header

فنون تشكيلية
Plastic Arts |
Arts plastiques

 
معارض تشكيلية
Exhibitions, Expositions
مقالات، دراسات، بحوث
Articles, Etudes et Recherches | Essays, Research
 

 الفن أفريقانيــــــــة. كوم

 حسن موسى

 

النص الأول: من اخترع الأفارقــــة

الحلقة الأولى
 دياسبورا أنــا؟


دياسبورا أنـــــا؟
 

اذا رغبت، بصفتك فنان أفريقي، في المشاركة في واحدة من التظاهرات الموسمية الكبيرة التي تحتفل بالثقافة الأفريقية في العواصم الأوروبية، فيينبغي عليك الوفاء بعدد من الشروط أولها أن تكون من مواليد أفريقيا، أي مكان في أفريقيا، وياحبّذا أفريقيا "السوداء".

وثانيها أن تكون مقيما على مقربة جغرافية عملية، يعني في متناول اليد، يد منظمي التظاهرة، فأفريقيا تزداد بعدا بقدر ما تضيق ميزانية التظاهرة الثقافية الأفريقانية في البلدان الأوروبية. وأن لم يكن في وسعك الوفاء بالشرطين أعلاه فلا تيأس، فهناك فرصة أخرى ان كنت من ذوي البشرة السوداء كما السود الأمريكيين والسود البريطانيين أو السود الفرنسيين المدرجين في فئة الدياسبورا الأفريقية..

وهكذا يا سادتي تمكنت بذريعة الفنان الأفريقي الأسود المدسبر [من دسبر يدسبر والواحد دياسبوري وهو المقيم في تيه الدياسبورا والكاتبون في لغة الضاد يترجمون الدياسبورا بعبارة "الشتات" لكني أحبّذ: عليها الدياسبورا لما تنطوي عليه من احالة مجزية نحو التقليد الديني اليهودي النصراني والله أعلم]. أقول تمكنت من المشاركة في أفريقيا 95 واحدة من كبريات التظاهرات الأوروبية المكرّسة لفنون أفريقيا المعاصرة وقد نفعتني اقامتي ـ في فرنسا ـ على مرمى حجر من موقع التظاهرة الفنية في لندن المحروسة.

وقد نظمها البريطانيون ضمن الموسم الأفريقي في لندن وفي بعض حواضر بريطانيا في سبتمبر 95 وخلال أيام التظاهرة، اتيحت لي مقابلة عدد كبير من الأفارقة الأصليين أو المدسبرين وجلّهم كتاب وفنانين ومؤرخي فنون ومنظمي معارض. وقد تمكنت حتى من مقابلة بعض السود الأمريكيين والبريطانيين الذين كانوا يتساءلون حول أصالة أفارقة شمال أفريقيا من المصريين والمغاربة حيث أن التظاهرة اشتملت على معرض ضم جماعة من فناني شمال أفريقيا في بعض صالات لندن. وورّطتني الثرثرة مع بعض الفنانين السود المدسبرين في مناقشة عجيبة في نوعها، فمن جهة كان صاحباي في مواجهتي بصفتهما البديهية كفنانين أسودين مدسبرين أحدهما من سلالة أهل جزر البحر الكاريبي، ولد في لندن وتربى فيها، والآخر أمريكي، ومن الجهة الأخرى كنت أنا يصحبني يقيني بكوني عربي وأفريقي وغربي في آن. كانت حجة محدّثي تتلخص ببساطة في كون أهل شمال أفريقيا غرباء "وفدوا من الخارج"، خارج القارة السوداء. وذكرني ذلك الموقف بالجدال الذي أجج "الأزمة الدبلوماسية" حول المهرجان العالمي الثاني للثقافة السوداء والآفريقية في لاغوس عام 1976. وأقول "الأزمة الدبلوماسية" لأن كل من السنغال ونيجيريا وهما البلدان المعنيان بتنظيم المهرجانيين الأول والثاني للثقافة الأفريقية والسوداء، انخرطا بحمية وطنية عالية في نزاع بدأ ـ في ظاهره ـ من خلاف مفهومي حول تعريف الثقافة الأفريقية.

