيما أُثر عن جون ميل وجون لوك، توجّه بكلّياته للدفاع عن الحرّية الفردية إزاء سلطة الدولة، وكان الهمّ الأكبر بالنسبة لهم هو تأمين الحرّية الفردية. وما هذا إلاّ لأن الليبرالية خصيصة من خصائص الثقافة الغربية، ولذا عمدت إلى تشكيل ديموقراطيتها بما يخدم هذا الواقع الثقافي الاجتماعي عندها. عليه، إن الديموقراطية التي كنّا عليها في سني الحكم النيابي الخوالي ليست ليبرالية، وهيهات لها أن تكون كذلك. وعندما ننادي في مشروع السودان الجديد بالديموقراطية، فإننا ننظر إليها باعتبارها ديموقراطية التعدّدية. ومصطلح "التّعدّدية" لا نعني به هنا تعدّد الأحزاب والتنظيمات السياسية، بل نعني به التّعدّدية الثقافية. هي بالتالي ديموقراطية تعدّدية تختصّ بخصائصنا الثقافية وعلى رأسها التّعدّد الثقافي والإثني والديني. إن المركزية الثقافية، ومجمل سياسات الأحادية تصبّ جميعاً في مجرى التّيّارات النازعة نحو الديكتاتورية.

فيما يخصّ الممارسة الديموقراطية لما بعد الاستقلال تبيّن أن جميع الأحزاب التي تنافست على قيادة الشعب، اليمينية منها واليسارية على حدٍّ سواء، لم تكن تتعامل مع الديموقراطية باعتبارها الوسيلة المثلى للحكم. فالأحزاب العقائدية، اليمينية منها واليسارية، لم تكن تؤمن بالديموقراطية مبدئياً، حيث كانت الديموقراطية غائبة في جميع مؤسساتها الداخلية. ولكنها كانت تتعامل بالديموقراطية باعتبارها واقعاً يتيح قدراً من الحريات لا لزوم لها، لكن لا بأس من الاستفادة منها للاستقواء ريثما يتمّ الإجهاز على الديموقراطية التي لم تكن تعدو أكثر من فوضى سياسية بالنسبة لهم. أمّا حال الأحزاب الطائفية إزاء الديموقراطية فلم يكن أحسن من رصيفاتها العقائدية. فهي أيضاً لم تكن تؤمن بالديموقراطية باعتبارها الخيار الأمثل للحكم، بدليل أن مؤسساتها الداخلية القائمة على التوريث ومفهوم العرق النبيل خلت من الديموقراطية. ومع أن الأحزاب الطائفية بدت وكأنها أشدّ حماسةً وتمسّكاً بالديموقراطية، إلاّ أن هذا لم يكن أكثر من ذرائعية ميكيافيلية، ذلك لتأكّدها من أن مجيئهم للحكم عبر الانتخابات أمر مضمون. إلاّ أن مجافاتهم المؤسسية والمبدئية عند المحك العملي للديموقراطية كانت أشدّ إيذاءً لها من رصيفاتها العقائدية. إذ ما إن تصل هذه الأحزاب إلى دست الحكم عبر الانتخابات، إلاّ وتشرع في التعامل مع مختلف مؤسسات الدولة باعتبارها امتداداً لمؤسسات الطائفة التي ينتمي إليها الحزب الحاكم منها. وقد كان مجمل هذه السلوكيات المعادية مبدئياً للديموقراطية، من الأحزاب العقائدية والطائفية معاً، يؤدّي سريعاً إلى تسميم الديموقراطية الوليدة، فإن هي إلاّ أشهر قلائل وتتحوّل الممارسة السياسية (وليس الديموقراطية) إلى فوضى حقيقية. ولأن ثقافة الديموقراطية من حيث كونها تكنيك للحكم (وليس من حيث كونها جوهراً مؤسسياً لقيم الحرية) لم تكن (وحتّى الآن) قد تمّ توطينها في بنية الثقافة السودانية، فإن كل هذا كان يتمّ النظر إليه باعتباره فشلاً ذريعاً للديموقراطية. ولكن فات على القوم الفاشلين التفريق بين الأحزاب وبين الديموقراطية؛ فالأحزاب ما هي إلاّ بنية سياسية، بينما الديموقراطية كيفية سياسية. والبنية السياسية متغيّر (بمعنى يمكن لحزب بعينه أن يختفي ليحلّ آخر في مكانه) بينما الكيفية ثابتة (لأن اختفاء أي حزب وظهور آخر يتمّ من خلالها). فات على القوم أن فساد المتغيّر لا يقدح أبداً في صلاحية الثابت. وليتهم اكتفوا بالجهل فقط بل نظّروا له، حيث تفتّقت عبقريتهم عن مفهوم "الحزبية" والذي يجمع ما بين البنية السياسية والكيفية السياسية في قالب واحد.

 

مفهوم الوحدة الوطنية وتقرير المصير:

إن الوحدة ضرورة وليست خياراً. كما إن تقرير المصير يستند في الواقع على أرضية الوحدة. إننا ننظر إلى تقرير المصير باعتباره مطلباً مشروعاً لكل مجموعات الهامش، وذلك كيما تقرّر وتحدّد موقعها داخل خارطة السودان الواحد. فإذا لم تنل ما تُريد على وجه الإطلاق حُقّ لكل واحدة من مجموعات الهامش أن تتّجه نحو الانفصال. أمّا دون ذلك فعليها أن تتّحد وتقاتل المركز حتّى تنتصر، وإنّها لمنتصرة. عليه، فإن مصطلح "تقرير المصير" لا ينبغي التعامل معه كمرادف للانفصال. أمّا عن ضرورة الوحدة، فهذا يتجلّى عبر حقيقة بسيطة، وهي أن المشكلة التي هدّدت وحدة السودان هي آليات التمركز والتهميش، وإدارة واقع التّعدّد عبر مشروع الأحادية. فإذا كان حلّنا لهذه المشكلة يقوم على انفضاض المجموعات الإثنية مهضومة الحقوق عن مشروع الدولة السودانية، فهو إذن يحمل عوامل فشله في داخل نفسه. ذلك لأن التّعدّد في الواقع موجود في كلّ إقليم من الأقاليم التي يمكن أن تُشكّل نواةً لدولةٍ ما في حال الانفصال. فمثلاً الجنوب متعدّد، وكذلك دارفور، وكذلك الشرق، وكذلك جبال النوبة، والأنقسنا؛ أي نكون قد هربنا من التّعدّد لعجزنا عن إدارته، لنقع في التّعدّد الثقافي والإثني مرّةً أخرى. ذلك لأن الانفصال في الواقع ليس فقط إصدار حكم متعسّف بفشل مشروع السودان الجديد، بل هو إذعان مذهبي لصيغة الأحادية لا تسندها بصيرة فكرية، إذ لا مجال للتّحدّث عن الأحاديّة كمشروع للحكم دون أن يكون ذلك مدعاةً للفتنة والاحتراب.

إن على المطالبين بالانفصال أن يُدركوا أن الانفصال شيئ، بينما تقرير المصير شيئ آخر. إن تقرير المصير لا يفضي بالضرورة إلى الانفصال، ذلك لأن خيار الانفصال يأتي بعد أن يفشل تقرير المصير.  لهذا فإن المطالبة بتقرير المصير باعتباره مقدّمةً طبيعية للانفصال، لا ينطوي على خطلٍ فكري فحسب، بل ينطوي على هروبٍ من المشكلة. فالمشكلة هي كيفية إدارة التّعدّد والتّنوّع الثّقافي والإثني من حيث توزيع السلطة والثّروة. فإن عجزنا عن إدارة هذه المشكلة وهي في إطار تشكيلاتها الكبرى (الجنوب، جبال النّوبة والإنقسنا، دارفور، الشّرق، والشّمال، ثم الوسط)، فإنّا سنكون أعجز عن أن ندير المشكلة وهي في إطار تفصيلاتها الدّقيقة. ذلك لأن الجنوب، كما ذكرنا، متعدّد ثقافيّاً أيضاً، كما هو الوضع في دارفور، وفي كل إقليم على حدة. فكأنّنا سنهرب من مشكلة التّعدّد، لنقع في ذات المشكلة لاحقاً. إن من يعجز عن إصلاح ساعة حائط، سيكون أعجز عن إصلاح ساعة يد. أهدى من ذلك أن نستعصم بوحدة السّودان كهدف إستراتيجي، ومن ثمّ نوحّد الجهود لتفكيك مركزية الدّولة.

 

مفهوم العلمانية وفصل الدين عن الدولة:

في هذه المسألة عادةً ما يضع الناس الدين ودعاة الحركات الدينية مقابل العلمانية ودعاتها، باعتبار أنهما يمثّلان طرفي النقيض، ولا شيء أوغل خطأً من هذا. فالعلمانية هي الدعوة إلى فصل مؤسسات الحكم عن أي مؤسسة اجتماعية، دينية كانت أو غير ذلك، بحيث أن تشغيل دولاب مؤسسة الدولة لا يتمّ من خلال تراتبية المؤسسة الاجتماعية المعنية كامتيازٍ لها. إذن فالمقابل للعلمانية من حيث التّضاد هو عدم العلمانية، وليس الحكم بأفكارٍ دينية. فمؤسسات الحكم هي مثلاً رئيس الدولة، رئيس الوزراء، الوزارات بوزرائها، وكلاء الوزارات، دواوين الدولة بأقسامها المختلفة وأجهزتها العدلية من بوليس وقضاء ... إلخ، ثمّ البرلمان. لتداول السلطة لا بدّ من أن تشغل مجموعة من الناس مؤسسة الدولة هذه. مجموعة الناس هذه قد تكون حزباً سياسياً، أو خليطاً من أحزاب سياسية، أو تكنوقراط. فإذا أصبح حزب بعينه يشغل مؤسسة الدولة لأنه فاز في الانتخابات حتّى لو كان حزباً ذا أفكار دينية، فإن هذا لا يجعل من الدولة دينية، أي غير علمانية. لكن لو أن حزباً بعينه أصبح يشغل مؤسسة الدولة بناءً على التراتبية التنظيمية الداخلية بوصف أن ذلك امتياز لهذا الحزب، فإن الحكم يكون غير علماني حتّى لو لم يكن هذا الحزب دينياً، كالحزب الشيوعي مثلاً. والآن فلنتصوّر أن طريقة صوفية بعينها قد استولت على مؤسسة الدولة باعتبار أن ذلك امتياز يخصّها وحدها، ومن ثمّ شرعت في تشغيل مؤسسة الدولة عبر تراتباتها التنظيمية الداخلية، بمعنى أن مرشد الطريقة بحكم رتبته أصبح يشغل منصب رئيس الجمهورية،كما أصبح كبير خلفائه يشغل منصب رئيس الوزراء بحكم ترتيبه في الطائفة. بعد ذلك جاء دور عموم الخلفاء الذين حَكَم ترتيبُهم في الطريقة أن يشغلوا مناصب الوزراء ... وهكذا دواليك، حتّى نأتي إلى رؤساء الأقسام الحكومية المختلفة من تكنوقراط وخلافه والتي سيشغلها أناس من هذه الطريقة حسب موقعهم داخل هيكلية الطريقة، أي تراتبات الطريقة. بهذا لا تكون الدولة علمانية، ولا عبرة بالتّوجّه الأيديولوجي للمجموعة التي تسيطر عليها، دينية كانت أم إلحادية. من البدهي أن يشهد وضعٌ كهذا غياباً تامّاً للديموقراطية.