السنغاليون الذين صمّموا ونفّذوا المهرجان الأول للثقافة الأفريقية على مرجع الزنوجة وحده دون غيره من مراجع ثقافات القارة الافريقية كانوا يرون الثقافة الافريقية كثقافة لكافة المجموعات السوداء أينما حلّت وقد انطوى موقفهم على اضمار يستبعد أهل شمال أفريقيا من دائرة المساهمين في الثقافة الأفريقية. وبالتالي فهم لم يقبلوا بما اعتبروه تحريفا أجراه النيجيريون الذين قاموا باعادة تعريف قاعدة الضالعين في الثقافة الافريقية لتشمل كافة الافارقة بما فيهم أفارقة شمال أفريقيا وذلك دون استبعاد المجموعات السوداء خارج أفريقيا. وقد تفاقم النزاع حين عمدت السلطات النيجيرية إلى عزل السنغالي علي ديوب الذي كان يشغل منصب السكرتير العام للجنة العالمية للمهرجان. وقد ترتب على عزل ديوب أن شنت الصحف السنغالية حملة انتقادات على أسلوب نيجيريا في تدبير المهرجان، ولم تتوانَ الصحافة النيجيرية عن رد الصاع صاعين دفعا للأذى عن شرف الأمّة النيجيرية الخارجة لتوها من محنة الحرب الأهلية في بيافرا. ويجدر القول بأن اقتصار هذا النزاع على النيجيريين والسنغاليين دون غيرهما من الافارقة القريبين من هؤلاء أو من أولئك ربما وجد تفسيره في كون أغلب الشهود آنذاك كانوا على علم بكون النزاع ليس نزاعا فكريا حول مفهوم الثقافة الأفريقية وانما هو نزاع سياسي له علاقة بطبيعة الخلفية الجيوسياسية لتعبيرات الحرب الباردة في أفريقيا. لقد كان نظام أب حركة الزنوجة، الرئيس سنغور، يقود المعارضة ضد نيجيريا باسم أنظمة الناطقين بالفرنسية جنوبي الصحراء، ولو شئت الدقة، فقل أن السنغال كان يقود المعارضة ضد نيجيريا باسم فرنسا التي كانت وما زالت تعتبر بلدان غرب أفريقيا كنوع من وقف سياسي استراتيجي لا ينازعها فيه أحد. وحقيقةً، فموقف الرئيس الشاعر "الزنجأفريقاني" كان يتميز بقدر من التركيب لا يخلو من الحرج. ذلك أن الرجل كان يقيم على قسمة عسيرة بين مقتضيات روح التضامن الـ "كل أفريقاني" [لو جازت ترجمتي لعبارة الـ "بان آفريكانيزم"] المغموس في التفاؤل السياسي الساذج الذي لا يسوّغ المعارضة ويعتبر النقد مرادفا للتشتت و شق الصف الكل أفريقاني، من جهة، ومن الجهة الأخرى، فقد كان عليه الوفاء بمقتضيات الامتثال لارادة فرنسا السياسية والتي يدين لها بالكثير ـ وقيل بكل شيء ـ فرنسا التي كانت قبيل المهرجان بوقت قصير، لا تتحرّج من تقديم الدعم المادي والأدبي لانفصاليي اقليم بيافرا، سواء تم ذلك مباشرة أو من خلال حلفائها الأفارقة الناطقين بالفرنسية. ولا عجب فقد كان إقليم بيافرا ـ وما زال ـ أهم منطقة لانتاج البترول في نيجيريا.

لكن أخواي من ذوي "الدم الاسود" اللذين كنت أتناقش معهما كانا في واد آخر. فهما لم يكونا يجهلان جيوسياسة أفريقيا فحسب بل هما لا يعتبران أن معرفة جيوسياسة القارة يمكن أن تقدم أو تؤخر في ما نحن بصدده. كانت حجّتهما تتلخص في سواد بشرتهما وسواد أفكارهما، وبديا في غيّهما العرقي كمثل من يضع "نظارات سوداء" حتى لا يري من خلالها سوى الجزء الأسود من العالم، غير أن المشكلة هي أن محاوراي كانا يعتبران أن سواد البشرة وسواد الخاطرة يؤهلهما لاعادة تنظيم افريقيا. في هذه المرحلة من مناقشتنا، تجلت لي أهمية وعظمة موقف نلسون مانديلا ورهطه الكريم بعد نهاية نظام ال "آبارتايد" في جنوب أفريقيا .فقد قبلوا الجنوب أفريقيين البيض كمواطنين مثل غيرهم من أهل البلاد ولم يتخذوا من لون بشرتهم ذريعة لآبارتايد معكوس، رغم أن بيض جنوب أفريقيا وصلوا جنوب القارة بعد قرون عديدة من وصول العرب لشمال أفريقيا.

وفي فرحتهما بسواد بشرتهما فمحاوراي لا يخفيان حلم العودة لـ "أفريقيا الأم". وفي خاطرهما فنحن كلنا ـ بما فيهم شخصي ـ أعضاء في جالية الأفارقة المغتربين المشتتين عبر أنحاء البسيطة.. يعني بالعربي "دياسبورا".

دياسبورا؟ أنا؟

و ماذا جنيت في حق الاله حتى أستحق مثل هذا المصير المقدس المجدول من أساطير العهد القديم؟ لو كانت هناك ذرّة دياسبورا في وجودي المتواضع فلابد أن لها علاقة مع الفترة التي عشتها في السودان موطني الأول قبل وصولي الى فرنسا، موطني الثاني و"أرض ميعادي" التي عدت اليها هربا من منفاي الأفريقي.

تقول الأسطورة اليهودية آن أهل الدياسبورا يرون "علامة" تنبئهم بنهاية عهد الشتات. وقد تجلت لي علامة نهاية دياسبورتي الشخصية في شكل الورق. أيوة الورق، ورق الألوان المائية المعهود. وقد فهمت ذلك يوم وجدت نفسي داخل متجر كبير للوراقة والأدوات المكتبية بمدينة "ليل" في شمال فرنسا حيث كنت أقيم في نهاية السبعينات. كان ورق المائيات مبذولا على الأرفف في شكل طبقات وطبقات من كل الأنواع وكل الأحجام. وسحبت بعض الأوراق، لمستها ببصري و"رأيتها بيدي" كما يعبر رسم"ايديوغرام" كتابة الصينيين في معنى الفحص المدقق الذي يوحد بين صورة اليد وصورة العين. وبقيت في ذلك المكان مفتونا بهذا الكنز العجيب، أسحب الأوراق من الرف أتفحصها وأتحسس ملمسها، أشمّها أكاد أمضغها من نشوتي وطربي، ولا عجب فقد تعلمت في كلية الفنون في الخرطوم أن ورق الألوان المائية شيء نادر وعزيز يعبر القارات والبحار والمحيطات حتى يصل الخرطوم عاصمة الصحراء حيث كنا. وكان من يحتاز على ورقة من نوع "وطمان، هاند ميد" يبقى زمنا يتدلل بها على نوعية الضوء ويفاوض عليها خيارات الزمان والمكان والموضوعات والأدوات، فيحول عليه الحول وورقة الخواجة "وطمان" تنتظر في حرزها الأمين. كنا نحتال على الندرة بالرسم على ظهر الورقة المستعملة أو بغسل الورقة بالصابون لمحو أثر الرسم القديم وتبييضها ثم كيّها وتهيأتها للرسم مرة أخرى. كانت ورقة المائيات ومازالت شيئا نادرا في ذلك المكان الملهم المتسمي كلية الفنون بالخرطوم حيث اكتشفت جل تقنيات أنبيائي المائيين من البريشت دورير لسام فرانسيس مرورا بتيرنر وشيلي وآخرين.. صعودا لموسى نبي المائيين عليه السلام الذي ضرب الماء فانفلق البحر .. والمائيات بحر من الفنون فحدّث .

دياسبورا؟

لا، شكرا يا صحابي فأنا لا أرغب في "العودة" لأفريقيا ولا لليبيريا ولا لأثيوبيا ولا حتى لاسرائيل الموعودة. فأرض ميعادي هي هنا حيث أقيم الآن [حتى اشعار آخر]. ذلك أنني كنت قد وعدت نفسي ببلوغها يوم تفتحت بصيرتي على حدود العالم وأنا يافع ألوّن الخرائط المدرسية بين "الشرقية الخامسة" و"الأميرية الوسطى"، ياله من زمان.. في ذلك الزمان، توصلت لتعريف نفسي كشخص حديث وكغربي غير أوروبي. ذلك أني لا أفهم لماذا يطالبني ال"بعض" بالعودة للـ "غولا" ـ وهي تدل على الأسر والنفي أو"الغُـل" في العبرية ـ بين الكافرين بالحداثة والرعايا المستديمين للنيوكولونيالية المتعولمة، وذلك لمجرد صيانة هويتي الثقافية الأفريقية. وما أدراك ما هويتي الثقافية الأفريقية؟ هذه الشبهة الأيديولوجية العرقية التي يسقطها علي رهط الأوروبيين والأمريكيين من ذوي البشرة السوداء الذين يحسدون القرد ـ كونهم يعرفون أنني ولدت في القارة المظلمة اياها ـ أنا بعيد منها بعد الذئب عن ابن يعقوب. بل أن بعد موضوعة الهوية الثقافية الأفريقية عني وغربتها علي يوفران لي مسافة آمنة منها فأسوّغ لنفسي حظوة تجاهلها أو تبنّيها حسب المصلحة الوجودية التي قد أجدها أو قد لا أجدها فيها. هذه الحظوة الفكرية التي أسوّغها لنفسي بالنسبة للهوية الثقافية الأفريقية تظل مستحيلة بالنسبة لهويتي الثقافية الغربية، فهذه الأخيرة لا تسمح لي بهامش مناورة يؤهّلني لوضعية الحَكَم فأختار بين أن أكون أو أن لا أكون. ومن جهة أخرى، فان وضعية "الحَكـَم" بالنسبة لسؤال الهوية الثقافية تنطوي على شيء من اللبس. ذلك أنني ان كنت أدبّر خياراتي الوجودية محكوما بمعطيات هويتي الثقافية التي هي بالضرورة سابقة على لحظة الخيار، فان مجرد قصدي الواعي لاتخاذ موقف من ما أسميه بـ"هويتي الأفريقية" انما يدحض أصل هذه" الهوية الأفريقية" التي، ان كانت تنفع في شيء، فهي انما توطّد من سيادة هويتي الثقافية الغربية. هذه الهوية الغربية المستبدة المتمكنة واثقة من ذاتها بحيث لا تتورّع عن رؤية نفسها متنكرة في زي "آخرها" الأفريقي. وفي تحليل نهائي ما، فليس هناك من كلف نفسه عناء استفتاء الأفارقة ما اذا كانوا يرغبون أو لا يرغبون في الانخراط في مغامرة التقليد الثقافي الغربي، وخلاصة الأمر يمكن ايجازها في كون القوم قد استقروا في المكان الذي أفسحه لهم سادة زمانهم من المستعمرين الغربيين الأوروبيين. مكان الهوية الثقافية الأفريقانية كما يعرّفها المهيمنون الأوروبيون.