إذن ما هو المحتكم الحاسم لتحديد أن النظام المعمول به علماني أو غير علماني: المحتكم هو إذا كان اختيار الحاكم وباقي أجهزة الحكم يتمّ عبر الانتخاب الحر القائم على قاعدة "لكل فردٍ صوتٌ واحد" (One Man, one vote) دون اعتبارٍ للمعتقد أو العرق أو النوع، إذن فالحكم علماني ولو كانت المجموعة الحاكمة ذات توجّهٍ ديني. أمّا إن كان بخلاف ذلك، فالحكم إذن غير علماني حتّى لو لم يكن للمجموعة الحاكمة أي دين. بهذا يتضح أن فهمنا يقوم على إعادة قراءة العلمانية ديموقراطياً، وذلك تحريراً لها من أوشاب التجربة الذاتية للغرب. بهذا لا يوجد شيئ اسمه "الإسلاميون" يقابله كيان اسمه "العلمانيون" بل هي الديكتاتورية مقابل العلمانية، أي مقابل الديموقراطية. فالعلمانية بهذا الفهم تصبح كلمة مرادفة للديموقراطية، إذ لا ديموقراطية بلا علمانية ولا علمانية بلا ديموقراطية. فمثلاً بخصوص النظام الحاكم حالياً، لا يجوز النظر إليه باعتباره إسلامياً لمجرّد أنه يرفع شعارات وشارات الإسلام، وذلك إذا كان مخالفاً للديموقراطية (أي للعلمانية)، بل ينبغي النظر إليه باعتباره ديكتاتورياً لا علاقة له بالإسلام. إن العلمانية ليست ضد الحكم عبر وجهة نظر دينية بعينها كما هي ليست ضد أي دين؛ وما اشتباكها مع الدين إلاّ ناجمٌ عن ملابسة تاريخية تكمن في أن الكنيسة (بوصفها مؤسسة دينية) كانت في العصور الوسطى الأوروبية هي المسيطرة على مؤسسة الدولة. ولذا لا نجد غضاضةً في ظلّ الديموقراطية العلمانية أن تنشأ أحزاب دينية التّوجّه طالما كان ذلك محكوماً بالاقتراع وتواضع الجميع على الالتزام بالديموقراطية فكراً ومبدأً.

بالطبع إن أسوأ نظامٍ ديكتاتوري ذلك الذي يحكم باسم الدين، لأنه لا يقوم على الإقصاء فحسب، بل عادةً ما يملك رصيداً ضخماً في مجال التبرير الأيديولوجي لأيّ فظائع أو فساد قد يرتكبه. فمثلاً الحركات الإسلامية طيلة القرن العشرين جاءت كمحاولة لجذب الأنظار للدور الخطير الذي يمكن أن يلعبه الدين. ما دفعهم إلى هذا علمانية رواد الطبقة المثقفة والتي كانت قائمة في أساسها على تجاهل الإسلام ليس عداوةً له بل جهلاً به. وقد كانت تلك علمانية قاصرة لم يدر في ذهنها توطين المفهوم (في حالتنا توطينه سودانوياً)، وهو أمر ما كان يمكن أن يتمّ إلاّ بإزالة التناقض المفهومي بين العلمانية والإسلام، أي الدين الذي تُدين به غالبية شعوبهم. وهذا التناقض في الواقع يعود إلى العوامل الذاتية لتجربة الدولة الدينية الثيوقراطية بالغرب عندما كانت الكنيسة تسيطر سيطرةً تامّة على مؤسسات الدولة. في حالتنا المسألة بدأت بعكس ذلك حيث دخلت معظم البلدان التي يشكّل الإسلام فيها الدين الغالب مرحلة الاستقلال عبر العلمانية القاصرة التي أشرنا لها. وهذا ما أعطى الحركات الإسلامية قوّة جاهزة لم يبنوها مدماقاً بعد الآخر. ولهذا نفسه انحصر شغلها أيضاً في رفع الشعارات وضخ الانفعالات دون الانشغال بالوسائل العملية المؤدية لتحقيق تلك الشعارات. وهذا هو الذي أدّى بهم إلى السقوط في الامتحان العملي عندما سيطروا هنا وهناك على الحكم سقوطاً لم يكن يتصورونه. وما هذا إلاّ لأنهم في سورة اندفاعهم العاطفي نحو الدين قد جهلوا الدين نفسه كقيمة أخلاقية دع عنك كقيمة فكرية. لكن هذا يكشف ما ينطوي عليه أمر الدين من خطورة خاصّةً عندما يُترك أمره للعاطفة بدلاً من النظر إليه كضرورة حياتية نظرية وعملية.

إن ما نسعى إليه هو إجراء هذه المصالحة بين الدين والعلمانية، أي بين الدين والديموقراطية، وهو شيئ أقرب إلى أسلمة العلمانية مع تحفّظنا على هذا المصطلح الذي ابتُذل؛ إن ما نقوم به بناء فكري كبير لا مجال للخوض فيه بتفاصيله هنا، فليُراجع في مواقعه من أبحاثنا السابقة. ولا نسعى لهذا ابتساراً للمفهوم، بل حفراً أركيولوجياً في مراحل تطوّره وآلياته، فضلاً عن قيمه الأخلاقية والمعرفية العامة. فالإمكانات الفكرية في توطين العلمانية والديموقراطية في الإسلام كبيرة، منها مثلاً حصرية الآية "وشاورهم في الأمر ... إلخ" باعتبارها نزلت على سيدنا محمد (ص) في حال كونه معصوماً. عليه، فهي شورى ليس الغرض منها الاستهداء برأي عند أصحابه  لم يلهمه إيّاه الله، بل هي شورى الغرض منها تربيتهم وتهيئتهم (رضي الله عنهم أجمعين) لممارسة السلطة. أمّا الآية "وأمرهم شورى بينهم ... إلخ" فتمثّل مدخلاً رحباً للديموقراطية. فمثلاً سيدنا محمد (ص) لم يحدد طريقة بعينها لاختيار من يخلفه، وأبو بكر قام بترشيحه عمر بن الخطّاب، ثمّ قام أبو بكر بتسمية عمر بن الخطّاب كخليفةٍ له. وعندما حانت ساعتُه قام عمر بتسمية عددٍ قليل من الصحابة ككليّة انتخابية لاختيار من يخلفه، مع إعطاء ابنه صوتاً ترجيحياً إذا ما انقسم الفريقان. بعد أن انحصرت ترشيحاتهم بين عثمان وعلي قامت هذه المجموعة بعمل أول استطلاع للرأي العام الإسلامي، إذ شرعوا في استبيان آراء المسلمين وبعض المسلمات بخصوص الرجلين. في تلك المرحلة لو أن أحدهم اقترح أن يأتي كل واحدٍ من المسلمين بحجر فيلقيه إمّا في وعاء كُتب عليه "عثمان" أو آخر كُتب عليه "علي"، لكانوا قد قبلوا به في أغلب الظن ولكانوا قد وضعوا لنا اللبنات الأولى لديموقراطية تشكّلت عبر الإسلام، ولكان ذلك قد أصبح من الشريعة الآن. وفي ظنّي لو أن الحكم في الإسلام لم يتحوّل إلى مُلكٍ عضوض، كما تنبّا بذلك سيدنا محمد (ص)، لكان السلمون قد طوّروا من ممارساتهم الديموقراطية التي بدأت بسيطة متمثّلة في ذلك الاستطلاع، صاعدين بها في مدارج التركيب والتعقيد والمؤسسية.

 وحتّى الشريعة في بعدها غير الجزائي المستند على الآيات (الحدود) ومجمل الأحكام الاجتماعية من زواج وميراث ما هي إلاّ مجموعة من الأحكام التي تواضع عليها علماء المسلمين فيما يحقق مصلحة المسلمين حسب ما توفّر لهم من فهم وإدراك محكوم بمعايير الزمان والمكان. وما جمود الشريعة إلاّ حالة عرضية ناجمة عن تقاعس المسلين عن قيادة ركب الحضارة والبشرية. فلو أنهم كانوا لا يزالون على قيادة الركب، لكانت قوانين حركة المرور وقوانين البحار وقوانين الفضاء ... إلخ، جزءاً من الشريعة. أمّا القوانين الحدّية فلا مناص من تأويلها وذلك من قبيل أن يعني قطعُ يد السارق قطعاً للعوامل المؤدّية للسرقة ... وهكذا. إن توجّهاً ذكيّاً وشجاعاً كهذا كان مما ينبغي أن يرفد به من تسنّموا قيادة الحركات الدينية في زمن النظام الحالي في السودان، خاصّةً عندما عجزوا عن تطبيق هذه الحدود إلاّ ما كان منها تعزيراً كالجلد إذلالاً للشعب وترصّداً لأحرار المثقفين المناوئين لهم اغتيالاً لشخصياتهم، ولكن هيهات. فالتاريخ لا يُصنع بالمخاتلة والمراوغة، بل بالصدق مع النفس ومع الآخرين صدقاً مع الله، وهذا ما يُعرف بالمصداقية.

 

مفهوم الحرب الأهلية:

هذه الحرب ليست حرب الجنوب ضد الشمال، كما إنها ليست حرب دارفور ضد الشمال، أو حرب الشرق أو جبال النوبة أو الأنقسنا ضد الشمال. فغداً إذا حمل المناصير والنوبيون السلاح، فضد أي شمالٍ يا تُرى سيكون ذلك؟ إن من ينظر لمسألة لحرب الأهلية بهذا المنظور الخطّي يكون قد فاتت عليه الدلالات الدائرية من حيث كونها حرب قوى الهامش ضد المركز. ومن يفوت عليه هذا، يكون قد فاته قطار السودان الجديد فكراً ونضالاً.

فقد نهضت المناطق التي وصلت حدّاً لم يمكنها معه تحمّل المزيد من هذا الاضطهاد والتهميش بوجهيه الثقافي والتنموي، فقاومت بضراوة بلغت الآن مستوى الحرب الأهلية. إن وتيرة اندلاع الحرب الأهلية تتساوق طرديّاً مع درجة التهميش والاضطهاد، فقد بدأت في الجنوب فجبال النّوبة والإنقسنا، فالشرق ثم دارفور و عموم الغرب. ولنلاحظ أن الحرب في الجنوب بدأت عام 1955م، بينما لحقتها جبال النوبة والأنقسنا بعد ذلك بأكثر من ثلاثة عقود. هذا لأن جبال النوبة والإنقسنا كانتا لا تزالان تحت التحييد، فالتقسيم الخطي (شمال ضد جنوب) كان لا يزال تأثيره عليهما سارياً؛ ثم بعد ذلك جاء أهلنا في جبهة الشرق ثم في دارفور ... وهكذا إلخ. والآن هاهم النوبيون، وهاهم أهلنا المناصير قد بدأوا في حراكهم، وحتماً سيلحق بهم آخرون إلى أن يكتمل تفكيك ماكينة التمركز والتهميش.

إن ما يجب لفت النظر إليه بخصوص تواتر الحرب حقيقة أن حمل السلاح حكمته حتّى الآن الضرورة ذلك لأن الحرب لم تكن بالنسبة لمن خاضوها بادئ ذي بدءٍ من مجموعات الهامش خياراً صعباً بين عدّة خيارات صعبة أخرى، بل كانت حكم الضرورة عندما لم توجد هناك خيارات بالمرّة، فإمّا أن تحارب بأمل حماية النفس والعرض ومن أجل حياة كريمة، وإمّا أن تُقتل وتُسحل. وهذا هو حكم الحروب الأهلية في كل زمان ومكان، فالحروب الأهلية يخوضها الأهالي المدنيون البسطاء ولهذا سُمّيت بالحرب الأهلية. فالمناصير لم يتحرّكوا إلاّ عندما شعروا بأن هذه الدولة المارقة ستغرق أراضيهم بخزّان مِرْوِي وستقوم بترحيلهم إلى أرضٍ ليست ذات زرعٍ أو ماء، وما على الأهالي إلاّ الإذعان. أمّا الذين يرفضون الخضوع لهذا المخطط، فسيتمّ إغراقهم كالفئران (كان هذا بالنص ما قاله لهم المسئول الحكومي عن السد). والنوبيون في عمومهم لم يتحرّكوا إلاّ عندما علموا بأن النظام الحاكم قد باع أرضهم لمصر كيما تقوم بتوطين عدد 15 مليون فلاح. عندها فقط علم النوبيون ماذا يعني خلو إقليمهم من السكّان حيث لا يوجد من دنقلا نزولاً إلى حلفا أكثر من 300 ألف مواطن؛ وعندها فقط شرع عامتُهم قبل صفوتهم في اكتشاف أنهم مهمّشون مثل الآخرين، فما خلوّ المنطقة من السكّان إلا بسبب فقرها من البنيات الأساسية لصنع الحياة بما يسمح للسكّان بأن يمكثوا فيها. كما شعر النوبيون بأن هذا العدد الهائل من الفلاحين إذا ما قُُدّر له أن يستقرّ بالمنطقة لا محالة سيصطدم بالأهالي وعندها سيبدأ القتل والسحل، ليس من قِبل النظام الحاكم بالسودان المتواطئ، بل من قِبل النظام المصري، وليس أفضل مِن النوبيين مَن يُخبرك بوحشية ولا إنسانية النظام المصري. أمّا إذا جئنا إلى دارفور والشرق فسنلاحظ بأن الأهالي هناك لم يحملوا السلاح إلاّ عندما شرعت قوّات النظام ومليشياته في قتل الناس واغتصاب النساء وحرق الأرض ... وهكذا دواليك كلّما عدنا إلى الوراء إلى حالة جبال النوبة والأنقسنا، ثم الجنوب.

تبدأ الحرب الأهلية كرد فعل تحكمه الضرورة، وهذه هي المرحلة الأولية منها دائماً، وهي المرحلة البسيطة من الحرب الأهلية. وغاية ما تبلغه الحرب الأهلية في مرحلتها هذه هو وقف العدوان بالرد ما أمكن ثم باستصراخ الناجدين (المجتمع الدولي)، وقلّما تنجح حتّى في هذا إلاّ بعد أن تُذهق أرواح الآلاف إن لم يكن الملايين من المدنيين الأبرياء والذين يُشكّل الأطفال والنساء العدد الأكبر منهم. ثمّ من بين أنين الجرحى ونحيب الثاكلات وصراخ الأطفال ومرارة فقدان الأم والأب والزوجة والأخ والأخت ثم الابن والبنت، ثم مضاضة الإحساس بالضعف أمام القوّة الغاشمة، يتولّد الغبن النبيل والذي يتفجّر عن قوّة هائلة لكنّها عمياء لا ترى إلاّ شيئاً واحداً هو الانتقام والتّشفّي. في كل هذا والحرب الأهلية لا تزال في مرحلتها الأولية، وهيهات لها أن تحقق وهي في حالتها هذي نجاحاً يُذكر بخلاف إشفاء الغِلّ والغبن. هذه هي حرب الأنانيا، بحكم أن حركة الأنانيا قد خاضت حروبها وهي لا تزال في هذه المرحلة الأولية البسيطة.

ولكن من ظلامات القهر ومرارات الهزيمة وجراحاتها تُشرق شمس الخلاص، وذلك عندما تتحوّل الحرب الأهلية إلى مشروع نهضوي يعمل نظرياً وعملياً على تغيير الواقع الذي أدّى إلى إشعال الحرب بدءاً، وهذه هي المرحلة المركّبة من الحرب، وهو ما دشّنته الحركة الشعبية لتحرير السودان بحكم أن الحروب التي خاضتها كانت من هذا النوع. وما المشروع النهضوي هنا إلاّ مشروع السودان الجديد.

بالنظر إلى الحروب الأهلية الدائرة الآن في دارفور والشرق (وما سيتلوها) نلاحظ أنها وإن كانت قد تأثّرت كثيراً بالحركة الشعبية إلاّ أنها لا تزال في مرحلة الأنانيا. وهذا ليس مأخذاً عليها، فمرحلة الأنانيا أشبه بمرحلة المراهقة في عمر الإنسان إذ لا يلبث أن يتجاوزها، وهذا بالضبط ما يحدث الآن، فحروب دارفور والشرق والأنقسنا وجبال النوبة الآن في مرحلة الشباب وما ذلك إلاّ بفضل ما رفدت به الحركة الشعبية. بيد أن التحدّي الحقيقي ليس هو تجاوز مراهقة الأنانيا لأن هذا حادثٌ لا محالة. التحدّي الحقيقي هو تجاوز العوامل التي صاحبت قيام الحركة الشعبية لتحرير السودان وذلك باستصحاب دروسها وعبرها. أول هذه الدروس والعبر الظروف والعوامل الجيوبوليتيكية التي جعلت الحركة الشعبية لتحرير السودان تطرح نفسها تنظيمياً كوعاء جامع لقوى السودان الجديد. تتركّز هذه العوامل في كون الحركة الشعبية لتحرير السودان قد صدرت أول أمرها من واقع حروب الأنانيا في إطارها الثقافي والإثني المتعلّق بجنوب السودان، فكان لزاماً عليها أن تتعامل مع ذلك الواقع باعتباره معطى. ولكن مع ذلك تمكّنت الحركة الشعبية لتحرير السودان من كسر الطوق المضروب أيديولوجياً حول جنوب السودان من قبل المركز وتمكّنت من أن تضمّ إليها حركات جبال النوبة وجبال الأنقسنا. بيد أن جميع ذلك كان محكوماً إلى حدٍّ ما بذات العوامل الجيوبوليتيكية، من حيث تجاور إقليمي جبال النوبة والأنقسنا مع الجنوب. كل هذه العوامل مكنّت الدول الغربية التي صاغت إتّفاقية نيفاشا من إعادة حشر الحركة الشعبية داخل أحذية الأنانيا مرّةً أخرى فضغطت عليها كيما تُقبل إلى إتّفاقية السلام باعتبارها حركة جنوبية لا غير. هذا الأمر ترك الحركة الشعبية (رائدة نضال القوى المهمّشة والأب الروحي لمشروع السودان الجديد) في وضع حرج للغاية، وهو وضع يُفصح عنه واقع الحال دون المقال.

تجاوز هذه العوامل من قبل الحركات الصاعدة في الغرب والشرق ثم في جبال النوبة يكون بتواضعها على تحالف جبهوي عريض بهدف تحقيق مشروع السودان الجديد. في هذا التحالف لا مجال لأن تذوب أيّ مجموعة في مجموعة أخرى، فكل واحدة لها جسمها المستقلّ داخل هذا التحالف. هذا الأمر من شأنه أن يتيح للحركة الشعبية المشاركة فيه من على مستوى القيادة والقاعدة، روحياً وفكرياً، سياسياً وميدانياً. هذه النقلة ضرورية للغاية، ذلك لأن من ظنّ أن الحرب الأهلية في السودان قد دخلت في خريف عمرها، يكون قد ارتكب قد ارتطب خطأً كبيراً. إن الحرب الأهلية الحقيقية في السودان، من حيث كونها حرباً تعمل لتحقيق مشروع واضح في سماته الفكرية والتنفيذية والتنظيمية، قطعاً لم تبدأ بعد.

 

المأذق الحالي وسفر الخروج

 

إتفاقية السلام لم تحقق السلام:

هذه الاتفاقية ليست شاملة، وإن أُطلق عليها مسمّى "إتفاقية السلام الشامل". فهي أولاً لم توقف الحرب الأهلية، وعليه لا يجوز أن يُطلق عليها اسم "إتفاقية السلام" ناهيك عن أن تُوصف بالشاملة. أكثر من ذلك فقد اتضح أن هذه الاتفاقية ـ حسبما يشير الواقع الراهن ـ قد حقنت النظام القائم بدماء جديدة أمدّته بعمر جديد. فلأول مرّة في عمر هذا النظام ينام وهو واثق من أنّه سيستمرّ لستة أعوام قادمات، وهو الذي ظلّ طيلة سنينه العجاف يعيش بنظام رزق اليوم باليوم من حيث البقاء على السلطة.  فضلاً عن ذلك فقد أضفت عليه المشروعية بحكم أنه أصبح شريكاً، وهي مشروعية ظلّت تعوزه طيلة سني حكمه.

إلاّ أن أخطر ما في هذه الاتّفاقية ـ إذا ما استمرّت بوضعها الحالي ـ هي أنها ستُفضي إلى إجهاض الحركة الشعبية لتحرير السودان. فضلاً عن كونها رأس الرمح في نضال قوى الهامش، تُعتبر الحركة الشعبية رائدة السودان الجديد فكرةً ونضالاً. فالشارع السوداني لم يشهد أي تغيير يُذكر أتت به هذه الاتفاقية. فقوانين النظام القمعية لا زالت قائمة ولا زال الناس يُجلدون في المحاكم كما لا زالت مداهمات النظام العام تروّع المواطنين في بيوتهم. وأشير هنا إلى تصريحات ألن قولتي (مسئول الخارجية البريطانية الأسبق عن ملف السودان) بأن أول ما تمّ الاتفاق عليه قبيل البدء في التوقيع على اتّفاقية السلام وذلك بغية تهيئة الجو للسلام كان تعليق نشاط ما يسمّى ببوليس الآداب والنظام العام ثم وقف مداهمة الناس في منازلهم تحت طائلة قانون النظام العام.

إن مثل هذه الممارسات القمعية ـ ضمن السياسات غير الديموقراطية العامة ـ هي من دواعي النضال ضد هذا النظام القمعي. والآن عندما تتمّ مثل هذه الممارسات والحركة الشعبية شريك بالحكم، فهذا يجعلها في موقف حرج. إن احتمال أن تكون الحركة الشعبية موافقة على هذا السلوك لهو مما نستبعده جميعاً ولا يقول به أحد. لكن الأخطر من ذلك أن تكون غير راضية ثم غير قادرة على عمل شيئ. وهذا هو ما نعنيه بقولنا إن هذه الاتفاقية بوضعها الحالي هي في الواقع مشروع إجهاض للحركة الشعبية ما لم تتحسّب الحركة لذلك، وهو ما نظنّ أنّها تفعله.