ــ ولكنك مغترب تماما يا أخي. قالها "أخي" الأمريكي ذو الدم الأسود متعجبا من كلامي [لقد حذرتكم من كونها مناقشة عجيبة].

ــ مغترب من ماذا؟

ــ من ثقافتك الأفريقية.

ــ أيّهنّ؟

ــ ماذا تقصد بأيّهن؟

ــ أقصد أن كل واحد بيننا يحمل ثقافته الأفريقية الخاصة به..

و لم يبد على محياهما أنهما فهما مقصدي فتوكلت وحكيت لهما حكاية ركن القهوة السودانية، وهي حكاية ذات كفاءة في مثل هذا النوع من المناقشات..

في الخرطوم، في منتصف السبعينات، قررت شركة فرنسية فتح فندق كبير هو "ميريديان الخرطوم" كجزء من سلسلة فنادق المريديان المنتشرة في مختلف حواضر العالم الكبيرة. وفي بهو الفندق قرب المطعم العالمي الفاره قرر مدير الفندق فتح كافيتيريا في صالة صغيرة أطلق عليها اسم الـ "سودانيز كوفي كورنر". قد زينت الصالة على هيئة ديكور شرقاني ألف ليلوي بينما تنكرت الوصيفات [الأريتريات] في الزي الشهرزادي المعهود كما بذلته للعالمين السينما الهوليودية المستشرقة. باختصار، كان كل شيء على ما يرام بالنسبة للسائح الأوروبي الذي القت به المقادير في مدينة مثل الخرطوم. مدينة زاهدة مزاجها البدوي يحصنها من غوايات البيزنس السياحي عند مفترق دروب الشرق العربي وأفريقيا السوداء. غير أن الطريف في الأمر هو أن الخرطوميون سرعان ما اكتشفوا "ركن القهوة السودانية" وتقاسموا الدهشة الاكزوتية بالتساوي مع السياح من نزلاء المريديان. وبالنسبة للشباب الخرطومي من أبناء وبنات الطبقة الوسطى العربسلامية كان "ركن القهوة السودانية" بمثابة واحة يلجأ اليها الهاربون من رقابة البيوريتانية العربسلامية وتزمتها. ثم اتسعت دائرة الرواد لتشمل بعض العائلات الخرطومية الحديثة ..و خلال أشهر قليلة صار حلم مدير الفندق حقيقة لا يغالط فيها أحد وأصبح "ركن القهوة السودانية" يستحق اسمه كـ "تيبيكال سودانيز كوفي كورنر" عن جدارة في خاطر الرواد الأجانب وذلك بفضل دعم وتبني الرواد السودانيين من هواة الكوكا والشاي له.