 

النظام الحالي لا يصلح كشريك:

إن أخطر ما في اتّفاقية السلام الموقّعة بين الحركة الشعبية والنظام الحالي أنها تقوم على مبدأ الشراكة بينهما. إن نظاماً تمرّغ في وحل الفساد المقنن لأكثر من خمسة عشر عاماً لا يصلح البتّة كشريك للسلام. وهنا لا أجد كلماتٍ أكثر تعبيراً في هذا الخصوص مما قاله آخر سلالة ملوك كوش العظام الشهيد الدكتور جون قرنق: "إنهم لا يمكن إصلاحهم، لذا لا بدّ من إزالتهم" (They can't be reformed, so they have to be removed). نقول هذا دون أن نشير إلى الجرائم التي ارتكبها هذا النظام في حق الشعب السوداني من إبادة في الجنوب وجبال النوبة والأنقسنا ثم في دارفور والشرق مؤخرّاً ـ وها هي المذبحة الأخيرة في القاهرة والتي ارتكبها النظام المصري بالوكالة عن نظام الخرطوم. ثم دون أن نشير إلى تفريطه في السيادة السودانية، ليس فقط المصادقة رسميا على الاحتلال المصري للأراضي السودانية في مثلثي حلايب (على البحر الأحمر) وسرةّ (شمالي وادي حلفا)، بل موافقته على توطين حوالي 15 مليون فلاّح مصري بمثلث الحوض النوبي (حلفاـ دنقلا ـ عوينات) وما ذلك إلاّ لكسب النظام المصري. فعندما يستورد النظام الحالي لمدارسه وجامعاته الأطالس التي تُظهر حلايب باعتبارها مصرية، ثمّ تُباع هذه الأطالس بالأسواق، فذلك ممّا يؤخذ كبيّنة عند الاحتكام، وهو ما تمّت المصادقة عليه سرّاً.

دعونا الآن نضرب بعض الأمثلة للفساد الذي لا يحتاج إلى دليل إلاّ إذا كانت شمس الضحى تحتاج لأن يُستدلَّ عليها، ولنبدأ برأس الدولة وفهمه لمسألة إبراء الذمّة. إزاء الثراء الفاحش الذي نزل على أشقّائه بليلٍ نزول الجراد، جاء ردّ عمر البشير بأن ذلك رزقٌ حلال ساقه الله ذو الفضل العظيم والله يرزُق من يشاء بغير حساب. ثم هو نفسه عمر البشير، رأس الدولة، الذي وجّه الاتّهام عبر وسائل الإعلام لعلي الحاج متّهماً له باختلاس أموال طريق الإنقاذ الغربي دون أن يملك الشجاعة أو السلطة (سمِّها كما شئت) لتوجيه النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات ضدّه. ولتكتمل صورة هذا الفساد العجيب كان رد فعل علي الحاج غاية في الصفاقة والإهانة الفاحشة للشعب السوداني، إذ قال عبر وسائل الإعلام بعد تحدّيه للرئيس عمر البشير: "خلّوها مستورة"! ثم مثال آخر لفساد قمّة الهرم السلطوي من منطقة المحس ومن قرية صغيرة تُعرف باسم "أبو صارة" حيث يوجد منجم تاريخي للذهب كانت تنقّب فيه شركة جنوب آسيوية منذ مطلع التسعينات. وبالطبع جميعنا يعمل أن واردات الذهب لا تُدرج في الموازنة المالية العامة. متزامناً باليوم والشهر مع تفجّر الاختلاف ثم القطيعة بين عمر البشير وحسن الترابي توقّف العاملون بذلك المنجم فجأةً. إذ أصبحوا يوماً على ضوضاءٍ وجَلَبَة ثم أمسَوا على ظَعَنٍ كظعن الهاربين، لكن ليس قبل أن يُسِرّوا للأهالي الذين علت وجوههم الدهشة بأن عائدات المنجم كانت في الواقع تذهب مباشرةً إلى حسن الترابي.

فكيف بالله يصلح مثل هذا النظام شريكاً في أي شيئ خلاف الفساد والقمع؟ ولا غرو إذن أن وجدت الحركة الشعبية وكل قوى التّجمّع الوطني الديموقراطي التي عقدت آمالها في هامش الحريات الكسيح الذي أتاحته اتّفاقية السلام الأخيرة، لا غرو أن وجدوا جميعاً رياحهم تملأ أشرعة النظام الحالي، وهو النظام الذي أفنوا أكثر خمسة عشر عاماً في النضال لإسقاطه.

إن أيّ سلامٍ حقيقي لا بدّ أن يمرّ عبر جسر إسقاط هذا النظام وإلغاء مؤسساته وقوانينه ومن ثمّ إحالة رموزه للمحاكم، سودانياً ودولياً.

 

التحدّي الحقيقي ليس إزالة النظام الحالي:

بيد أن التحدّي الحقيقي ليس هو إسقاط هذا النظام بقدر ما هو تفكيك ماكينة التّمركز والتهميش الشرّيرة. فبغير ذلك ستظلّ الحلقة المفرغة في دورانها، الأمر الذي سيُفضي بنا لا محالة إلى نظام نيابي أعرج وأسوأ ممّا سبق ليعقبه نظام عسكري ديكتاتوري أسوأ من هذا ... وهكذا دواليك. إن تفكيك ماكينة التّمركز والتهميش تبدأ بترفيع الوعي بمسألة التهميش. إذ إن كثيراً من الرموز الفكرية الواعدة من داخل حقل الثقافة العربية الإسلامية المجيدة لا يزالون ينظرون إلى أنفسهم بأنهم ينتمون إلى المركز لمجرد انتمائهم الثقافي هذا دون أن يرتفع بهم الوعي إلى اكتشاف تهميشهم وتهميش شعبهم؛ وفي المقابل نجد الكثير من الذين ينتمون عرقياً إلى المجموعات السودانوأفريقية ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم هامشيين لمجرد هذا الانتماء الإثني، في الوقت الذي يخوضون حتى الركبتين في وحل المركز.

إن آليات التمركز والتهميش لا يمكن أن يكتمل تفكيكها، حتى إذا تمّ تفكيك عرى هذا النظام الفاشي، إلاّ إذا ما تمّ ربط الجانب التنموي مع الجانب الثقافي في عملية مركبة واحدة دون فصل بينهما. إن هذه الخطوة تستدعي النظر إلى المواطن التاريخية بالنسبة للمجموعات المهمّشة بوصفها أقاليم ذات خصوصية إثنية وثقافية، وبالتالي تنموية وسياسية، الأمر الذي يضعها جميعاً على قدم المساواة مع باقي المناطق المهمشة وما يتبع ذلك من التقسيم العادل للسلطة والثروة والحفاظ على الهوية واللغة. في هذا تذهب الورقة إلى ضرورة الاعتراف بحق كل المجموعات الأفريقية التي تعاني من التهميش المزدوج في تقرير المصير والحكم الذاتي، وأن تكون لكل واحدة منها حكومة إقليمية ببرلمان إقليمي وتتمتع بحق إرساء الاتفاقيات مع الجهات الخارجية بما لا يتعارض والسيادة القومية وذلك بغية توفير التمويل اللازم لمشروعات التنمية.

      إن جعل التخطيط التنموي تخطيطاً ثقافياً معنياً بكل أدوات ومؤسسات الثقافة والوسائط المعرفية الأخرى من وسائل اتصال جماهيري، ومسرح ومهرجانات، يقوم على هذه النظرة والتي بدونها سينهدم الأساس المشروع لرفع الفقر والتهميش تنموياً وثقافياً. إن من حق أي مجموعة ثقافية أن تكون لها محطة إذاعة وتلفزيون تبثّ بلغاتها. كما من حق أي مجموعة ثقافية أن تكون لها صحف ومجلات بلغاتها أيضاً. إن كل هذا لن يتأتّى لهم إلاّ إذا تمكنّوا من دفع فاتورة هذه النهضة. فالثروة والرفاهية لا تهبط على الناس من السماء، بل يصنعها الناس بالرؤية الناهجة وبأيديهم وقوّة عزيمتهم. وأوجبُ ما يجبُ البدءُ به النظرُ إلى المناطق الجغرافية ذات المجموعات السودانوأفريقية التي عانت من التهميش المزدوج باعتبار كل واحدٍ منها إقليماً قائماً بذاته وذا خصوصية ثقافية وتنموية وبالتالي سياسية.

 

الدول العربية والخزلان المستمرّ للشعب السوداني:

لم تعمل الدول العربية، حكوماتٍ وشعوباً، يوماً على إخفاء نفورها الشديد عن كلّ ما هو أفريقي فيما يخص السودان. كما لم تُخفِ أبداً تشجيعها الشديد لمنظور بوتقة الانصهار الذي من شأنه أن يُسرّع من عملية إعادة إنتاج الهوية الأفريقية بالسودان داخل الثقافة العربية. ولا يعني هذا بالمرّة أنها تحتفظ بمكانة طيبة لهؤلاء الذين خضعوا لعمليات الاستعراب من مستعربي وسط السودان، بل هي حقيقةً مكانة العبد من سيّده حتّى بعد إلغاء مشروعية الاسترقاق. وليس أشهر من نكتة "أدري أنّك عبيد، لكن إيش اسمك" التي شاعت بين مغتربي دول البترول والعرب العاربة فضلاً عن أعراب البادية وأقحاحها. كما كانت الدول العربية ـ ولا تزال ـ تمثّل مصدر دعم دائم لأنظمة الحكم السودانية في عمليات قمعها المنظّم لمجموعات الهامش الأفريقية السوداء. فهي، ممثّلة في دولة مصر، قد سلّحت نظام مايو لقمع ثورة الجزيرة أبا في 1970م، حيث دكّتها بالطائرات التي كانت تُقلع من قواعدها بمصر. وكان الرئيس المصري الحالي، حسني مبارك، قائد فوج تلك الطائرات. كما داومت الدول العربية على تسليح أي نظام حكم منذ الاستقلال لمحق المقاومة الجنوبية إبّان الحرب الأهلية التي قادتها الأنانيا، أي من 1955م  إلى 1973م. ثمّ واصلت على دعم نظام مايو لقمع الحرب الأهلية الثانية التي قادتها الحركة الشعبية، أي من 1982م إلى 1985م حتى سقوط نظام مايو. وبعد ذلك داومت الدول العربية بمختلف أسمائها على تقديم الدعم للحكومة الانتقالية وبعدها الحكومة النيابية التي كان يقودها الصادق المهدي لقمع الحركة الشعبية، أي من 1985م إلى 1989م. وفي ظل هذا النظام واصلت على تقديم دعمها بغية قمع الحرب الأهلية، خاصّةً عندما حوصر النظام الحالي وجوبه بمقاطعة دولية شبه تامّة. في كل هذا كان مبرر الدول العربية هو حماية عروبة السودان التي تقوم صروحها على جماجم الأفارقة السود، أبناء السودان الحقيقيين. وفي ظل الحكم النيابي (1986م ـ 1989م) صمتت الدول العربية عن إدانة مذبحة الضعين التي راح ضحيّتها قرابة الأربعة ألف مواطن قُتلوا وحُرقوا لا لشيئ إلاّ لأنهم سود، وللأسف أن هذا تمّ على يد قومٍٍ سودٍ مثلهم لكن فات عليهم أن يكتشفوا ذواتهم. كما فات على الدول العربية شرف أن تُدين عودة مؤسسة الرق التي أعقبت مذبحة الضعين، إذ إن الناجين من تلك المذبحة الفظيعة كانوا جدّ محظوظين فقد تمّ استرقاقهم فقط [كذا] دون ذبحهم، فتصوّر! ومع هذا ووسط الإدانات التي تساقطت من مختلف أنحاء العالم، رسمياً وشعبياً، سكتت الدول العربية عن الكلام المباح وهي التي تريد أن تصنع التاريخ بالجعجعة. ثمّ عندما تحوّل الاسترقاق إلى سياسة رسمية تحت ظل النظام الحالي، لم تسكت الدول العربية فحسب بل عملت ما في وسعها لإنكار أن يكون هناك استرقاق في السودان، وكأنما لسان حالها يقول: "وهل للعبد غير أن يُسترقُّ؟". وعندما شرعت الدولة المركزية بالخرطوم في تسليح شُذّاذ الآفاق بدارفور فيما عُرف بمليشيات الجنجويد لإبادة أهل "الزُّرْقة"، أي الأفارقة السّود من أهل دارفور بدعم لوجستّي من الجيش الذي يصفه كثير من المثقفين السودانيين بأنه لم يقاتل عدوّاً أبداً في تاريخه بخلاف الشعب السوداني الأعزل والذي لا يحرّك ساكناً الآن حيال احتلال مصر لأراضينا لأكثر من ثلاثة عقود ... عندما حدث كل هذا، الأمر الذي نجم عنه في أقلّ من ستة شهور قتل أكثر من 400000 مواطن أعزل بدارفور أغلبهم من النساء والأطفال في أبشع عملية تطهير عرقي، فضلاً عمّا صاحبها من اغتصاب لحرائر النساء والفتيات ثم اتّباع سياسة الأرض المحروقة، فكان أن هبّ العالم أجمع لإدانة السودان، كانت الدول العربية وعلى رأسها منظّمة الجامعة العربية الوحيدين الذين لم يسكتوا فقط عن تسجيل إدانتهم بل سعوا بأيديهم وأقدامهم لإثبات أن ما تمّ ليس بأيّ حالٍ من الأحوال إبادة وتطهير عرقي بل هو مجرّد نزاعات قبلية دامية بين شعوب بدائية وهمجية لم تعرف بعد من الحضارة غير السلاح. ليس هذا فحسب بل بلغ بها الهُزءُ من شعبنا أن سعت لتبرئة نظام الخرطوم الفاشيستي من أن يكون مسئولاً عمّا جرى بدارفور، وكأنما لسان حالها يقول: "وهل للعبد قيمة؟".

لتوضيح النظرة الانحطاطية التي يستبطنها العرب لأمم السودان جمعاء (السودان، تشاد، النيجر، مالي، موريتانيا، لصومال وجيبوتي) وللسودان خاصّةً، يمكننا أن نأخذ علاقة السودان بمصر كحالة دراسية، خاصّةً مع ما يقال عن العلاقات الأزلية والإخاء ... إلخ. بدءاً نشير إلى أن وصف هذه العلاقة بالأزلية هو قولٌ فارغ المحتوى، ذلك لأن العلاقة بين السودان وأيٍّ من جيرانه الحدوديين هي أيضاً في الواقع أزلية. إذن أزلية العلاقة مع مصر ليس فيها ما يميّزها عن باقي علاقات جيرانه. وهذه العلاقات جميعها ليست أزلية فحسب، بل وأبدية، بمعنى أنها ستستمرّ إلى أن تقوم الساعة ويرث الله الأرض وما عليها. وهذا لا يعني عملياً أن هذه العلاقات ودّية، بل يعني أنها متشابكة في حال تحسّن العلاقات بين حكام هذه الشعوب وفي حال تفاقمها عداوةً وحرباً. أمّا ما تتّصف به العلاقة بين مصر والسودان عبر التاريخ وحتّى هذه اللحظة فحقيقة كونها قائمة على الاحتلال والاحتراب بين الجانبين مع غلبة الجانب المصري في أغلب فترات التاريخ، قديمه وحديثه. فبخلاف الثمانية عقود التي احتلّ فيها السودانُ مصرَ في القرن السابع قبل الميلاد مكوّناً الأسرة الفرعونية الخامسة والعشرين بقيادة الملك الكوشي العظيم بعانخي، ظلّت مصر قبل ذلك وبعده تحتلُّ السودان حيناً بعد حين ولفتراتٍ تتفاوت طولاً وقصراً. وفي الواقع ما مصر إلاّ بوّابة الاحتلال للسودان، إذ ما من غزوٍ إلاّ وقدم من تلقاء مصر، كان هذا في الزمن القديم أو الحديث، من مصر الفرعونية أو الرومانية أو الفارسية، أو العربية الإسلامية، سيّان. فالممالك النوبية المسيحية سقطت جرّاء الحملات والغزوات المنظّمة التي كانت تأتي من مصر أول عقود الاسلام، ثمّ من مصر الفاطمية، فالأيوبية فالمملوكية فالعثمانية التركية، كيفما تقلّب بها الحال وأبدلت ديناً بدين ومذهباً بمذهب ثم حاكماً بحاكم. وفي كل هذه العصور لم يكن يُنظر إلى السودان إلاّ بوصفه مصدراً للرقيق وفي أحسن حالاته فِناءً خلفياً لها. فقبل أقلّ من مائتين عاماً (1821م) قامت مصر باستعمار السودان لا لشيئ إلاّ لاستجلاب الرقيق. وقد عاونتها في ذلك بعض القطاعات المحلية من قبائل وسط وشمال السودان حتّى وًصفوا باسم "الجلاّبة"، أي من يجلبون العبيد، فضلاً عن العديد من زعماء العشائر والقبائل الذين إمّا استرضاءً للسادة المصريين أو سعياً للمال، ضلعوا أيضاً في جلب الرقيق، متجاوزين بذلك عمليات الاسترقاق القبلية التقليدية في أفريقيا والتي كانت تقوم على استرقاق أسرى الحروب القبلية إلى حين فكاكهم. ومن الغريب أن الدّارسين والمؤرّخين السودانيين لا يطلقون على هذا الحكم مسمّى "الاستعمار" بل اسم "الحكم التركي المصري " مقدّمين "التركي" ظلماً على "المصري"، ولا عجب فأغلب هؤلاء الأكاديميين من رفد طبقة الجلاّبة ساعية الرقيق. ثمّ هبّ السودان ثائراً ضد الاستعمار المصري بقيادة محمد أحمد المهدي عام 1885م، فلم يكتفِ بطرد المصريين وتحرير السودان، بل سعى جادّاً لغزوها وذلك قبل حوالي 115 عاماً. ثمّ إن هي إلاّ سنوات تقلّ عن العشر فإذا بمصر تقوم بغزو السودان متحالفةً في ذلك مع بريطانيا (1899م). هنا أيضاً نجد المؤرّخين من حفدة الجلاّبة لا يصفون ذلك الحكم باسم "الاستعمار البريطاني المصري" بل يفضلون بدلاً عنه اسم "الحكم الثنائي" وحتّى إذا ما استخدموا كلمة "استعمار" قصروها على الشريك القوي، بريطانيا. بل منهم من يسمّي ذلك الغزو باسم "الفتح". ولكن حقائق التاريخ تشير بوضوح إلى أن ذلك كان استعماراً مصرياً وبريطانياً مشتركاً، بالرغم من كون مصر نفسها كانت تخضع لبريطانيا. فجانباً عن أن تكلفة حملة كتشنر الاستعمارية جميعها دُفعت من الخزينة المصرية، تبقى حقيقة أن مصر سعت إلى إعادة استعمار السودان باعتباره شيئاً يخصّها. فحتّى جيش أحمد عُرابي المنهزم عندما أرادوا إبعاده من الساحة الوطنية الداخلية قاموا بإرساله إلى السودان لاستعادة كردفان ودارفور من محمد أحمد المهدي، فقدم في هذه المهمّة الوطنية ثم انهزم في واقعة شيكان. وبعيد الاستقلال في عام 1959م قامت مصر بغزو مثلث حلايب على البحر الأحمر، فشمّر عبدالله خليل (رئيس الوزراء حينها) عن ساعد الجدّ وشرع في إرسال القوات المسلّحة السودانية للاشتباك مع القوات الغازية، ممّا دفع بالمصريين إلى الانسحاب، ولكن إلى حين. ثمّ في منتصف السبعينات قامت القوّات المصرية بإعادة احتلال مثلّثي حلايب وسرّة شرق (شمال وادي حلفا) وذلك في ظلّ نظام مايو الذي تمرّغ في وحل العمالة لمصر. وها هي مصر حتّى الآن تحتلّ هذين المثلّثين وبمباركة النظام العميل الحالي، وهو نفسه النظام الذي لوّح متاجراً منتصف التسعينات بشعار تحرير حلايب إيعازاً للمصريين ببدء المساومة علي المثلّث مقابل أن تسبغ مصر الحماية السياسية علي طُغمة الخرطوم بحكم علاقات مصر الجيّدة مع الغرب وذلك بربط بقاء هذا النظام مع الأمن المائي والقومي المصري. وهو بالضبط ما حدث لاحقاً بالرغم من ضلوع السودان في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك بأديس أبابا.

فيما يتعلّق بأماني وأشواق الشعب السوداني للديموقراطية، كان لمصر ـ ولا يزال ـ موقف أقلّ ما يوصف به أنه لا يحترم الشعب السوداني. فمصر لا تقبل للشعب السوداني غير أنظمة الحكم العسكرية، الديكتاتورية. عندما قامت ثورة أكتوبر وسقط حكم العسكر وأهلّ عهد الحرية والديموقراطية، سخر الإعلام المصري الرسمي من ثورة الشعب السوداني، وتهكّم منها، إلى درجة استفزّت المشاعر الشعبية والرسمية في السودان. وفي الحقِّ، فإن الأنظمة العسكرية الديكتاتورية كانت تمثّل رحمةً لمصر بقدر ما كانت تمثّل نقمةً للشعب السوداني. فحكومة عبّود العسكرية لم تُبعهم إقليم حلفا مجّاناً وحسب، بل تواطأت مع المصريين في مؤامرة إفراغ المنطقة كلّها من السكّان. والآن تعمل مصر جاهدة لتوطين مجموعات من الفلاحين بالمنطقة دون أهلها النوبيين، كما تعمل بالتواطؤ التام مع طُغمة الخرطوم الحالية على ابتلاع المنطقة النوبية كلها بإضفاء الشرعية لاحتلالها الذي استمرّ لأكثر من ثلاثة عقود. وكأن لم يكتف حكّام السودان من عمالتهم لمصر، ها هم قد باعوا مجمل مثلّث الحوض النوبي (حلفا ـ دنقلا ـ عوينات) للمصريين حتّي يوطّنوا فيه أكثر من 15 مليون فلاح. وممّا يؤسف له في هذا الشأن أن عدداً من الوزراء السودانيين قاموا بترجّي المصريين للاستيطان بالسودان، مقارنين عدد من استوطن من المصريين في السودان بعدد القبائل السودانية الأصيلة والتي ترجع أصولها قبل استقرارها بالسودان إلى غرب أفريقيا، متحسّرين على التفاوت الكبير في النسبة. أمّا إذا جئنا إلى نظام مايو، فيمكن القول بأن مصر لم ولن تجد لها ظهيراً عميلاً في السودان مثل مايو ورئيسها المخبول نميري.ولا يفوتنا أن نذكرأن النظام المصري كان أوّل دولة تعترف بانقلاب يونيو حتّى قبل أن يعرفوا هويّة من قاموابه، موجّهين بذلك صفعة للشعب السوداني. وحتّى عندما أبدى المجتمع الدولي استعداده لإحالة موضوع محاولة اغتيال حسني مبارك إلى مجلس الأمن، أبدت مصر تحفّظها المبدئي ثم رفضها لهذه الخطوة فيما بعد، وذلك حرصاً منها لإبقاء هذا النظام العسكري المتورّط والذي لا محالة لاجئٌ إليها في النهاية ليطلب المساعدة، ليشرع عندها ثعالبة السياسة المصرية في احتلاب البقرة السودانية التي تناوم عنها نواطورها العميل.