ومغزى هذه الحكاية يمكن تلخيصه بكون الأفارقة قمينون ـ دون غيرهم ـ بانتاج ثقافة يمكن توصيفها بصفة الـ " افريقية" حتى وان كان ما ينتجونه من ثقافة مفارقا لمواصفات تلك الأصالة الأفريقية التي يصونها بعض "المختصين" من العارفين يالثقافة الافريقية.و الحرية التي يتمتع بها الأفارقة تجاه تعريف ثقافتهم هي حق طبيعي يملك الأفارقة تمديده ليشمل كل المجالات و كل الحدود وان تطرّفوا. وحق القوم في التطرف في تعريف حدود ثقافتهم أمر سيادي مشروع و مقدس حتى ولوأدّى بهم ذلك في منطقة الأمور المشتبهات من نوع تبنّي التمثّل الأوروبي لما ينبغي أن تكون عليه الثقافة الأفريقية. هذا النوع من التبني البراغماتي للقيم الثقافية الـ "مستوردة" يصبح واقعا ثقافيا أفريقيا من اللحظة التي يرى فيها الأفارقة مصلحة لهم فيه.

وهنا، عند تقاطع المصالح القومية والدولية يجدر فحص مفهوم ما يسمى ـ منذ منتصف الستينات ـ بـ "الفن الأفريقي المعاصر"، وأسميه مع بعض الصحاب "الفنأفريقانية" Artafricanisme. وما أدراك ما "الفنأفريقانية"؟ نوع فني جديد يتطور بين حواضر أوروبا و أمريكا و أفريقيا لأن بعض السلطات هنا وهناك تجد فيه مصلحة ما، أخلاقية أو سياسية أو حتى اقتصادية، و"كل حشّاش يملأ شبكته" باسم القارة المظلمة إياها.

طبعا هذه الحرية العفوية التي يدبر بها أهل أفريقيا أمور ميراثهم الثقافي لا تعجب القائمين على "بيزينيس" الجمالية العرقية الذي أسّس رأسماله الثقافي، بل والسياسي، العالمي على صورة ثابتة ومبهمة للأصالة الثقافية الأفريقية. وهذا" الفن الأفريقي المعاصر "هو في الواقع مجرد عرض ثقافي أوروبي آخر بين عروض أخرى كثيرة. انه "ايزم" ..isme آخر في مسلسل "الايزمات" التي جادت بها حركة الحداثة الأوروبية من الامبريسيونيزم [التأثيرية] الفيوتوريزم [المستقبلية] والسورياليزم [السوريالية] والكيوبيزم [التكعيبية] الخ..بيد أن "ايزم" الفنأفريقانية انما يتوجه للأوروبيين الذين ينظرون نحو أفريقيا.

وبلا شك فان الأفارقة الذين يتبنون الفنأفريقانية الأوروبية انما يزكّونها و يضمنون لها صفة الأفريقية كاحتمال بين غيره من احتمالات فن الأفارقة الاخرى.و لكن هذا النوع من الحرية، حرية اللعب علىالبروتوكولات المفهومية للأوروبيين الذين يعالجون الشأن الأفريقي، حرية اختيار الأشكال الفنية التي تناسبهم بصرف النظر عن مدى انسجامها أو تناقضها مع اي تقليد ثقافي أفريقي، أقول هذه الحرية ممنوعة على المبدعين الافارقة.

وهكذا فسيكون هناك على الدوام نوع الأوروبيين الذين يترصدون الافارقة في "أركان القهوة السودانية" في أنحاء القارة ليعبروا لهم عن قلقهم واشفاقهم على مصير الأصالة الثقافية الأفريقية. وهو قلق يخفي وراءه أمور تتجاوز حدود أفريقيا لأن هذا اللعب الحر والنزعة "الأسلوبية" التي تحكمه [لو جازت ترجمتي لعبارة "المانيريزم"] انما يحيل الأوروبيين الى حقيقة بديهية غير مريحة على الاطلاق وهي استحالة الزام الأفارقة بلعب "دور" الأفارقة كما عرّفه الأوروبيون انطلاقا من المفهوم الأوروبي المحافظ للعالم واستحالة تثبيت الثقافة ـ الأفريقية وغير الأفريقية ـ ضمن مفاهيم ضيقة مستعلية على التاريخ ومستعصية على قوانين التحول الاجتماعي.

وفيما وراء الفنانين الأفارقة، فان الأفارقة على اطلاقهم يتم نفيهم الى أفريقيا بعينها خارج التاريخ، افريقيا اخترعها النخاسة الأوروبيون ورصفاؤهم الأفارقة وكرسوها أبدا كفردوس مفقود للنقاء العرقي والثقافي اللذين لا تشوبهما شائبة. وفي مثل هذا المشهد يتم اختزال تعدد الثقافات الأفريقية إلى نوع من ثقافة أفريقية صمدة منقّاة من كل العناصر الغريبة والدخيلة على الأصالة الزنجوية لـ "القارة السوداء". ان مصادرة التعدد العرقي والثقافي للأفارقة باسم الأصالة صار لازمة ثابتة عند الكثيرين من متعهدي الفنأفريقانية الشعبية من أفندية وزارة الخارجية الفرنسية وعملائها الذين ينشطون في أروقة "الجمعية الفرنسية للحركة الفنية" أو الـ "آفا" [وقيل الآفة والحمد لله على كل شيء].