ما بين عامي 1990م و1995م توافد إلى مصر ما يقرب من 5 مليون مواطن سوداني جميعهم فرّوا من نير القهر والاضطهاد. ما دفع بهذه الملايين إلى مصر عدّة أسباب، أضعفها كان دعاوى الإخاء والعلاقات الأزلية الذي لم يكن من الممكن لهؤلاء اللاجئين أن ينخدعوا بها. إلاّ أنهم جميعاً، وعلى رأسهم قادة العمل السياسي المعارض، كانوا في الواقع قد وقعوا في شرك نصبه لهم المصريون. فمصر حينها ليس بها فرص عمل تستوعب المصريين ناهيك عن توافد مثل هذا العدد، فضلاً عن عدم قانونية تشغيل الأجانب. في نفس الوقت لم يكن النظام المصري يقدّم أي إعانات للاجئين. إذن، أوّلاً، ما الذي دفع بهؤلاء إلى التّوجّه إلى مصر؟ ثمّ، ثانياً، لماذا فتح النظام المصري أبوابه لأي عدد من السودانيين؟ الإجابة عن السؤال الأول تكمن في أن الشعب السوداني حينها كان يعيش في معتقل كبير حدوده بحدود السودان. فجانباً عن المطاردة الشرسة والمجّانية التي كان النظام يوليها لعامة المواطنين اعتقالاً وتعذيباً، قفلت السفارات الأجنبية، الغربية و العربية منها خاصّةً، أبوابها أمام السودانيين لسابق معرفتهم بأن مثل أحوال السودان هذه سينجم عنها ظاهرة لجوء سياسي قد تنوء بمصاريفه بلادهم، اللهمّ إلاّ مصر التي فتحت أبوابها لهم. ولأنه ما كان ليدور في ذهن أي واحدٍ من أولئك أن هناك وضعاً يمكن أن يكون أسوأ من الوضع بالسودان، شرع كلّ من ضاق به المقام بالرحيل إلى مصر. أمّا فيم يخصّ الإجابة على السؤال الثاني، وهو لماذا فتحت مصر أبوابها لهذا العدد المليوني إذا لم يكن في مقدورها ولا في نيّتها تقديم أي مساعدة لهم، فيكشف عن الدرك السحيق الذي يمكن للنظام المصري أن يصل إليه في استغلال مآسي السودانيين. فبمجرّد وصول السوداني إلى مصر كان يكتشف أنه كمن هرب من الأسد ليقع في أحضان التمساح. فمصر اتّضح أنها عبارة عن سجن كبير، بل أكثر من ذلك، اتّضح لجموع السودانيين أن الخروج من مصر إلى رحابة العالم دونه خرط القتاد. فمصر (الشقيقة) كانت قد أجرت العديد من البروتوكولات الدبلوماسية مع جميع السفارات الأجنبية بها للحيلولة دون منح السودانيين أي تأشيرة خروج منها، بحجّة أن ذلك سيدفع بأضعاف العدد الحالي للقدوم إلى مصر. تلك كانت حجّة وجيهة بالنظر إلى الهجمة المليونية للاجئين السودانيين. ثم اكتشف السوادنيون أنه محكوم عليهم أن يظلّوا عاطلين عن العمل، ليس لقلّته فحسب، بل لتشديد النظام ضد كلّ من يخدّم السودانيين. إذن من أين لملايين السودانيين أن يأكلوا ويشربوا ويسكنوا؟

هنا لم يجد أفراد هذا الشعب المهجور غير أن يتّصل الواحد منهم بأقاربه في دول البترول أو في الدول الغربية لإرسال بعض المال ريثما يتدبّر الواحد منهم أمره. وهكذا بدأت تحويلات السودانيين تتدفّق على مصر، واستمرّت لأعوام وليس لفترة قصيرة كما كان يظنّ اللاجئون، وذلك لسبب بسيط إذ إن المشكلة لم يكن لها حل. هذا هو سبب فتح مصر لأبوابها، وهو أمر خطط له النظام المصري بدقّة. فيما بين الأعوام 1996م ـ 1999م فاقت تحويلات السودانيين ما تدرّه قناة السويس للخزينة المصرية. ليس هذا فحسب، بل إن المواطن السوداني كان يمرّ بسلسلة من المماطلات المهينة عندما يُخطره ذووه بأن المبلغ قد تمّ تحويله على البنك كذا عن طريق الفاكس رقم كذا ... إلخ. بالاستفسار عن المبلغ درجت البنوك على نفي أن تكون التحويلة قد وصلت (لاحظ أنها بالفاكس، أي أنها فورية التحويل والصرف). وهكذا تستمرّ المماطلة لأكثر من شهر وأحياناً لشهرين، وهناك كثيرون غادروا القاهرة دون أن يتمكّنوا من صرف بعض الحوالات المالية. استمرّ هذا الحال لأكثر من عشرة سنين حتّى ضجّ السودانيون بالشكوى ولا من مغيث. ثمّ أخيراً انتبهت مؤسسات حقوق الإنسان لشرك "العبيد" الذي نصبه النظام المصري بيعاً وشراءً للسودانيين واستثماراً لمأساتهم الوطنية لقاء دراهم من مال السّحت الذي ظلّت الدولة المصرية لأكثر من عشرة أعوام ترضع من لبانه. وبهذا شرعت وكالة الأمم المتحدة للاجئين في إعادة توطين هؤلاء السودانيين في العديد من أقطار العالم، وهو الأمر الذي خُتمت فصوله بمأساة مذبحة القاهرة عشيّة عيد الاستقلال لجموع اللاجئين السودانيين العزّل.

بخصوص هذه المذبحة نشير إلى جملة حقائق تترتّب عليها نتائج جدُّ خطيرة. أولها أن هؤلاء الناس مسجّلون لدى وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين، الأمر الذي يضعهم تحت حمايتها المباشرة. ومع هذا ذُبح هؤلاء العزّل وهم على أعتاب باب المؤسسة الدولية، وأمام كاميرات وكالات الأنباء العالمية. النقطة الثانية إن عدد الوفيّات الناجم عن تلك الهجمة البربرية لقوات الباشبوزوق والعساكر الإنكشارية قد بلغ حتّى الآن 265 حالة وفاة، وليس 25 حالة كما تصّرح السلطات المصرية، وهذا بناءً على الإحصاءات الواردة ممّن تبقّى من لجنة اللاجئين المعتصمين والتي تعمل الآن في ظلّ ظروف لا يعلم بها غير الله، فلهم الله، إنه نصير الضعفاء. النقطة الثالثة هي أن ما تمّ قد تمّ بتنسيق تام مع النظام السوداني. تؤكّد هذا تصريحات محافظ الجيزة للصحفيين حيث ذكر بأن فض الاعتصام بهذه الطريقة قد تمّ بموافقة النظام في الخرطوم. وفي الحقّ فإن إفادة أو نفي محافظ الجيزة ليست بذات بال، ذلك لأن مجرّد تأييد النظام في الخرطوم لما فعلته الكلاب البوليسية المصرية يكفي دليلاً ليس على تواطؤه فحسب، بل على مشاركته في التخطيط للمجزرة. وتفيد العديد من المصادر المطّلعة في مصر بأن التوجيهات كانت محدّدة، وهي توجيه الضربات على الرأس، على غرار "العبد أدّيهو في راسو". وفي سبيل إجبار النساء اللائي حَمَيْن رؤوسهنّ بأيديهنّ، بلغت النزالة بكلاب الباشبوزوق وقوّات الدفتردار الانتقامية التجرّؤ على رفع فساتين النساء حتّى إذا ما أنزلت المرأة يديها عن رأسها لا إراديّاً لستر جسدها انهالوا ضرباً على رأسها. كلّ هذا تمّ تحت أعين وكالات الأنباء العالمية، فتصوّر! لقد قتلوا الناس وهم يصلّون، مسلمين ونصارى، كما قُتل أصحاب الأخدود، أولئك بالنار وهؤلاء بالماء والهراوات. ثمّ داسوهم بالأقدام في الرّغام والطين والوحل وهم بين برزخ الحياة والموت.

ثمّ ساقوا الناس كالخراف والماعز، منهم من جُرّ من يديه، ومنهم من جُرّ من قدميه، ومنهم من جُرّ من أذنيه، ومنهم من دُفع من الخلف باللكمات والسياط كالحمير. فساقوهم إلى معسكرات لم تُهيّأ لاستقبال البهائم، فرموهم بها والواحد منهم ينزف بجسده فلا يأبه لذلك إذ يهمّه نزيف الفؤاد المفطور على زوجةٍ غائبة أو طفلٍ مفقود، أو صديقٍ تركه مجندلاً في الوحل. ثمّ ساقوهم للمستشفيات، لا لعلاجهم بل لقتلهم تحت التخدير ثم سرقة أعضائهم الداخلية. ومنهم من فاق من التخدير، فتركوه ينزف حتى نزلت عليه رحمة الله وسكينة الموت ففارقته الحياة.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو لماذا غيّرت السلطات المصرية من سياسة استضافة اللاجئين السودانيين إذا كان ذلك يدرّ عليها كل تلك الأموال الطائلة؟ الإجابة تكشف عن بعدٍ آخر للانحطاط المصري الرسمي. إن من تبقَّوا من اللاجئين السودانيين كانوا في الواقع من فقراء الفقراء ومُعدَمي المُعدمين الذين ليس لهم أحد يرسل لهم بدرةً من المال فتقطّعت بهم السبل في مصر إذ خذلتهم مفوّضية اللاجئين. هؤلاء هم فعلاً ملحُ الأرض وسمادُها، منها وإليها، في الرّغام والوحل والطّين، وعلى الأسفلت، وعلى طاولة المشرحة، وهائمين في الطُّرُقات بلا مالٍ أو أوراقٍ ثبوتية، أي بلا هويّة. ثمّ بعد كل هذا يتحدّث بعض السفهاء عن العلاقات الأزلية والإخاء.

فإذا كان هذا هو ما ينوبنا من الجارة "الشقيقة" مصر، فما الذي كان يمكن أن ينوبنا من باقي الدّول العربية يا تُرى؟ إن الأسس الأخلاقية لهذا السلوك تعود لا مراء إلى مؤسسة الرق، وعلاقة السيّد بالعبد، قبل الحريّة وبعدها، حيث يظلُّ السيّد سيّداً والعبدُ عبداً وإن طالت عمامتُه.

 

الدول الغربية وطعن الحركة الشعبية من الخلف:

في أوّل اجتماعٍ ضمّ وفد الحركة الشعبية لتحرير السودان مع وفد النظام الحالي عند بدء مفاوضات أبوجا بدايات التسعينات من القرن الماضي، شرع وفد النظام في الكلام عمّا أسماه مشكلة الجنوب. عندها ردّ عليهم وفد الحركة بأنهم بهذه الأجندة إنما يتكلمون مع الجهة الخطأ، ذلك لأن وفد الحركة لم يأت إلى أبوجا للتفاوض حول مشكلة الجنوب حصراً بل مشكلة السودان عامة ومن بينها مشكلة الجنوب. بهذه الفهم القومي الشامل بدأت الحركة الشعبية تدشين نضالها المجيد الذي نجح في إيقاظ باقي قوى الهامش. وبهذا الفهم الذي لا يخضع للتمفصل الأيديولوجي الخطّي (شمال ـ جنوب)، بل يقوم على التمفصل الأيديولوجي الدائري (مركز يحيط به هامش) خاضت الحركة الشعبية حروبها المجيدة في سبيل تحرير السودان من ربقة آليات التمركز والتهميش. وبهذا الفهم أصبحت الحركة الشعبية نموذجاً احتذته باقي مجموعات الهامش في تدشين نضالها من حيث التكتيك وحتّى الاسم. كما بهذا الفهم أثبتت الحركة الشعبية بلا شك لجميع المراقبين المحليين والدوليين أن تركيبة الصراع ليست بين شمال وجنوب بل بين مركز وهامش، وأن مشاكل الهامش واحدة في أي مكان من السودان، جنوبه، وشماله، غربه وشرقه. ثم بنفس هذا الفهم شرعت الحركة الشعبية في بناء الأحلاف القويّة مع العديد من القوى المهمّشة في جبال النوبة وجبال الأنقسنا ثم في دارفور، فالشرق، والشمال. وكان أن هيّات الحركة الشعبية نفسها للدخول في المفاوضات بهذا الثقل القومي، وإلاّ فمواصلة الحرب المجيدة بذات الثقل. وفي كل هذا كان نظام الخرطوم المركزي يعمل جاهداً كيما يحشر الحركة الشعبية في خانة الجنوب فقط، ولكن دون أن يحقق أي نجاحات. إذن فكيف انتهى الحال بالحركة الشعبية كيما تفاوض في اتّفاقية نيفاشا باعتبارها حركة تمثّل الجنوب؟ وقد تلاحظ أن كلا طرفي التفاوض ـ الحركة الشعبية ونظام الخرطوم ـ لم يكونا متحمّسين لتوقيع هذه الاتّفاقية. فمن الذي كان يقف وراءها، ومن المسئول عن تخلّي الحركة لكل مواقفها القومية؟ الجواب عن ذلك، ببساطة، يعود القوى الغربية التي رعت هذه الاتّفاقية، إذ هي السئولة عن كل هذا.

بدأت مشاركة الدول الغربية في المفاوضات أوّلاً بالنرويج، والتي أمّنت على الخط القومي الوحدوي للحركة باعتباره مسلّمة وطنية، ثمّ بعد قليل انضمّت إليها أمريكا وبريطانيا، ليبدأ تغيير المواقف بدخول الأخيرتين إلى مطبخ صناعة المفاوضات. مثّل بريطانيا في هذه المفاوضات ألان قولتي كما مثّل أمريكا دانفورث، وهما الرجلان المسئولان مباشرةً عن الضغط على نظام الخرطوم والحركة. اتّضح للمراقبين أن الخط الأمريكي البريطاني قائم في أساسه على التمفصل الخطّي الذي ينظر إلى الصراع في السودان على أنه بين الشمال العربي المسلم ضد الجنوب المسيحي الأفريقي. وبالطبع لم يكن من الممكن أن يذهب أي إنسان إلى أن ساسة الدولتين العظميين لم يكونوا مستوعبين لتطورات الموقف في السودان من الناحية الجيوبوليتيكية، وتجاوز الصراع للتمفصل الخطّي الذي يبتسر الأمور ويسطّحها. إذن تلك كانت سياسة مدروسة لغرضٍ في نفس يعقوب. ثمّ اتضحت معالم المشروع الجديد الأمريكي البريطاني على أنه قائم على فصل الجنوب عن الشمال، الأمر الذي يحيل مشروع السودان الجديد إلى مجرّد أحلام لا مكان لها في الواقع. في كل هذا لم تُراع الدولتان لواقع الأحلاف الناجحة التي بنتها الحركة الشعبية مع العديد من قوى الهامش، مثل جبال النوبة والأنقسنا. من جانب النظام كان كما هو العهد به مشغولاً بمآلات إجراءاته القمعية طيلة هذه المفاوضات، إذ انحصر همّه في أن يوجد له مخرجاً مناسباً يحتفظ به بحق تطبيق الشريعة جلداً ومداهمةً للناس في بيوتهم. بهذا حملت المقترحات الأمريكية البريطانية تغييرات تكتيكية لنظام الخرطوم. أمّا من جانب الحركة فقد تبيّن أن الضغط عليها كان يذهب في اتّجاه إحداث تغييرات إستراتيجية وبالتالي تكتيكية في طرح الحركة ومشروعها.

هنا تثور العديد من الأسئلة: إذ ما الحكمة في أن يتمّ تجريد الحركة الشعبية من قوميتها وإعادة حشرها في الجنوب وهو ما فشلت فيه مؤامرات نظام الخرطوم طيلة سني حكمه؟ ثمّ ما الحكمة من إيقاف نزيف الحرب في الجنوب في الوقت الذي انتشرت في باقي أقاليم السودان دون أن يأبه لها الجانبان الأمريكي والبريطاني؟ وما معنى أن تُسمّى هذه الاتّفاقية باتّفاقية السلام الشاملة وهي عاجزة عن إيقاف الحرب؟ فأيهما أشمل، الحرب أم الاتّفاقية؟ ثم ما الحكمة من التفاوض مع كل مجموعة على حدة في الوقت الذي كادت فيه الحركة الشعبية من أن تؤسس لجسم واحد يجمع كل القوى المهمّشة، الأمر الذي من شأنه أن يوقف الحرب مرّةً واحدة وعبر جولات تفاوض شاملة وجامعة؟

هذه الأسئلة وغيرها كثير ظلّ يثور في رؤوس المراقبين محليين ودوليين، لكن الإجابة القاطعة لسلسلة التساؤلات الحيرى بدأت تضّح قليلاً قليلا. فالمشروع الأمريكي ليس قائما فقط على فصل الجنوب، بل يقوم أيضاً على تفكيك الدولة السودانية وذلك ضمن المشروع الأمريكي الكبير الرامي إلى إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة والذي يقوم على تفكيك أي دولة كبيرة المساحة الأمر الذي يعني أن تكون غنية في مواردها الطبيعية، وبالتالي تكون لها طموحات في بناء وتطوير نفسها إلى قوّة إقليمية، الأمر الذي سيؤدّي إلى اصطدامها لا محالة مع الغرب عموماً وأمريكا خصوصأ. ولهذا عمدت إلى فصل كل مجموعة مقاتلة عن الأخرى لتدخل كل واحدة على حدة في مفاوضات تخصّ إقليمها دون باقي السودان. أكثر من ذلك اتّضح أن المشروع الأمريكي البريطاني يدّخر للجنوب ما هو أسوأ من كل هذا، إذ من المخطط أن يتمّ تفكيك الجنوب إلى دويلات مشيخية (أي قائمة على العشائر وبطون القبائل) بعدد الولايات الحالية، ثلاث منها فقط ستكون فاحشة الثراء بينما الأخريات تعيش بالإعانات. وفي هذا لن تكون أي واحدة منها قادرة على حماية نفسها دون أمريكا.

 تلك كانت اللحظة التي اكتشف فيها النظام أن المشروع الأمريكي لا يتضمّن إزالته، برغم كل التهديدات بالعقوبات ومحكمة العدل الدولية، والتي لم تكن أكثر من عصا غليظة يُلوّح بها في وجه النظام متى ما لم يتصرّف حسب الخطة المرسومة. وهنا أيضاً بدأ النظام يتحوّل إلى شريكٍ أصيل في اللعبة بدلاً من طرف ضعيف يُملى عليه ما ينبغي أن يفعله. وهذا هو ما جعل النظام أكثر ثقةً في نفسه لإنفاذ سياساته المعادية لمجموعات الهامش الأفريقي، فكان تسليح شُذّاذ الآفاق فيما عُرف بالجنجويد، وتقديم الدعم اللوجستي لهم بالأرض والجو، الأمر الذي نجم عنه ارتكاب الإبادة والتطهير العرقي في دارفور. بخصوص المشروع الأمريكي كانت العقبة هي موافقة مصر على فكرة تفكيك السودان، والتي وافقت عليها مؤخّراً عندما تمّ الاتّفاق مع النظام الحالي على أن تقوم مصر باقتطاع (احتلال) مثلّث عوينات ـ دنقلا ـ حلايب، وهو ما أقرّه عبد الرحيم حمدي في تقريره الاقتصادي الذي أشار فيه إلى عدم جدوى صرف أي أموال في منطقة أصبح من المعروف أنه "طايرة". وقد كانت مقدّمة هذا ما يسمّى بالحريّات الأربعة وبيع مصر عدد 6.1 مليون فدان بمثلّث الحوض النوبي (حلفا ـ دنقلا ـ عوينات) وذلك لتوطين عدد 15 مليون فلاح. ثمّ شرع النظام في تطبيق خطته الرامية إلى رهن كل البلاد إلى شركات عربية، فكان الإعلان عن إحالة حق التصرّف في أراضي الولاية الشمالية لمدير مشروع سد مِرْوِي والذي بدوره باع حوض بيّوضة والبحيرة الناجمة عن السد إلى شركات إماراتية ومصرية، في الوقت الذي سيقوم فيه بترحيل المتأثّرين بالسد إلى أرضٍ ليست ذات ماءٍ ولا زرع تغطّيها طبقة من الرمال ترتفع في أدنى حالاتها إلى نصف المتر. هذه الاتّفاقية هي نفسها مصدر "قوّة عين" النظام المصري في قتل اللاجئين السودانيين في عيد استقلال السودان الخمسين.

بيد أن قبول جون قرنق بهذا المخطط كان من سابعة المستحيلات. في نفس الوقت لم يكن في مقدوره الوقوف في وجه الإعصار الأمريكي والذي شرع أيضاً في توجيه التهديدات بالعقوبات ومحكمة الجزاء الدولية في حال عدم إذعان جون قرنق لهذا المخطط. هنا لم يكن من بد أمام ملك كوش غير أن يُحني رأسه للعاصفة، مبيّتاً النية على الالتفاف حول الاتّفاقية.