Association Française d’ Action Artistique (AFAA)

أو في أروقة الـ "فيفا" التي يتصيد بعض أعضائها لاعبي كرة القدم الأفارقة كما كان الأوروبيون يصطادون أنواع الوحش في احراش الذاكرة الشعبية الأفريقانية للأوروبيين. وكل هذا الضلال الأفريقاني يغتفر طالما جاء من طرف قوم لم يدّعوا يوما معرفة علمية بالواقع الأفريقي. لكن حين يجيء الأمر من طرف قوم يعرّفون أنفسهم كخبراء أهل معرفة علمية بالواقع الثقافي للقارة فذلك ينقلنا الى مقام الحماقة المناهجية التي لا ينفع معها دواء. فلا أحد يحتاج لمعرفة تخصصية بأفريقيا حتى يفهم أن القارة الأفريقية ـ أو أي قارة أخرى ـ لا تفلت من تعقيد العالم و تركيبيته ان جازت ترجمتي لـComplexité وأفضل الأمثلة على النظر الملتوي ـ عن سبق القصد والترصّد ـ بغاية تسويغ الالتباس في قراءة الواقع الثقافي للأفارقة تقدمه لنا الباحثة الأفريقانية الأمريكية الشهيرة "سوزان فوغل". وبالمناسبة، كل من هب و دبّ شهير في حوش الفن الافريقي المعاصر الضيق لكن "سوزان فوغل" اشتهرت بوصفها من الرواد الذين عملوا على عرض الفن الأفريقي المعاصر في أمريكا وأوروبا وذلك من خلال تنظيمها لمعرض" آفريكا اكسبلورس، الفن الأفريقي في القرن العشرين، وذلك في "مركز الفن الأفريقي" بنيويورك عام 1991.

ففي مقدمتها لكتالوج المعرض الذي قدم في حينها كأحد أهم المعارض المكرسة للفن الأفريقي المعاصر

Susan Vogel، Africa Explors،20th Century African Art، 1991، New York City، Centr for African Arts، pp. 14، 25
 

ترى فوغل أن حياة الأفارقة وفنونهم قد تأثرت بشكل سلبي نتيجة لتقدم الاسلام والمسيحية في أفريقيا. وبطبيعة الحال ـ حال التفكير الفنأفريقاني ـ فسوزان فوغل لا تنظر الى الاسلام والمسيحية كديانات أفريقية رغم أن المسيحيين في مصر وفي اثيوبيا ـ مسيحيون لأكثر من خمسة عشر قرنا ـ ورغم أن المسلمين الذين يشكلون نصف سكان القارة على الأقل، يعتبرون أنفسهم أفارقة أيضا. والبركة في كاتب يس، الكاتب الجزائري الفرانكوفوني الكبير. كان كاتب يس يقول "اللغة الفرنسية غنيمة حرب" وذلك حين يلومه أصدقاؤه القوميون العرب على الكتابة في لغة المستعمرين الفرنسيين. طبعا هذا النوع من الحروب الذي يتم فيه تقاسم الغنائم بالتساوي بين الغالب والمغلوب لا يناسب المزاج التبسيطي لمن اختاروا الوقوف مسبقا في معسكرالمصنّفين كـ "غالبين".

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المشهد ينطوي على شيء من الحرج، الا أنه سؤال ضروري لفهم الوضعية المركبة للفن الأفريقي المعاصر في الولايات المتحدة. ما الذي يكسب اختيار معسكر الغالبين، في حالة سوزان فوغل، مصممة المعرض الذي يطرح الفن الأفريقي المعاصر كخصوصية آفروزنجوية، ما الذي يكسبه دلالاته السياسية على صعيد الواقع الاجتماعي للمجتمع الأمريكي المعاصر؟ وبعبارة أخرى، أين تقف سوزان فوغل من الصراع الاجتماعي الدائر في الولايات المتحدة وما هي عواقب الخطاب الأفريقاني المضمر في المعرض بالنسبة للجمهور الأمريكي ذي الأصول الأفريقية؟ يعني بالعربي ماذا ستفعل أمريكا بسودها؟

لقد مر على الأمريكان عهد تمكن أهل البر المسيحي فيه من ارجاع بعض المواطنين الأمريكيين السود للقارة السوداء لتأسيس يوتوبيا التطهير العرقي الطوعي على الطريقة الأمريكية في ليبيريا. كانت مغامرة ليبيريا بمثابة تنويع أسود على فكرة "ريزيرف" الهنود الحمر خارج أمريكا. وهي حماقة مكلفة يدفع ثمنها غاليا كل يوم كل طرف من أطراف المجتمع الليبيري المعاصر سواء بالنسبة للأمريكيين السود [المستعمرين؟] أو بالنسبة لأهل ليبيريا الأصليين.