 

اغتيال جون قرنق: من الذي قتل المسيح؟

قبل جون قرنق بالتوقيع على التّفاقية كما صاغها الأمريكان بيحث تنتهي بفصل الجنوب، الأمر الذي سُرّ له الأمريكان وأتباعهم من البريطانيين أيّما سرور. إلاّ أن القوم جُنّ جنونهم عندما شرعت الحركة الشعبية في فتح باب العضوية من غير الجنوبيين، فإذا بمكاتبها في حلفا وزالنجي وطوكر يصطفّ الناس طيلة النهار لكسب شرف العضوية. إذن فجون قرنق  لم يقبل بالاتّفاقية إلاّ مناورةّ ريثما يعيد بناء تنظيمه بصورة قومية يستحيل معها فك الاشتباك جنوبياً. هنا كان عامل الزمن هو الحاسم، فإذا نجح جون قرنق في بناء تنظيم الحركة الشعبية بهذه الصورة، عندها سيكون تنفيذ المخطط الأمريكي شبه مستحيل، هذا دون أن نضع في الاعتبار المتغيرات الأخرى في الساحة الدولية واحتمالات التدخل الأوروبي. هنا اتّخذ الأمريكان قرار تصفية الشهيد جون قرنق.

بخصوص الطائرة التي تحطّمت بالشهيد جون قرنق تجدر ملاحظة أن الواحد منّا إذا أراد أن يصدم بها برج التجارة العالمي، لراغت وانحرفت عن مسارها تفادياً للاصطدام. هذا لأن مثل هذه الطائرات يعمل بنظام الأقمار الصناعية والرادار والكمبيوتر مجتمعين بحيث يقلّ فيها الاعتماد على طاقم القيادة. لكن مثل هذه الطائرات يكون من الميسور لمن له سيطرة على نظام الأقمار في أن يحجب عنها التغطية القمرية، الأمر الذي يحوّل الطائرة إلى شيئ أشبه بصندوق طائر. فإذا أضفنا إلى ذلك رداءة الجو ليلتها، بالرغم من أن شيئاً كهذا ما كان ليؤثّر في سلامة ملاحتها إلاّ إذا حُجبت عنها التغطية القمرية، يمكننا أن نكوّن فكرة واضحة وبسيطة عن كيفية تحطّم الطائرة في 30 يوليو من عام 2005 بمنطقة أسماها هو نفسه "كوش"، ولا يموت الملوكُ في كوش إلاّ في مقام الملوك. لكل هذا يمكننا أيضاً أن نفهم لماذا صرّح الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني بأن سقوط الطائرة ليس ناجماً عن عطلٍ فنّي بل هو عمل مدبّر. وكلنا يعلم بأن الأمريكان كان أول من عثر على حُطام الطائرة، كما كانوا أوّل من بادر بتقديم خدماتهم للانضمام إلى لجنة التحقيق والتقصّي في الحادثة.

بعد موت جون قرنق لم يتّصف الموقف الأمريكي بالبرود واللامبالاة فحسب، بل أظهروا عن عدم استعدادهم لتحمّل أي تباطؤ في تنفيذ مشروع فصل الجنوب. فبمجرّد تنصيب سلفا كير خلفاً لجون قرنق، صرح مؤكّداً أنه سيسير على نفس خطى سلفه جون قرنق، وأنه رجل وحدوي وسيعمل من أجل مشروع السودان الجديد. عندها جاء رد الفعل الأمريكي سريعاً ومليئاً بالتهديد وخالياً من الحصافة. فقد شنّ المبعوث الأمريكي روجر هنتر بعد ذلك بأقلأ من أسبوع نقداً غير مبرر للشهيد جون قرنق متّهماً إيّاه بالديكتاتورية والعمل المنفرد، ليشيد بعدها بالقائد سلفا كير مشيراً إلى أنه رجل يعرف كيف يعمل مع وضمن المجموعة بعكس جون قرنق. ثم زاد بأن صرّح بأنهم ـ أي في الإدارة الأمريكية ـ يعلمون بأن أهل الجنوب يريدون الانفصال وبأكثر من نسبة 96%، وأن هذا لا يزعجهم في الإدارة الأمريكية. ولا يعلم أحد مصادره في هذه النسبة التي أوردها. بعدها مباشرةً صرّح القائد سلفا كير بأنه وحدوي، نعم، لكنّه لن يعمل على فرض خيار الوحدة إذا ما اختار أهل الجنوب الانفصال، مضيفاً أنه لا يملك غير صوته فقط.

والآن لا تزال أمريكا وبريطانيا يواصلان تنفيذ سياستهما الرامية إلى تفتيت السودان. فالآن يمارسون الضغوط على حركة تحرير السودان لتنكفئ في إقليم دارفور، وهي التي كان في مقدورها من البداية أن تحصر اسمها في دارفور فتتسمّى باسم "حركة تحرير دارفور". إذ يُنظر إلى مطالبها المتعلّقة بالسودان ككل باعتبارها بنوداً تعجيزية، فضلاً عن محاصرتها إعلامياً ورسمياً حتى لا تتناول في المفاوضات أي شيئ يتعلّق بالسودان ككل. أمّا بخصوص جبهة الشرق، فهي تعاني من تجاهل مريب من الأمريكان والبريطانيين، وهذا ليس لانشغالهما بأمور أخرى، بل لتأجيل موضوع شرق السودان هذا إلى حين الفراغ من إنفاذ الخطّة في إقليمي دارفور والجنوب. فخطّتهم لإقليم الشرق تشمل إقامة منطقة تجارة حرة لا تخضع لأي دولة، بغية إشراك إسرائيل فيها من قبيل التهيئة لتطبيع علاقاتها مع الدول العربية المجاورة لها، مثل مصر، الأردن، وفلسطين، على أن تنضمّ لهم السعودية. وهذا من شأنه أن يتيح بديلاً لمنطقة الخليج الذي غالباً ما سيشهد مرحلة طويلة من عدم الاستقرار.

متزامناً مع هذا شرع العديد من الإعلاميين والأكاديميين الغربيين (وهذه مؤسسة عرّابي السياسات الغربية الرسمية) في ترداد مقولة كيفية جعل الوحدة جذّابة للجنوبيين، بافتراض أن هذا من مسئولية الشماليين. ولم تكن هذه الخطوة إلاّ لتكريس التمفصل الخطّي (شمال ـ جنوب). وتمشّياً مع هذا الخط جهد النظام الحالي من خلال تشغيل آليات القمع والمداهمات في جعل أي شيئ في السودان جذّاباً أللهمّ إلاّ الوحدة، ولا يزال يعمل على هذا. وتكمن الخطّة في أن يتصرّف بطريقة تشير بوضوح أن دخول الحركة الشعبية في الحكومة لم يكن على حساب أيٍّ من سياساتها القمعية المعروفة. أي أن اتّفاقية السلام ما هي إلاّ "تنفيس" للحركة الشعبية وتقوية للنظام السادر في غيّه وطاغوته.

لم يكن الشهيد جون قرنق غافلاً عمّا يُحاك ضدّه، كما لم يكن ينقصه المستشارون، فضلاً عن الأصدقاء. وقد قام كاتب هذه السطور بتوجيه النصيحة له بعدم توقيع هذه الاتّفاقية. وكان مما قلته له: "بتوقيعك لهذه الاتّفاقية ستجعل من نفسك هدفاً للتصفية". وكنت في يناير من عام 2004م قد طرحتُ عبر الإنترنت كتاباً بالإنكليزية ذكرتُ فيه هذا الأمر، مخلصاً النصحَ ومُشفقاً. وفي يناير من عام 2005م في محاضرة قدّمتُها بمدينة الشارقة بالإمارات العربية المتحدة لم أذكر هذا الأمر فحسب، بل توسّعت في رسم سيناريوهات تصفية الرجل، ذاكراً ثلاثة منها: أ/ الاغتيال من قبل أحد موتوري الحركة ممن فقد أخاه أو أي عزيزٍ له وهو يعني الاعتماد على شخصية خارجية، أي ليست من أجهزة الاستخبارات الأمريكية مما يُضعف هذه الاحتمال؛ ب/ انقلاب داخلي، الأمر الذي يحتاج إلى مدّة لتدبيره، وهو ما لا يفيد خاصّةً وأن عامل الزمن كان حاسماً؛ ج/ إسقاط طائرته بطريقة تستعصي على الكشف بيسر، وهو ما أتوقّعه، وهو ما حدث.

 

قوى الهامش المنظمة: أداة التغيير:

إن هذا الوضع لا يمكن أن يستمرّ على هذا الحال. كما غالباً ما تؤدّي حالة التراوح هذه (stalemate) التي تعيشها الحركة الشعبية إلى انبثاق قوى جديدة، إمّا بالانشقاق عنها ومن ثمّ الدخول إلى الغابة، أو بالانضمام إلى الذين لا يزالون يحملون السلاح. أمّا بخصوص القوى السياسية التقليدية، فقد ثبت أنها تعاني من قصور كلّي في وظائفها التنظيمية والفكرية، الأمر الذي يجعلها عرضة للمساومة من قبل النظام الذي ضخّت فيه اتّفاقية السلام الناقصة هذه دماءً جديدة.

بيد أن الأهمّ من كل هذا أن تعمل باقي قوى الهامش، من شرع في النضال مدنياً أو عسكراياً أو الاثنين معاً، ومن لم تشرع بعد ولكن تعمل جاهدة كيما تتغلّب على عوامل التخذيل الداخلية كحال أيّ حركة بادئة، على هذه الحركات جميعاً أن تجوّد من رؤيتها للواقع المشخّص، ثم تسعى لتوحيد جهودها، وذلك بمناقشة، وتعديل، وإضافة، وحذف ما يرونه، ومن ثمّ بلورة موقف واحد بالتوقيع على مانفيستو الوطن السوداني المتّحد (كوش) [the Congress of United Sudan Homeland- CUSH] والذي تواضعت على صياغة مسوّدته الأولى جميع قوى الهامش بعيد منتصف تسعينات القرن الماضي في الخرطوم. إن هذا التحالف العريض هو الضمانة لتحقيق المرامي والأهداف، وهو الضمانة أيضاً ضد أي استفراد إمبريالي بأي مجموعة منها كما حدث للحركة الشعبية. إن الحركة الشعبية قد استوى عودها وعجمته تجاريب الأيام، فلا خوف عليها. فإذا ما توحدّت باقي مجموعات الهامش، فحتماً ستجد الحركة الشعبية تنتظرها في أول عطفة من عطفات النضال.

 

 

 

* ورقة عمل قدمت للندوة التي نظمها "تضامن القوى السياسية ومنظّمات المجتمع المدني ببريطانيا مع جبهة الشرق"، بلندن، في السابع من يناير عام 2006  بمناسبة ذكرى مرور خمسين عاماً على استقلال السودان ومرور عام واحد على مذبحة البجا ببورتسودان ومذبحة اللاجئين السودانيين بالقاهرة عشيّة عيد الاستقلال 31/12/2005م

تحت شعار: السودان إلى أين؟

 

** نحت هذه الورقة بصورة أساسية إلى استعراض مانيفستو كوش الذي تمّت صياغته منتصف تسعينات القرن الماضي ليخدم كأرضية لتحالف عريض يضمّ مجموعات الهامش في نضالها المجيد لتفكيك ماكينة التمركز والتهميش. وأغلب فقرات هذه الورقة عبارة عن اقتباسات كاملة من المانيفستو ودراسات أخرى قدّمتُها من قبل. وما يجدر ذكره عن هذا المانيفستو إجماع القوى السياسية التي اطّلعت عليه بأنه:The most comprehensive treatise of its kind .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

    

 

© جميع حقوق النشر محفوظة للجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية
TOUS DROITS RSERVS © 2005
Copyrights © 2005Sudan for all. All rights reserved

Web designers/ developers:mardisco