واليوم ما زال هناك من بين أهل أمريكا، على اختلاف ألوانهم، من يرى أن احالة السود الأمريكان لخارج أمريكا ـ لا الى أفريقيا الجغرافيا وانما الى أفريقيا الرمز، أفريقيا الفنأفريقانية ـ أمر صائب وعملي. وثمة بيزينس ورزق عرقي واسع في بلاد العم سام وسيلته وغايته الفنآفريقانية بكافة تعبيراتها، وهو"سوق شعبي" أقدم وأوسع بكثير من فنأفريقانية التشكيليين لكن ميزة الفنأفريقانية التشكيلية هي أن أهل التشكيل يدخلون الحلبة بمفاهيم فلسفية أكثر كفاءة وبالتالي أشد فتكا حتى أن أمريكا صارت تصدر نحو القارة الأفريقية النسخة الآمريكية من الفنأفريقانية التشكيلية وهذا باب للريح فتحه يقتضي حيلة وسعة في العبارة كون الفنأفريقانية الأمريكية تد خل الآرض الأفريقية على أنقاض الفنأفريقانية الأوروبية في نسختها الفرنسية [زنوجة سنغور و شركاه].

مسنودة بمؤسسات رعاية قوية، فان الفنأفريقانية تعمل بكفاءة عالية ليس في أمريكا وحدها وانما في أفريقيا أيضا، ذلك أن هناك عدد كبير من الفنانين الأمريكان السود والفنانين الأفارقة ممن يجدون منفعة جمالية في المشروع الذي تبذله لعنايتهم آلة الجمالية العرقية الأوروبية. وحين يتبنى الفنانون الأفارقة مشروع مؤسسة الجمالية العرقية الأوروبية ـ بصرف النظر عن دوافعهم ـ فهم ببساطة يكسبون له شرعية أفريقية ويجعلون منه احتمالا [عرقيا] آخر في الفن الأفريقي المعاصر. أما حين يتبناه الفنانون الأمريكان السود فهم يجعلون منه احتمالا عرقيا آخر بين احتمالات الفن الأمريكي المعاصر.

بيد أن الانخراط في المشروع الفنأفريقاني ليس اجباريا بالنسبة للفنانين الأفارقة ولا بالنسبة للفنانين السود الأمريكان اذا رأى هؤلاء وأولئك تدبير أمور فنهم على نحو مغاير لموجهات الأصالة الفنأفريقانية.

الانخراط في الفنأفريقانية ليس سوى خيار جمالي بين خيارات أخرى. وفي هذا المشهد، فإن رواد تيار الفنأفريقانية هم الفنانون الأوروبيون المحدثون [من نوع بيكاسو و مودلياني] الذين قادهم البحث في جماليات الشكل نحو استكشاف المجال الأيقوني لممارسات التشكيليين الأفارقة. وهي لحظة ذات حظوة مميزة في تاريخ حركة الفن الحديث حتى أن بعض المؤرخين يحيلون اليها اكتشافا في أهمية التكعيبية [لوحة "آنسات أفينيون"]. لكن الاتجاه السائد وسط أغلب مؤسسات رعاية فن الأفارقة المعاصر، سواء أن كانت في أوروبا أو في أمريكا يتلخص في فرض الفنأفريقانية كدرب اجباري لكل الفنانين الأفارقة المعاصرين و قيل لكل الفنانين السود سواء أن كانوا أفارقة أم لا. ولا جناح على الفنانين السود الأمريكان إن مشوا على درب الفنأفريقانية لأنهم وجدوا فيه مصلحة سياسية ضمن ملابسات سياسة التمييز العرقي الايجابي السارية في الولايات المتحدة، وذلك من باب "المال تلته ولا كتلته"، لكن ما يحدث في أمريكا لا ينسحب بالضرورة على أهل أفريقيا الذين قد يرغبون في اتباع دروب جمالية أقل ضيقا من الدرب الفنأفريقاني.

في سودان السبعينات سعت دولة الطبقة الوسطى العربسلامية لدعم الاتجاه الفني التشكيلي المتسمي بـ "مدرسة الخرطوم" لأنها استشعرت عند ناشطيه شيئا من التضامن ـ و قيل التواطؤ ـ مع أيديولوجية دولة العربسلامية في السودان. وقد كان الغرض المعلن لفناني "مدرسة الخرطوم"ـ و بينهم أشخاص كالصلحي وشبرين، ولاحقا عبدالعال، شغلوا مناصب مسؤولية في الأجهزة التنفيذية للدولة أو في الأجهزة السياسية للحزب الحاكم اضافة لعملهم بالتدريس في كلية الفنون بالخرطوم ـ كان غرضهم هو صيانة الأصالة الثقافية السودانية بتأسيس فن تشكيلي سوداني يستلهم الموروث الثقافي السوداني. وقد بذلوا للناس صورة للتشكيل السوداني فحواها المزج أو الهجنة بين عناصرالتقليد العربي الاسلامي [مجسدة في فن الخط العربي] وعناصر تقليد الزنوجة الأفريقية [مجسدة في أشكال الزخرف الأفريقي].

لكن الاطار المفترض لهذا التهجين تم تعريفه ـ بالذات في النصف الثاني من السبعينات ـ على أساس الدين الاسلامي. ولم يكن لخيار الاسلام علاقة بالضرورات الفكرية والجمالية للتشكيليين الخرطوميين لكنه كان تعبيرا عن امتثال الفنانين لمشيئة الدولة النميرية التي كانت قد شرعت في التخلي عن آيديولوجية التعدد الثقافي لتتلبس أيديولوجية "النهج الاسلامي".

وفي البداية ـ في العصر الذهبي لمدرسة الخرطوم ـ كان الانتاج الفني ـ الغرافيكي غالبا ـ للتشكيليين الخرطوميين يتميز بمنطق المزج بين العناصر الأيقونية العربية مختزلة الى الخط العربي والعناصر الأيقونية الأفريقية مختزلة الى الزخرف الهندسي البدائي الذي يحال جورا الى الفن الأفريقي في الخاطر الشعبي. وقد سوّغت سهولة المعادلة الجمالية لمدرسة الخرطوم، بالاضافة للقبول الرسمي الذي لاقته من قبل السلطات، سوغت لعدد كبير من تلاميذ الصلحي وشبرين في كلية الفنون أن ينخرطوا بلا حذر و بغير نقد، في مغامرة "مدرسة الخرطوم". وقد ترتّب على هذا التورّم "الآيديولوجي" لمدرسة الخرطوم افقار حركة البحث الجمالي لجيل التشكيليين من تلامذة الصلحي وشبرين الذين ارتاحوا في ظل لقّيات الأساتذة وزهدوا في استكشاف أرض الخلق التشكيلي الممتدة وراء حدود الزنجعرابية البائسة المنسوبة لأهل السودان والتي سيسميها الباحث أحمد الطيب زين العابدين لاحقا باسم "السودانوية"، كما ترتب عليه تهميش عدد من التشكيليين السودانيين المهمين الذين أقاموا في العتمة الاعلامية لمجرد أن مشاريعهم الجمالية كانت غير قابلة للاندماج في المنظور الآيديولوجي الرسمي لدولة العربسلامية السودانية.

وهكذا، فالرعاية الآيديولوجية تكاد تكون الشكل الوحيد من أشكال الرعاية الذي يستفيد منه الفنانون المعاصرون في أفريقيا. ومثال السودان يمكن أن نجده في بلدان أفريقية أخرى "كلنا في الهم شرق".

وقد أوردت الباحثة الأمريكية "سيدني ليتيلفيلد كاسفير" في كتابها جيد التوثيق "الفن الأفريقي المعاصر" حالة شبيهة من حالات الرعاية الآيديولوجية من خلال المثال السنغالي الذي يمكن أن يساهم في اضاءة حالات افرقية وغير افريقية للعلاقة العصيبة بين الفنانين ورعاتهم. تقول كاسفيربأنه "اذا كان الفنانون السنغاليون قد انتفعوا بشكل غير عادي من الدعم والرعاية التي قدمها لهم الرئيس سنغور، فقد كانت للرعاية السنغورية حدودها. ذلك أن تلقي العون الرسمي بالكامل يقتضي من الفنانين الانخراط في مشروع الزنوجة [نيغريتود] المبذول كآيديولوجية رسمية للنظام. المشكلة هي أن أيديولوجية الزنوجة حين يتم اختزالها الى سلسلة من الممارسات الشكلية فهي تتحول لآكاديمية ثابتة لا يطالها التطور. وهكذا تم انمساخ ما كان في البداية علامة على انفتاح البصيرة الخلاقة الى نوع من سياسة ثقافية رسمية متحجرة لا تطيق النقد العقلاني".

 

 

© جميع حقوق النشر محفوظة للجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية
TOUS DROITS RSERVS © 2005
Copyrights © 2005Sudan for all. All rights reserved

Web designers/ developers:mardisco